نظرة في كتاب "الاقتصاد العراقي – الأزمات والتنمية للسيد الدكتور علي خضير مرزا
تاريخ النشر : 2019-04-09
نظرة في كتاب "الاقتصاد العراقي – الأزمات والتنمية للسيد الدكتور علي خضير مرزا


د. كاظم حبيب

نظرة في كتاب "الاقتصاد العراقي – الأزمات والتنمية للسيد الدكتور علي خضير مرزا

الحلقة الخامسة

قراءة في الفصل الخامس: المشهد النفطي 1921-2002، الامتيازات النفطية والإدارة الوطنية

يضع الكاتب الدكتور علي خضير مرزا قراءه وقارئاته في الباب الثالث من الكتاب أمام أربعة فصول مهمة تبحث في اقتصاد النفط العراقي، ابتداءً من اكتشافه والتوقيع على امتياز استثماره واستغلاله ومروراً بقانون 80 لسنة 1961، ومن ثم تأميم مجموعة شركات نفط العراق في عام 1972، وانتهاءً بتراخيص عقود النفط بعد عام 2003. وهي فترة تمتد لأكثر من قرن من السنين العجاف، حيث اقترن اكتشاف واستخراج وتصدير النفط الخام العراقي بسيول من الدم العراقي وبالفقر والحرمان والاستبداد، بدلاً من أن يكون رحمة وعنواناً للخير والتقدم والازدهار والحرية والديمقراطية والسعادة لبنات وأبناء الوطن. وقد "قال أحد ممثلي شركة نفط العراق بتشفي، كلمة تصلح أن تكون عنواناً لمأساة العراق: لقد أريقت دماء غزيرة (في العراق)، ولكن، شكراً للسماء، لم ترق قطرة واحدة من البترول". (أنظر: إبراهيم علاوي، البترول العراقي والتحرر الوطني، دار الطليعة-بيروت، 1967، ص 170، عن الأهرام المصرية 15 أغسطس 1966). إنها المأساة وهي المهزلة في آن واحد، والتي يمكن أن نتبين بعض أهم جوانبها في الفصل الخامس، الذي سيكون موضوع هذه الحلقة، دون أن يخوض الباحث بالتفاصيل السياسية، باعتبارها الرديف المباشر والوجه الثاني لاقتصاد النفط في العراق، إذ تقرأ بين سطور الكتاب ما يساعد على معرفة واقع حال العراق مع نفطه.

ومن المفيد هنا الإشارة إلى أن اقتصاد النفط قد حظي بمئات الكتب الغنية بالمعلومات والتحليلات من قبل كتاب عراقيين وعرب وأجانب تبحث في جوانبه المتلفة، ولاسيما تاريخ وتفاصيل التوقيع على منح الامتياز وما بعده وإلى الوقت الحاضر، وليس سهلاً المرور على جميع من كتب بهذا الصدد، إذ تضم مكتبتي الشخصية الكثير المهم منها. وكانت رسالتي لنيل درجة الماجستير في عام 1964 تعالج موضع اقتصاد النفط في العراق. 

يطرح الكاتب في الفصل الخامس معلومات عن مرحلة اكتشاف وجود النفط الخام في العراق في العهد العثماني، رغم معرفة وجوده من قبل أجدادنا الأوائل من السومريين والأكديين والآشوريين وعموم البابليين واستخدام القير في البناء وإكساء الشوارع، ثم التوقيع على امتياز شركة النفط التركية التي أصبح اسمها فيما بعد "شركة نفط العراق". ويضعنا الكاتب في جو الصراعات والمساومات الدولية بين شركات البترول الاحتكارية ودولها ومع العراق بهدف الحصول على امتياز ممتاز لصالح الشركة والمشاركين فيها في مقابل إلحاق ولاية الموصل بالعراق وسن الدستور العراقي والبدء بمفاوضات حول موقع بريطانيا في العراق عسكرياً وسياسياً واقتصادياً والتي تم التوقيع عليها في معاهدة 1930 والتي مهدت إلى إلغاء الانتداب على العراق عام 1932. لقد تمكن البريطانيون، وكانت لهم اليد الطولى في العراق، على فرض التوقيع على امتياز منح التنقيب واستخراج وتصدير النفط الخام العراقي عام 1925 ولمدة 75 عاماً وبشروط مجحفة في السنة ذاتها التي صدر فيها القانون الأساسي العراقي ووضع الأسس لعلاقة التبعية العراقية لبريطانيا.

