الخطيب الجار بقلم: السفير منجد صالح
تاريخ النشر : 2019-04-27
الخطيب الجار بقلم: السفير منجد صالح


الخطيب الجار

بسم الله الرحمن الرحيم: "إنّما يعمُر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين". صدق الله العظيم. 

إعتلى المنبر. اليوم يوم الجمعة. يوم صلاة الجمعة وخطبة الجمعة. منبر جامع صردا الكبير الفسيح. يفترش سجادا وثيرا جميلا. يزيده جمالا روعة الألوان المتناسقة. وتتوسّط سقفه، قبّتة، ثريّا عملاقة باسقة. تزيّنها عشرات المصابيح الكهربائية صغيرة الحجم. وتتدثّر الجدران، وخاصة المنبر والمحراب وأعلاه وجانبيه، بالآيات القرآنية، وبالصلاة على سيدنا محمّد (ص). 

يسعُد المرؤُ بالصلاة فيه. تمّتطيه بشموخ  المئذنتان الجميلتان، النابتتان الى الفضاء الواسع نحو السماء. قمّة المئذنتين تشبهان مآذن مساجد شمال إفريقيا الشهيرة. جامع عقبة إبن نافع في القيروان. وجامع الزيتونة في تونس العاصمة. يراهما الناظر من بعيد وهما تشقّان أعنان السماء. وتجاوران النسيم العليل، تجاوران السحاب. والرياح الهابة من الشمال أو الجنوب أو الشرق أو الغرب. 

وفي أيام وليالي الشتاء المُدلهمّة الباردة الماطرة، عادة ما يلُفهما الضباب، ربما يغطّي الضباب حتى منتصف المئذنتين. لا يقوى على الصعود حتى قمّتيهما. وفي أيام وليالي الصيف الحارة الصافية، تراهما ينافسان النجوم، ويتّخذان لهما موقعا بينها، كقمري بدر ساطعين في الليالي الهادئة الوادعة. يخال للناظر في منتصف الشهر العربي بأن السماء فوق المسجد تتزيّن بثلاثة بُدور.

ويقع الجامع على تلّة عالية، في أوّل بلدة صردا. يُقابل الهابط من مدخل رام الله الشمالي من جهة فندق "البست إيستيرن". فينشرح صدره. ويتيسّر أمره. فالمنظر رائع وبديع. ويشعر الإنسان بالسكينة والطمأنينة والحبور والورع. ويُتمتم في سرّه:

- ما شاء الله. سلمت يدا باني هذا المسجد العظيم. جزاه الله الخير كلّه. ورحمة الله على الفتاة، التي بُني المسجد ترحّما على روحها وتخليدا لذكراها. "رحمها الله رحمة واسعة وأسكنها فسيح جنّاته". وألهم والداها وذويها الصبر والسلّوان. وإنّا لله وإنّا إليه راجعون.

ألقى أبو معتزّ خطبة قوية. خطبة تشدُ إنتباه المصلّين الجالسين الخاشعين. مع أن نفر منهم، ويا للأسف، يتعمّدون أن يجلسوا في المسجد جلسة عجيبة. يتعمّدون أن يتّكؤا بظهورهم على الحائط الممتد أفقيا على جانبي المحراب والمنبر. وكأنّهم يُديرون ظهورهم للإمام الذي يخطب من فوق مؤخّرة رؤوسهم من على المنبر. ويواجهون، وجها لوجه،  المصلين الجالسين في الصف الأول. ويمدّون أرجلهم بكل أريحيّة وعدم مبالاه، وبقليل من الذوق، لتواجه وجوه وأنوف المصلّين في الصف الأول. ولسان حالهم يقول:

- إحضروا لنا دلّة قهوة وأرجيلة. وتحمّلوا بشاعة منظر بعض من أظافرنا وبعض من رائحة ما بين أصابع أرجلنا.

الخطيب مفوّه. مع أن جاره، أبو البراء، الذي يسكن معه في نفس العمارة، الذي يحضر صلاة الجمعة هذه، لم يكن قد رآه أو سمعه على المنبر من قبل. هذه أوّل مرّة. فهو يخطب في يوم الجمعة أحيانا. وفي مساجد مختلفة. عندما تسنح الظروف. وبصورة غير رسميّة. وتقع العمارة ذات التسعة طوابق على التلّة المقابلة لتلّة المسجد، وتمتطي "سوبرماركت السوداني". 

