حازم الحازم بقلم: السفير منجد صالح
تاريخ النشر : 2019-04-13
حازم الحازم  بقلم: السفير منجد صالح


حازم الحازم

حصل حازم على شهادة التوجيهية العامة عام 1996، وقد تصادف ذلك مع "هبّة النفق". كانت الضفة الغربية وخاصة المدينة المقدّسة وضواحيها تغلي غاضبة ثائرة، إحتجاجا على فتح الإحتلال لنفق تحت المسجد الأقصى. وترزح المدن والقرى والمخيّمات تحت وطأة منع التجوال والإغلاقات الدائمة والمتكررة، والقمع والبطش، والإعتقالات، وسقوط الجرحى والشهداء. 

خرج حازم صباحا من بلدة حلحول المتاخمة لمدينة الخليل برفقة والده، متباهيا بمعدّل ال 92 الذي حصل عليه، بعد مجهود وكدّ وجدّ وسهر الليالي، في الدراسة لإمتحانات التوجيهي. متوجّها الى مدينة بيت لحم، مهد السيد المسيح، كي يسجّل للدراسة في جامعتها. فقد كان يحلم دائما أن يكون طالبا في هذه الجامعة الجميلة. 

بعد ساعتين تقريبا من السفر المتقطّع والصعب، وبعد الركوب في أكثر من مركبة ووسيلة مواصلات، الى جانب السير على الأقدام، وصل المسافران الى مشارف مدينة بيت لحم، الى مدخلها من طرفها الجنوبي. 

مداخل مدينة يسوع المسيح والطرق المؤدية إليها كانت تعجّ بجنود الإحتلال الذين يسدّونها ويتفنّنون في معاقبة ومنع السكان من دخولها أو الخروج منها. وبعد إنتظار طويل لم يستطع حازم ووالده من دخول مدينة بيت لحم، فقد كانت رشاشات الجنود العبرانيين تسد عليهم المنافذ والمعابر وحتى الهواء النقي. 

قال حازم لأبيه وهو يُشفق عليه من تعب وحر شهر أيلول:

- لقد أرهقتك الرحلة يا والدي. ولا فائدة من الإنتظار.

- لا بأس، مع أنّي مرهق قليلا، فمنذ الصباح لم تُبلل شفاهنا بقطرة ماء.

- وأنا أشعر أيضا بعطش شديد. سأذهب وأبحث عن دكان نشتري منه زجاجة ماء.

- لنذهب. لقد قاربت الساعة الثانية بعد الظهر. نشرب ونعود أدراجنا الى بيتنا. وغدا نُعيد الكرّة.

- هيا يا أبي. كان الله في عونك.

حتى رحلة العودة الى البيت في حلحول لم تكن هيّنة. فقد تخللتها عدة مواقف وتوقّفات إجبارية من دوريات الجيش الإسرائيلي المنتشرة والمُتحفّزة في كل مكان. لم تخلو رحلة العودة من التفتيش والتدقيق في الهويّات والأسئلة الثرثارة والمصطنعة، وإنزال الشباب من المركبات وتفتيشهم الإستفزازي شبه عُراة وركلهم أحيانا وشتمهم أحيانا أخرى. شريعة الغاب يمارسها جنود الإحتلال الساديين على شعب أعزل.

في صبيحة اليوم التالي إستيقظ أبو حازم باكرا، توضّأ وصلّى صلاة الصبح، ودعا الله العلي القدير أن يُسهّل أمورهم وأن يُنير دربهم، وأن ترافقهم الملائكة اليوم وتحرسهم، لعلّ إبنه حازم يتمكّن من الوصول الى الجامعة ويُسجّل فيها، قبل أن يفوته القطار ويضّطر لتأجيل الدراسة  وأن يركب في قطار السنة القادمة. هكذا تضيع عليه سنة دراسية جامعية. ومن يدري كيف ستكون الظروف في السنة القادمة. فالأمور تسير من سيء الى أسوأ، ومن مجهول الى مجهول.  

جنود الإحتلال ما زالوا يُوصدون مداخل المدينة التي ولد فيها سيدنا عيسى المسيح، في مغارة كنيسة المهد، أقدس مكان للمسيحيين في العالم. لا يأبهون ولا يقيمون وزنا ولا إعتبارا لكافة الأديان والشرائع السماوية ولا للقوانين الوضعية الدولية بعدم جواز إحتلال أراضي شعب أصيل آخر بالقوة. وعدم إعاقة الأفراد والبضائع بالتنقّل الحر. وفوق كل ذلك عدم جواز فرض وتطبيق العقوبات الجماعية على السكان المدنيين الرازحين تحت الإحتلال، الذين يُعانون "الأمرّين" من بطش ونزق وقمع الجنود والضباط الإسرائيليين المنفلتين من عقالهم، والمتبجّحين المتباهين بغطرسة قوتهم  وطول سبطانات رشاشاتهم.

- ماذا نعمل يا أبي؟ خاطب حازم أباه والعرق يتصبب عن جبينه ومن مسامات جلده.

- لا أدري يا حازم. فالأبواب مغلقة اليوم أيضا، أجاب الأب بصوت حشرجة تعكس كم يُعاني من المقت وقلّة الحيلة.

- ما رأيك يا أبي أن نُجرّب التسجيل في جامعة بير زيت المحاذية لمدينة رام الله؟ فالوقت يداهما ولا مجال للإنتظار أكثر.

- لنجرّب، على بركة الله. ربما تمكّنا من دخول رام الله وبير زيت.

ليس من السهل إيجاد وسيلة نقل الى رام الله، فقوات الإحتلال تُقطّع أوصال الضفة الغربية وتعزل المحافظات عن بعضها البعض إمعانا في معاقبة السكّان الفلسطينيين وسد منافذ حياتهم وجعلها اشبه بالمستحيلة.

بعد البحث والإنتظار وجد الأب وإبنه سيارة فورد ستنطلق الى رام الله حال إشغالها بعشرة ركاب، سعتها المعتادة. ولكن السائق إشترط قبض ضعف ثمن الأجرة الإعتيادية من بيت لحم الى رام الله، نظرا لخطورة الرحلة وصعوبتها وإضطراره الدائم والأكيد، في مثل هذه الظروف، لسلوك طرق ترابية وجانبية وفرعية ضيّقة وصعبة.

