الوقف على دور العلم وخزائن الكتب ودوره في النهضة العلمية والثقافية بقلم: عبد اللطيف زكي أبو هاشم
تاريخ النشر : 2019-04-30
الوقف على دور العلم وخزائن الكتب ودوره 

 في النهضة العلمية والثقافية على مدار التاريخ الإسلامي

بقلم : عبد اللطيف زكي أبو هاشم

مدير دائرة التوثيق والمخطوطات والآثار – وزارة الأوقاف – فلسطين .

إن أهداف الوقف وأغراضه في الإسلام  ليست قاصرة على الفقراء وحدهم أو دور العبادة وحدها، بل: إن أغراض الوقف في الإسلام تتعدى ذلك ، فقد كان للوقف دور في إنشاء دور العلم ومعاهد الدراسة كما كان للوقف جامعات علمية منقطعة النظير وفرت للمسلمين نتاجا علمياً ضخما ً، وتراثاً إسلامياً مزدهرا، وإلى مؤسسة الأوقاف يعود الفضل في ظهور تلك الأجيال من أهل العلم والثقافة على طوال تاريخنا المجيد - في المجالين العلمي والثقافي ( ) . كما أن للوقف دور رئيسي وفعال في تنشيط الحركة العلمية والثقافية ، ومن المعروف : أن المسلمين قد أظهروا اهتماما كبيرا بهذا الجانب إيمانا منهم بدعوة الإسلام إلى التعلم والتزود بالعلم ، و يحق لنا كمسلمين أن نفخر بأن : أول ما أنزل من القرآن الكريم هو كلمة (اقرأ) اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ  (العلق : 1-4) . و قال تعالى في أهل العلم :  وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنين  التوبة : 105 . ومن هنا ندرك أن رسالة العلم في الإسلام رسالة عظيمة ومقدسة ، ولذا أمرنا الله سبحانه وتعالى بالعمل بشتى أنواعه ، وقدس العمل العلمي بالذات ( ). قال تعالى: وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون  (التوبة: 105). صدق الله العظيم .

" ولعل الأوقاف العلمية كانت من أهم ما اعتنى به المسلمون في تاريخهم، فقامت أوقاف المدارس والجامعات، التي ما خلت من العديد منها مدينة في طول العالم الإسلامي وعرضه، والتي اكتظت بها المراكز العلمية الشهيرة كدمشق ، والقدس ، وبغداد، والقاهرة، وفاس،  وأصفهان ، ومرو ، وطشقند ، وغيرها. وقامت كذلك أوقاف المكتبات الكبيرة الملحقة بالمعاهد العلمية أو المساجد أو مستقلة عنها. 

وإلى جانب المدارس والجامعات والمكتبات قامت أوقاف متخصصة لسكنى الطلبة . وقامت أوقاف للإنفاق على رواتب المدرسين . وقد سبقت الأوقاف الإسلامية أهل الأرض جميعاً بابتكار فكرة المنح الدراسية للطلبة والتلاميذ، حتى إن ابن جبير، الذي قام برحلاته إلى المشرق في الربع الأخير من القرن السابع الهجري، ليدعو طلبة العلم من المغاربة إلى الإفادة من المنح الدراسية التي تقدمها معاهد دمشق وكلياتها للطلبة والدارسين الوافدين إليها . وقامت أوقاف للإنفاق على لوازم التعليم من قرطاس وحبر وأقلام وكتب تعليمية . بل رصدت وحبست بعض الوقوف لشراء الفستق لطلبة العلم ، تصور كم هي العناية بالعلم وأهله ؟ ولا عجب في ذلك في أن يغدق  المسلمون في الإنفاق الوقفي على العلماء والدارسين بشكل لم يكن له سابقة قبلهم  ، ولم يميزو بين أهل البلد والوافدين إليها بقصد التعلم أو التعليم ، فكان للطلبة الوافدين أوقاف مخصصة لسكناهم وأخرى للإنفاق عليهم ورعايتهم. 

ولقد تخصص كثير من الأوقاف بفروع علمية محددة كالطب والكيمياء، كما أن منها ما تختص بالبحث العلمي الذي يقصد تطوير التكنولوجيا آنذاك ". 

