أكذوبة حرية السوق الدولية وأكذوبة الإقتصاد الحر بقلم: د. نبهان عثمان
تاريخ النشر : 2019-04-24
أكذوبة حرية السوق الدولية 
وأكذوبة الإقتصاد الحر
  د. نبهان عثمان

رئيس الاتحاد العام للاقتصاديين الفلسطينيين

تعودنا في حياتنا على سماع العديد من المصطلحات، التي يطلقها ويتغنى بها العالم الغربي والاقتصاديات المركزية، مثل حقوق الانسان والديموقراطية وحرية التجارة وحرية السوق واقتصاد السوق وحرية تنقل البضائع والافراد بين الدول.

والتي تحاول الاقتصاديات المركزية والدول الغربية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الامريكية فرضها على دول العالم، لكن في امر الواقع، هي أبعد الناس عن الايمان بها، ومن السهولة ادراك ذلك لكل من يتابع السياسة الدولية لتلك الدول، ونحن الشعب الفلسطيني اكثر ادراكاً ان تلك الدول غير صادقة وخصوصاً انها المؤيدة والداعمة لدولة الاحتلال الاسرائيلي والمغتصب لوطننا.

والشيء الغريب، الكثير من المسؤولين لدينا لا زال يتغنى بمصطلح حرية السوق والإقتصاد الحر، حتى اننا في الدستور الفلسطيني، اكدنا على الإقتصاد الحر في المادة 21 من النظام الاساسي المعدل لعام 2005 والتي تنص على أنّ " النظام الاقتصادي في دولة فلسطين يقوم على اساس مبادئ الاقتصاد الحر ...)، وبمجرد متابعة السياسات الاقتصادية في الاتحاد الاوروبي وفي الولايات المتحدة الامريكية، نجد في تلك السياسات الكثير من التشريعات والقوانين والاجراءات التي تجعل حرية السوق ابعد ما تكون عن الاقتصاد الحر، وحرية التجارة العالمية، وخاصةً فيما يتعلق بصناعاتهم الاستراتيجية، والتي احيطت بقيود واجراءات لحماية تلك الصناعات، ولا زال الحديث يدور حول زيادة حماية تلك الصناعات، وحول ماهي التشريعات والقيود التي على الاتحاد الاوروبي اتخاذها لمنع الاستثمار الاجنبي التغلغل فيها، وخاصة الاستثمار الصيني.

ويدرك الاتحاد الاوروبي ان تلك الصناعات في اوروبا جاذبة لراس المال الاجنبي وخاصة الاستثمار الصيني، فيما ان الاقتصاد الصيني لا يعتبر جاذبا لراس المال الاوروبي لعدم قدرته على منافسة الاقتصاد الصيني.

الصناعات الاستراتيجية تلك مركزة نشاطاتها في مجال الطاقة، ونظم المعلومات، والتواصل، والصناعات العسكرية، والمواصلات، والاتصالات، وفي مجال المصانع الكبيرة وذات الانتاج الواسع والضخم والقادرة على تأمين فرص عمل كثيرة، وتتبع تلك الصناعات الاستراتيجية مجالات التقنية المتطورة والحديثة.

والاتحاد الاوروبي ودوله يعتبر ان إتاحة المجال للاستثمار الاجنبي في تلك القطاعات يشكل خطورة كبيرة، ومجازفة خطيرة على الاقتصاد الاوروبي وينتقص من سيادة دوله.

في ساحة الاتحاد الاوروبي، يدور النقاش بشكل واسع لتحديد الاخطار التي ستنشأ من إتاحة الفرصة لرأس المال الاجنبي الاستثمار في تلك الصناعات، على مستوى الاقتصاد الاوروبي الكلي وعلى مستوى اقتصادبات دول الاعضاء.

تتبوء هذا النقاش المانيا وفرنسا وايطاليا، والتي شكلت لوبي او تحالف يقود هذا النقاش والذي يسعى لفرض المزيد من التشريعات، لإعاقة الاستثمار الاجنبي وخاصة الصيني في اقتصاديات الاتحاد الاوروبي، مع ان تلك الدول قد اتخذت العديد من القوانين لحماية الاقتصاد الوطني في بلدانها لكنها تطالب اتخاذ تشريعات معيقة على المستوى الاتحاد الاوروبي ككل.