تحرّكت سيارة الفورد صفراء اللون وعلى متنها حازم وأبيه وثمانية ركاب آخرين قاصدين "باب الله"، بإتجاه مدينة رام الله. من يدري، هل سيحالفهم الحظ ويصلون الى رام الله؟ أم سيقعون فريسة أحد حواجز جيش الإحتلال العسكرية، يعلقون به. ويلصق بهم كالصمغ الذي لا فكاك منه. وربما سيبيتون ليلتهم قسرا وراء صف من المركبات المحتجزة، على هذا الحاجز. مترقّبين الليل كله بسواده. ممتثلين لإشارة من أصبع أحد جنود الإحتلال، الذي تناول لتوّه وجبة عشاء دسمة، كي يفكهم من صمغ شرنقته البغيضة. 

سلكت المركبة طرقا داخلية وجانبية للخروج من بيت لحم ومن بيت ساحور المحاذية والمتعانقة مع شقيقتها بيت لحم. ومنها الى بلدة العبيديّة، الممدودة بيوتها طولا على عدة تلال تصبُّ في الفم الجنوبي لطريق "وادي النار" الضيّق الصعب المتعرّج، الذي ينحدر من العبيدية نزولا حادا ملتويا كالحيّة الى الوادي العاقر الأجرد. لا تستفيد منه نعجة ولا غنمة، ولا حتى أرنبا بريّا. فالوادي لا خضرة فيه وسفوحه جرداء مثله. الى جانب الروائح الكريهة المنفّرة التي تلف قعر الوادي بفعل مخلفات ومجاري المستوطنات التي تعتلي التلال المجاورة. 

كان حازم يشعر ببعض التعب. بدأ يتسرّب إليه بعض التشاؤم من إمكانية تسجيله في الجامعة هذه السنة. الظروف تعاكسه وتعانده. ربما يكون أمله اليتيم في هذه الرحلة، في هذه السفرة. عشرات الكيلومترات الطويلة بين بيت لحم ورام الله ستُحدّد مصيره لسنة بكاملها. يا للعجب كيف يتحدّد مصير الطلاب في بلادنا!! حاجز عسكري إحتلالي يمكن أن يكلّف طالبا سنة كاملة من حياته. يشدّه للوراء عاما كاملا. وربما يكون سببا في إبعاده قسرا عن مقاعد الدراسة الجامعية المُغرية والشيّقة الى الأبد، وإلتحاقه باكرا وغصبا عنه بسوق العمل.

رجع حازم بذاكرته عدة سنوات الى الوراء. منظر سفوح جبال وادي النار الجرداء أيقظ فيه شريط ذكريات تلك الأيام من عطلة الصيف عندما كان عمره أحد عشر عاما. كان يذهب برفقة أولاد عمه الى المحجر الذي يملكونه مناصفة في ضواحي بلدة بيت فجّار، المشهورة بصخرها الذي لا يضاهيه جودة إلا صخر بلدة جماعين ذات المحاجر المميّزة في محافظة نابلس. 

كان العمل في المحجر يُبهره. كان يعمل فيه أخوه الكبير الذي لم يحالفه الحظ للوصول الى مقاعد الدراسة في الجامعة، نتيجة لتوقفه عند الصف العاشر، بسبب قلّة حبّه للدراسة، ولضيق ذات اليد. إذ أن رب الأسرة يعمل مدرّسا، يُعيل براتيه المتواضع سبعة أفراد. حازم وشقيقة الأكبر، وشقيقان أصغر منه، والصغيرة المدللة آخر العنقود فيروز، الى جانب أمّه. 

إبريق الشاي الأسود الفاحم من الخارج في المحجر كان يسبب له الحيرة. هل يا تُرى أن الشاي الذي يُطبخ في هذا الإبريق العجيب يُشبه الشاي الذي يُحضّرونه في البيت في إبريق ناصع البياض من الخارج؟ وهل يا تُرى سيمرض ويصيبه إسهال إذا ما شرب من منتوج هذا الإبريق الفاحم؟ وهل الشاي المطبوخ فيه لونه أسود فاحم كلون الإبريق ذاته؟ 

كان حازم يتفادى الإقتراب من الإبريق وهو يغلي على الحطب المشتعل بلهيبه ودخانه. وكان دائما يسوق المبررات بأنه لا يحب الشاي كل مرّة تصادف أن دعوه العاملين في المحجر كي يشاركهم في شرب الشاي. وكان يُجيبهم:

- شكرا، شكرا. أنا لا اشرب الشاي ولا القهوة. فقد سمعت أن الشاي والقهوة منبّهه. وأنا أريد أن أنام باكرا حتى أصحو باكرا للدراسة أو للمساعدة في العمل.

- ولكنك الآن في إجازة، وتستطيع أن تُجرّب. إنه لذيذ، وبطعم الدخان وخاصة إذا ما وضعت خمسة ملاعق سُكّر في كأس الشاي. قال أحد العاملين محاولا إقناعه.

- لا لا لا. شكرا. لا أريد أن أجرّب. لا بخمس ملاعق ولا بملعقة سكّر واحدة ولا حتى بنصف ملعقة.

وظل حازم حازما في رأيه وموقفه من شاي الأبريق الفاحم. لم تدخل نقطة يتيمة منه في فمه، ولا حتى لامست شفتاه. وظل متمسّكا برفضه بالرغم من صغر سنّه، وبالرغم من الدعوات  والإغراءات المتكررة من قبل العاملين في المحجر.

مرّة أراد أحد العاملين الظرفاء من بلدة بيت فجّار أن "يُناغشه" ويختبره، فقال له:

- صحيح يا حازم أنّه في بلدكم عندما يُسافر أحدهم الى عمّان فإن المختار ينام عند زوجته؟

فكّر حازم مليّا، ودوّر وقلّب السؤال، ومحّصه وحمّصه في ذهنه، ثم أجاب:

- نعم صحيح.

- وكيف ذلك؟ معقول أن ينام المختار عند "مرته"؟!

- نعم معقول، فالمختار ينام عند زوجته، أي زوجته هو، يعني زوجة المختار.

- والله برافو عليك يا حازم. والله فهمتها وأعطيت الجواب الصحيح. المختار ينام عند زوجته هو. برافو. والله بتستاهل كاسة شاي من إبريقنا الفاحم!!

وضحلك الإثنان معا، وضحك جميع الحاضرين المستمعين للفزورة وجواب حازم الباتع الحازم.

أبو حازم كان "يُغمض عينا ويفتح عينا" حين هبوط المركبة في منعرجات وادي النار. كان يُغالب نعاسا حلّ به ولا يعرف كيف يطرده. الشيء الوحيد الذي يُبقيه صاحيا هو قلقه على مصير إبنه حازم؟ فإبنه الكبير لم يُكمل تعليمه الجامعي. وأبو حازم، بحكم كونه أستاذا ملتزما في تدريسه وفي إنتمائه لمهنته، فهو يحب أن يصل طلّابه الى الجامعات ويلتحقون للدراسة فيها، فما بالك بإبنه. 

