سعدون جابر و الحب الموسيقي بقلم:وجيه ندى
تاريخ النشر : 2019-03-24
سعدون جابر و الحب الموسيقي بقلم:وجيه ندى


سعدون جابر والحب الموسيقى

وجيــه نــدى بحار كل الفنون و المطرب سعدون جابر - منذ بدأ احترافه للغناء في أوائل السبعينيات كيف يختار الاتجاه الذي ينطلق منه صوته الدافئ المعبر ليقدم لونا مختلفا في أرض مشبعة بحب لون خاص من الغناء هو فين المقام، وفن المقام العراقي هو غناء عربي متميز القسمات له بنائه الغمي والإيقاعي، وأسلوبه المختلف في الغناء، وهو فن عريق في القطر العربي الشقيق تعود أصوله إلى أيام كانت بغداد حاضرة الدولة العربية الإسلامية. فهو فن يعبر عن اهتمام الحضارة العربية الإسلامية بإبداعات الحضارات القديمة الأخري التي تفاعلت معها حضارتنا العربية وأعطت لفنونها وثقافاتها وفلسفتها عمق التأثير وأمد البقاء.
وضحت موهبة سعدون جابر الصوتية وهو لم يزل طالبا في المدرسة الثانوية، حيث كانت الهواية هي هدفه، وهي أيضا لم تزل محور نظرته إلى الغناء على الرغم من احترافه له.
نشأ المطرب الشاب وفي الأسماع غناء عربي يصل إلى الوجدان، بعضه من العراق وبعضه الآخر من وطنه العربي خارج العراق.. وقد تعلق المطرب الشاب بفنون الموسيقى والغناء، حتى وهو يتلقي علومه الدراسية لكي يصبح معلما في مدارس بغداد ثم ليواصل دراسته الجامعية مهتما بدراسة الأدب الإنجليزي.
واستوعب سعدون جابر فنون الغناء التي يعيش معها.. تعرف على الغناء العربي العراقي، بداية من فن المقام وحتى الفنون الغنائية الشعبية التي تسمى حينا الغناء الريفي، وحينا آخر الغناء البدوى، ولاحظ كيف تبدو علاقات التأثير والتأثر بين هذه الألوان قديمها وحديثها.
وممن استمعوا إليه وأثنوا على غنائه عرف المطرب الشاب أنه يمتلك صوتا جميلا، معبرا، له مساحات عريضة تجعل من الغناء الصادر عن حنجرته، إضافة للغناء القادر والمتمكن الذي سبقه والذى عشقه سعدون جابر، وهو غناء ناظم الغزالي الذي تجاوز حدود بلاد ما بين النهرين إلى التأثير على كل من استمع إليه وعشقه من سمعيه الغناء العربي.
لقد نبغ ناظم الغزالي في غناء المقام العرافي مثلما نبغ، أيضا يوسف عمر وقبلهما محمد القبانجي الذي كان أول مطرب عربي من العراق يسجل في العاصمة الألمانية برلين، غنائيات المقام العراقي على اسطوانات في أواخر العشرينيات من القرن الحالي.
ومع عشقه للغناء العربي في العراق عرف سعدون جابر كيف يتأثر وكيف يستوعب تجارب الغناء العربي خارج العراق، فتعلق بغناء عبد الحليم حافظ وبطريقة الغناء المميز الذي صاغ معالمه كمال الطويل ومحمد الموجي ومن بعدها عبد الوهاب ومنير مراد وبليغ حمدي، وأحب سعدون جابر أداء عبد الحليم حافظ.. وبالدرجة نفسها، أنبهر بقدرات وديع الصافي وملكاته في الأداء الغنائي.
بعد سنوات قليلة من نجاحه وتعرف الناس إلى صوته في العراق وبعض بلاد المشرق العربي جاء المطرب سعدون جابر إلي مصر ليشارك في احتفالات عيد ميلاد إذاعة صوت العرب التي أقيمت في يوليو "تموز" من عام 1976. وقد الحظ المستمع هذا البريق البادي في هذا الصوت الآتي من عاصمة الرشيد، وهو يغني واحدة من أغنياته الجميلة وهي أغنية "عيني.. عيني".
لقد قدم سعدون جابر في حفل صوت العرب باقة من أغنياته الجميلة التي وضع ألحانها اثنان من مشاهير ملحني العراق هما القراغولي وكوكب حمزة، وشارك في وضع كلماتها شعراء الأغنية في بلاد النهرين، ومن هؤلاء عبد الجبار القرى وزهير البرجيلي.
ومع نجاح سعدون جابر في زيارته الصيفية لمصر، كان اللقاء الذي جري له مع الموسيقار بليغ حمدي الذي أعجب بملامح صوته الذي تميزه نبرة رجولية فيها وضوح القرار، مثلما القدرة على الصعود إلى الجواب.
