الصيّدلاني الماهر بقلم: السفير منجد صالح
تاريخ النشر : 2019-04-20
الصيّدلاني الماهر بقلم: السفير منجد صالح


الصيّدلاني الماهر

كان على وشك الدخول الى قاعة الإمتحان. الإمتحان الأوّل بعد أربعة أشهر دوام في كلّية الهندسة في جامعة الإسكندريّة. تخصص الهندسة المدنية. ولكن الحاجب (الحارس) على باب القاعة أوقفه:

-         من فضلك "الكارنيه" يا أفندم؟ سأله الحارس وهو يسدّ مدخل باب القاعة بذراعه.

-         أيّ بطاقة، ليس لدي بطاقة!!! أجاب أيمن، طالب السنة الأولى، القادم من الضفة الغربية المحتلّة.

-         الدخول الى الإمتحان فقط ببطاقة الكارنيه يا بيه، أردف الحارس الذي يؤدي عمله بناء على تعليمات الإدارة.

-         ولكن لم يعطيني أحد هذا الكارنيه. لا أعرف عنه شيئا!!! أجاب أيمن باستغراب وإستنكار.

-         إذن، عليك مراجعة الإدارة. ومن فضلك تنحّى جانيا. إفسح المجال للطلاب كي يدخلوا.

حيث لوحظ تجمّع الطلاب في طابور وراء أيمن خلال جداله مع الحارس.

في مكتب مدير شؤون الطلّاب في كلية الهندسة المدنية في جامعة الإسكندرية تلقى أيمن، " ويا غافل إلك الله"، خبرا صاعقا: لم يكن إسمه مدرجا في سجل طلاب السنة الأولى في الكلّية، وحتى أنه لا يوجد له في الكلّية أيّة أوراق تخصه. تلك الأوراق التي كان قد قدّمها وسلّمها لمكتب شؤون الطلبة الوافدين في القاهرة، الذين أشاروا عليه الذهاب والإلتحاق بكلية الهندسة في جامعة الإسكندرية. مع العلم أنّه كان قد إستوفى الشروط، وحصل على الموافقة، ودفع رسوم التسجيل وجانبا من القسط. "أي فزّورة ثقيلة الدم هذه"!!!. ما العمل؟ ماذا يقول؟ ماذا يصنع؟ لمن يلجأ؟ أين "الدوبارة"؟ يبدو أنها عقدة بلا حل!!!

هل سيضع رأسه بين يديه ويُطأطأه ويندب حظّه؟ أم هل سينصب خيمة ويُخيّم على شط الإسكندرية، منتظرا المساعدة من وكالة "الأنروا"، وكالة غوث وتشغيل اللآجئين الفلسطينيين، فقد أصبحت تنطبق عليه صفة لاجيء بإمتياز.

إسمه في الكلّية غير موجود، وليس لديه صفة طالب أو وجود. إذا هو لاجيء، هو على عقبيه مردود. فلو أوقفه شرطي ودود، وسأله ماذا تصنع يا فتى في هذه الديار وما هو سرّك الموعود؟ ماذا سيجيبه. أنا موجود ولست موجود أنا طالب ولست بطالب. أنا مسجّل ولست بمسجّل. أنا هنا ولست هنا. ليس لدي كارنيه ولدي كارنيه. هل أنا مرّئي أم أنا شبح بثوب الخلود؟؟؟!!!

هل سيلبس "شورتا" ويقتني سنّارة، ويُشمّر عن ساعديه، ويذهب الى كورنيش شط البحر كي يصطاد الأسماك والدلافين، ويكون هدفا ومحط أنظار عيون الطالبات الإسكندرانيّات الفاتنات المُتلصصات، المفتونات "بصائد السمك"، ذو الشورت المزركش البهلواني الظريف، خلال ذهابهن وإيابهن، إلى ومن الجامعة؟؟ ولسان حالهن يقول:

-         ما أجمل هذا الفتى الذي يصطاد السمك باكرا. إنظرن يا فتيات الى شورته المزركش الظريف. هل إصطاد كثيرا من الأسماك يا تُرى، أم أنّه هاو يستعرض عضلاته؟

لكن لسان حاله يُريد أن يصرخ ويُجيب:

-         "أنا طالب مثلكن، أنا لست بصائد سمك، يلبس دائما الشورت المزركش. أنا عادة ألبس البدلة وربطة العنق. الزمن رماني وبدّل حالي. أنا إنسان محترم. وربما أنا سمكة أجبرتها قوة خفيّة وقلعتها وأقصتها عن مياهها ورمتها على الكورنيش!!".

