خَلْق بقلم: مرح بهائي شراب
تاريخ النشر : 2019-04-18
جُذِبتُ للرّقمِ سبعة منذُ الصِغر، فيه سرٌّ عجيب، فالسمواتُ سبع، أبوابُ النارِ سبع، آياتُ أمّ الكتاب سبع، دوراتُ الطواف سبع، الجمرات المَرميات سبع، يؤمرُ الطفلُ بالصلاةِ في سنّ سبع، المُظلّلون في ظلّ الله يومَ لا ظلّ إلا ظلّه أصنافهم سبع. وحينَ بلغتُ سبعَ سنوات، أنجبتْ والدتي سندي الوحيد بعدَ اللهِ في هذه الحياة، أخي الأصغر. مرّت الدّنيا سريعةً مِن وقت إنجابه، لا أصدّقُ أنّي بلغتُ السبعين منذُ سبعةِ أيام. مفروضٌ أن أكره الرّقم الآن، إذ يُشعرني بقُربِ ميعادي، رُغم أني ما زلتُ أحملُ ذات الرّوح التي حملتها لمّا وُلد أخي! ما زلتُ أحبّ الألوانَ الزّاهية، طِلاءَ الأظافر، متابعةَ الرّسوم المتحركة، والمشيَ في الطّرقات. لكنّي لا أقترب من أيٍّ منهم، فلو لبستَ الزّاهيَ من الألوان أُنتقدُ ويُقال أنّي أتصابى، ورجفةُ يداي لا تسعفاني لتلوينِ أظافري بعد الآن، وأحفادي يحجُرونَ على التلفاز لمتابعةِ برامجهم المُفضلة، أمّا مَفاصلي فلا تقوى على نزولِ الدّرجِ، فضلاً عن نزولِهِ ومن ثمّ المَشيَ في الطُرقات، ثمّ صعوده. أرهقني مُجرّد التفكير في الأمر..
قواعدُ الأجسادِ، كواعبُ الأرواح، أنا مِن هؤلاء..
...
أذكرُ أنّي ظللتُ أدعو ألّا يردّني الله إلى أرذلِ العُمُر، حتى عهدٍ قريب. هو دُعاءٌ مُستَحب، فقد كان صلى الله عليه وسلم يتعوّذُ دبرَ الصلاة من الجُبنِ، ومِن الرّدّ إلى أرذل العمر، وفتنةِ الدنيا، وعذابِ القبر.
لكنّي رفعته حدّ الوجوب؛ لأني أخشى الضعفَ بعدَ القوّة، وقد ضعفتُ الآن، وتأكدّت أنّ الدعاءَ قد يرّد القضاء، ولكنْ بالإذنِ والمشيئةِ أيضاً، فإن لمْ يشأ الله، لا مانعَ ولا حامي مما قُدّر إلينا.
(يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ ۖ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ) الرّعد: آية٣٩
...
بعدما تُوفيَ زوجي، وكبُر الأطفال، وتشتّت الصفوف، وما عُدتُ أقوى على السيطرة، إزدادت الأوقات التي أقضيها وحيدةً، تظلّ ذاكرتي تروحُ يميناً وشِمالاً، في محاولةِ جمع الشَتات الذي فقدَتْه على أرض الواقع. أنجحُ أحياناً، وأحياناً أخرى لا أذكرُ سوى إسمي!
لكن صِدقاً لا شيء يؤلمني أكثر من أنّي لم أُنجزُ شيئاً عظيماً فيه مصلحةٍ للأمّة بأكملها، ككتابٌ فيه نفع، براءةُ إختراع، حَلَقةُ ذكر، مسجدٌ بُنِي، أو غيره كثير. عندما أُبدي حزني هذا للأولادِ يقولونَ أنّني خُلقتُ للعِبادة، وقد أتيتُ منها ما إستطعت، ولأسئل الله القبول فقط. يُصمتونّي بهذا، أصمتُ ولكن عن غيرِ رضا، فكما القمرُ مُفضّلٌ على النجوم، فالعالِمُ مُفضّلٌ على العابد؛ لقوله عليه السلام: (فضلُ العالمِ على العابدِ، كفضلِ القمرِ على سائرِ الكواكب).
...
(وما خلقتُ الجنّ والإنسَ إلّا ليعبدون) الذاريات: آية٥٦
علّلَ تعالى خلق الخلائق مِن الإنس والجِن بالعبادة، أي ما وُجدنا إلّا لنعبده. نُخطئُ أحياناً ونظنّ أنّ العلّةَ لمّا أتت بعدَ أداة الإستثناء إلّا، أفادت الحصر قطعاً، فلم نُخلق إلّا لعبادته، وهذا خطئٌ بحت، يدلّ عليه الفَهمُ السليم. الملائكةُ مثلاً؛ خُلِقت للعبادةِ، وتنفيذ الأوامر فقط، فما الحاجة لخلقنا إن كان التعبّدُ وحده هو سببُ الإيجاد؟
قال المُفسّرون: (ليعبدون) هي علّة غائية، أي علّةٌ لبيان الغاية، والمقصود من هذا الفعل. لكنّها قد تقع وقد لا تقع، مثل: بريتُ القلمَ لأكتبَ به؛ فإنّك قد تكتب، وقد لا تكتب. ومن هنا نعلمُ أنّ العلةَ من الخلق ليست العبادة فقط.
فماذا عن كوننا خليفة الله في أرضه؟ ماذا عن تداول الأموال؟ وتنوّع الأشغال؟ ماذا عن إنشاء المشاريع؟ ووجود الإستيطان والإحتلال؟ ماذا عن كلّ شيء يدور في حياتنا خارجَ إطار سجّادةِ الصلاة!
ولكن إن أردنا فنَعم، يمكننا تحويل كلّ خَطوة نخطوها لعبادةٍ نُؤجرُ عليها. قال عليه السّلام: (إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى).
..
هذا ما وجدتُه مسطوراً في مُذكرات جدّتي الراحلة منذ عامين، بخطّ أخيها الذي يصغرُها بسبعةِ أعوام. كلامُها يدفعني لإستغلالِ قوّتي؛ سأحاولُ تكوين حلقةَ ذِكر، سأساهمُ في بناء مسجد، سأغرسُ شجرةً على قارعةِ الطريق، أو أيّ نفعٍ وإن قَلّ. سأفعل في صِبايّ ما لم تفعلْه هي في صِباها. والأجرُ لي ولها بإذنِ الله؛ فالدّالُ على الخيرِ كفاعلِه.
قال عليه السّلام: (من دلَّ على خير، فله أجر فاعلِه)
لروحِكِ ألفُ سلامٍ يا جدّة، كانت مذكِرتُكِ كتاباً نافعاً لأحدهم دونَ أن تدري. علّمتِني العِبادةَ والإعمار، وفيهما سر الخلق.