فرنسا قد بدات في تشكيل لوبي ضاغط من اجل تبني سياسات حماية لاعاقة الاستثمار الاجنبي، منطلقة من القانون التي شرعته في عام 2005 والذي يحمل رقم 1739/2005 والذي يفرض نظاما لحماية صناعاتها العسكرية وصناعات المعلومات والتقنية الحديثة وصناعات الطاقة والصناعات الفضائية، ...).

هذا القانون فرض الكثير من العراقيل امام الاستثمار الاجنبي، لحماية اقتصادها الوطني من المنافسة على مستوى دول الاتحاد الاوروبي.

كردة فعل على نشاط الشركات الصينية، انضمت المانيا في عام 2009 الى الحملة الفرنسية لحماية تلك الصناعات، من خلال سن قوانين خاصة قانون التجارة الاجنبية, وفي عام 2016 اتخذت الحكومة الالمانية اجراءات اعاقت الاستثمار الصيني، بحجة خطرها على الامن القومي الالماني، وفي عام 2017 قامت الحكومة الالمانية باعتماد لائحة تشير الى تعديلات في قانون استثمار الراسمال الاجنبي ولم تكن تلك التعديلات مقصود منها الاستثمار الصيني والروسي، بل والاستثمار من جميع الدول خارج الاتحاد الاوروبي.

كذلك الى هذه الحملة انضمت ايطاليا من خلال اصدار مرسوم رئاسي العام 2014، يعطي الحكومة الايطالية صلاحيات اتخاذ قرار الرفض لاي استثمار أجنبي في الصناعات التي تعتبرها الحكومة الايطالية استراتيجية، وفي عام 2017 اتخذت تشريعات قانونية اطلق عليها ( القوة الذهبية ) القانونية، لاعاقة ورفض اي استثمار في الصناعات عالية التقنية.

وفي بداية العام 2017، تقدم تحالف اعاقة الاستثمار الاجنبي، بطلب الى لجان الاتحاد الاوروبي، لإعادة تقييم الإجراءات القانونية، التي تتيح لدول الاعضاء رفض اية استثمارات اجنبية في المصانع الاوروبية، وبناء على ذلك الطلب، طلب ايضا تحديد معايير المصانع والشركات التي ستوضع ضمن قائمة القطاعات الاستراتيجية منطلقاً من فهم أنّ المستثمرين الاجانب يسعو الى الاستثمار في تلك الصناعات من منطلق اهداف استرتيجية معادية ومهددة للأمن في الاتحاد الاوروبي.

وفي نطاق الحملة، ينظر التحالف حتى الى السويد على انها دولة غير موثوقة وتهدد تقاليد حرية التجارة كما يدعون، مع العلم ان اكبر شركتين لصناعة السيارات تعتبر في ايدي صينية، وان السويد الى جانب بعض الدول الصغيرة المعتمدة على الراسمال الاجنبي تشكل مجموعة استثمارية للصين مثل التشيك، اليونان، البرتغال. ويدعي التحالف المذكور ان للصين تاثير كبير في صناعة القرار الاقتصادي فيها.

اما بريطانيا، التي تعتبر تاريخياً دولة السوق الحر والتجارة الحرة، لا تسعى الى شراء الشركات الاجنبية، بل تضع معيقات لبيع شركاتها.

كذلك فرنسا تسعى الى السيطرة على الصناعات الاستراتيجية وتركيز استثماراتها في تلك الصناعات بما فيها استخراج النفط من البحار والصناعات النفطية ومشتقاتها.

في الوقت الراهن، تمسك دول تحالف حماية الصناعات الاستراتيجية، فرنسا، المانيا، ايطاليا بقرار التحكم في تلك الصناعات وحتى قرار التدخل في العديد من الصناعات الخاصة الصغيرة، من حيث نسب مساهمة الراسمال الاجنبي فيها، تحت شعار حماية الامن القومي.

كما اننا نلاحظ ان العديد من الدول الاخرى في الاتحاد الاوروبي تسير في طريق الحماية لصناعاتها، بهدف تأمين الأمن القومي لإقتصادها مع محاولات الاستفادة من الراسمال الاجنبي لكن بحذر شديد.