ومع أنّ الخطبة كانت شاملة. لا ندري إن كان أبو معتز قد تقيّد بتوجيهات وزارة الأوقاف بخصوص خُطب يوم الجمعة أم لا. إلا أن الخطبة بالمجمل لم تحوي "خروجا عن النص" أو نصّا يمكن أن يُسبب له الملاحظة أو المتاعب أو الجدال أو الجدل. فالخطبة بشكل عام، بالرغم من صوت أبي معتز الجهوري وإشارات وحركات يدية المنمّقة الزائدة عن الحاجة، المبالغ فيها، أحيانا، كانت موفقة، وتكاد تحوز على درجة ممتاز.

لكن أبا براء، جاره وصديقة، قرأ في خطبة صديقه فجوتين. ربما مغالطتين. ربما عدم إنتباه في موضوعين. ربما لم يقدّر حساسية مسألتين. ربما نقص في المعلومات في أمرين. فبالنهاية الخطيب، وحتى لو كان مفوّها وجهبذا، فما هو إلا بشر يُصيب ويخطيء، ويخطيء ويصيب. فهو غير معصوم عن الخطأ أو النسيان أو إلتباس بالمفاهيم. 

صحيح أن الخطبة غطّت الجانب الديني، والجانب الوطني وكذلك الجانب الأجتماعي والأخلاقي، وهذا مطلوب ومرحّب به. فيفترض في الإمام أو الخطيب أن يُحضّر جيدا للخطبة، حتى يستفيد منها المصلين والناس. وخاصة وأن الجامع وقت الخطبة يعجّ بالمصلّين، من شتّى المشارب والمنابت. الأمّي والمتعلّم وحامل الدكتوراه، والمتبحّر في الدين، وفي بحور العلم وشتى العلوم.

فيجب أن تحتوي الخطبة على الفائدة الدينية وعلى الفائدة العملية لجموع المصلين. إلى جانب أن تحتوي الكثير من الرحمة حتى يخرج المصلّي تغمره السكينة والأمل في الغد وفي دينه ودُنياه. فهناك بعض الأئمة وخطباء الجمعة يُكثرون من الوعيد والتهديد والقسوة في خطبهم. حتى يُخال للمرء وكأنهم يحملون في يدهم سوطا يجلدون به ظهور المصلين بدل أن يغمروهم بالرحمة. فسور القرآن الكريم تبدأ ب "بسم الله الرحمن الرحيم"، وليس بالتهديد والوعيد. 

وقد تحيّن أبو البراء، في الأيّام التي تلت، فرصة سانحة كي يتحدّث مع جاره أبا معتزّ بشأن الخطبة التي أسعده أن يكون هو من ألقاها من على منبر هذا المسجد الفخم الأنيق. "إن الله جميل ويُحب الجمال". ولكن لم يتصادف أن إلتقاه. 

ولم يُرد أن يذهب الى بيته للسؤال عنه، وفضّل أن تسير الأمور بصورة طبيعية، حتى يلقاه، ويُشيد بخطبته، ولكن ليُناقشه بشأن الموضوعين الذين يعتقد بأن أبا معتزّ لم ينتبه الى أهميّتهما ودرجة حساسيتهما. 

وقد فكّر أبو البراء كثيرا قبل أن يقدم على هذه الخطوة، مع علمه الأكيد بأن جاره الخطيب أبي معتز سوف يرحّب بالملاحظات أو على أقل تقدير سوف يتقبّلها بصدر رحب. ربما سيناقشها، ويتوصّلان الى قاسم مشترك، الى الصواب والى الرأي السديد، وربما سيفترقان، دون إتّفاق، وكل واحد منهما متمسّك برايه ووجهة نظره. "فالإختلاف في الرأي لا يُفسد للودّ قضية". 

ولا يوجد إنسان على وجه هذه البسيطة يمكن أن يدّعي بأنه ختم العلم والعلوم، وبأن مفاتيح المعرفة والحقيقة جميعها أصبحت في جيب بنطاله، أو في قبضة يده. قال تعالي: "وفوق كل ذي علم عليم". "وما أوتيتم من العلم إلا قليلا".

وأبو البراء ما فتيء "يضرب أخماسا في أسداس" في إنتظار اليوم الموعود، الذي سيجمعه مع جاره أبا معتزّ، كي يبادره قائلا:

- خطبتك ممتازة. لكن لدي عليها ملاحظتان. 