لقد وضع كل آماله في حازم كي يحقق له حُلمه في أن يصبح مهندسا أو طبيبا أو خريجا جامعيا، في أي تخصص آخر يرغب فيه. وأن مجرّد تفكيره في أنّه لن يصل الى مقاعد الجامعة، بسبب الأوضاع القاهرة السائدة، كان يُرعبه ويُؤرّقه. فهو لا يُريد أن ينضمّ "حازمه" الى طاقم المحجر وأن يغوص بين صخوره.

إجتازت المركبة معرّجات وادي النار هبوطا وصعودا. وإجتازت معها أنوف الركّاب، بالإضافة الى السائق، الرائحة الكريهة بسبب مخلّفات ومجاري المستوطنات المحاذية التي تركب قمم الجبال. 

توغّلت في بلدة أبو ديس، ومنها الى العيزرية، لتصطدم وجها لوجه مع مستوطنة "معاليه أدوميم". إستوقفهم حاجز لقوات حرس الحدود، "المشمار كفول"، بمحاذاة مدخل المستوطنة. وأنزلوا الركاب جميعا وفتّشوهم تفتيشا دقيقا.

مدخل المستوطنة من دوّار الشارع الرئيسى حتي عُمقها يبدو كحديقة منسّقة الأشجار والأزهار بأشكال وألوان متعددة. مداخل مستوطناتهم (مُغتصباتهم)، الجديدة التي ما زالت تحبو بعمر السنة أو السنتين أو الخمس سنوات، حدائق وأشجار وورود. أما مداخل قرانا وبلداتنا ومُدننا المتجذّرة في تراب وطننا الأسمر الحنطي منذ زمن آبائنا الكنعانيين، فهي مكسّرة ويكسوها الحفر بدل الحدائق، ويكسوها الغبار بدل الأشجار، ويكسوها الطين بدل الورود. لأن قوات الإحتلال، وبقوة السلاح، تمنع السكان الفلسطينيين حتى من تزفيت مداخل قراهم، وتقيم عليها البوّابات الحديدبة المحتجزة، وأبراج المراقبة التي تراقب دبّة النملة وطيران العصفورة وقفزة الدجاجة في قنّها بعد أن تضع بنجاح بيضتها.

- الحمد لله، لقد تخطّينا الحاجز. هتف أبو حازم وهو يتنفّس الصعداء، ويبلع ريقه الذي كاد أن يجفّ تحت وطأة إستفزازات الجنود. 

- الطريق ما زال أمامنا طويلا. ربنا يُسهّل الأمور. أجاب السائق بنوع من التفاؤل الحذر.

- آمين آمين يا رب العالمين، ربنا يُسهّل الأمور. هتف الركاب تباعا.

أخذت سيارة الفورد مرّة أخرى تصعد المنحدرات الملتوية التي ستفضي في نهايتها الى مدخل بلدة عناتا ومشارف بلدة حزما. المنحدرات شبه جرداء تشبه منحدرات وادي النار ولكنها أقل حدّة. وتختزن المنحدرات في أحشائها وعلى ظهرها العديد من مضارب البدو المقيمين الدائمين، مع حلالهم ومواشيهم، وصهاريج الماء التي تنتصب الى جانب خيامهم على جانبي الطريق المتلوّي صعودا كحيّة رقطاء. 

يُلّوث المنطقة بكاملها الغبار المتطاير على مدى سنوات من "كسّارة" الحجارة التي يملكها إسرائيلي منذ إحتلال الضفة الغربية عام 1967. والتي تقع على جانب الطريق الأيسر صعودا للمنحدرات.

وادي النار تلوّثه مجاري المستوطنات التي تعتلي التلال، وهذه المنحدرات يُلوثها غبار الكسّارة المتصاعد بإستمرار. أين ومتى وكيف سيتنفّس خلق الله في هذه البلاد هواء نقيا؟ هواء بعبق الزعتر والميرمية والزنبق والعبهر، في ربوع بلادنا، في جبالها وهضابها وساحلها وغورها، بدلا من هذه الروائح الكريهة الدخيلة التي جلبها الاحتلال المستعمر معه، وأطلقها علينا كما أطلق الخنازير البريّة التي تنهش وتُدنّس كروم العنب والتين والزيتون واللوز.

تجاوزت المركبة مدخل عناتا وبلدة حزما بنجاح معقول، وبقليل من المعوّقات. وإخترقت مفرق جبع، وشارفت على قلنديا من جهة مدخل الرام الجانبي. آثر السائق اليقظ أن يتفادى الدخول مباشرة من خلال معبر قلنديا الذي يفصل رام الله عن المدينة المقدّسة، فأيّ إقتراب من أي واحد من مداخل القدس سيعني إحتجاز المركبة لعدة ساعات الى جانب "البهدلة" والسب والشتم والركل من قبل جنود الإحتلال "المصروعين".

مقابل مدخل الرام الجانبي إنحرف السائق بالمركبة الحبلى بعشرة توائم الى أقصى اليمين ثمّ الى اليسار حيث غاص في الجرف بلون أبيض كالقطن بفضل غبار كسّارات حجارة الطريفي التي تسيطر على الوادي وسفوحة. وخرجت سيّارة الفورد صعودا سالكة طرقا ضيّقة لا تتّسع إلّا لسيّارة واحدة ذهابا وإيابا في أزقّة مخيّم قلنديا الداخلية، التي تعج بالبيوت الصغيرة المتراصة فيما بينها وفوق بعضها.

وبعد جهد جهيد، وصبر وعناء وترقّب وشهيق وزفير وتنهيد، تفادت السيارة وإجتازت الخطر المحدق، وأصبح حاجز قلنديا الصعب المقيت الملعون وراءهم. كذلك مخيم قلندبا المقام منذ النكبة عام 1948. الى جانب مطار قلنديا، الذي كان يخدم الضفة الغربية والفلسطينيين قبل إحتلاله من قبل جنود موشي ديّان عام 1967. 

في هذا المطار، أيّام العزّ قبل إحتلال الضفة الغربية وقطاع غزّة، الى جانب مرتفعات الجولان السورية وصحراء سيناء المصرية، من قبل جحافل جيش الإعتداء الإسرائيلي عام 67، كانت الطائرات تهبط على المدرج قادمة من دول عدّة، وأهمّها الكويت، نظرا لكبر الجالية الفلسطينية العاملة في هذه الدولة الخليجية. إذ فاق تعداد الجالية الفلسطينية هناك، قبيل غزو صدّام حسين المشؤوم والمقيت للدولة الشقيقة، التي كانت تدعم كافة جامعات فلسطين، الأربعمئة ألف نسمة. وبلغت مدخرات الجالية حينذاك حوالي أحد عشر مليار دولار. 

