وجع البعاد بقلم: محمد محمود عمارة
تاريخ النشر : 2019-04-24
وجع البعاد بقلم: محمد محمود عمارة


كان مرحاً خفيف الظل ، و كانوا ينظرون إليه على أنه حكيم شقتهم الواجب طاعته و اتباع قواعده و إرشاداته للغربة :
1- اغتربت من أجل تحسين دخلك ، فاقتصد ، و اصرف القليل و حول الكثير لتقصر أيام غربتك ، وتنعم بما حولت حين تغادر مستقيلاً بعد تحقيق أهدافك .
2- اقصر أثاثك على مرتبة و غطاء ليسهل عليك الانتقال من سكن إلى أخر فلا تتحمل عناء نقل أو تتكلف مصاريف فك ونقل و تركيب .
3- قميصان و بنطلونان يكفيانك للصيف ، و بلوفران يكفيانك في الشتاء.
4- المعدة لا تفرق بين ولائم الأغنياء و طعام الفقراء ، و في كلتا الحالتين لن تشكرك ، فاقتصد في طعامك.
و على الرغم من هذه المبادئ العجيبة ، إلا أن شقتهم لم تكن تخلوا من المرح و البهجة طوال الوقت ، و كان من يزورهم يسعد بصحبتهم ، إلى أن جاء يوم لم يكن في الحسبان ، توفى الحكيم بدون مقدمات بأزمة قلبية حادة ... فساد الحزن و الذهول .
طلب منهم ابن صديقهم تجهيز أوراق زيارة ليتولى إنهاء متعلقات والده . انتظروه على أحر من الجمر و هم في حيرة كيف سيخففون عنه . في الموعد المحدد دق جرس الباب فأسرعوا جميعا و اصطفوا ليكونوا في استقبال ابن الغالي بعدما جهزوا الغرفة التي سيبيت فيها ... دخل شاب تبدو عليه أثار النعمة و الوجاهة ، فالعطر الذي سبق دخوله و فاح و عبأ الشقة ، و النظارة الشمسية الماركة ، و الملابس الفخمة الأنيقة ، و الحذاء المصنوع من أجود أنواع الجلود الطبيعية ، كلها تشير إلى شخص يستحيل أن يكون ابن مرشدهم و قدوتهم.
طلب منهم دخول غرفة والده ، فأخذوا يهونون عليه ببعض العبارات حتى لا تتملكه ذكريات و ألم الفراق حين يلمس أغراض والده و ملابسه ؛ لكنهم صدموا حين أمسك أغراض أبيه البالية بطرف أصابعه متأففاً ، و أخذ يقلب فيها حتى وجد مجموعة من الأوراق و الوثائق الرسمية. حين أخبروه أنهم أعدوا له غرفة أبيه ليبيت فيها لينعم ببعض الذكريات ، اعتذر لهم و أخبرهم أنه حجز غرفة في الفندق الخمس نجوم القريب منهم ، و طلب منهم التخلص من باقي أغراض والده ثم انصرف تاركاً إياهم بين مذهول و غير مصدق ، كانوا ينظرون و لسان حالهم يسأل : أحقاً هذا ابن ذاك ؟
ما سبق قصة حقيقية ، شخوصها حقيقون و هم من قصوها بعدما استوعبوا الدرس جيداً.
أعرف أناساً توفوا و لم يكتشف أحد وفاتهم إلا بعد أن تحللت جثثهم و خرجت رائحتها فأزعجت جيرانهم ، و لولا ذلك ما شعر أحد بوفاتهم أو حتى غيابهم ، ففي الغربة الكل مشغول بنفسه و همومه ، و الأهل اعتادوا غيابه فأصبح تواجده بينهم كضيف يحل فترة ثم يرحل ، و لأنهم اعتادواغيابه فهم لم يشعروا به حين اختفى و لم يفكر أحدهم بالاطمئنان عليه ... سيتلقون نبأ وفاته مثلهم مثل الغريب و سيكون حزنهم صوري و شكلي من أجل كلام الناس ، و حين تنفض مراسم العزاء سيجلسون من أجل المهم : تخليص مستحقاته في غربته و توزيع الميراث .
في بداية غربتك ستكرر الجملة المعهودة : "سأحقق أهدافي في بضع سنوات ثم أعود". لكن ستكتشف متأخراً أن قطار العمر مضى بك و لم يصل لمحطتك المنشودة ، فالأهداف زادت مع زيادة المسئوليات ، و الأعباء زادت مع زيادة من تعول. فالنادر القليل من اغترب ثم ترك غربته بإرادته بعد سنوات قليلة ، دون أن يندم على هذا القرار.
الغربة ليست اختيار في ظل ظروف معيشية صعبة ، هي اضطرار لأن تعيش و تتعايش مع وضع ثقيل على نفسك يسرق منك شبابك و صحتك من أجل أن توفر حياة كريمة لمن تعول. و أيام الغربة و أعوامها تختلف عن أيام الأخرين ، فأيام الأخرين تُحسب باليوم و الشهر و السنة ، أما أيام الغربة فتحسب بمناسبتين: العطلة السنوية ، و استلام الراتب الشهري ، غير ذلك تتشابه الأيام و لا أهمية لمعرفة التواريخ ، فكلها متشابهة و لا جديد فيها ، لذلك ستنتبه فجأة حين تتأمل نفسك في المرآة لتكتشف الشعر الأبيض الذي غزا رأسك و لحيتك في صمت ، التجاعيد التي ملأت وجهك ، ثم تكتشف عمرك الذي نسيته بين أوراق سفرك فتكتشف أنك أصبحت كهلاً أو عجوزاً غير ذلك الشاب الذي عرفته بداية الاغتراب.
الغربة كربة ، فإن كُتبت عليك فاجعل لنفسك الأولوية و الأهمية ، دلل نفسك و احن عليها ، فالأبناء سينشغلون عنك ، و الزوجة ستنشغل بالأبناء و لن يبق لك حيز في ذاكرتها ، و الأصدقاء سيتلاشون عاماً بعد عام حتى لا يبق منهم أحد. في غربتك ستمرض لكن لن تجد يد حانية تمتد إليك لتخفف عنك ألامك سوى لطف الله و رحمته ، ثم نفسك .. فهون عليها و لا تحملها ما لا تطيق مما يؤذي النفس و البدن ، فلا أحد يستحق اهتمامك سواها ثم ليأتي بعد ذلك من يأت ، فلا أحد يستحق.
اللهم خفف عن كل مغترب غربته و فرج عن كل مكروب كربته و اشف كل صاحب مرض. اللهم أمين