لقد هيمن البريطانيون على اقتصاد النفط العراقي وعلى مساحات واسعة من الأراضي العراقية للتنقيب عن البترول لشركة نفط العراق، ومن ثم لأبنتيها، وهما شركة نفط الموصل (1932)، وشركة نفط البصرة (1938)، طيلة الفترة الواقعة بين 1924-1958 تقريباً وعلى حصة الأسد من إيرادات نفط العراق، سواء حين كان طن النفط بأربع شلنات ذهب، أم حين أصبح العراق يحقق 50% من أرباح صادرات النفط منذ العام 1951 -حتى العام 1972، على وفق اتفاقية مناصفة الأرباح الموقعة عام 1952 بأثر رجعي. ودون الدخول بتفاصيل الاختلاف في وجهات النظر والصراعات بين الحكومة العراقية وشركات النفط الاحتكارية، لخص لنا الكاتب مرزا بوضوح مواطن الغبن العديدة التي لحقت بالعراق من جراء تلك الاتفاقيات والفجوة الكبيرة بين إيرادات العراق وأرباح الاحتكارات البترولية الأجنبية من نفط العراق. ولكن هناك غبن أخر ومتنوع لحق بالعراق بصورة غير مباشرة وألحق خسائر فادحة بالعراق وسأحاول بلورة واقع الغبين على التوالي:

** أولى الخسائر المالية التي لحقت بالعراق تجلت في عقد الامتياز والتي برَّزها الدكتور علي مرزا في واقع الإِتاوة الضئيلة التي تدفعها شركات النفط الاحتكارية  لخزينة الدولة عن الطن الواحد من النفط الخام المصدر والبالغة 4 شلنات ذهب، والفضل في تكريس 4 شلنات ذهب يعود لوزير المالية الأول والمواطن العراقي الكبير ساسون حسقيل، أولاً، وفي حرمان العراق من حقه في المساهمة في الامتياز، على وفق ما أقرته اتفاقية سان-ريمو السرية عام 1920 في إيطاليا بحصة 20% من الأسهم. وقد تم تقسيم الحصص بين الشركات الاحتكارية في العام 1928. والخسارة هنا تتجلى في إبعاد العراق عن المشاركة في الأرباح كمساهم بـ 20%، هي نسبة كبيرة وخسارة فادحة.

** الخسارة الثانية برزت في "احتساب سعر النفط المنتج في العراق والموزع على المساهمين في الشركة، بسعر الكلفة وليس بسعر البيع الفعلي" ويوضح الدكتور مرزا الهدف من ذلك بقوله: " وكان الهدف من ذلك هو تجنب إظهار تحقق أرباح في مرحلة استخراج النفط، وبذلك يمكن تجنب إشراك العراق في الأرباح والاقتصار على دفع إتاوة، royalty، له عن كل طن أو برميل منتج." (أنظر: مرزا، الكتاب، ص 107/108)، واعتبرت الإنتاج للمنفعة العامة وليس لتحقيق الأرباح، وهو ضحك مكشوف على ذقون حكام العراق وشعبه!  

