ترانيم يشوبها الوجع بقلم:محمد نصار
تاريخ النشر : 2019-04-19
ترانيم يشوبها الوجع بقلم:محمد نصار


    ق.ق                        ترانيم يشوبها الوجع

لم تمح صورتها من الذاكرة أبدا وكلما لاح طيفها، أو جاء أحد على ذكرها، عادت لتشعل في النفس حنينا يكوي الأضلع، فرغم تبدل الأيام والسنين، ظلت حاضرة بذات البهاء والجمال، الذي كانت عليه قبل عقود بعيدة، يوم أن جاءت القرية عروسا زكية، تحفها النسوة بالأغاني والزغاريد.

كنت يومها دون العاشرة أو حولها، عود نحيف ووجه طفولي، أتاح لي فرصة اللحاق بموكبها والانخراط بين جموع الأطفال والنسوة الذين حضروا الجلوة.

فكان السحر الذي يغشى والنور الذي يطغى، فما أن خلعت عباءتها ودارت تراقص النسوة، حتى تملكني إحساس غريب، شيء استعر بداخلي وجفاف نشبت أظافره في حلقي، بل كدت أفقد توازني حين رمتني بابتسامة، تشي بعلمها لما يعتريني ويشعل الحواس بداخلي، فزادت من دلالها وتيهها حتى تواريت خجلا من نظراتها.

لم يغادرني ذلك المشهد رغم تباعد السنين وفعلها، ظل شهيا.. نديا، يلح على المخيلة كلما لاح طيفها، أو جاء ذكرها، حتى حين تداعت الأكلة من حولها وسعت جاهدة للنيل منها، إثر وفاة زوجها، ضمت طفليها إلى ركنها وأقسمت ألا توسد أحدا ذراعها، لكنها لم تنج بحال، لاحقتها الأقاويل وتابعتها الشبهات، صار نهارها كليل تشرين الحالك، يكتنفه الصقيع والوحشة وكلما سدت بابا فتحت عليها أبواب مشرعة، حتى ألجأها الحال إلى شيخ القرية، الذي خلع وقاره على أعتابها وهام ولها في حسنها وحين شاع الأمر بين أزواجه اتكأ على فتواه، قال إنه يبغي الحلال وأن الشرع قد أباح له أربع والخامسة بدلا من أم العيال التي  سبق ونالت حظها، لكنه لم يعش لغايته ، صحوا ذات صبح ليجدوه قد ودع عالمه، فقال البعض صرعه حسنها وأهلكه سحرها، فيما أشاع آخرون بأنه مات مسموما، أما الطبيب فقال إنها نوبة ألمت به ولم تمهله طويلا، أما أنا فلم أرها منذ ذلك اليوم إلا لماما، غابت حينا عن ألسنة الناس وأعينهم، حتى ادعى البعض بأنها قد هجرت القرية وآخرون زعموا بأنها تخرج تحت جنح الظلام، تفتش عن بقايا طعام في سلال القمامة ومخلفات سوق الخضار، ومع مرور الوقت لم يعد أحد يأتي على ذكرها، نسوها كما نسوا أشياء كثيرة في صخب أيامهم، إلا أنا فكلما لاح في النفس طيفها، أو جاء أحد على ذكرها، وجدتها بذات البهاء الذي كانت عليه من قبل.