وقد تجسدت الناحية العلمية بشخصية الوزير المثقف العالم نظام الملك – الحسن بن علي ابن إسحق الطوسي (408هـ - 485هـ ) كبير الوزراء في الأمة الإسلامية مجالسه معمورة بالعلماء، مأهولة بالأئمة والزهاد ، لم يتفق لغيره ما اتفق له من ازدحام العلماء عليه . ويلقبه السبكي في (طبقات الشافعية): " مجالسه معمورة بالعلماء ، مأهولة بالأئمة والزهاد ، ولم يتفق لغيره ما اتفق له من ازدحام العلماء عليه. فهو الوزير الكبير العالم العادل ، دولته كلها فضل ، وأيامه جميعها عدل ، ووقته وابل بالسماح مغدق ، ومجلسه بجماعة العلماء صباح مشرق " إن وزيراً هذا شأنه كان من البهيات أن يهتم بتعليم الناس اهتمامه بإكرام العلماء فكان أول من أنشأ المدارس ، وفي عبارة أحرى أشهر من بنى المدارس والمساجد والأربطة والخنقاوات ، فقد أنشأ إحدى عشرة مدرسة أو بالأحرى هي كليات طبقاً لمصطلحات زماننا واختار لها كبار العلماء وكثيراً ما كان يسهم في اختبارهم قبل تقلدهم وظائفهم، فبنى هذه المدارس المشهورة في بغداد، وبلخ ، ونيسابور ، وهراة ، وأصبهان وعسكر مكرم ، والبصرة، ومرو، وآمل طبرستان  والموصل، وطوس، وأجرى الأرزاق على العلماء والطلاب والموظفين... لقد أجمع العلماء على الثناء عليه بشمائل لم يوصف بها حاكم من قبل باسثناء الراشدين الخمسة...... لقد نشر نظام الملك العدل والعلم والجود والخير والعمران والرخاء وأعز جانب المسلمين وحصن الثغور. أهـ ( ) ترجع نشأة هذه المكتبة إلى (الظاهر بيبرس البندقداري الذي كان محبا لغزة، وشديد العطف على أهلها، وهو الذي أقام بها المنشآت من مساجد وزوايا ومستشفيات وبيمارستانات ومكتبات، فكانت هذه المكتبة (مكتبة العمري) تحتوي على نيف وعشرين ألف كتاب في مختلف العلوم والفنون، وكانت تسمى في السابق (مكتبة الظاهر بيبرس).( )

وفي أرجاء هذا الوطن الحبيب هناك مكتبات أنشئت بواسطة الوقف الذي كان الممول الأول لها وهي : 

1- مكتبة الجامع العمري  الكبير في مدينة غزة: 

تعتبر مكتبة الجامع العمري الكبير من أهم دور الكتب والمخطوطات في فلسطين ، تضاهي بذلك مكتبة المسجد الأقصى المبارك ، ومكتبة أحمد باشا الجزار ، وغيرها من المكتبات ودور الكتب التي احتوت على ذخائر ونفائس التراث . ومن أهم هذه الدور :- 

2- دار الكتب الخالدية ومؤسسها المرحوم الشيخ خليل الخالدي والعلامة الشيخ  طاهر الجزائري .في أوائل القرن . وهي للأسف مغلقة . ومكانها باب السلسلة . 

3- دار كتب المسجد الأقصى . حيث يوجد بها كثيراً من الكتب والنوادر  المخطوطة . كانت  اللبنات الأولى لهذه المكتبة مجموعة كتب الشيخ محمد الخليلي ومكتبة الشيخ صبري عابدين . 

 4-المكتبة الغصينية: ، أنشأها حسن باشا ابن الأمير أحمد رضوان الذي حكم غزة من سنة 979هـ = 1571م حتى سنة 1009هـ = 1600م . وتولى المدرسة الشيخ عبد القادر الغصين .   وصفه الطباع بالعلامة التقي العارف بالله الشيخ " عبد القادر الغصين واتخذها مدرسة ووالعبادة واوية ، وتجرد فيها للعلم والذكر والعبادة ، فوقفها عليه (الأمير حسن باشا ) وعلى ذريته من بعده بوقف شرعي صحيح ، وجعلها مدرسة للعلم الشريف ومذاكرته وممارسته ومعكفاً للعلماء والمتعلمين ، ... وبقي بها إلى أن توفى سنة 1087هـ ، ودفن بها بداخل مغارة ودفن عنده ولده العالم العامل والتقي الكامل " الشيخ محمد الغصين " وكثير من ذريته وقرابته ، وزادوا في وقفها وعمارتها ...  

بقيت حتى الحرب العامة ( العلمية الأولى )  

5- خزانة آل قطينة الحنبلية . 

6- خزانة آل البديري . 

7- خزانة آل مخلص . 

8- خزانة الشيخ محمود اللحام .  