أم هل يقهقه ملئ شدقيه، حتى يُؤلمه فكيه من شدة الضحك تمشّيا وتماشيا مع "شر البليّة ما يُضجك". اي مصيبة حلّت به؟؟ وأي مستقبل ينتظره، وخاصة أنّه كانت قد ضاعت عليه سنة دراسية سُدى في الكلية الأهلية في عمّان، قبل أن يشدّ الرحال الى أرض الكنانة للدراسة فيها، ويضع قدمه على بداية الطريق نحومستقبله. ولكن أين هو هذا المستقبل الذي يبدأ بالتّيه؟؟!!

يا لسخرية القدر!!؟؟ لماذا يحصل معه هو بالذات كل هذا الخراب؟ وكل هذه المصاريف الزائدة دون فائدة أو مردود أو إنجاز أو "ثواب"؟ وهل أهله الفلاحين البسطاء الطيّبين يملكون بئرا من النفط حتى يستمرّوا في الصرف على أخطاء ظالمي إبنهم المسكين الرافل بالعذاب؟ الذي يرى مستقبله يتحطّم أمامه وأمام ناظريه. مكبّل اليدين والرجلين والحيلة والصبر، دون معرفة الأسباب.

هل من مخرج من هذا الدهليز القاتم؟ من هذا النفق المظلم الفاحم؟ من وحل هذا القطران اللاهب. من هذه الرمال العميقة الخبيثة المتحرّكة التي تشدّه الى عمق أعماقها.

متى سترسو مراكبه على برّ الأمان بدل أن تبقى هائمة قسرا في عرض البحر تتقاذفها الأمواج والأنواء والأعاصير، ولا ترحمها أسماك القرش الجائعة المفترسة.

مكتب شؤون الطلبة الوافدين في القاهرة أدخل أيمن المسكين، عن خطئ أو عن قصد، وعلى الأرجح عن قصد ولُئم، في دوّامة دامت وإستمرّت ماثلة على مدى عام ونصف. ذاق فيها "الأمرّين" من البهدلة والتشرّد. وذرع المسافة بين القاهرة والإسكندريّة، ذهابا وإيابا، مرّات ومرّات، بين مكتب شؤون الطلبة الوافدين في القاهرة وجامعة الإسكندرية، التي كان من المفترض ان يكون طالبا فيها في كلّية الهندسة.  

لقد أكله القلق والحرمان والظلم الذي وقع عليه، دون ذنب إقترفه، ودون حتى معرفة أسباب ما يمر به ويعاني من مصائب وعذاب.

والقلق وخيبة الأمل كانت مقسومة بالتساوي بينه وبين أهله البعيدين عنه، وربما كانت مضاعفة. فأهله ينتظرون في بلدته صوريف، في محافظة الخليل، سماع أخبار طيبة عن الباشمهندس. أن يعود إليهم مهندسا ناجحا مبجّلا. لا أن تتسرّب إليهم الأخبار بانّه ما زال متمنطقا "بالشورت" المزركش، معتمرا طاقية صيف، يصطاد بسنّارته السمك من على كورنيش شاطيء الإسكندرية، بعد سنتين من حلوله في ربوع المحروسة طالبا للعلم.

بعد أيّام وليالي وشهور طوال، ومدّ وجزر وذهاب وإياب، وواسطات ووساطات وتدخّلات وخيبات، وأرق وسهر الليالي وآهات، وجوع وعطش، وجد أيمن نفسه أخيرا مع بعض من الفرج. فقد قذفه موج مكتب شؤون الطلبة الوافدين في القاهرة، لفظه المكتب من جوف بطنه وحذفه، وإذا به يهبط ويرسو في كلّية الصيدلة في جامعة الإسكندريّة. الصيدلة؟؟!! نعم الصيدلة، هكذا. خيار وحيد فريد، وإلّا ... العودة الى الديار رافعا الراية البيضاء، خالي الوفاض، خالي الجيوب، ... وخالي من المسرّة والسعادة، ومليء بالعيوب.  