توقفّت المركبة أخيرا في موقف السيّارات في مدينة رام الله. تنفّس الركاب الصعداء، وهنّأ بعضهم البعض، مرددين:

- الحمد لله على السلامة.

- الحمد لله على السلامة.

كانت الساعة تُشير الى الساعة الواحدة بعد الظهر. يجب على حازم وأبيه الهرولة الى موقف "فوردات" بير زيت من أجل الوصول الى جامعتها قبل إنتهاء الدوام. "فالوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك". وقطع المسافة بين رام الله وبير زيت على قصرها يبدو أنها ستكون عملية ليست بالسهلة. 

ركب المسافران في المركبة المتحرّكة بإتجاه مدينة بير زيت. إخترقت المركبة شارع الإرسال بإتجاه الشمال. تجاوزت فندق البست إيستيرن المنتصب على المدخل الشمالي للمدينة، وإنحدرت لتقابل بلدة سُردا. في الوادي، على المنعطف، في مدخلها، كان بإنتظارهم حاجز "طيّار"، حاجز غير ثابت، لحرس الحدود، وهم من أشرس وأسوأ وحدات جيش الإحتلال، ويبدو أنهم تشكّلوا خصيصا لقمع الفلسطينيين "ومرمرة" حياتهم..

أوقف الجنود المركبة وأمروا ركابها بالنزول جميعا بما فيهم السائق. إصطف الرجال الأحد عشر كطابور متراص في سجن أمام سجانيهم المدججين بالأسلحة. أخذوا هويّاتهم ودققوا فيها واحدة واحدة. 

لاحظ حازم أن من بين الجنود واحد قصير القامة، أسود البشرة، سمين، يبدو وجهه أشبه بوجه الكلب "البولدوغ"، بخدوده المكتنزة وشفاهه الغليظة. بالكاد أن يكون جسمه أطول قليلا من الرشاش الذي يحمله. هو واحد من يهود الفلاشا الإثيوبيين الذين هرّبتهم إسرائيل إليها في عمليات سريّة وعلنية وبالمداهنة. ربما تفاجأ حازم من رؤية هذا الفلاشا السمين. مع العلم أن إنطباعه كان أن الفلاشا يمتازون بزيادة نحافتهم وخدودهم الغائرة، فكيف يكون هذا الفلاشا هكذا مُكعبلا كالبولدوغ؟ 

لم يستطع حازم أن يسيطر على بسمة منه معبّرة تصل حد الضحكة. تنبّه على أثرها جندي الفلاشا. نادى على حازم كي يمثل أمامه تماما وحالا، وسأله بعبريّة مكسّرة عن سبب ضحكه، وأنّه إن لم يجيبه عن سبب ضحتكه فسيعيد المركبة بركابها جميعهم الى رام الله. حازم لا يُتقن العبرية ولا حتى يفهمها.

تدخّل على الأثر والد حازم الذي كان يعرف اللغة العبرية بقدر أكثر قليلا أو أقل قليلا من هذا الفلاشا، "إلّي طلع إلنا في السحبة" في آخر لحظة. حيث أن الأستاذ كان يضطر للعمل خلال إجازة الصيف في الداخل الفلسطيني عام 48 من أجل تدبير أمور مصاريف البيت المضطردة. 

وإستطاع الأستاذ أن يقنعه بأن "الولد" لم يكن يضحك عليه أو يسخر منه وإنما كان يضحك على شيء قاله له هو عن الجامعة، فهما ذاهبان لتسجيله فيها. ربما إقتنع رجل الفلاشا بهذا التفسير وإنتهى الموقف عند هذا الحد ولكن ليس قبل أن يُهدّد جندي الفلاشا حازم قائلا له:

- سأريك ماذا سأفعل بك عندما تعود.

وعندما يعود حازم، "موت يا حمار"، فقد طار تهديد جندي الفلاشا في الهواء. وظل حازم حازما في موقفه في سرّه وسريرته، بينه وبين نفسه، حول ضحتكة الساخرة من هذا الفلاشا المحتل الدخيل، ذو الخدود المكتنزة، الذي يشبه الكرة، ورشاشه أطول منه.

في جامعة بير زيت، الجامعة الفلسطينية العريقة والمرموقة، ذات السمعة العالمية الطيبة، سارت الأمور، أخيرا، على ما يُرام، وأتمّ حازم تسجيلة في تخصص إدارة الأعمال. ويمكنه أن يُعلن عن نفسه بكل فخر وإعتزاز بأنه طالب في السنة الأولى في جامعة بير زيت. 

كانت الأيام والأسابيع الأولى من عمر حازم في الجامعة عصيبة وصعبة. فالشاب القادم من الجنوب المحافظ وجد نفسه فجأة في أجواء جديدة، في ظروف جديدة. وكانت صدمته الأولى عندما أعطوه من الإدارة برنامج المواد والدوام للسنة الأولى وكانت الوثيقة باللغة الإنجليزية. صحيح أنه درس الإنجليزية حتى التوجيهى في مدرسة حكومية، ولكن صحيح أيضا أنه كان يشعر بنفسه وكأنه يحبو في هذه اللغة. والمطلوب منه أن يقفز وأن يُحلّق بالإنجليزية، ولكن من أين له جناحان كاملان مكتملان.

بدأ بالسنة الأولى دروس تقوية باللغة الإنجليزية في الجامعة، حتى يستطيع ان يكون على المستوى المطلوب لخوض غمار معظم المواد التي كانت تُدرّس بلغة شكسبير. من أول يوم في دروس التقوية جلست صفاء، الفلسطينية القادمة من الإمارات العربية المتّحدة، مصادفة الى جانبه، "ورُبّ صدفة خير من ألف ميعاد". تبادل معها بعض الجمل القصيرة بخفر وحياء، فهو ينحدر من مجتمع محافظ ومُغلق، فربما كانت هي أول فتاة "غريبة" يتحدّث إليها وجها لوجه وعن قرب ودون حجاب على مدى سنوات عُمره. فقد كان قد وصل الى الجامعة مثل "القطّة المغمّضة". ربما لا يعرف من الجنس اللطيف غير أّمّه وأخته الصغيرة فيروز. 