أذكر في أواخر السبعينيات أنني سألت المرحوم الفنان بليغ حمدي عن انفعاله بصوت سعدون جابر وتحلينه له بضع أغنيات، قال لي مجيبا: إن صوت سعدون جابر يميزه تفرده، واختلافه عن أصوات الرجال ممن ظهروا في زمن العندليب عبد الحليم حافظ، وعلى الرغم من الحب الكبير الذي يكنه سعدون جابر لغناء العندليب فإنه استوعب قدراته وأستاذيته في الغناء الحساس بيد أنه لم يقلدون يتأثر تأثيرا كربونيا مثلما كان الحال مع معظم الأصوات التي ظهرت في السبعينيات في ظل سطوع شمس عبد الحليم حافظ الغنائية.
لقد بدأ اتجاه سعدون جابر إلى احتراف الغناء في الفترة نفسها التي ظهر فيها المطرب هاني شاكر شديد التأثير بطريقة عبد الحليم حافظ في الأداء، ومن بعده أصوات أخرى تأثرت بنسب أخرى متفاوتة مثل محمد ثروت وعماد عبد الحليم ومدحت صالح "مصر" ووليد توفيق "لبنان" ومحمد رشيد "ليبيا" ومحمد الحيانى "المغرب" وعلى الرغم من أثر طريقة عبد الحليم حافظ في الأداء ووضوح علاقات التأثير بغنائه في أصوات غالبية أبناء الجيل الذي جاء بعده، وبدأ ظهوره والعندليب لم يزل على قيد الحياة، فإن المطرب سعدون جابر اختار لغنائه أسلوبا مغايرا يعبر عن شخصيته الفنية المستقلة وغنائه الصادر عن أحاسيسه الخاصة، والذى لم تتضح فيه، إلا في حدود العفوية والتلقائية. علامات التأثر بأصحاب العلامات البارزة من نجوم الطرب والغناء ممن انفعل بهم وأحبهم، وتعلق بالغناء خلال استيعاب تجاربهم، وفي مقدمة هذه الأسماء العندليب الراحل عبد الحليم حافظ وأستاذ غناء المقام العراقي ناظم الغزالي ومطرب الفطرة الرائعة قوي الصوت وديع الصافي، وحلو الغناء جميل النبرات صاحب الحنجرة الذهبية المطرب محمد قنديل.
إن استماعنا لغنائيات سعدون جابر عبر متابعته في تسجيلاته الإذاعية والتلفزيونية ثم خلال ملاحظة غنائه وهو يشارك في الحفلات العامة مثلما كانت مشاركته في حفل عيد ميلاد صوت العرب وفي احتفالات أعياد العبور ونصر حرب رمضان "أكتوبر ـ تشرين" تعرفنا في هذه القراءة لصوته الشجعي والمعبر أنه يمتلك صوتا قادراً على الانتقال في غنائه لمعظم المقامات، بجانب قدرته على الاستيعاب الكامل لجماليات اللحن والمضمون الذي يتغني به، وخلال قدرات السيطرة على الإيقاع، والواضحة في إمتلاكه لأذن موسيقية مرهفة تبتعد به عما يقع فيه غيره من نشاز.
لقد استطاع سعدون جابر أن يحقق لصوته ولغنائه هذا المستوى خلال حرصه على الثقافة العامة والثقافة الخاصة، فالمعني من دون فهم لخصوصيات الموسيقى والغناء لا يستطيع التعامل الصحيح مع أصول الغناء والأداء، والمغني من دون الثقافة العامة لا يستطيع أن يختار الكلمات المناسبة التي يتغني بها ولها ولينفعل بها وينقل إنفعاله إلى مستمعيه عملا بالمقولة التي ترى أن ما يصدر عن القلب يصل إلى القلب ويبقى في الوجدان.
لقد أعانت الموهبة المصحوبة بالثقافة المطرب سعدون جابر على أن يختار لنفسه موقفاً متميزاً في خريطة الغناء العراقي الحديث، والذي بدأ مع حرصه الواضح على فهم رموز التراث الغنائي العربي، وصقله لموهبته بالمران والدراسة.
ولقد جاء غناء سعدون جابر امتداد لأصوات أخري شهيرة معروفة على خريطة الغناء العراقي، وبعضها أيضا يتجاوز حدود القطرية إلى حدود القومية التي تمتد بالاستماع إلى الغناء العربي في كل أرجاء الوطن العربي من الخليج العربي إلى المحيط الأطلسي.
جاء بعد غناء كل من ناظم الغزالي ومحمد القبانجي ويوسف عمر ومحمد الفقانشي من الرجال وسليمة باشا "أو المطربة سليمة مراد" ومائدة نزهة وأنصاف منير وأحلام وهبي وستياها مونياك وأنوار عبد الملك من الأصوات النسائية، وجاء من بعده المطرب كاظم الساهر الذي حقق شهرة عربية فاقت شهرة النجم الذي سبقه إلى الصعود الغنائي وربما لوقفه شعر نزار قباني بجوار ألحانه التي تبدو عادية ومألوفة وعاجزة عن الخروج عن النمطية السائدة، وربما بسبب شحنة الإحساس العالية التي تتملكه وربما لأنه وجد أيضا قوى إنتاجية تدفعه وتستثمر ألم الإنسان العربي تجاه الشأن العراقي الذي تبدو نبرته في حنجرة الساهر.