على بركة الله. خاض أيمن في بحر الصيدلة دون قارب ولا مجاديف. خاض البحر سباحة. وإكتشف مع الأيام والأسابيع والشهور، والدراسة والجدّ والجهد وسهر الليالي، بأنّه سبّاح ماهر في بحر العطارة. ربما كان يُريد أن ينتقم مما جرى له. ينتقم لنفسه ومن نفسه. تخرّج بإمتياز من كليّة الصيدلة في جامعة الإسكندرية، وبكل فخر وإعتزاز.

رجع أيمن مكللا بالغار وبشهادة البكالوريوس مع مرتبة الشرف في الصيدلة. رجع الى عمّان في بداية الثمانينات من القرن الماضي. متحفّزا ومستعدا للعمل وخوض غمار معركة الحياة العملية. وجد له وظيفة سريعة كمندوب لمبيعات الأدوية في شركة ومستودع السختيان للأدوية. وهكذا خطى خطوته الأولى الموفقة والمتواضعة في عالم الأدوية.

بعد أربع سنوات من عمله الدؤوب في مستودع السختيان للأدوية، وبعد أن وفّر مبلغا من المال، بدأ يفكّر جديّا في فتح صيدلية خاصة به. وهو الحلم الذي دائما ما كان يُراوده منذ أن تخرّج بأمتياز من كلّية الصيدلة في جامعة الإسكندرية. ولكن الظروف الماديّة لم تكن سانحة له لتحقيق ذلك. الآن يبدو ان الملعب أصبح مهيّأ ليقذف الكرة في مرمى حُلمه.

حياته في عمّان على مدى هذه السنوات كانت تبدو هادئة ووردية ورتيبة. ومن الناحية الإجتماعية كان لا ينقصه الجو والدفيء العائلي بالرغم من أن والداه وإخوته يقطنون في بلدته الأصلية صوريف، فلدية العديد من الأقارب: عمّه وخالتيه وعمته وأولادهم، والعديد من المعارف من أبناء بلدته.

وبلدته صوريف مجاورة لبلدة بيت أمّر التي تمتطيها وتتعانق معها. كون صوريف تقع في قعر الوادي العميق وبعض من سفوح جباله. وبيت أمّر تقع على المرتفعات المحاذية. صوريف بالرغم من وجودها الجغرافي ضمن مرتفعات محافظة الخليل التي تكسوها الثلوج لعدة أيام في فصول الشتاء الباردة القارصة، إلا أن تُربتها تُحافظ على حرارة عالية كونها تقبع في جرف الوادي وتتسلّق حدّا من سفوحه الواطئة. لهذا فهي تمتاز بزراعة الزيتون وإنتاج زيته الفاخر الثقيل. يباع بسعر أغلى من زيت مناطق أخرى. وربما يضاهيه فقط في الجودة والكثافة والسعر العالي زيت مدينة بيت جالا الشهير.

أما منطقة سلفيت، في الشمال، والتي تُزين هضابها أشجار الزيتون المطلة على الساحل الفلسطيني، فتُنتج زيتا ذو جودة عالية ومميُز، ولكن كثافته تُعتبر أقل من كثافة زيت صوريف وزيت بيت جالا، ولهذا فإنه يُباع بسعر أطرى من سعر زيت البلدتين الجنوبيّتين.

وبلدة بيت أمّر، أو بيت الأمراء قديما. يوجد بها عائلات مقسومة مناصفة بينها وبين بيت جالا الجارة العزيزة. نفس العائلة ونفس الأصل ولكنها عائلة مسلمة في بيت أمّر وعائلة مسيحية في بيت جالا، مثل عائلة "صليبي" وعائلة "أبو ماريا" وعائلة "علقم". مما يدلل على أننا في هذه البلاد المقدّسة، في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، مسيحيين ومسلمين، عائلة واحدة مترابطة متحابة، بعضها يذهب الى الكنيسة عند سماع أجراسها، وبعضها يسري الى المسجد بعد سماع الآذان.

مهد سيّدنا عيسى المسيح، يسوع الناصري. ولد في بيت لحم، في المغارة التي بُنيت عليها كنيسة المهد، أقدس بقعة للمسيحيّين في هذه المعمورة. وترعرع في الناصرة. يوجد فيها كنيسة البشارة. ومسرى نبيّنا محمد (ص) من مكّة الى القدس، القبلة الأولى، والعروج الى السماء، في الإسراء والمعراج. وثالث الحرمين الشريفين. والمسلمون في هذه البلاد لديهم ثقافتين، ثقافة إسلامية وثقافة مسيحية. والمسيحيّون في هذه البلاد لديهم ثقافتين، ثقافة مسيحية وثقافة إسلامية.