** هيمنة شركات النفط الاحتكارية على مدى 36 سنة على مساحات واسعة جداً من الأراضي العراقية لأغراض التنقيب عن البترول واستخراجه وتصديره، والتي لم تسمح للعراق بمنحها لشركات أخرى، في حين لم تقم تلك الشركات النفطية الثلاث، العراق والبصرة والموصل، بالتنقيب فيها للعثور على النفط واستخراجه وتصديره ة، حيث ظهر إنها لم تستثمر سوى 0,5 % من مجموع الأراضي التي كانت بحوزتها، وأن حقولها كانت في هذا النصف بالمئة من أراضي العراق. (أنظر: إبراهيم علاوي، البترول العراقي والتحرر الوطني، مصدر سابق، ص 206).     

** الخسارة الصارخة في علاقات العراق النفطية مع شركة نفط العراق وبناتها، تبرز في الاختلاف الكبير بين شروط امتياز النفط العراقي وشروط امتياز نفوط دول أخرى في غير صالح العراق، كما هو الحال مع السعودية أو مع ليبيا. أو مع فنزويلا. (أنظر: مرزا، الكتاب، ص 110).   

** كما يمكن أن نتابع في الكتاب خسارة العراق لما أطلق عليه بريع التنفيق إلى أن تقرر استحصاله من شركات النفط الاحتكارية بعد اتفاقية المناصفة في الأرباح ويشير الدكتور علي مرزا بصواب إلى هذه النقطة بقوله:

".. إن اتفاقية المناصفة في 1952 لم تشمل، بشكل منفصل، حقاً للدولة ينبع من ملكيتها للمورد الطبيعي وهو الإِتاوة/الريع بل دمجها في حصة الدولة من الأرباح. في حين يحق للدولة فرض إتاوة على كمية الإنتاج، داخل حدودها القانونية، وتستطيع استلامها عيناً أو نقداً، مقيمة بالأسعار السائدة. بغض النظر عن حالة الربح أو الخسارة." لقد بلغت نسبة الريع 12،5%، وبالتالي ازدادت إيرادات العراق بنسبة 6,25% عما كانت تتسلمه قبل التوقيع على هذا الاتفاق الذي وقع في العام 1964.        

أما الغبن غير المباشر فيبرز في أربع ملاحظات مهمة:

1.     إن قلة إيرادات العراق من النفط الخام المصدر قبل المناصفة في الأرباح حتى بعدها قد حرم خزينة العراق من مبالغ طائلة كان في مقدورها أن تحسن من معدل حصة الفرد الواحد من الدخل القومي، لاسيما وأن الاقتصاد العراقي كان اقتصاداً متخلفاً بحاجة إلى المزيد من الأموال.

2.     تلك الموارد المصادرة بفعل الامتياز المجحف، والتي دخلت في حساب أرباح شركات النفط الاحتكارية، كان المفترض أن تستخدم في عملية البناء والتعمير وإقامة الصناعة الوطنية أو تحديث الزراعة، والتي حرم منها العراق وساهمت في أعاقت تطوره، إلى جانب واقع أن شركات النفط الاحتكارية كانت تعرقل، عبر تأثيرها المباشر على الدولة وسلطاتها الثلاث، بكل السبل مطالبة الشعب العراقي بالتنمية والتصنيع وتطوير الخدمات العامة.

3.     ولكن لهذه الخسائر المالية تأثير سلبي آخر برز في عجز الدولة عن توفير فرص عمل جديدة للأيدي العاملة العاطلة عن العمل، إذ كان عدد العاطلين يتراكم وينمو سنة بعد أخرى.

4.     إن هذه الأموال الافتراضية المصادرة من حصة العراق لو كانت قد وظفت فعلاً لحققت تراكماً رأسمالياً مناسباً وزادت من ثروة العراق ومن دخله السنوي، وربما كان يعود بالفائدة على الشعب العراقي، رغم إن العراق كان يردد أهزوجة معروفة (هوسة) تقول: "خمسة بالمية من الربح ما طاحت بدينة"، أي لم يحصل الشعب حتى على 5% من أرباح شركات النفط العراقية.          

