نفائس "ابن النفيس" مجدداً في "دمشق".. بقلم د. غسان شحرور
تاريخ النشر : 2019-04-24
نفائس "ابن النفيس" مجدداً في "دمشق".. بقلم د. غسان شحرور


نفائس”ابن النفيس” مجدداً في "دمشق".. بقلم د. غسان شحرور  

أقامت وزارة الثقافة السورية بالتعاون مع وزارة الصحة في هذا اليوم احتفالية تكريمية بمناسبة الذكرى السبعمئة والخمسين (٧٥٠عاماً) على نبوغ الطبيب والعالم والفيلسوف العربي ”ابن النفيس” بعنوان «”ابن النفيس” عالماً ومبدعاً» والتي أدرجت على قائمة احتفاليات الذكرى العالمية لليونسكو للعامين ٢٠١٨ - ٢٠١٩م، وقد سلط برنامج الاحتفالية في "دمشق" الضوء على الجوانب الفلسفية والثقافية والطبية لهذا العالم، كما ضم معرضاً  للمخطوطات والكتب الخاصة به، مع عرض فيلم وثائقي عن دور ”ابن النفيس” في مجال الطب والفلسفة والعلوم.

  ينتمي “ابن النفيس” إلى حقبة مميّزة من التاريخ، حافلة بالنشاط والحيوية، أسهمت في تكوين وتطوير العلوم الطبية، كما حملت هذه الحقبة بذور تطور ونمو في تاريخ الطب على مرّ العصور، إن الحياة التي عاشها “ابن النفيس” تعطي مثلا حياً على عشق الإنسان للعلم والعمل والورع، والسعي المستمر، الذي لا ينقطع في دروب المعرفة والعطاء الإنساني.

من هو “ابن النفيس” ؟

“ابن النفيس” هو "علاء الدين أبو العلا، علي بن أبي الحزم القرشي الدمشقي"، الذي نشأ في "دمشق"، وانتقل بعدها إلى "مصر"، لم يذكر المؤرخون تاريخ مولده على وجه التحديد، من الأرجح أنه ولد عام 607 أو 608 للهجرة الموافق / 1210 أو 1211 / للميلاد في قرية "قرش الدمشقية" بحي "الميدان الوسطاني"، وفي عهد "الملك العادل" شقيق "الناصر صلاح الدين الأيوبي" ثم انتقل إلى "القاهرة" في سنة 633 للهجرة 1236 للميلاد، ومات فيها سنة 687 هجرية أي 1288 ميلادية.

  تتلمذ على يد "مهذب الدين عبد الرحيم على" الملقب “بالذاخور” وذلك بالبيمارستان النوري في "دمشق"،  (الذي أسسه "نور الدين محمود بن الزنكي"، وقد حكم "سورية" بين عامي 1146- 1174 م)، وكانت "دمشق" قد ورثت مجد "بغداد" الطبي وازدهر العلم فيها بفضل حكامها "الأيوبيين" الذين كانوا يعيرون العلم عامة والطب خاصة اهتماماً كبيراً حتى أنهم جعلوا من عاصمتهم مركزاً رائداً للعلوم والفنون وحققوا فيها نهضة كبيرة، لقد ظلت "دمشق" واحة هادئة وسط عالم ساده الاضطراب، تحفظ فلول العلم والعلماء في الشرق، وكان من مظاهر هذه النهضة المكتبة التي أنشأها "نور الدين زنكي" واستودعها عدداً من نفائس الكتب، و"البيمارستان" الذي جذب أمهر أطباء عصره، وكانوا قد لجأوا إلى "دمشق" من بغداد حاملين معهم أشهر المؤلفات كقانون "ابن سينا" الذي دأب على دراسته والتعليق عليه جهابذة العلماء من بعده، لم يعرف شيئاً عن والدي”ابن النفيس” أو سلالته، وكان "الناصر صلاح الدين" قد أسس بيمارستاناً سمي بالناصري نسبة إليه (أو بالعتيق) حيث عمل “ابن النفيس” فترة من حياته إلى أن أنشأ “قلاوون” "البيمارستان المنصوري" (أو الجديد) فرأى السلطان أن يسند إدارته إلى هذا النطاسي الكبير ليفيد من خبرته الطبية وتوجيهه الغني المستنير، وربما يفسر ذلك سر إهداء “ابن النفيس” مكتبته لهذا المستشفى الناشئ، كما أنه أوصى ببيته عند موته، وهذا سلوك إنساني ريادي قل نظيره عبر العصور. 