وتمتاز بلدة بيت أمّر بطقسها البارد القارس شتاء، لهذا فإن تربتها أكثر برودة من جارتها التوأم الملتصقة بها صوريف. وتلبس بيت أمّر حلتها الجميلة الخضراء في فصل الربيع حيث كروم العنب وكروم اللوز والدراق والتفاح والخوخ والبرقوق والكرز، من أشهى الفواكه وأطيبها.

دُعي أيمن لبيت عمّه في عمّان لتناول طعام الغداء في يوم جمعة، يوم العطلة الرسمية. لم يسأل أيمن أو يُناقش موضوع الدعوة، فغالبا ما يدعوه عمّه أو أبن عمّه خالد، من أترابه، الى الغداء أو العشاء أو لشرب القهوة أو الشاي أو للمشاركة في لعبة حامية الوطيس من "التريكس" أو "الطرنيب" أو "الهاند ريمي".

فأيمن أعزب، يسكن في شقة مع زميلين في العمل. ويرحّب بكل حماس وسرور بمثل هذه الدعوات من عمّه أو عمّته أو خالتيه. فهي مناسبة طيّبة ليُنظّف ويجلي ويُعقّم فيها معدته من تراكم آثار ومخلّفات السندويشات التي يُداوم على تناولها لضيق وقته وضيق معرفته بأمور المطبخ.

لكن غداء هذه الجمعة سيكون مختلفا، ربما سوف لن يكون مجرّد غداء شهي ولذيذ فقط، سيكون مختلفا. ربما أجواؤه ستكون مختلفة.

كان على طاولة الغداء التي ضمّت أيمن وعمّه وزوجة عمّه وإبن عمّه خالد وإبنة عمّه الصغيرة نجاة، عائلة أخرى مدعوّة. تتكون هذه العائلة الضيفة من الأب والأم وإبنتهم الصبية الجميلة الجذّابة، ذات الشعر الأشقر والعيون الخضر والشفاه المتورّدة المكتنزة بلون الفراولة.

منذ أوّل لحظة، بقي أيمن مشدوها فاغرا فمه جاحظا عينيه عندما رأى جمال وأناقة ندى. وعلّق في سرّه:

-         إنها فعلا قطعة من الندى.

إبتسم وتمتم في سرّه أيضا بأنّ:

-         طعام زوجة عمّه، الطبّاخة الماهرة التي يُسعده الأكل من تحت أيديها، سيكون اليوم على المحك بالنسبة له. فأمام كل هذا الجمال الذي تمثّله ندى، كيف سيتذوّق طعامها، في الوقت الذي ستكون فيه حواسه الخمس ومن ضمنها حاسة الذوق، مشدودة بقوّة بمغناطيس عيني ندى الخضراوين؟

لم يكد ينتهي العشاء اللطيف الشهي، ولم يكد أيمن يضع آخر ملعقة في فمه من "المنسف" اللذيذ. تطهوه زوجة عمّه بفن وإقتدار وبالجميد البلدي. وبالكاد تمتم في سرّه أن الحمد لله رب العالمين على هذه النعمة. وشكر عمّه وزوجة عمّه على هذا الكرم المتواصل معه، إلا وإكتسح ذهنه وعقله تفكير جارف وحيد:

-         ندى تُعجبني وأريد أن أخطبها!!! هكذا وبكل بساطة ودون الكثير من المقدّمات.

على فنجان القهوة بعد الغداء، وفي صالون بيت عمّه ذو اللون البني الغامق، وجد أيمن الفرصة سانحة كي يتحدّث الى ندى. كي يتقرّب منها. مستخدما كل ملكاته في الظرافة وقول النكات التي يبرع في روايتها. لقد وجد نفسه ثرثارا على غير عادته، أو ربما منطلقا بفعل تأثير سحر الفاتنة ندى عليه.

أم ندى قريبة لزوجة عمه. هكذا علم يومها. أمّها وزوجة عمّه هما بنات خالات. وأبو ندى صديق عريق لعمّه. لهذا لم يكن هناك حواجز أو عقبات أو منغّصات كي يستمر ديك الحبش أيمن في فرد ريشه، ومناغشته لندى وإضحاكها بنكاته من كل أعماقها.