    ومن أهم دور الكتب في رأيي مكتبة الجامع العمري الكبير في هذه المكتبة يوجد قسطٌ وافرٌ من كتب العلماء الغزيين ووقفياتهم التي كانوا يوقفونها، فنجد في بداية كل مخطوط أومطبوع العبارة التالية: (ورد لمكتبة الجامع العمري الكبير من فلان على ألا يباع أو يبدل حسب شروط الموقف. نجد في هذه المكتبة بعض النوادر مثل ديوان ابن زقاعة الغزي -  الصوفي -، وكتب الخطيب التمرتاشي الغزي ، وكتب الشيخ الطباع ، وكتب الشيخ سكيك، وكتب الشوا وكتب الشيخ بسيسو وغيرهم من العلماء الأجلاء الذين كانوا مناراً يهتدى بهم. ولم يخل كتاب من كتب المكتبة - سواء أكان مخطوطاً أو مطبوعاً- إلا وللشيخ الطباع عليه بصمات، حيث كان يقوم بكتابة كل ما يتعلق ببيانات الكتاب من: تاريخ ورود، واسم المورد أو المتبرع أو الموقف، وقد عمل سجلا للمكتبة بحيث حصر جميع مقتنياتها. وكما أسلفت فللشيخ الطباع الفضل الأكبر في إحياء وتجديد المكتبة ، وقد نالها ما نال دور الكتب الأخرى في فلسطين من السرقة والعبث والاستهتار بكنوز الأجداد . فقد كان يوجد بهذه المكتبة عشرين ألف مجلد  وظلت عامرة حتى مجيئ الحملة الفرنسية على مصر وبلاد الشام ثم تفرقت تلك الكتب القيمة من مخطوطة ومطبوعة ونالت مكاتب القاهرة وباريس وبرلين  منها قسطاً وافراً ، وحظاً عظيماً ومع ذلك بقيت غزة مكتظة بكتب العلماء الذين ظهروا فيها ونبغوا منها مثل الخطيب التمرتاشي ، وبني النخال العامري ، وبني المشرقي ، وبني الغصين إلى أن انتهى الأمر إلى العالم الصالح الشيخ محمد سكيك ، والشيخ أحمد محي الدين عبد الحي الحسيني المفتي بغزة ، وشيخ الشيوخ الشيخ أحمد بسيسو ، والشيخ عبد الوهاب العلمي والشيخ سليم شعشاعة - فجمعوا كتباً كثيرة كون كل واحد منهم مكتبة قيمة بالجامع العمري الكبير وبسجد السد هاشم والسيدة رقية زيادة عما كان يوجد بدور العلماء والأعيان إلى أن حصلت الحرب العامة وألجأت أهالي غزة إلى الهجرة منها لجعلها خطاً حربياً ، فرحلوا منها جميعاً سنة 1335 هـ  وتركوا أكثر أمتعتهم وأثاثهم وذخائرهم ومنها الكتب والمكاتب التي كانت بالمساجد المذكورة وقد ذهب جميع ذلك نهباً وتمزيقاً وإتلافاً وحرقاً ، وتهدمت غرف المكاتب في الجامع المذكور، حيث كان يدرك الجميع ما لوقف الكتب من أثر كبير في نهضة الأمم ، " فوقف الكتب من مستحسن الأفعال التي يقوم عليها بعض الناس ، تقرباً إلى الله تعالى واكتساباً للسمعة والذكر الحسن ، ومحافظة على كتبهم من أن تتبدد وتتبعثر بعد وفاتهم ...فأضحت كتبهم الموقوفة منهلاً لطلاب العلم واستقصاء وقف الكتب أمر يطول ففي كل عصر ومصر أخبار من هذا القبيل ومن الذين أوقفوا كتبهم في عصرنا الحاضر ... 

العلامة أحمد تيمور باشا ( المتوفى سنة 1930)  – صاحب الخزانة الفريدة المليئة بالنوادر ( الخزانة التيمورية ) و( الخزانة الزكية ) لشيخ العروبة أحمد زكي باشا- ( المتوفى سنة 1934 )- وكلتا الخزانتين هما مما تزدان به دار الكتب المصرية اليوم في القاهرة وتشكل تلك الخزانيتين أهم مجموعات دار الكتب  ، ونظير ذلك خزانة العلامة الشنقيطي ( المتوفى  سنة 1322هـ ) وخزانة الأمير عمر طوسون ( 1944م) وخزانة الأب أنستانس الكرملي (1947م) أما الأولى فقد وقفت على دار الكتب المصرية ، والثانية على خزانة مكتبة البلدية بالإسكندرية ، الثالثة على دير الآباء الكرمليين ببغداد" 

 وممن أوقف كتبه من العلماء في فلسطين على طلبة العلم العلامة صبري عابدين ومكتبته في المسجد الأقصى المبارك والمكتبة البديرية في القدس حيث أوقفت على مكتبة معهد التراث الإسلامي ، والمكتبة الأحمدية في عكا لموقفها ومنشئها أحمد باشا الجزار – قاهر نابليون بونابرت ، ومكتبة الحرم الإبراهيمي في خليل الرحمن ، ومكتبة جامع يافا الكبير لموقفها ومنشئها الأمير محمد آغا أبو نبوت ( متسلم لواء غزة والرملة بتاريخ  ومكتبة العلامة عبد الله مخلص1231هـ  ومكتبة الدكتور اسحق الحسيني – رحمه الله . وممن أوقف مكتبته الزاخرة على طلبة العلم الأستاذ الدكتور سليمان السطري – حفظه الله – حيث قام هذا العالم بفكرة إحياء الوقف على طلبة العلم ودور الكتب ، فقام بوقف مكتبته الزاخرة بحضور كوكبة من العلماء بوقف شرعي صحيح ، هذه المكتبة التي ليس لها نظير بين المكتبات الخاصة في فلسطين ، حيث احتوت على كثير من التحف والنوادر التي طبعت في مطابع بولاق والميمنية والوهبية وغيرها من المطابع ودور النشر االقديمة ، وبلغت محتويات خزانته أكثر من عشرة آلاف مجلد أوقفها في حياته – أدامه الله تعالى ذخراً للعلم وأهله وجزاه عن العلم خيراً وجعلها في ميزان حسناته .