الملاحظة الأولى أنّك قلت في خطبتك أن مشكلتنا كشعب فلسطيني مُحتل هي مع "اليهود أصحاب التوراة". وهذا الكلام يُشتمّ منه العنصر الديني البحت. الصراع الديني. ومن المفيد أن نوضّح أننا لسنا نحن من رغبنا أو نرغب في ذلك. فنحن دائما إعتبرنا أن الصراع سياسي، ضد عقيدة صهيونية عنصرية إستعمارية إحتلالية، مدعومة من ذوي العيون الزرق والشعر الأشقر والبشرة البيضاء. الذين يوقّتون بساعة "بيغ بن" في لندن، وينصبون "برج إيفل" في وسط باريس. وينطح رأس تمثال حريّتهم السحاب في نيويورك. وهم يستعبدون الشعوب وينهبون خيراتها وثرواتها. ويعيثوا في الدول فسادا وفتنة وتقتيلا. ويجعلوها خاوية على عروشها، مهدّمة خربة. وليس مع الدين، اليهودية، دين موسى، وأتباعها، ولا مع التوراة. 

نتنياهو ومن ورائه ترامب هما من يحرفان الصراع الى صراع ديني، بإعتماد قانون القومية في الكنيست، برلمانهم، وبتسليم ترامب للقدس عاصمة لإسرائيل، للشعب اليهودي، ونقل سفارة بلاده إليها.

لا يتوجّب علينا مساعدتهم في هذا الطرح. فاليهود لم يعيشوا في تاريخهم حياة رغيدة سعيدة كما عاشوا في ظل الدولة الإسلامية في الأندلس. آنذاك لم يكن للمسلمين مشكلة مع اليهود. بل أن اليهود عاشوا بحرية مطلقة في ظل الدولة الإسلامية. وكان يقال: "منّا الأمارة ومنهم الوزارة". أي أن الأمير في الأندلس كان مسلما، ووزيره كان يهوديا أو نصرانيّا.

وعندما إستعاد ملك وملكة إسبانيا، فرديناند وإيزابيل، بعد توحّدهما وزواجهما، الأندلس من أيدي العرب المسلمين، بعد ثمانية قرون من النور والحضارة والرقي، كان أول ما فعلاه هو إجبار الجميع على إعتناق المسيحية. وقاموا بطرد اليهود "السفارديم" من الأندلس ومن إسبانيا، عام 1492 بناء على ما سمي ب " مرسوم الحمراء"، الذي نصّ على تهجير كل يهود المملكة الإسبانية أن لم يعتنقوا الدين المسيحي بالإكراه. 

وفي زيارة لبرشلونه، قبل عدة سنوات، إكتشف أبو البراء أن الحديقة التي يوجد بها "ستاد نادي برشلونه" الشهير، تُسمّى باللغة الكاتالونيّة، كون برشلونه هي عاصمة كاتالونيا: "باركي دي مونت جويف"، أي حديقة جبل اليهودي. وهذا اليهودي كان مهندسا يعمل في الأندلس تحت إمرة المسلمين وثقافنهم وحضارتهم المتنوّرة، الى درجة أن الحديقة التي هندسها وأقامها في اقصى شمال إسبانيا ما زالت تحمل إسمه حتى يومنا هذا. دليل على تسامح المسلمين وإيمانهم بالشراكة.

كما كان قد تمّ القضاء على مملكتي يهوذا، على أيدي البابليين عام 586 قبل الميلاد، حين سباهم نبوخذ نصّر البابلي، الى أن جاء قورش الفارسي وأطلقهم. وعلى أيدي الرومان عام 70 بعد الميلاد.

وفي عام 1868، قام نيكولاس الثاني، آخر القياصرة الروس، قبل الثورة البلشفية، بطرد اليهود من كبرى المدن الروسية.

أمّا اليهود العرب فكانوا وما زالوا معزّزين مكرّمين في البلدان التي عاشوا بها، وما زال بعضهم يعيش فيها: في المغرب وتونس (جزيرة جربة)  ومصر وسوريا ولبنان واليمن وحتى في إيران. 