رغم كل ذلك فأن نضال الشعب العراقي في اعقاب الحرب العالمية الثانية ونضال شعوب المنطقة قد أجبر شركات النفط الاحتكارية على إعادة النظر باتفاقياتها النفطية، والتي انتهت بتوقيع العراق على اتفاقية المناصفة في الأرباح مع شركات النفط الاحتكارية في عام 1952. وهي التي سمحت زيادة إيرادات العراق النفطية والبدء بعملية بناء وإعمار ومشاركة نشطة نسبياً للدولة، عبر مجلس ووزارة الإعمار والمصرف الصناعي في إقامة مجموعة من المشاريع الصناعية وتقديم القروض للفلاحين من خلال المصرف الزراعي، وتنشيط جملة من الخدمات العامة ومنها الصحية والتعليم. ولكنها كانت في الوقت ذاته البداية الفعلية لتحول العراق إلى دولة ريعية نفطية، بعد أن كان ريعياً زراعياً، إذ لم تسعى الدولة إلى وضع سياسة اقتصادية تهدف إلى خلق توازن وتناسب عقلاني تدريجي بين اقتصاد النفط والاقتصاد الإنتاجي الصناعي والزراعي في البلاد وفي تكوين الدخل القومي.

لقد اتخذ العهد الجمهوري الأول خطوات جريئة حين أقدم على ثلاث إجراءات مهمة هي: إصدار قانون رقم 80 لسنة 1961، الذي استعاد 99،5% من مجموع المساحات التي كانت ممنوحة لشركات النفط الاحتكارية العاملة في العراق، رغم إن هذا القانون لم يقلص من قدرة الشركات على استخدام أبار النفط التي كانت تقع ضمن ال 0,5% من الأراضي التي بقيت تحت هيمنتها. والخطوة الثانية كانت الدعوة وإقامة منظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك عام 1960)، والتي أصبحت في فترات معينة شوكة ناغزة في عيون شركات النفط الاحتكارية، والخطوة الثالثة حين تم تأسيس شركة النفط الوطنية. وهذه الخطوات المهمة، وقبل ذاك الخروج من حلف بغداد ومن منطقة الإسترليني، والدخول بمفاوضات مع شركات النفط الاحتكارية حول إعادة النظر بالامتياز وحقوق العراق، أدت كلها إلى تفاقم التوتر مع الشركات والدول الرأسمالية الكبرى التي تسندها من جهة، ومع القوى المناهضة لنهج الجمهورية الأولى بإجراءاتها المهمة كالإصلاح الزراعي وقانون الأحوال الشخصية والموقف من المرأة والدعوة لاستعادة الكويت كجزء من العراق والمعارك ضد حركة التحرر الكردية، من جهة أخرى، كما لم تقابلها إجراءات تدعم الجبهة الداخلية وتعزز القدرة على مواجهة التآمر ضد حكومة قاسم، ثم أدت إلى حصول انقلاب 8 شباط 1963 والإطاحة بجمهورية 14 تموز 1958.

ومن المحطات المهمة في اقتصاد النفط العراقي، والتي يبحث فيها الكتاب، صدور قانون تأميم مصالح شركات نفط العراق والموصل والبصرة في العراق في عام 1972، والذي اقترن بأحداث سياسية مهمة في منطقة الشرق الأوسط أدت في حينها إلى حصول فورة في أسعار النفط الخام وزيادة في الإنتاج والتصدير وارتفاع كبير في إيرادات النفط الخام العراقي المصدر. وكان في مقدور العراق بعد إجراءات التأميم أن يتحول تدريجياً إلى دولة صناعية وزراعية متقدمة لو كان نظام الحكم البعثي قد مارس سياسات واقعية وعقلانية وذات منحى ديمقراطي ونهج اقتصادي واجتماعي واقعي وحكيم. إلا إن إيرادات النفط الخام الكبيرة قد تساقطت كزخات مطر شديدة على رؤوس قادة النظام البعثي فأعمت بصرهم وبصيرتهم في آن، إضافة إلى طبيعة حزب البعث القومية الشوفينية واليمينية ونهجه الانفرادي المناهض لبقية القوى السياسية العراقية. ومع إن نظام البعث قد حاول انتهاج سياسة صناعية وزراعية جديدة، ولكنه سقط في مجموعة من المطبات الثقيلة والمدمرة، منها بشكل خاص:

1.                 النهج الاستبدادي والرغبة في الانفراد بالسلطة والمال ومصادرة الحريات والحقوق الأساسية للشعب والتحول تدريجياً إلى دولة دكتاتورية شمولية وفردية مطلقة. وقد تكرس هذا النهج الانفرادي في المؤتمر القطري الثامن لحزب العربي الاشتراكي في بغداد عام 1974 أولاً، وفي الممارسة الفعلية لإرهاب الدولة البعثية ابتداءً من منتصف عام 1977 واستمراراً في تصفية التحالف مع الحزب الشيوعي العراقي واعتقال ما يقرب من 100 ألف إنسان بين عامي 1978-1981 ومحاولة إسقاطهم سياسياً وسجنهم وقتل جمهرة منهم، ثم المجزرة التي نظمها صدام حسين ضد مجموعة كبيرة من قادة وكوادر في حزبه وسلطة البعث في عام 1979 وقبل تسلمه السلطة المطلقة من احمد حسن البكر، وتحضيره لممارسة ما كان يسعى إليه منذ البدء/ بما في ذلك تصفية الحلفاء والمعارضين والخصوم.

2.                  النهج القومي الشوفيني والتطلع لدولة عراقية كبرى تلتحق بها تدريجياً الدول العربية الأخرى، أي سياسة توسعية على حساب الدول العربية ومركزها العراق، والتطلع ليكون العراق دولة إقليمية عسكرية كبرى.  

3.                  التوجه صوب تحويل العراق إلى ترسانة ضخمة للسلاح الدفاعي والهجومي من خلال استيراد أحدث الأسلحة ومن جميع الدول المنتجة للسلاح، وإقامة صناعة عسكرية متقدمة بدعم مباشر من كل الدول المنتجة للسلاح، الغربية منها والشرقية، وكذلك السعي لإنتاج السلاح الكيماوي والبيولوجي والنووي. إضافة إلى التوسع في عديد القوات المسلحة العراقية وأجهزة الأمن المتعددة والشرطة.. الخ.

4.                 وقد شاركت دول العالم المنتجة والمصدرة للسلاح، سواء أكانت من المعسكر الرأسمالي أم المعسكر الاشتراكي السابق، في دعم النظام العراق وتشجيعه وتأييد سياساته العامة، إذ إنها كانت تطمح وبكل السبل في الحصول على جزء مهم من موارد النفط المالية، وكانت تتسابق في بيعه السلاح أو في الحصول على مشاريع تقيمها في البلاد وبأسعار خيالية غير خاضعة للمعايير الدولية.

5.                  وخلال فترة قصيرة تحول العراق إلى دولة عسكرية توسعية يريد قادتها البرهنة على قدراتهم العسكرية وتحت شعار "الحقوق لا تمنح بل تنتزع!". فاستغلوا المحاولات الإيرانية بعد عام 1979 التدخل في الشأن العراقي ودعم التفجيرات التي اعتمدها حزب الدعوة الإسلامية في العراق، ليخوضوا حرباً ضد إيران دامت ثماني سنوات عجاف ومدمرة.

6.                 وعلى الصعيد الاقتصادي اتخذ المؤتمر القطري الثامن نهج التنمية الانفجارية، والذي كان أحد الأسباب المباشرة في التفريط بأموال هائلة لإقامة مشاريع بذخية والتوسع الأفقي بعيداً عن التخطيط العقلاني وبما يحتاجه العراق فعلاً. ولهذه الغاية استورد العراق أعداداً كبيرة من الأيدي العاملة الأجنبية ولاسيما من مصر، وأقيمت العديد من المصانع المهمة في السبعينيات من القرن العشرين ومنها البتروكيماويات في البصرة على سبيل المثال لا الحصر.