لقد عاصر “ابن النفيس” الحروب الصليبية، وحضر الدسائس والفتن والتعذيب بين المماليك، ومن الأحداث الكارثية التي عاصرها هجوم “هولاكو” على "بغداد" وهدمها سنة 1258 م، وكذلك الوباء الذي نشأ في مصر سنة 1272 م وفتك في ديارها، ولا شك أنه قد آل إلى “ابن النفيس” أن يتولى نصيب الأسد في مكافحته بحكم المكانة المرموقة بين زملائه وعند الحكام. من مآثر "ابن النفيس" أيضا الطبية والثقافية والاجتماعية أنه كان يعقد مجلساً دورياً في داره يحضره أمراء "القاهرة" ووجهاؤها وأطباؤها مهد بشكل كبير إلى ظهور المنتديات المعاصرة، يقول البعض أن عدم زواجه قد ساعد على تركيزه في الدراسة وعلى وفرة انتاجه، وكانت قريحة التأليف تتسلط عليه أحياناً بقوة فلا يستطيع الإفلات منها مهما كان بين يديه. 

نفائس”ابن النفيس”:

وهي ثمار نفيسة سجل فيها “ابن النفيس” صفحات مشرفة في سجل الثقافة العربية الإسلامية والعالمية أذكر منها: 

-"الشامل في الصناعة الطبية" وهو أضخم موسوعة طبية كتبها شخص واحد في التاريخ الإنساني، ولعله من أوسع كتبه، وهو الآن في البيمارستان المنصوري بالقاهرة، وهذا الكتاب موسوعة تضاهي موسوعة الرازي (الحاوي).

-"شرح تشريح القانون" الموجود في المكتبة الظاهرية بدمشق وهو مفخرة في الطب العربي، وقد طرح “ابن النفيس” نظريته المثيرة عن طبيعة الدوران الدموي الرئوي واكتشاف الدورة الدموية الصغرى المشهور بها حتى هذا اليوم.

- كتاب”موجز القانون” وتوجد نسخ عديدة له. 

- شرح “القانون” في عشرين مجلداً، وقد ترك فيه بصمات رائعة تنم عن عمق معرفته وسعة إطلاعه. 

-"شرح فصول أبقراط"، وتعليق على كتاب الأوبئة لأبقراط أوضح فيه آرائه ونتائج خبرته.

-“المهذب في الكحل المجرب”، وهو موجود في "المكتبة الظاهرية" بدمشق كما يوجد في مكتبة "الفاتيكان"، وقد نال هذا المؤلف حظاً وافراً من الشهرة وسعة الانتشار، ولا بد من الذكر أن طبيباً مشهوراً هو “ابن القف” قد تتلمذ على يد “ابن النفيس” و“ابن أبي أصيبعة” في "دمشق"، وهو من الجيل الثاني للمدرسة “الداخورية” التي ينتمي إليها “ابن النفيس”، وقد نسب إلى الطبيب "ابن القف” كتاب "العمدة في صناعة الجراحة”.

له أيضاً مؤلفات غير طبية في اللغة "طريق الفصاحة"، وفي الدين والفلسفة والمنطق وغيرها.

  هذه جولة سريعة في نفائس “ابن النفيس” يتبين من خلالها كيف قدم مثلا رائعا للطبيب المجتهد، وكيف كان صاحب إسهامات جليلة في فن الشفاء، وفي تقدم العلوم الطبية التي شكلت جزءا لا يتجزأ من تاريخ الثقافة العربية الإسلامية، والإنسانية بشكل عام.