وفي كنفنا وبين ظهرانينا، يعيش أبناء وبنات الطائفة السامريّة منذ آلاف السنين. في مدينة نابلس. "شكيم" قديما. ويعيشون حاليا في حي على جبل الطور. ويحملون الهوية الفلسطينية. ولديهم عضو عن الطائفة السامرية في المجلس التشريعي الفلسطيني.

وحركة "ناطوري كارتا"، وهي طائفة يهوديّة أصيلة لا تؤمن حتى بوجود دولة إسرائيل. ويتركّز معظم أفرادها في مدينة القدس. ويعانون من الإضطهاد والقمع مثلهم مثل الفلسطينيين. وهم يُنادون بدولة فلسطينيّة، وأن يعيش اليهود في كنفها.

- إذن، يا صديقي وجاري أبا معتزّ، فلا يمكن إعتبار اليهودي حامل التوراه عدوّا بالمعنى المجرّد. فاليهودي الذي يقطن في الأرجنتين ولم يؤذي الشعب الفلسطيني ولم يُناصر إحتلال إسرائيل لفلسطين، كيف يمكن أن أعتبره عدوّا؟؟!! إنّه ليس عدو، وربما هو صديق. 

أما المشكلة الثانية، فقد أوردت في خطبتك أن فلسطين أرض إسلامية، توصف بالإسلام. "وليس بالكنعانيين. فليذهب الكنعانيّون؟؟!!!!"

لا أريد أن أتطرّق لقولك بأن فلسطين أرض إسلامية، فهي كذلك. هي أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، ومسرى ومعراج النبي محمّد (ص) الى السماء. 

ولكن نعم هي أرض كنعان والكنعانيين. الأرض التي إمتزج عليها وفيها ال "فليستيوس" القادمين من جزبرة كريت مع الكنعانيين في أرض كنعان، ليكوّنوا الشعب الفلسطيني، منذ فجر التاريخ وحتى يومنا هذا. وأن كل من جاء على هذه البلاد من بعدهم، جاؤا إمّا غازيا معتديا، وإمّا سائحا وإمّا زائرا. بعضهم إنصهر في البوتقة، بوتقة الفلسطينيين وأصبح مكونا من مكوّنات الشعب الأصيل. والعديد منهم سادوا ثمّ بادوا. وما زالت موجات المستعمرين متواصلة متلاحقة. وما زال الشعب الفلسطيني، أحفاد الكنعانيّين، متمترس في أرضه كالطود.

وإذا ما كان الصهاينة، يا عزيزي، يحتلّون فلسطين، بناء على بدع وأساطير تاريخية، إخترعوا معظمها، بأثر رجعي. وأنّهم وُجدوا في هذه البلاد قبل آلاف السنين. وقد قلنا أنّ من جاء على أرض كنعان، بعد تعانق الفلسطينيين مع الكنعانيين ليكوّنوا شعبا وقوما وأمّة، جاؤوا غزاة طامعين.

فكيف نساعدهم في غيّهم هذا، ونقول أن فلسطين للفلسطينيين وللمسلمين فقط منذ ألف وأربعمئة عام. وليذهب الكنعانيين!!!!! لا يجوز هذا ولا يُعقل ولا يّقبل أيّها الخطيب المفّوّه. تتحدّث في الدين، نعم وبكل إحترام. أمّا عندما تتحدّث في التاربخ وفي الجذور، فعذرا، ينقصك الرجوع الى المراجع والحقائق التاريخية. ويلزمك إحترامها والإيمان بها. 

فالأولى بنا نحن أن نؤمن بالحق والحقيقة وبروايتنا التاريخية، بدل أن يّزيّف الصهاينة التاريخ ويتمسكوا به. ويخترعون رواية ظالمة لهم تبدأ من عام 1897. "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض". "هم يتمسّكون بباطلهم ويدافعون عنه. ونحن يجب أن نعرف حقّنا وأن نعرف كيف ندافع عنه". 

أما روايتنا الصحيحة والحقيقية فتمتد منذ فجر التاريخ منذ الكنعانيين والفلسطينيين. جذورها عميقة في ثرى هذا الوطن الأسمر الحنطي. دائما كان هنا الشعب الفلسطيني متجذّرا في أرضة. في مياهه وفي دقيق قمحه. في كل مسامة من مسامات الأرض والماء والهواء والنسيم. في بيّارات برتقال وليمون ساحله. في كروم العنب والتين والزيتون واللوز والخوخ والدرّاق والتفاح في جباله. في حقول الموز والنخيل والأناناس والبابايا والحمضيّات في غوره.