-         أنت ظريف وتقول نكات حلوة. قالت ندى لأيمن.

-         لقد درست في الإسكندريّة. وكنت مبرّزا في النكات. فمصر هي أم الدنيا في النكات. أجابها أيمن بشيء من الزهو.

-         ولكن دراسة الصيدلة جديّة وليس فيها مجال للهزل والظرافة. عقّبت ندى.

-         الصيدلة كيمياء. وأنا لدي كيمياء مع الصيدلة. ولدي كيمياء مع النكات. لا أرى أي تناقض ما دامت الكيمياء هي الأساس، أجابها أيمن متفلّسفا.

-         ربما أنت على حق. فأنا أفهم في الأدب الإنجليزي حيث سأتخرّج هذه السنة من الجامعة الأردنية. ولا أعرف كثيرا في الكيمياء.

-         كل شيء في هذه الحياة يحتاج الى الكيمياء.

مضى أسبوع على لقاء المصادفة بين أيمن وندى. لم يستطع الشاب أن يزيح طيف الصبية الجميلة من مخيّلته. حاول وحاول أن يُبعد طيفها ولو قليلا لكن دون جدوى. ندى تُلازمه في العمل وفي شقته وفي الشارع، وحتى في منامه.

في يوم الجمعة التالية، إستجمع كل شجاعته، "وشرب من حليب السباع" وقصد بيت عمّه دون "إحم ولا دستور"، دون موعد مسبق، ولا حتى مكالمة هاتفية مع إبن عمّه خالد.

-         أهلا وسهلا أيمن. إستقبلته زوجة عمّه ببشاشة على الباب. وأردفت: تفضّل تقضّل البيت بيتك. عمّك وإبن عمّك خالد في الصالون.

-         شكرا يا أمّ خالد. أودّ أن أتحدّث معك في موضوع خاص قبل ما أحكيه لعمّي. قال أيمن ملهوفا وبصوت خفيض.

-         طيّب طيّب. إدخل وسلّم على عمّك وعلى خالد. وبعد ذلك نتكلّم. أجابته زوجة عمّه وهي تضحك إذ لاحظت عليه بعض الإرتباك.

-         تعال يا عمّي يا أيمن. صاح عمّه من الصالون ذو المقاعد البنّة الغامقة. إدخل يا ولد. لماذا تقف على الباب؟

-         حاضر يا عمّي. أنا قادم. أجاب أيمن.

طبعا والحالة هذه فلن يستطيع أيمن أن يُمهّد للموضوع ويستطلع الأمر مع أم خالد، زوجة عمّه. وإنما سيجد نفسه مضطرّا لا محال للحديث مباشرة مع عمّه وإن كان بوجود إم خالد.

بعد أن جلس أيمن بجانب خالد مقابل عمّه في الصالون، وبعد أن أوصى له عمّه على فنجان قهوة، إستجمع شجاعته وقال مباشرة:

-         بصراحة يا عمّي أنا عجبتني ندى قريبة إم خالد. وإذا ما كانت مرتبطة أنا حابب إنّي أخطبها.

-         "باين السنّارة غمزت" وبسرعة البرق، من أول نظرة، من أوّل وهلة، من أوّل لقاء. أجابه عمّه أبا خالد وهو يضحك.

-         صحيح يا عمّي. لقد أعجبتني الصبية.

-         أن شاء الله يا عمّي. سوف أفاتح أبوها بالموضوع.

تدخّلت أم خالد بعد أن أحضرت القهوة وقالت:

-         إذا تسمح لي يا أبا خالد. أنا بأقترح إني أنا أفاتح إمها، بنت خالتي، في الموضوع. يمكن هيك بكون أسهل. وأنا بأعرف أتفاهم معاها.

-         طيّب. عظيم. موافق. أجاب أبو خالد زوجته. ونظر الى أبن شقيقه أيمن وأضاف: إذن يا سبع، فلننتظر المساعي الحميدة لإم خالد في "جسّ نبض" قريبتها. وإن شاء الله الرياح ستجري حسب ما تشتهي سفينتك. ومن ثمّ سأتحدّث معهم بصورة رسميّة.

