كَـلـبٌ طائرٌ بقلم : صلاح بوزيّان
تاريخ النشر : 2019-03-25
كَـلـبٌ طائرٌ بقلم : صلاح بوزيّان


كَـلـبٌ طائرٌ

قصّة قصيرة بقلم  الكاتب الأستاذ صلاح بوزيّان / تونس

أنا امرأة بي حملٌ و لا أقوى على الشّدائد ، أسكنُ المدينة العتيقة ، وزوجي يعملُ بالبريد ، بيتنا واسع يقع قرب بيت عبد السّلام الأسمر ، وكنّا من قبل أمضينا السنوات الطويلة في دهليز تحت الأرض ، دهليز بارد ، هواؤه رطب عانينا فيه من الروماتيزم و أوجاع العظام ، وصبرنا ، وها أنّنا استرددنا بيتنا و شفينا من تلك الآلام ، ولكن تكدّرت فرحتنا  فقدّ أزعجنا كلبٌ أفرطَ في النُّباح ، ينبحُ وينبحُ  ويتخيّرُ الأوقات ، و يظهر ويختفي كما يحلو له ، على غير عادة الكلاب . ويتقنُ التّواري ، ويُمعنُ في الإزعاج و يُخاتلُ ، أشياء كثيرة يفعلها الكلب تثيرُ الشكّ ، كنّا ننتبه للبعض منها و ننسى الكثير . تعبت أعصابنا ، وإنّها لأمور يذوب لها الحديد الصّلب . وكنتُ أتغدّى عند حبيبتي فاطمة زوجة جارنا ابن الخطّاب  فقالت :{ ذُعِرَ زوجي مرّة لمّا سمع الكلب يغنّي و ينبح ، تعقّبه فلم يظفر به ، وتحيّرَ أياما وليالي ، وكان يقول لي : أمر الكلب عجبٌ عجيبٌ } . وكنّا نحن أهل المدينة كلّما هممنا بالبحث عنه وملاحقته كفّ عن النّباح ، خبيث ينبح و يكفّ . إنّه أعمى تأكّدنا من ذلك لأنّ نباحه يصدر من نفس المكان ، عواء في السّحر ، وعواء في مواقيت أخرى أخْرَبَ راحتنا ، وكان لا ينبح عند مرور الأطفال إلى المدرسة ، وعند رفع آذان الصّلوات ، كان رجال المدينة يرقبون ذلك . وكان النُباح مبحوحا يصدر من بين شقوق جدار بيت قديم أهله غُيَّبٌ . ومن ألطاف الله أنّه كلب وحيد و أعمى ، هكذا خُيِّلَ إلينا . ولكن ما الذي جاء به إلى مدينتنا على حين غفلة ؟ . مدينتا جميلة يستطاب فيها العيش ، هواء نقيٌّ و ماءٌ عذبٌ ، و تحلّقت حولها بساتين التّين و الزيتون والخوخ والتّفاح و العنب والمشمش و النّخل الباسقات . كانت القططُ مستنفرة قد فرّت من الكلب النّابح ، و هجرت المدينة . فاستضعفتنا الفئران وبدأت تكيدُ لنا ، وتفتك بأكياس القمح والشعير و تعبثُ بالمخازن ، وتُفسدُ نعمة العيش ، ولكن تعثّرَ مشروعها ، وماتت في طوفان لطيف أصاب المدينة . فاسترحنا من الفئران . وصبرنا أيّاما طويلة وصبر أولو العزم من الرّجال ، و لمّا أصبحنَا ذات يوم ، سقطَ الجدار ، طاف عليه طائف من الله ونحن نائمون ، ولا ندري كيف ومتى ، ولكن مات الكلب و مات معه نُباحه الغريب ، اندهشنا ، ولفت انتباهنا غيابُ إسحاق الطّحان عنّا ساعتها ، وقد كان مرتبكا كلّما تحدّث رجال المدينة في الكلب ، وكان يختلق الأعذار للنّابح كأنّ بينهما قرابة . ولكنّ جارتنا زبيدة القوّامة الصّوامة روت حكاية فقالت: { لمحتُ من سطح بيتي جسما طائرا يشبه الطّائرة حطّ على الجدار وتدلّى حبلُ فتعلّق به الكلبُ ، وصعد إلى الطّائر ، انفتح باب و ما إن دخل  في الجسم حتّى تحوّل الكلب إلى آدميّ بشع ، و سمعتُ لغطا ، انغلق الباب ، ثمّ بدأ الجسم الطّائر يكبر شيئا فشيا و أصبح طائرة ، الطّائرة لا تحدث أزيزا كأنّها بلا محرّك ، ذعرتُ و أرعبني المشهد ، حاولتُ أن أصرخ ولكن هيهات ، عَلَتْ الطّائرة و فرّتْ ، وإنّني صادفتُ دهرا كثير الأعاجيب ولم أر مثل تلك العجيبة } . تفرّق الجمعُ وعدنا إلى بيوتنا والغيظ يلفعنا ، وغرقتُ في إعداد العُدّة للولادة .  .