مرورا بسيّدنا عيسى المسيح، المولود في مدينة بيت لحم الفلسطينية. والذي ترعرع في مدينة الناصرة الفلسطينيّة، وأوّل من تعرّض للظلم والعدوان والصلب حيّا. ومرورا بلإسراء والمعراج، مسرى ومعراج سيدنا محمّد (ص) من القدس مباشرة الى السماء العُلى. أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين. ومرورا بالدماء الزكية الطاهرة وبالتضحية بالنفس والنفيس، منذ يسوع المسيح. ومحمّد جمجوم وفؤاد حجازي وعطا الزير، وفايق صالح، وعبد القادر الحسيني، وحتى دلال المُغربي وأبو جهاد وسعد صايل وعلي أبو طوق وأبو عمّار وأبو جندل ومهنّد الحلبي وعمر أبو ليلى.

- يا جاري الإسرائيليّون الصهاينة "يُحاشروننا" على حبة الفلافل، وصحن الحمّص، وصحن الفول، ويدّعون أنها أطباق من التراث اليهودي. أين وكيف؟؟؟!!! وينازعونا على ملابسنا الشعبية المدروزة بالإبرة والخيط، بفن وإقتدار. وينازعونا على حكاياتنا وقصصنا الشعبية التراثية. وهم ينازعونا، وقبل كل شيء، على كل ذرّة تراب وذرّة رمل من ثرى أرضنا. تيننا وعنبنا وزيتوننا. ينازعونا حتى على مائنا. يستخرجون المياه من أراضينا ويبيعوننا إيّاها. وينازعونا على دقيق قمحنا ونسمة الهواء المارة من أمام أنوفنا. فكيف لا ينازعونا على تاريخنا وعلى روايتنا التاريخية ناصعة البياض!!!!!

بعد عدة أيام إلتقى أبو البراء، مصادفة، جاره أبي معتز:

- السلام عليكم يا أبا معتزّ. كيف أحوالكم.

- وعليكم السلام. بخير والحمد لله. لم أراك منذ مدّة طويلة. يبدو أنّك كنت مسافرا. أجاب أبو معتزّ باسما.

- معك حق. لقد كنت مسافرا، ورجعت يوم الخميس ما قبل الماضي. والمشاغل كثيرة كما ترى. كيف أحوال العائلة؟ وكيف أحوال إبنك معتزّ؟؟ لقد حصل على التوجيهية السنة الماضية.

- بخير والحمد لله. معتز الآن في ألمانيا. يدرس اللغة الألمانية. سنة التحضيري. وسيلتحق بكلّية الهندسة الميكانيكيّة في السنة القادمة بعد إتقانه للّغة.

- عظيم. وفّقه الله. وأي بلد أحسن من ألمانيا في الهندسة الميكانيكيّة؟؟!! فألمانيا هي القمّة في الصناعات. وخاصة صناعة السيّارات. فالمرسيدس هي الملكة المتوّجة في عالم السيارت. والفولكس فاجن، سيّارة الشعب كما أرادها الألمان، متينة وعمليّة، وهي سيّارة محبوبة ومطلوبة. هذا الى جانب الماركات الأخرى: الأوبل، والأودي، وال بي أم دبليو. والأن السكودا التشيكية أصلا. والسيات الإسبانية أصلا. ولا يُضاهي السيّارات الألمانية في المتانة والفخامة، إلا سيّارة الفولفو السويدية، وسيارة الرولز رويس البريطانية التقليدية المنمّقة باهظة الثمن، حيث يتعدّى ثمن السيّارة الواحدة مليون دولار، وتصنّع لنخبة النخبة.

وقبل عدّة سنوات، وعندما كان أبو البراء في زيارة لبرشلونة، لدى صديق له من آل الشعيبي، يُدير فندقا فاخرا في ثاني أهم مدينة في إسبانيا بعد العاصممة مدريد، والميناء الأهم. والفندق إستثمار سعودي للأمير تركي. ويسمى "فندق الملك خوان كارلوس الأول". أي بإسم ملك إسبانيا. أي أن ملك إسبانيا حينذاك قد وافق على إعطاء الفندق إسمه. لأن إبنته الأميرة إلينا تزوجت من لاعب كرة اليد الكاتالوني خايمي دي ماريتشالار، في إحتفال إفتتاحه. تصوّروا ذلك؟؟ ربما كان من أفخم وأجود الفنادق في أوروبا كلها. وكان داخله، بهوه الداخلى على شكل سفينة. مكوّن من عشرين طابقا. والطابق الأخير، قمّة السفينة، سويت ضخم وفسيح وفاخر. تصل إليه عبر مصعد خاص به، لا يُشاركه أحد من نزلاء الطوابق الأخرى، وبواسطة "كود" خاص بالأرقام المثبتة داخل المصعد. وقد أسرّ مدير الفندق أن أجرة يوم واحد في هذا السويت الفريد تبلغ عشرة آلاف دولار في حينه.