عندما إقتربت منه صفاء قليلا حيث إنحنت تجاهه بصورة عفوية لتجيبه على سؤال منه لم تسمعه جيدا بسبب شدة خفره وحيائه، إضطرب وإمتقع وجهه. لأول مرّة في حياته يشم رائحة عطر فوّاح يدغدغ أرنبة أنفه:

- ماذا تريد أن تسأل، خاطبته صفاء.

- لا شيء، فقط أردت أن أعرف، ... أن أعرف، يعني ...، إذا كان هذا لا يضايقك، صحيح، لماذا تلبسين نظّارة كبيرة؟ أجابها حازم متلعثما، ورائحة عطرها تُحيّره. 

- هذه نظّارة للنظر، للقراءة والكتابة، حتى أستطيع أن أرى جيدا، أجابته صفاء وهي تبتسم وتُداري ضحكة كتمتها لئلّلا تُسبب له الإحراج، فقد تنّبهت منذ البداية أن أسئلته بريئة وأحيانا ساذجة ولكنها ليست مزعجة على أيّة حال. 

أصبحت صفاء زميلته المفضّلة، منذ البداية وحتى التخرّج. صداقة بريئة وزمالة رائعة. وقد كان حازم حازما في أن لا تتعدّى محادثته اليومية مع صفاء حدود الزمالة الصرفة. فلم يكن في وارد أن يتعدّى معها خطا أحمر ولا حتى نقطة حمراء. لقد كان حاسما وحازما في هذا الموضوع، فوضعه الدراسي والعائلي والمادي وحتى النفسي لا يسمح لقطاره الخروج ولو للحظة واحدة عن سكّته ومساره. 

ربما كان حازم يشعر أن صفاء تكمّله، أو ربما هي نقيضه القريب والمُحبب، فهو خجول ومنطوي قليلا ومحافظ جدا، أما صفاء فهي منطلقة وتلقائية وعفويّة وقلبها أبيض، لا تعرف الحقد ولا الغضب ولا النميمة، "وإلّي في قلبها على لسانها". ربما يكون مولدها وحياتها في أبو ظبي قد صقلت شخصيّتها وجعلتها متفتّحة ومنفتحة وإجتماعية، ولكن بكل أدب وإحترام. 

كان تحصيله الأكاديمي في هذه السنة الأولى متواضعا، فبعد أن حصل على 92 بالمئة في التوجيهي، وكان دائما من الطلبة المبرّزين المتفوّقين في صفوف الثانوية، فإنه بالكاد تحصّل على معدّل 60 بالمئة هذا العام الجامعي. وربما يعود هذا التراجع الى العديد من العوامل المادية والمعنوية والنفسية.

فهو دائم القلق على مصير أقساطه الجامعيّة، وخاصة وأنه يعرف "البير وغطاه". يعرف إمكانيات والده الأستاذ وراتبه الذي إذا ما فردته على المتطلّبات والمستلزمات والضروريّات والإحتياجيّات والفواتير  والأقسط الجامعية  والأقساط المدرسيّة، فإنه بالتأكيد لن يكفي لنصف هذه الإحتياجات. وأخوه الكبير يكدح ويجدّ في المحجر طوال اليوم تحت أشعّة الشمس اللاهبة صيفا وتحت رحمة البرد والصقيع والأمطار شتاء، من أجل المساعدة والمشاركة في تأمين الإحتياجات البيتية. أخوه لم يفكّر بالزواج حتى الآن من هول ضغط هذه الظروف، مع أن عمره أصبح مناسبا لتكوين أسرة خاصة به. 

كما أنه وجد كل شيء جديد وغير مألوف بالنسبة له في الجامعة، وجد نفسه وكأنه كان في شرنقة، في البيات الشتوي، وفجأة جاءه الصيف وطلع عليه الربيع دفعة واحدة. فوجد نفسه في حديقة جميلة غنّاء مليئة بأزهار القرنفل والزنبق والجوري الأبيض والأحمر. ولكنّه وجد نفسه كالزغلول زغب الحواصل يريد أن يُطيّر ويطير من عّشه ولكن لم تكتمل بعد جناحاه ولم يشتدّ عوده. 

كما أن سكنه في مدينة بير زيت مع مجموعة من زملائه الجدد، وفجأة بعيدا عن حضن أمّه ودفئ والده والبعد عن أخته الصغيرة فيروز وعن مناكفات أخويه التوأم اللذان يصغرانه بعامين، سببت له نوعا من الإرتباك وربما قليلا من الإكتئاب والإنطواء. لم يكن يعرف شيئا عن الطبخ ولا حتى قلي بيضة، ولم يكن قد لمس في حياته صحنا كي يجليه. ليس لأنّه إبن عزّ وقد وُلد وملعقة من الذهب في فمه، بل بكل بساطة لأن والدته، أطال الله في عمرها، كانت تُغطّي كل تلك المتطلّبات.

الشي الوحيد الذي كان يخفف عنه أحماله التي ينوء بها ظهره وكتفيه وعقله، هي معرفته بصفاء، فقد كانت نعم الصديقة ونعم الزميلة ونعم الأخت. ظرافتها وتلقائيّتها وحرصها عليه، والوقوف الى جانبه كان يعني الشيء الكثير بالنسبة له. كانت تنتزع البسمة من ثغره إذا كان وجهه جامدا وعبوسا، وتحفّزه للسير قدما ودائما الى الأمام إذا ما رأته متوقّفا أو متراجعا. صفاء كانت هديّة غالية من السماء.

لكنّه شعر ولاحظ في الشهور الأخيرة من السنة الرابعة وقبل التخرّج بأن صفاء قد ضاعفت من إهتمامها به، والتقرّب منه، وخاصة بعد أن تعرّضت لحادث طفيف من سيّارة في مدينة رام الله، داست على أصابع قدميها دون إنتباهها في موقف السيّارات المتّجهة الى جامعة بير زيت. حيث لُفّت أصابع رجليها بضمّادات لمدة أسبوعين. ربما كانت صفاء بحاجة إليه كي تستند عليه وخاصة عندما تصعد الى الطابق الثاني في الجامعة، ولكن يبدو أنه صحيح أيضا بأنّها وجدتها مناسبة طيّبة وسانحة كي تتقرّب منه أكثر. وبتفكير عقلاني لرسم مسار حياتها بعد التخرّج، الذي يطل وشيكا على الأبواب، ولم لا أن يكون حازم الصديق والزميل العزيز أكثر من صديق وزميل عزيز: 

- أريد أن أسألك حازم، هل وضعت لك تصوّرا ماذا ستعمل بعد التخرّج؟

- من يدري، ربّما سأرجع الى المحجر للعمل هناك مع أخي وأولاد عمّي. أجاب حازم ساخرا. 

