نَشأَةُ الدولِ بينَ الاعتباريّاتِ والواقعيّاتِ بقلم:زعيم الخيرالله
تاريخ النشر : 2019-04-15
نَشأةُ الدولِ بينَ الاعتبارياتِ والواقعياتِ
-------------------------------------
زعيم الخيرالله
--------------
قبلَ الخوضِ في هذا الموضوعِ الحَيَوِيِّ ، لابُدَّ من تحديدِ المُصطَلَحاتِ ، وَفَرزِ الالفاظِ . الفلاسفةُ طَرَحَوا ثَلاثَةَ مُصطَلَحاتٍ وهي : الواقعيات ، الاعتباريات ، والوهميات . وقالوا: اِنَّ مهمةَ الفلسفةِ التمييزُ بينَ هذهِ الامورِ الثلاثة. فماذا تعني هذهِ المفردات ؟
والجوابُ هو :
1- الواقعيات او الحقائق : هي تلكَ المفاهيمُ التي لها مصاديقُ واقعيَّةٌ في الخارج.
2- الاعتباريّات : هي المفاهيمُ التي ليسَ لها مصداقٌ واقعيٌّ في الخارج ولكنَّ العقلَ يَعتَبِرُ لها مصداقاٌ . ومثال الاعتباريات : لو شَكَّلَ الفُ جنديٍّ فوجاً ، فالواقعيُّ هو الجنودُ الالفُ الذين تَشَكَّلَ منهم الفوجُ امّا الفوجُ نفسه فهو اعتباريٌّ لامصداقَ لهُ في الخارجِ ولكنَّ العقلَ يعتبرُ له مصداقاً.
3- الوهميّات : وهي الادراكاتُ الذهنيَّةُ التي لامصداق لها اطلاقاً لافي الخارج ولافي الاعتبار.
الاعتبارياتُ وَتَشَكُّلُ الدُّوَلِ
-------------------------
هل يمكنُ ان تَتَشَكَّلَ الدُّوَلُ على اساسِ الامورِ الاعتباريّةِ ، من قبيل ان تقوم الدولةُ على اساسِ القبيلةِ ؟ القبيلة مُنَظَّمَةٌ تقومُ على اساس الاعتباريات ، تقومُ على اساسِ النَّسَبِ ، ومَقامُ المَشيَخَةِ يتُّمُّ تَوارِثُهُ ، وافرادُ القبيلة يرتبطونَ بعضهم ببعضٍ بلحمة النسب . القبيلة لايمكن ان يكون في افرادها عناصر خارج القبيلة ... فهي كيان مغلق على افرادٍ مرتبطينَ نسبياً ... ويقابلُ منظمةَ القبيلةِ منظمة المجتمع المدني ، التي تحاول الابتعاد عن الاعتباريات والاقتراب من الواقعيات ، فهي مُنَظَّمَةٌ مفتوحةٌ ، وافرادها متنوعون دينيا وعرقياً ومذهبياً ، تجمعُهُم وتوحدُّهم قضيةٌ مشتركةٌ .
القبيلةُ ساهمت في الدفاعِ عن الاوطانِ ، كما في ثورة العشرين ، وساهمت في حل مشكلاتٍ كثيرة عجزت الدولةُ عن حلها ، ولها دورٌ هامٌ في السلمِ الاهليِّ .
الدولةُ لايمكن ان تقومَ على اساسِ القبيلة ؛ لانها لاتقومُ على اساسِ الاعتباريّات ، وانما يجب ان تُؤسسَ على اساس الواقعيات ، واذا اقيمت على اساس الاعتباريات فستكون دولة مُشّوَهة.
في بعضِ الدولِ ، هناك مفاهيم استعلائية للمواطنة ، وفي بعضها يتُمُّ التمييزُ بين المواطنين وتقسيمهم الى درجات . في اسرائيل يتُمُّّ التمييزُ بين اليهود من اصلٍ شرقيٍّ (السفارديم) واليهودِ من اصلٍ غربيٍّ (الاشكيناز) .
اسرائيلُ دولةٌ قامت على اساس ( الوهميات ) . قامت على اساس اوهام . وهناك كتابٌ الَّفَهُ المفكر الفرنسيُّ روجيه غارودي ، اسماه : ( الاساطيرُ المُؤَسِسَةُ لدولةِ اسرائيل) ، فشعب الله المختار ، وارض الميعاد ، والحق التاريخي ، اوهام قامت عليها هذه الدولة .
العنصرية من الاعتباريات التي قامت عليها دولة جنوب افريقيا السابقة ، والتي لاتستندُ على ايِّ اساسٍ علميٍّ ، وكذلك الامرُ مع دولة هتلر النازية في المانيّا ، فافضلية الجنس الاريِّ لم تستند على اي اساسٍ علميٍّ وواقعيٍّ ، وانما قامت على اعتباريات ، وانتهت هذه الدولُ ؛ لانهُ لامستقبلَ لها .
تجاوزت الدولة الحديثة كلَّ الاعتباريات ، واتجهت نحو الحقائق والواقعيات ، اقامت كياناتها على اساسِ المواطنة ، والمواطنةُ مفهومٌ عابرٌ لِلّونِ والعنصرِ والقبيلةِ وكلِّ الامورِ الاعتباريّةِ .المواطنةُ مفهومٌ مَدَنِّيٍّ في الدولة المدنيّة ، وحضاريٍّ في الدولة الحضاريّة ، يتجاوزُ القبيلةَ والعنصرَ ، واللغةَ والدينَ والطائفةَ .
الدول الاوربية حينما كانت تعيش على اعتبارياتها ، كانت مسرحاً للحروب بين القبائلِ والاثنيّاتِ والقومياتِ، وكانت تسفكُ على اراضيها انهارٌ من الدماء ، وحينما اقتربت من الواقعيات بنت دولها الحديثة على مفاهيم جديدة واقعية ، بنت دولها على العلم والحقائق والارقام.
داعش اسست دولتها على الاعتباريات والاوهام ، فتبنت مقولات ابن تيمية ومحمد بن عبدالوهاب باعتبارها حقائق ، تقتل الناس على اساسها ، وتقطع الرؤوس ، وتجلد ، وتصادر الحريّات .
الدولة المدنية تجاوزت الاعتباريات ، واقتربت من الواقعيات ... والدولة الحضارية اعلى انموذجِ بَشريّ للدولة يَتُمُّ فيه تجاوزُ كل الاعتباريات ، واقامة الحياةِ على اساسِ الحقائقِ والارقامِ والواقعياتِ.