خرج أيمن من بيت عمه وهو لا يدري هل يسير على قدميه أم يطير بجناحين، من شدة الفرح والغبطة والسرور والأمل. فهو متأكّد تسعة وتسعين بالمئة أن ندى ستقبل به وأن أهلها لن يرفضوه. فقد كان أضحكها من أعماق أعماقها على نكاته وظرافته، وقالت له أنّه ظريف ونكاته حلوة. إذن فقد حصل على فيزا لدخول مملكتها ودخول قلبها. ولم يتبقى إلا أن يجد وسيلة المواصلات كي يصل مملكتها، بالطائرة أو بالقطار أو بالباخرة، وحتى سباحة من بحره الى مياهها الإقليمية طالبا ومنتظرا الإذن بالدخول.

بعد أسبوعين كان أيمن وعمّه وزوجة عمّه وإبن عمّه خالد في بيت عائلة ندى يقرأون فاتحة الخطبة مع والديها. لقد تمّت الخطوة الأولى الى عش الزوجية، الى القفص الذهبي الذي سيضم قريبا العصفورين. الى نقلة جديدة في حياة أيمن.

بعد حوالي الشهر من الرحيق والعسل والقرنفل والورد الجوري الأبيض والأحمر، التي تغمر دنيا الخطيبين، نادت أم ندى على أيمن كي يوافيها في بيتها للحديث في الخطوة التالية:

-         يعني يا أيمن نحن نحبّ ان نعمل خطبة رسمية. خاطبت الأم أيمن بجديّة.

-         أنا جاهز يا عمتي. أجابها أيمن بنفس الجديّة.

-         أذن نحن متفقون. إحجز قاعة في الفندق من أجل حفلة الخطوبة، فعائلتنا ومعارفنا كثيرون. أردفت العمة.

تململ أيمن في جلسته وحكّ ذقنه بأصابع يده اليسرى وأجاب:

-         وما الداعي لحجز قاعة في الفندق، فالخطبة يمكن أن تكون عائلية في بيتكم.

-         لكنني أُريد أن تتم خطبة إبنتي في قاعة الفندق، فإبنتي غالية علي، وهي أوّل فرحتي، وأحب أن يشاركني فيها العدد الكبير من العائلة والأصدقاء.

-         ولكن هذه مصاريف زائدة. وأنا أدّخر مبلغا للعرس وليلة الدخلة. أما الخطبة فيكفي أن تكون مختصرة في بيتكم. أجابها أيمن بصوت خفيض أقرب الى الهمس.

إنتفضت أم ندى في مقعدها، وعدّلت من جلستها، وحدّقت في عيني أيمن، وبحركة إستنكار من يدها قالت بصورة قاطعة:

-         والله، "إلّي ما معوش ما بيلزموش". وهذا آخر كلام عندي.

نزلت كلمات إم ندى على رأس أيمن كالصاعقة. كتلك الصاعقة التي تلقّاها عندما أخبره مدير شؤون الطلاب في جامعة الإسكندرية بأن إسمه غير مدرج في سجلّ السنة الأولى. لقد طعنته في رجولته، في شرفه، في إعتداده بنفسه. لقد وجّهت قذيفة لاهبة الى كرامته.

نهض أيمن كالصاروخ من على مقعده، وبلمح البصر كانت أم ندى وراءه وكذلك ندى التي لمحها وهي تتلصص من وراء باب غرفتها. وخرج الى الشارع والفضاء الفسيح وعيونه تقدح شررا. في لحظة غضبه هذه فقد محى أيمن شريط ندى من ذاكرته. أخرجها فورا من كيانه. وأسدل الستار على الشعر الأشقر والعيون الخضر، في إنتظار أن ينحسر الستار ثانية على شعر فاحم وعيون سوداء في طرفها حور.

حزم أيمن أمتعته وغادر عمّان متوجّها الى بلدته صوريف ليبدأ فصلا جديدا من حياته. "وضع بلاطة" مؤقّتا على موضوع إرتباطه وزواجه، من إبنة الحلال التي سينتقيها بعيون داكنة واسعة وبشرة حنطية وشعر كليل الكوانين.

فتح صيدليته في وسط بلدته، حلم حياته، وكرّس نفسه وجهوده لمهنته هذه التي أبدع فيها.