- كيف ترجع الى المحجر بعد كل هذه الدراسة؟ أجابته صفاء مستنكرة.

- أنا أحب هذه البلاد، بالرغم من كافة الظروف. ولا أفكّر في مغادرتها أبدا، ولا حتى لسفرة قصيرة الى عمّان. أجابها حازم بشكل حازم.

- ألا تُحبّ أن تذهب للعمل في الإمارات، في أبو ظبي أو في دبي مثلا؟

- قلت لك أنا أعشق تراب هذا الوطن ولا أبدّل ذرة من ترابه بكل كنوز الدنيا.

كان حازم يعرف ما يجول بخاطرها، وكان يحترم تفكيرها وربما حُلمها، لكنه كان حازما في قناعته بأن الأمور بينهما لا يمكن أن تتطوّر أو تجتاز حاجز الصداقة، فظروفه المادية والمعنوية وحتى النفسية لم يطرأ عليها أي تحسّن أو تغيير، وأن جل إهتمامه وتفكيره ينصبّ على عائلته وإخوته الأصغر منه، كيف سيساعدهم في دراستهم الجامعية في المستقبل القريب العاجل.

وكانت صفاء كلّما تُضيّق عليه الخناق من أجل مُفاتحته ومُصارحته بشعورها نحوه، كان هو يُبادر بإختلاق قصة إبنة خالته التي تنتظره في بلدته حلحول والتي "ورطته" أمّه مع إبنة أختها، وهم صغار، بأنهم سيكونا لبعضهما في المستقبل. وهذا تقليد قديم لدى بعض العائلات، وخاصة منذ الحقبة الإقطاعية، بالحديث ضمن العائلة عن إرتباط أو خطبة طفلين يحبوان لتوّهما لبعضهما عندما يكبران. ربما للمحافظة على الأرض وحصر الأملاك والإرث في العائلة، وأن لا يتسّرب شيء من الأملاك الزراعية والأراضي لغريب أو لغريبة.

حازم بعد تخرّجه لم يلتقي صفاء ولا مرّة واحدة، ولا حتى بالمصادفة. يبدو أن طريقيهما لم تتقاطع أبدا بعد أن جمعتهما الجامعة وفرقهما تخرجهما معا بدرجة البكالوريوس في إدارة الأعمال. لا يدّعي حازم أنه يُكنّ حبّا لصفاء، ولكن نعم يُكنّ لها معزّة خاصة، ربما إعتبرها دائما مثل أخته. ولكنه لم يستطع أن ينسى ظرافتها ولطافتها معه. وأنّه كلما تذكّرها أو مرّ طيفها من أمامه فإنه يشعر بسعادة تغمره، وغالبا ما يبتسم أو حتى يضحك رغما عنه. ويتمنّى بينه وبين نفسه أن يلتقيها يوما، لا لشيء إلا ليطمئن على أحوالها ويُلقي عليها التحية. 

وبعد تخرّجه أيضا دخل حازم في دوّامة إيجاد عمل، ليبني نفسه ومستقبله ويُساعد والده وعائلته، التي كانت تُكابد الكثير من أجل تأمين أقساطه الجامعية على مدى أربع سنوات طوال. كان يشعر بأنّه مدين لعائلته، وكان يشعر بحجم المسؤولية الملقاة على عاتقه، والتي سيحملها لسنوات طوال قادمه. فراتب والده الأستاذ، والقليل الذي يجنونه من المحجر، بالكاد يكفي لتغطية إحتياجاتهم المعيشية والجامعية والمدرسية، وخاصة وأن غلاء المعيشة يرتفع كالصاروخ، والزيادة على الراتب تسير أبطأ من السلحفاة.  

لم يجد العمل المناسب في مجال تخصصه، ويبدو أن إيجاد عمل في أي مجال آخر سوف لن يكون هيّنا ولا سهلا. ولكنه في عجلة من أمره ومستعدّ لأي عمل حتى ولو كان شاقا.

عمل في ورشة للبناء في مدينة رام الله. عمارة ذات ثمانية طوابق يتم إنشاؤها في حي المصيون الراقي. صاحبها كان مغتربا في البرازيل، ورجع بثروة كبيرة من هناك، وهذه هي العمارة الثالثة التي يبنيها ويبيعها شققا سكنية جاهزة، "مفتاح" كما يُقال. 

كان حازم ينقل الطوب وحجر البناء، وينقل "جرادل" الباطون الجاهز. عامل، مجرّد عامل مساعد في هذه الورشة. فهو ليس مهنيّا، وليس لديه صنعة محددة، لا هو بنّاء ولا "طوبرجي" ولا نجّار ولا حدّاد. فقد إنتقل من مقاعد الدراسة في الجامعة مباشرة الى ورشة البناء. "من الشجر للحجر" كما يُقال في الزيتون. من طالب ذو أيادي ناعمة، مكتنزة، ورطبة، الى عامل ذو أيادي خشنة، مشققة وجافة. 

وقد إستمر في العمل في هذه الورشة ثلاثة أشهر، ذاق فيها الويل من التعب والإرهاق والمقت والإرتباك والقلق على مستقبله. فبعد التخرّج والأمل في مستقبل مهني زاهر في مجال إدارة الأعمال يجد نفسه، منذ البداية، يغوص في وحل الباطون والطوب. أي مستقبل "زاهر" ينتظره؟ وأين ومتى سيجد السكّة الصحيحة التي سيقلع عليها قطاره؟

عمل بعد ذلك في مكتب للدعاية والإعلان. لم يكن العمل بالمستوى المطلوب ولا يُلبّي بعضا من طموحه. ولكنه كان يُدرّ عليه بعض المال، وهذا هو المطلوب، بإنتظار أن تأتي الفرصة السانحة كي تسير مياهه في مجاريها الصحيحة.

من خلال عمله هذا، تسنّى لحازم التعرّف على والتعامل مع العديد من الشركات، وتعرّف على عدد من الموظفين والمسؤولين فيها، وحتى على بعض أصحاب هذه الشركات. لقد فتح له عمله هذا أبوابا كانت سابقا تبدو موصدة تماما.

تعرّف على أبي قيس، الشاب الثلاثيني الموهوب والناجح، الذي يملك ويدير شركة للمعدّات الطبيّة. ويبدو أن أبا قيس قد بدأ يُعجب بحازم وبأسلوبه في العمل، وبأمانته وصدقه. فعرض عليه العمل معه براتب محترم. وأن يُدير شؤون الموظفين والحسابات في الشركة. وافق حازم على عرض أبي قيس دون تردّد. وبدأ، منذ ذلك الحين، مرحلة جديدة وهامة في حياته العملية.

