المُستَنسَخون! بقلم:يعقوب زامل الربيعي
تاريخ النشر : 2019-04-24
المُستَنسَخون!

قصة قصيرة

............

قبل أن تَبْرَقَ لي، كنت اجوب سِباخَ الارضِ البور، من شَمالِ أقصى البصرة، إلى حيث أنا. أبحث عنكَ، أو عن بقيةٍ من بقاياك.

تخطيتُ طريقَ سحيقِ خطواتِك، وكنت كلما لمحتُ كومةَ كثبان، أنبش لما تحتها. 

الكثبانُ كانت تنكشفُ إمّا عن وجهِ رجل، أو عن يد، أو عن بقية "بِسطالٍ " مازال متفتِّقا. 

الطريقُ المُلغّمُ بمتروكاتِ الرجال، كان طويلا. وحين يهدُّني التعب، وأحاولُ أن آخذَ نفسا زوادة لبقيةِ الطريق، كنتُ أسمعُ أصواتَ الجنود المدفونين تحت الكثبان. ومن بين أصواتهم كنت أحاول سَماع صوتِكَ.

في إحدى المرات قلتَ لي:

ــ " إنهم يقومون بإطفائنا "!

وسألتك :

ــ " من هم ؟ "

قلت:

ــ " إنهم الأشبهُ بالأقفاص "

ولأنني كنتُ يومَها مشوَّشا، وربما قد فات ميقاتُ البحث عن الدواخل. سكتُّ.

وفي مرة أخرى، وكانت التياراتُ الخفية، أقلَّ وطأة، قلتَ لي همسا:

ــ " لسنا، في الحقيقة، أكثرَ من متبرِّعين. يحتاجون اعضائَنا فقط، ليُعيدوا استِنساخَنا في هيئاتٍ جديدة. مجرَّدُ متبرِّعون".

وحين وجدَّتني، كمن تعطَّل فيَّ كلُّ شيء، أو كلُّ شيء عندي، أصبح خارجَ نطاقِ الخدمة. أكدتَ لتريني صورة الحدث على نحوٍ أفضل:

ــ " كانوا يقفون عند مفترقِ الجنود وعائلاتهم. يتصيَّدون النساء. يفعلون بهنَّ، كما يفعلون معنا. أولا يطفئون حياتهنَّ. ثم يقومون باستئصال أرحامهن. تَصوَّر معي، حتى اللواتي لم يُنجبن بعد، وتلكم اللواتي ما زلن ابكارا.

ــ " ما المغزى، في ذلك؟! "

لم أدرك جوابك، غير تلك الكلمات التي أتت تباعاً:

ــ " أقفل على قلبي. وأرمِ المفتاح بعيداً. أريد أن أحبك حتى الأبد الآخر ".

عن ذاك أدركتُ ما يريد. كان يخاف عليَّ من أن يدرك أولئك الاشباه بالأقفاص، كيف هو حبنا. عندها يستأصلون اعضائي ايضا. حينها هزلتُ حتى عن الصراخ.

من يستطيع التخفيَّ، حين يتسللُ إلى مأواه؟. أو حتى الذي يتسلل في الطريق المظللة. كنا أحيانا نسلك الطريق نحو أنفسنا، متخذين جانب ما تحت التقاء رؤوس اشجار شوك البحر، أو الصفصاف المعمر رغم السوس الذي يأكل جذوعها. نحمل أجنَّة ملامحنا، دون أن نبوح بها للغرباء.

نعم، أحياناً أجل. وأحيانا نترك قدرَنا لملكات حواسِنا. كانت بنا رغبةٌ ليرى البعضُ دواخلَنا، ليطمئنوا. حين يُريننا دواخلهم. كلنا نحتاجُ للبوح، وليس التخفّي دائما.

كلٌّ منا يحتاج لرؤية ملامِحه بوجه الآخر. 

أولئك الذين يذهبون للحقول، أو يعودون من مدارسهم واعمالهم، مساءً والذين يكونون بصحبة نسائهم أو حبيباتهم، ستظهر ملامحهم الجميلةُ واضحةً. كانوا بحاجة لمن يدرك لهم ملامحهم. ويبتسم لها. 

بتعابير رخوة،وبجفون متعبة، كأنهما لم تعد لي، شعرت أنني أنتمي لهذا الطريق المغبرِّ جرَّاء اجترار الاحذية منذ الانسحاق الأول، كأن لا هواءَ في الكون يمكن أن يزيحه.

وحيث ثمَّن التعابير المطبوعة بالعاقات والعرق واللاتحفظ، كانت تحدد الخطى، كما عذاب الاستشهاد والتخبط على مدى اليدين.

هل البلاهة كافية للخروج من حرجي، والنظر بتعابير مناسبة؟ وكانت ثمة شفتين متيبستين، وعينيين مطعونتين بالحرب، تتخذ هيأة مستعارة، لوجه لا ينأى عن خاطري. لذلك الطفل الذي لا رابط بينه وبين من يحاول اطفائه عنوة. أو بمن ينتظر الضحية ليسلبها أي جزء صالح للحرب. أو لاستنساخ مفجع آخر.

في لحظة سابقة، كنت أخطو ببضعة خطوات، وحتى لو كنت حقيقة الأمر في المكان ذاته، كنت ألتفت في كل الاتجاهات التي كانت وقحة. 

فقط علبة دخان لم تكن فارغة، لمستها، حينها التصقت، كما الميتة بين اصابعي. كنت اغمض عينيَّ، لئلا يغادرني النظر عبثا.

وبمشقة كبيرة انتزعت من حنجرتي، ثمة كلمات، وكأنني أزيل الخدر عنها: 

ـ " أمِنَ الضرورة أن نقفز للخلف، خوف أن ننمو كأقلية ليست متطرفة ، لنصبح ضحية سلخ متكرر؟ ". 

الآن وأنا أمام مسدسي، الموجه لجهة واحدة، لتقرير مصيري، كل ما يملأني، أني لا استطيع نزع نفسي من الغبار، وعن أناسٍ لا يستطيعون الخروج من أحزانهم. كما لا استطيع التوهم، من دوار أن لا ثمة حرب ولا شيء يقال له " السلم ". 

أنه العار الفاسد. الموجة الخائفة، المتمددة، حين اراها تقوم بنزهتها المتخبطة تصيبني بالربو. وحين لا بؤسَ للرجال، أمام ذئب يركع أمام متبرع جديد. متبرع لا يعرف أنه مُستنسَخ من آخر، انحنى أمام من كان يريد إطفائه، ولم ينبس بأية صرخة.