تحت شعار التدخل الناعم، تعمل بعض الدول بأسلوب اكثر نعومة ورقة في حماية صناعتها على المستوى الوطني، مثل بولندا التي حددت قائمة الصناعات الاستراتيجية التي تقع تحت رقابة الحكومة والتي تملك النسبة الكبرى من ملكيتها وبواسطة قانون حماية ووقاية المصانع التي تقع في قائمة الصناعات الاستراتيجية، القانون شرع في العام 2015، والتي يفرض على تلك المصانع الحصول على موافقة وزارة الاقتصاد والمالية على بيع اسهمها، كذلك نجد في فلندا ان وزارة الاقتصاد لها قول الفصل في تحديد نسب الملكية للرأسمال الأجنبي، وللحكومة حق منع الإستثمار الأجنبي، إذا توصلت الى قناعة أنه يهدد الاقتصاد الوطني والمصالح الوطنية الفلنلدية. 

تدرج الولايات المتحدة وكندا في قائمة دول اقتصاد السوق، لكن في الولايات المتحدة هنالك مخاوف كبيرة من الاستثمارات الاجنبية وخاصة الصينية ولذلك منذ عام 2009 اتخذت الحكومة، العديد من الاجراءات لدراسة اي استثمار اجنبي في الصناعات الاستراتيجية، وتشكل مجلس خاص له صلاحية اتخاذ اجراءات الحد والاعاقة من تاثير الراسمال الاجنبي على الاستثمار الداخلي والخارجي الامريكي، معتمدا على قانون صدر في العام 2007 والذي يخول المجلس دراسة اي استثناء اجنبي، وله صلاحية الاعاقة و الرفض تحت مفهوم تهديد الامن القومي والصناعي، وقد اصدرت وزارة الداخلية قائمة من القطاعات التي يمنع الراسمال الاجنبي الاستثمار فيها مثل بناء السدود وقطاع خدمات الحماية الوقائية، ملكية الابنية الحكومية، وقطاع الصحة والزراعة وتنظيف شبكات المياه والمياه العادمة وغيرها الكثير من القطاعات.

كذلك في كندا هناك قانون الاستثمار الاجنبي الذي يعطي الحكومة صلاحية منع الاستثمار في القطاعات التي تهدد الاقتصاد الوطني والامني، وقد اضيف لائحة الى قانون 2012 التي منعت الاستثمار الاجنبي في شركة الدولة العاملة في النفط في مقاطعة البرتا، رداً على جهود الراسمال الصيني والمتغلغل في شركة نيكسن.

تاسيسا على ماجاء في المادة (21) من القانون الاساسي الفلسطيني المعدل لعام 2005، والمقر من المجلس التشريعي، فإن المشرّع الفلسطيني والسلطة الوطنية الفلسطينية، لم ياخذ بعين الاعتبار واقع الاقتصاد الوطني الفلسطيني والعراقيل التي يفرضها الاحتلال والمعيقات التي يضعها امام نمو وتطور بنيان الاقتصاد الفلسطيني، ولم يعر اهتمام المشرّع الفلسطيني ان الوطن كله ليس حراً بما فيه الاقتصاد الوطني الفلسطيني، فكيف يكون الاقتصاد حرا ما دام الوطن بالاساس ليس حراً؟.

كان على المشرّع الفلسطيني ان ينظر الى ساحة الاقتصاد الوطني الفلسطيني على انها ساحة صراع مع العدو كالساحات الاخرى، ومن هنا كان من المفروض الانطلاق لوضع رؤية مستقبلية لبناء وتنمية الاقتصاد الوطني الفلسطيني قائمة اساساً على قراءة للواقع ومتطلبات الواقع والظروف التي يعاني منها الاقتصاد الفلسطيني، فهذه القراءة كان يتجوب عليها، الخروج بمفهوم يتطابق وينسجم مع متطلبات النمو الاقتصادي الاجتماعي للشعب الفلسطيني. وهذا المفهوم لايمكن ان يكون بعيداً عن اقتصاد مختلط عام وخاص، فاي قطاع عام على السلطة الوطنية ان تتولى الدور الريادي والاساسي في ايجاده مع رؤية لدعم القطاع الخاص والتعاون والتنسيق معه.

نرى من ما سبق أهمية أن نكون نحن أولى أن نفكر باتخاذ كافة الاجراءات والتشريعات والسياسات التي تحمي اقتصادنا الوطني.

لذا على المشرّع الفلسطيني ان يعيد النظر في المادة (21) من القانون الاساسي الفلسطيني المعدل في عام 2005 ووضع مادة تنسجم مع واقع اقتصادنا الوطني وأهدافنا الوطنية وأن تؤكد على أنّ الاقتصاد الفلسطيني، هو اقتصاد مختلط وموجه، وأن يكون للسلطة الوطنية الدور الريادي في التنمية وخاصة في القطاعات الانتاجية.