وقد إنسجم حازم في العمل في شركة أبي قيس وأبدع في عمله وفي تفانيه في خدمة الرجل الذي أمّنه على شركته وماله، وكان كل يوم يحوز على مزيد من الثقة من أبي قيس، الذي أصبح يتحرّل في تجارته بحريّة أكثر. يسافر الى أورويا والى أمريكا ويعقد الصفقات لإستيراد المزيد من المعدّات الطبية. مطمئن الى سير العمل في شركته وأنها بأيادي أمينة، أيادي حازم الفلاح الذي قدم من الجنوب المحافظ وبدأ يتأقلم مع أجواء رام الله، المدينة المصيف المزدهرة المتفتّحة والمنفتحة.

حازم تغيّرت نفسيّته وأصبح إيجابيا منطلقا، أصبح يُشبه صفاء الى حد ما. وأهم شيء في وضعه الجديد في شركة أبي قيس اللطيف أنه يُداوم على تزويد عائلته بالمال والرعاية. وأصبح عمليّا يصرف على أخويه التوأم اللذان إلتحقا بكليّة الهندسة في جامعة بير زيت، ويؤمن لهما كافة أقساطهما الجامعية ومتطلباتهما المعيشية، الى جانب أنهما يسكنان معه في الشقة التي أمّنها له أبو قيس الكريم.

كان أبو قيس متزوّجا من إمرأة جميلة، من السيدة أحلام، التي تعمل طبيبة أسنان، مجتهدة ولطيفة، ومعروفة بشطارتها في مهنتها في المدينة. وهي في الحقيقة إبنه خاله لأبي قيس. هذا الخال الذي يملك شركة ومعرضا فسيحا للمعدّات والأجهزة الكهربائية. ويملك فيلا رحبة في حي المصيون الراقي، تجاورها فيلا أبي قيس.

أبو قيس أحبّ حازم وبدأ يُعامله وكأنه أخاه الصغير. فهو لم يرى منه إلا التفاني في العمل والأمانة والنزاهة والإخلاص والحرص على الشركة وكأنها تخصه أو كأنه يملك أسهما فيها وليس مجرّد مدير للشؤون الإدارية والمالية. وهذا الأمر كان يملؤ أبا قيس بالغبطة والإطمئنان، فقد تضاعفت أرباحه في غضون أربعة أعوام، وأصبح يوزّع معدّاته في كافة المدن الفلسطينية، من رفح حتى جنين. 

كان أبو قيس يرى في حازم ذلك الشاب المتعلّم المهني الطموح. وكان يتوقّع له مستقبلا واعدا ومزدهرا في مجال عمله، وربما في عالم التجارة فيما بعد. لذلك فقد أراد أن يوثّق أواصر المعرفة  والصداقة فيما بينهما، ويحوّلها الى علاقة قرابة ونسب ومصاهرة.

كان للطبيبة أحلام، زوجته وإبنة خالة، شقيقة جميلة مثلها، إسمها سُندس. كانت تدرس اللغة والأدب الإنجليزي في جامعة بير زيت، في السنة الثانية. وقد إرتأى أبو قيس أن حازما هو الشخص المناسب لبناء عُشّ مع سّندس. لجمعهما معا في قفص ذهبي. لضم حازم الى العائلة. زواج بالتوافق، بالعقل، زواج صالونات، كما يُقال. فمعظم الزيجات في ربوع بلادنا تسير على هذه الطريقة، بالرغم من الحياة العصرية التي تلفّ المجتمع. "والحبّ يأتي بعد الزواج"، مع العشرة والتفاهم. 

كان أبو قيس ما فتيء يذكر حازما بالخير أمام خاله وزوجة خاله كلما إلتقوا في إجتماع عائلي، على عشاء أو غداء أو أي مناسبة تسنح ويمكن فيها الحديث عن أمور كثيرة. وكان دائما يدخل من باب أرباح شركته الوفيرة والتي تضاعفت بفعل حسن تصرّف وأمانة "وشطارة" مدير الإدارة الشاب الموهوب حازم. وكان لا يكُفّ ولا يكلّ من الثناء عليه. الى درجة أن خاله وزوجته أصبح لديهما فضول وحب إستطلاع أكيد للتعرّف على الشاب "المعجزة" بحسب وصف أبي قيس له.

في بهو صالون فيلا أبي قيس، يوم الجمعة التالية ليلا، وعلى طاولة العشاء، مترامية الأطراف، التي تُحيط بها "دزينة" من الكراسي الوثيرة الفاخرة، كان يجلس أبو قيس وحرمه الطبيبة أحلام، وخاله وزوجة خاله، والجميلة اليافعة سُندس، والضيف المُبجّل حازم. كان عشاء لطيفا وشهيّا. فقد قدّموا أطباقا مشكلة من السمك المشوي: الدنيس، والسلطان أبراهيم، والكلامار المقلي، وسلطة الجمبري، الى جانب تشكيلة واسعة ووفيرة من السلطات الباردة والساخنة والحارّة. 

ربما أنّ حازم يتعرّف على بعض الأصناف وعلى بعض الصحون التي تُزيّن الطاولة الرحبة لأول مرة في حياته. لم يسبق له شرف التعرّف على سمك السلطان إبراهيم أو على الكلامار أو على الجمبري. ربما قرأ عنها في الكتب والمجلات. أو ربما سمع بها من خلال متابعته الطفيفة للأفلام المصرية، وخاصة هذه المسمّاة بالجمبري. مع أنّه لم يكن متأكدا هل الجمبري نوع من أنواع الأسماك والمحاريّات أم هو نوع من أنواع الفواكه مثل المانجا؟ 

ليس لديه ثقافة أكل السمك، فهم يمتازون في ديرته بأكل المنسف والقدرة، بلحم الخروف أو الجدي. يُبدعون فيها. أما السمك فربما كان لا يدخل بيتهم إلّا نادرا، ربما مرّات لا تتعدّى عدد أصابع اليد الواحدة في السنة كلّها. وأن هناك نوعان فقط من السمك كان يعرفهما: السمك المقطّعة رؤوسه، المجمّد، والسمك المالح، "الفسيخ"، الذي يأتي في براميل خشبية. ويُنقع في الماء على الأقل أربع وعشرين ساعة حتى يخف ملحه ويمكن بعد ذلك قليه وأكله. أما هذا الشيء الغريب الذي إسمه الكلامار، أو السمك "الملولو" أو "الملفلف"، بحسب شكله، حلقات حلقات مقليّة ومغلّفة بالطحين "والتوست" المطحون، فربما لم يكن قد رآه قط في حياته.