وخلال فترة الحرب العراقية-الإيرانية، في عام 1987، أقدم النظام على حل شركة النفط الوطنية ودمجها بوزارة النفط وتقسيم نشاطها إلى ثلاث شركات عامة، في الوسط والجنوب والشمال، بسب تراجع القدرة المالية التي استنزفتها الحرب العراقية الإيرانية، كما يشير إلى ذلك الدكتور علي مرزا في كتابه على الصفحة 123. رغم الخسائر البشرية والمادية التي تحملها العراق في الحرب مع إيران، فقد خرج من الحرب غير خاسر لها، بل حقق نصراً على إيران الخميني حين أجبر الخميني على القول بأنه يتجرع السم حين يوقع على إيقاف القتال وتراجعت أحلامه التوسعية. ولكن هل لطموحات وأطماع صدام حسين حدود، وهل للصراعات بين دول الخليج وتأثير الولايات المتحدة عليها حدود، ولاسيما في الخلاص من الغريمين إيران والعراق، فكان استفزاز الكويت بمطالبتها بتسديد الديون فوراً والموقف من زيادة تصدير نفطها.. إلخ، سبباً لغزو الكويت. فقد أدت، تلك السياسات والرغبة الجامحة في التوسع والعنجهية السياسية الصدامية، إلى اجتياح القوات المسلحة العراقية للكويت واحتلاله على طريقة الغزو القبائلي العدواني والإمعان في إهانة الشعب الشقيق، والتي انتهت إلى حرب الخليج الثانية التي أذلت العراق وشعبه وقواته المسلحة، وإلى فرض الحصار الاقتصادي الدولي وتجويع المجتمع استمر طيلة 13 عاماً أدى إلى مآسي وكوارث كثيرة بما فيها وفيات بعشرات الآلاف من الأطفال والعجزة وكبار السن والمرضى. ثم كانت الحرب الخليجية الثالثة التي أدت إلى الإطاحة بنظام الحكم الدكتاتوري البعثي. لقد دمًّرت سياسات البعث العسكرية والتوسعية وحروبه الداخلية والخارجية الكثير جداً مما بني في العراق من منشآت صناعية وهياكل ارتكازية ومنشآت اجتماعية. وكانت خسارة فادحة لشعب العراق. 

ووفي ختام هذه الحلقة أود أن أشير إلى ملاحظة شخصية تتلخص في وضوح موقفي من اتجاهات تطور تلك الفترة حين التقيت بصدام حسين في المؤتمر الزراعي ببغداد وناقشته من على منصة المؤتمر، حيث كنت أترأس تلك الجلسة بشأن الأوضاع الاقتصادية في العراق وفشل سياسات التخطيط والتسعير للسلع، في عام 1976، ثم تركت المنصة وجلست بجواره وتحدثت معه طوال ساعة ونصف الساعة عن أوضاع العراق السياسية والاقتصادية والاجتماعية، كما استمعت لوجهة نظره وخرجت من اللقاء المنقول عبر شاشة التلفزة بانطباع واضح هو إن حزب البعث يسير في "درب الصد ما رد"، وأن عواقب ذلك ستكون وخيمة، وقد بلغت قيادة الحزب الشيوعي العراقي برأيي، ثم سجلت ذلك تفصيلاً في التقرير الذي أعدته اللجنة الاقتصادية للحزب الشيوعي العراقي، وكنت مسؤولها، في منتصف عام 1977 وقدم إلى اللجنة المركزية ومكتبها السياسي بشأن التدهور المتسارع في نهج وسياسات حزب البعث، والرؤية القاتمة لما يمكن أن يؤول إليه الوضع في العراق.   

انتهت الحلقة الخامسة وستليها الحلقة السادسة حول النفط العراق خلال الفترة بين 2003-2018.  

كاظم حبيب

03/04/2019