أيمن، وبعد خمس سنوات من عودته الى ربوع حقول الزيتون ذو الزيت الثقيل، عالي الجودة وغالي الثمن، أصبح يُكنى بأبي يامن، بعد أن كان قد تزوّج بقريبة له وأنعم الله عليهما بصبي سمّياه يامن. ربما أحب ان يسمّي طفله الأول يامن تيمّننا بإسمه أيمن. فبين يامن وأيمن لا يتعدى الإسم أن يكون ترتيب حروف ليس إلّا. وأصبحت صيدليته تّسمى "صيدلية يامن"، بعد أن كان أطلق عليها إسم "صيدلية وادي الزيتون".

لم يكن أبو يامن صيدلانيا عاديّا، أو بالأحرى لم يكن بيّاع دواء، مثل معظم الصيادلة أترابه. بل كان صيدلانيا ماهرا "بحق وحقيقة". كان يُركّب العديد من الوصفات الطبيّة. لم يكن يهمّه الربح المادي الصرف، على أهميته، بقدر ما كان همّه، الأوّل والأخير، مصلحة المريض وخدمة المريض الذي تطأ قدماه صيدليته العامرة طلبا للدواء أو طلبا للنصيحة.

على مدى ثلاثين عاما، عمر صيدليته المديد، بخبرته الواسعة، لم يحصل أن ردّ شخصا خائبا. بل كان يجهد في تلبية متطلّبات الزبائن، أبناء بلده وأبناء البلدات المجاورة، وتسهيل أمورهم. ولم يبخل يوما على أحد بالنصيحة الطبية. وقد كان لديه معرفة وخبرة إستثنائيّة في مجال علاج ومداواة الحروق. وخاصة وأنّه كان يُحضّر مراهم خاصة وناجعة في هذا المجال.

وكم من مرّة أقفل صيدليته، وتوجّه فورا لبيت شخص تعرّض للحروق، وعالجه، وعاده عدة مرّات، على مدى أيّام، لمتابعة علاجه وللإطمئنان على سير شفاء حروقه. وبالنهابة لم يكن يهتم بالمردود المادي الذي سيجنيه، فالمهم بالنسبة إليه شفاء المصاب. وبعدها إن دفع المصاب التكاليف المستحقّة. فخيرا وبركة. وإن لم يدفع، أو بخس في الدفع. فأيضا خيرا وبركة.

وفي السنوات الأخيرة كان يُصرّ أن يداوم في الصيدلية حتى ساعة متأخّرة من الليل أو حتى  الساعات الأولى من الفجر، حتى يُلبّي إحتياجات المواطنين، وخاصة هؤلاء الآباء والأمهات، الكسالى، أو عديمي الإكتراث، الذين لديهم أطفالا حديثي الولادة أو الصغار حتي عمر السنة ونصف. إذ يفطنون أو ينتبهون في آخر لحظة بأن صغيرهم قد بقي دون حليب العلب، برقم محدد ونوعيّة معيّنة. وقبل منتصف الليل بقليل يبدأون ماراثون البحث عن الحليب المطلوب، لأن الصغير المسكين قد "فزّع الحارة" من البكاء لفرط جوعه. فعلبة الحليب فارغة خاوية. وقد تنبّه والداه لها متأخّرا، ومتأخّرا جدا.

بعد ثلاثين عاما في المهنة وقد إشتعل الرأس واللحية شيبا واصبح الصيدلاني الماهر جدّا لطفل إسمه أيمن إبن إبنه يامن. "أيمن يامن أيمن"، أراد أن يرتاح قليلا من "عجقة" عمله وسهر الليالي المتواصلة في الصيدلية. وخاصة وأن أيّا من أولاده أو بناته لم يسير على خطاه في طريق العطارة والصيّدلة. وإنما إتّبعوا طريقه الأول في الهندسة وإدارة الأعمال.

فكّر في شيء يلتقط فيه أنفاسه، بعد كل تلك السنوات الطوال. شيء خفيف يُتيح له النوم الهنيء ليلا، والعمل اللطيف الظريف نهارا.

باع الصيدلية. ترك مهنة الدواء، لكن الكيمياء تسكن في عقله وفي كيانه وبين مساماته. فكل شيء في هذه الحياة يحتاج الى الكيمياء.

إتّجه الى مهنة جديدة حديثة لطيفة ظريفة، الى مهنة تربية الطيور والعصافير. وحتى تربية العصافير، عصافير الزينة والكنار، تحتاج الى الكيمياء.