اختلف اللون الذي تميز به سعدون جابر بالميل إلى الأغنية العصرية القصيرة والأغنية التعبيرية، من دون الاغتراب عن النغم العربي الشرقي الذي يميل إلى أغنيات التطريب، وعلى غرار عشق المستمع للمقام العراقي الذي يتميز فئة بإعطاء الأصوات القادرة فرصتها في الغناء المتمكن عبر هذه الألوان الرصينة، والتى تسمح لصاحب الصوت القادر بأن يصول ويجول بغنائه لهذا المقام، عبر طبقات عديدة تتعدد فيها الجوابات، وهذا اللون من الغناء يناسب أصوات الرجال حيث يتمكن الصوت القوي من الأغاني الصوتية وأ]ضا مناطق يتوافر لديها الجواب وجواب الجواب ولا يتوافر لديها وبالقدرة نفسها الغناء من القرار ولهذا يندر غناء المقرأة للمقام، بينما يكثر فيه تفوق أصوات الرجال وعلى نحو ما نلحظه في تسجيلات محمد القبانجي وناظم الغزالي ويوسف عمر وحامد السعدي وغيرهم.
ومن يتأمل مضمون الأغنيات العاطفية والصوفية والشعبية والوطنية التي يغنيها المطرب سعدون جابر يشعر بما يحرك مشاعر هذا المطرب في اختياراته لمضمون كلمات أعماله الغنائية والتى تفسر وجهة نظره في الاختيار فهي تري أن الفنان المصادف يجب أن يكون مرآة عاكسة لطموحات وأحلام ومعنويات أبناء المجتمع الذي ينتمي إليه.
ومن يقارن أغنيات سعدون جابر بأغنيات من سبقوه من رواد الغناء في العراق، يلحظ أن ألوان الغناء الحزينة كانت تغلب على الكم الأكبر من أعمال هؤلاء المطربين والمطربات، غير أن اهتمامات سعدون جابر خرجت به عن هذا النطاق للمعاني التي تتناول في الغالب معاني الهجر والفراق والبعاد والسهاد والعذاب، وما إلى ذلك من ألوان الغناء الرومانسي الذي يغلب عليه الحزن وعلى حساب ألوان التعبير الأخري.
إن مساحة الإعجاب بغناء سعدون جابر يمكن أن تزداد في نطاق وطنه العربي لو ابتعدت بعض الشيء عن الاستغراق في الغناء بالعامية العراقية صعبة الاستيعاب عند عشاق الغناء في وطنه العربي، وحيث اختيار المفردات المحلية الأقرب إلى الفصحي، واللغة الأم التي تجمع أبناء الوطن العربي، من الحلو الناجحة.
إن مساحة الإعجاب بفن سعدون جابر يمكن أن تزداد أيضا لو أعطته السينما الغنائية بعض الالتفاف الذي تحقق لغيره من مطربي جيله ومطربي الأجيال السابقة عليه، إلى جانب أن سعدون جابر يتمتع بصوت قادر، عريض المساحة يصلح للمسرح الغنائي الذي لم يستفد من قدراته على الاشتراك في أعمال مسرحية غنائية، والسبب حال الانكماش التي يعاني منه فن الأوبريت ويشكو منها عالم المسرح الغنائي في وطننا العربي.
إن في موهبة المطرب سعدون جابر، وفي شخصيته الفنية، وفي ثقافته العامة ما يؤهله لمكانة أكبر من التي يشغلها الآن على خريطة الغناء العربي، والتى مازال بعيدا عنها لأسباب بعضها يعود إليه وبعضها الآخر يعود لظروف كساد الغناء الجيد في عالم الغناء في الآونة الأخيرة والذي يشكو من صخب الأصوات الرديئة وانتشار الألوان الفاقعة الساذجة من غناء يختلط فيه الاستماع بالأرجل من الاستماع بالأذن، وفي وقت أصبحنا نشكو فيه من هذا التلوث الصوتى الذي يضيف هما جديدا لمثالب تلوث البيئة.
فهل تجد الأصوات الجميلة القادرة فرصتها في الصمود أمام تلك الموجات الهابطة والصارخة الزاعقة؟ سؤال نتمنى لو جاءت مقدمات جديدة تجيب عليه بنتائج ننتظرها وينتظرها معنا عشاق النغم العربي في نغمته الصحيحة شبه المفقودة – وفقه الله فى استكمال مسيرته الفنيه بحار كل الفنون وجيــه نــدى .