وجد أبو البراء لدى الصديق مدير الفندق، صديقا للمدير، رجل أعمال سعودي وصل لتوّه من مكّة المكرّمة الى برشلونة في طريقه الى ألمانيا. وكان هدف رجل الأعمال السعودي هذا من زيارته لألمانيا هدفا وحيدا فريدا عجيبا، ينمّ عن البطر والتخمة في الثراء وإدارة شؤون الحياة. ذاهب الى مهد السيّارات العريقة المتينة من أجل تعديل موتور سيارة مرسيدس، طراز آخر موديل، من أجل إستخدامها في "التفحيط".  

- "التفحيط"؟؟!! سأل أبو البراء الضيف السعودي بنوع من الإستنكار المُهذّب. وهم حول مائدة الغداء على شرف الضيفين القادمين من السعوديّة ومن فلسطين.

- نعم التفحيط، أجاب الضيف السعودي. إنها متعة لا توصف. أن تسير بسرعة 160 كيلومترا في الساعة. وفجأة ترفع "الهاندبريك"، فتغدو السيّارة مثل :الفرّيرة"، تلف وتدور حول نفسها. وتخرج أصواتا مميّزة.

- لكنها خطيرة، ويمكن أن تؤدي الى حوادث قاتلة. أردف أبو البراء.

- صحيح معك حق. إنّها خطرة. لكن الشباب السعودي يمارسها بكل سعادة وسرور.

تمتم أبو البراء في سرّه:

- معلوم يا عمّي. "الفاضي بيعمل قاضي". وهل إخترع الألمان سيّارة المرسيدس. إجتهدوا وبرعوا في تصنيعها، للّلعب والتفحيط؟؟؟!!! ولله في خلقه شؤون!!!

تحدّث أبو البراء مع جاره أبي معتزّ في العديد من الأمور. فالحديث ذو شُجون. تحدّثا تقريبا في كل شيء: في العمل، والسفرات الخارجية والداخلية، وفي شتاء هذه السنة البارد القارص، لكن المدرار والحمد لله. فقد شتّت الدنيا بما يزيد عن المعدّل المطلوب. وعن إحتمال وصول الجراد الى البلاد، لكن يبدو أن موجة تجدد الشتاء الأخيرة قد حالت دون ذلك. ربنا ستر. ربنا حمانا من جراد يستهلك في اليوم 400 طن من الغذاء. ويأكل الأخضر واليابس.

وربما تطرّقا في حديثهما الى علوم الفلك والبحار. وإختراع العرب للبوصلة (الإصطرلاب) التي توجّه تُرشد  السفن. وعن النجوم السيّارة. والشهب المتساقطة. والمذنّبات التي تظهر كل سبعين سنة. ودرب التبّانات التي تظهر نجومه المتتابعة وراء بعضها، جليّا، في سماء فلسطين الصافية في ليالي الصيف الدافئة بنسيمها المنعش.

لم ينبس أبو البراء عن خطبة الجمعة ببنت شفة. لم يذكرها ولم يأت على سيرتها.

سلّم على أبي معتزّ معانقا ومودعا. سار في الشارع الطويل الجميل التي تحفّه الأشجار الباسقة الوارفة على الجانبين. نسمة خفيفة داعبت محيّاه. قفزت أمام مخيّلته، للحظة، صورة أبي معتزّ وهو على المنبر يحرّك يدية بإشارات منمّقة. منبر جامع صوردا البديع الفاخر.

إستمر في سيره، وتمّتم في سرّه:

- رحمة الله على الفتاة، التي بُني المسجد ترحّما عليها وتخليدا لذكراها، رحمة واسعة، وأسكنها فسيح جنّاتة. آمين يا رب العالمين.