الى الصالون الفسيح ذو المقاعد الوثيرة ناصعة البياض إنتقل الجمع لشرب القهوة. على الطاولة أمامهم تشكيلة متنوعة من الفواكه، والمكسّرات، والحلويات العربية والغربية. يحتار المرؤ الى اي صنف سيمدّ يده أولا، وهل سيكون هنالك متّسع من الوقت ومن زوايا المعدة، المتخمة بالأسماك والمحاريّات، كي يتذوّق من بعض منها. "القهوة أوّلا"، فكّر حازم في سرّه، فربما بعد شربها ستمكّنه من إيجاد فسحة صغبرة في ثنايا معدته ليحشو فيها حلوى "الإكلير" الفرنسي، الذي شدّ إنتباهه، والذي تُجيد صنعه الدكتورة أحلام، كونها درست وتخرّجت من كلية طب الأسنان في باريس.

تبادل حازم بعض عبارات المجاملة مع الجميلة سُندس، وكان معظم الحديث القصير والمختصر يدور حول الدراسة في جامعة بير زيت. سُندس لم يكن لديها أدنى فكرة عن سبب تواجد حازم على طاولة عشاء زوج شقيقتها، فكل ما تعرفه عن الموضوع أن هذا الشاب حازم يعمل في شركتة. "نقطة وأوّل السطر". حتى أنّها لم تُعر موضوع تواجد حازم أي إهتمام يُذكر، ففي بيت أبي قيس يقام مثل هكذا ولائم، ويتصادف وجود أناس من خارج العائلة، أصدقاء لأبي قيس، أو أعزّاء يتعامل معهم تجاريا.

بعد أسبوعين، دُعي حازم لشرب القهوة مساءا في بيت خال أبي قيس. كانت الدعوة بمبادرة من أبي قيس نفسه، ورضي بها خاله، من أجل جس نبض سُندس ومعرفة رأيها، مبدئيّا، بالشاب حازم. الفيلا تبدو ضخمة، وكأنه من الممكن وضع فيلا أبي قيس في داخلها بكل سهولة وأريحية، فحجمها يبلغ ضعف حجم فيلا أبي قيس. 

جلس الجميع في الصالون الفسيح. أحضرت أم سُندس الشاي في كاسات جميلة مزخرفة، عليها نقوش بلون الذهب. ربما كانت فعلا منقوشة بماء الذهب وربما فقط لونها ذهبي. بعد قليل تعلّل أبو قيس بأنه سيذهب مع خاله الى مكتب الأخير بجانب الصالون الفسيح، في حين أن أم سُندس رجعت الى المطبخ. وبقي الشابان لوحدهما وجها لوجه في الصالون الفسيح.

كان حازم يشعر بقليل من الإحراج، ولكنه كان على مستوى إدارة حديث لطيف مع سُندس. إنسجما في الحديث وتحدّثا عن الجامعة وعن ظروفها أيّام كان هو طالبا فيها وعن ظروفها هذه الأيام التي تداوم فيها سُندس. وتحدّث كثيرا عن أبي قيس وكرمه ولطفه معه. وخلال الحديث كانت سُندس تشرب شايها بصورة طبيعية. أما حازم فلم يلمس كأس شايه ولم يتذوّقه. لا يدري لماذا؟ هل كان محرجا بعض الشيء؟ هل كان مندمجا تماما في الحديث مع سُندس ولم يجد الوقت كي لا تقطع رشفة شاي الحديث؟ هل نسيه تماما؟

دخلت أم سُندس تتفقّد إذا ما كان الشابان يحتاجان الى أي شيء لتُلبّيه.

- هل تُريد شيئا آخر يا سيّد حازم، سألت الأم بمنتهى اللطافة.

- شكرا، سيّدتي، كل شيء تمام.

- ولكنّك لم تشرب الشاي، لاحظت أم سُندس. أتريد أن أبدّله لك بشاي ساخن؟ 

- لالا، شكرا. أنا أحب أن أشرب الشاي باردا.

علّقت سُندس على الفور قائلة بشيء من الإستغراب وقد "زمّت" شفتيها، ربما بشيء من الإمتعاض:

- غريب. كيف تشرب الشاي باردا. فالشاي لا يُشرب إلا ساخنا؟؟!!

- ربما. أجاب حازم. 

غادر حازم الفيلا الضخمة في حدود الساعة الثامنة ليلا. أفكاره مشوّشه، وشعوره متضارب. لفح النسيم البارد وجهه وهو يمشي وعشرات الأسئلة تحاصر رأسه، بعضها لديه أجوبة فوريّه لها وبعضها الآخر لا يجد لها الأجوبة. ولكنه قرر بصورة حازمة أن يُدير هو المرّة القادمة دفة سفينة حياته "العاطفية" القادمة. وأن سُندس، بالرغم من جمالها، وإصرار أبو قيس عليها، فإنها سوف لن تكون الى جانبه في سفينة أحلامه. فالفستان الأنيق ذو اللون الخمري الذي كانت تلبسه هذه الليلة ربما يُساوي ثمنه نصف راتبه الشهري.

حازم يُريد أن يلبس قميصا على مقاسه، ولا يُريد أن يلبس قميصا أكبر من حجمه. ويُريد "إبنة حلال" من ثوبه، من طينته. يقول المثل الشعبي "من طين بلادك لُط خدادك".

لفحته نسمة أخرى باردة من نسمات ليل رام الله المنعشة. شعر بحيوية أكثر. النسيم يلفح وجنتيه وأنفه. تذكّر أغنية لأم كلثوم يحبها كثيرا يقول مطلعها: "أغار من نسمة الجنوب على مُحيّاك يا حبيبي، وأحسد الشمس في ضحاها وأحسد الشمس في الغروب، وأغبط الطير حين يشدو على ذُرى فرعه الرطيب.....".

حازم يتّخذ قرارا حازما، فالصبية الثالثة، بعد صفاء وسُندس، التي سينتقيها بنفسه ستكون "الثالثة ثابتة". بنت الحلال، التي ستشاركه حياته، رحلة كفاحه، على أن تقبل منذ البداية شرب الشاي البارد، ومن إبريق الشاي الأسود الفاحم، في محجرهم في ضواحي بلدة بيت فجّار، والذي كان قد داوم، أيّام دراسته في سنة التوجيهي، على الشرب منه، وأدمنه، شايا بطعم الدخان.