قراءة استطلاعية في أعمال ياسر محمود بقلم:د.السيد إبراهيم أحمد
تاريخ النشر : 2019-04-14
قراءة استطلاعية في أعمال ياسر محمود  بقلم:د.السيد إبراهيم أحمد


قراءة استطلاعية في أعمال الأديب ياسر محمود..
  دكتور السيد إبراهيم أحمد                                            

   يمارس الأديب ياسر محمود تنوعه الإبداعي داخل مجموعاته من القصص القصيرة شكلا ومضمونا؛ فيغمس قلمه في أدب الخيال العلمي من خلال مجموعتيه: "البحث عن أنثى" و"العودة من المريخ"، ثم يكتب عملا أقرب للسيرة الذاتية، وهو: "عروسة ورق..تخزي العين" انتهاءً بعمله الأخير وهو: "حَدثٌ مهمٌ بدرجةٍ ما"، غير أن الخط الرئيس في أعماله فيبدو في غلبة الحس الإنساني العميق الملتصق بالنفس البشرية التي ينطلق منها على المستوى المحلي ثم القومي العروبي ثم الإنساني أيا ما كان مكانه في الأرض جغرافية وتاريخا، وهو ما يجعل الكاتب متفاعلا مع شخصياته إلى درجة كبيرة من التعاطف سواء الوجداني أو في التجربة ذاتها؛ فهو من الكتَّاب الذي يرفقون بشخوصهم فيستحضر قهرها وذلها كمقدمة وأفعالها كنتيجة.

   دائما ما تتصدر أعمال ياسر محمود لمسات الوفاء لمن سبقوه من أساتذته بالذكر الطيب، وكلمات يسوقها استهلالا لمشروعه الأدبي وتحضيرًا لذاكرة وذهنية القارئ المتلقي لإبداعه المتعوب عليه ويريد منه في المقابل بذل جهد موازٍ في التعامل معه، ولكم تمنيتُ أن تتسيد أعماله في الخيال العلمي ولا يلتفت إلى نوع قصصي سواه، وذلك لتفرده على مستوى إقليمه الثقافي بإبداع وإتقان هذا المنجز الذي كاد أن يكتب له الريادة فيه غير أنها مشروطة بـالتخصص  في إنتاج هذا الفن دون غيره وهو ما ثبت لأستاذه "نهاد شريف" رائد الخيال العلمي، على الرغم من أن هناك من سبقوه بأعوام في ارتياد صهوة هذا الأدب الذي نجح ياسر محمود بالدخول في عوالمه من خلال الارتحال في آفاق الزمن، وتطعيم أدبه بالإنجازات العلمية المتحققة، وطرق أبواب الأزمنة القادمة بتنبؤاته التي لا تعرف التوقف عند حدود، فحلمها الجامح ينطلق من نفس جموح الحلم العلمي النهم الذي لا يعرف التوقف أيضا، غير أن كل كاتب في هذا المجال له أيضا رؤاه التي تنبع من ذاتيته وذائقته وتجربته الحياتية التي يعيشها أو يطمح أن يعيشها، وكأن عالمه من الإبداع في أدب الخيال العالمي بمثابة الانعتاق من اللحظة الراهنة المغروس فيها إلى اللحظة التي سيحلق فيها متحررا من آنيته.

   والملاحظ أن قصص "العودة من المريخ" التي تمثل العمل الثاني الذي يسبق العمل الأول للكاتب في الخيال العلمي بما يقارب عقدا من الزمن، غير أنه يشهد له بالتحلي بثقافة علمية ممتازة ينجح في استخدامها عبر أحداث قصص المجموعة، عبر التعاطي مع أكثر من نمط إنساني على مستوى الشخوص، وغلبة الحس الإنساني عليه، وتشريحه النقدي لطبيعة البشر، ومزاوجته بين الإنسان الآلي والبشري التي أسقطها في "أنت تكذب يا بشري" وخلفية الارتكاز على العقيدة والكتاب المقدس في الاثنين، وقراءة سياسية واعية لكوكبنا الأرضي، وتخلف الآدمي، وإنسانية الآلي الذي يحاكم البشري غير أن الكاتب ينتصر للبشري ويدين الآلي.

   وفي نفس الاتجاه تمضي أكثر قصص المجموعة ومنها "الآلة التي قتلتني"، ولولا بعض السرد الذي ساقه الكاتب لمحاولة تقريب المنجز العلمي من أفهام القارئ والذي جنى على جمالية اللغة بالجفاف والتقريرية، وبعض الألفاظ العربية التي ساقها ولا تشكل صعوبة عليه بل على القارئ؛ فالكاتب تخصصه اللغة العربية دراسة وتدريسا، وهو ما يعني أننا أمام كاتب كنت أتمنى لو استخلص نفسه لهذا الإبداع وحده لكن طاقة ياسر محمود متفجرة وتسعى لإبراز مكامن قوتها في أكثر من خيال، ويبدو هذا جليا في أعماله الأخرى التي أظهر فيها تفوقًا وتميزا. 

  لو شئت أن أكتب عن مدينة السويس، موطن الكاتب، في أعماله لخرجت بمجموعة من القصص تستغرق معظم عمله "عروسة ورق..تخزي العين" وبعض قصص عمله: "حَدثٌ مهمٌ بدرجةٍ ما"، خاصة أن "عروسة ورق" تمثل رحلة تمازج فيها استبطان الكاتب لرؤاه التي يسقطها على ذكرياته التي يستدعيها لتتوسد الصفحات سردًا غذاه من فلسفته الحياتية والخلقية والسياسية؛ فيتماهى مع الشخصيات اتصالا وانفصالا في الزمان والمكان، غير أن من بين هذه القصص ما تصلح لأن تتحرر من ربقة المحلية إلى فضاءالكونية والعالمية لو انتزعنا بعض كلمات يصر الكاتب على زجها في النص لغرسه في مدينته ولا تمثل ضرورة.

  ولو شئت أن أتناول المد الثوري المترعرع في أحداث الربيع العربي من خلال أعمال الكاتب لوجدته خاصة في التمازج المصري ـ التونسي الحادث في قصته "عروسة ورق" بينما تتجلى روعة القص وتكنيكاته عند ياسر محمود في قصته "الوطن فوق كرسي متحرك"، بينما لو تناولت المد القومي العربي لوجدته في أكثر من عمل له. 

  غير أن مجموعته "حَدثٌ مهمٌ بدرجةٍ ما" تتسيد وحدها عرش القص فوق أعمال الكاتب ياسر محمود لما فيها من النضج السردي الذي يتجلى في هيمنته على أدواته، وناصية كلماته، والتماسك النصي واللغوي بشقيه السياقي والدلالي، وعتبات النص الموحية، والحوارات التي زايلها الترهل، وفواتح بعض القصص وما فيها من التأمل الفلسفي، والنهايات التي تخالف توقع المتلقي، وهو ما يعني أن كل قصة من قصص مجموعاته وخاصة الأخيرة تستحق القراءة الواعية المتمهلة لتبين جوهر فكرتها، ولبنات بنائها، وصياغة أسلوبها، ومن ثم التعرف على المشروع الإبداعي للأديب ياسر محمود الذي يسعى لتحقيقه.