رزان حاضرة في وجدان فلسطين والإنسانية بقلم: صابرين جمعة النجار
تاريخ النشر : 2019-03-21
رزان حاضرة في وجدان فلسطين والإنسانية

بقلم: صابرين جمعة النجار، والدة الشهيدة المسعفة رزان النجار

إن لهذا العام طعمٌ مرٌ كالعلقم، فأية حياة تلك التي لا تتراءى فيها رزان أمام ناظري وهي تفاجئني كعادتها في يوم الأم من كل عام، وهي تحمل هدية تخفيها خلف ظهرها، وتقبّلني وتغني لي "ست الحبايب يا حبيبة". لقد ملأ غيابها المكان والزمان، واستوطن حضور أعمالها قلوبنا وعقولنا. هي مشاعر الأم اليوم الممزوجة بالحزن والأسى من جهة، وبين العزيمة والاصرار على إكمال مسيرتها في العمل الإنساني والوطني من جهة أخرى.

رزان شابة مفعمةٌ بالحياة والأمل والعطاء لأهلها وأبناء شعبها. كانت تحلم بالعودة الى يافا، مسقط رأسنا في قرية سلمة التي طُردنا منها قسراً خلال النكبة عام 1948، وأن يصبح حلم الدولة الفلسطينية المستقلة ذات السيادة واقعاً يتحقق. لقد شكلت عماد منزلنا وقدوة لأخوتها وأخواتها الخمسة.  

خلال عشرين عاماً هو عمرها، لم تعرف ابنتي سوى حدود قطاع غزة فضاءً وحيداً لعالمها الصغير الذي حاصره الاحتلال، ولم تشهد خلالها سوى ثلاثة حروب متتالية إسرائيلية على القطاع حصدت آلاف الشهداء والجرحى. لكن ذلك لم يثبط من عزيمة رزان، بل حفّزها للإلتحاق بالعمل الإنساني والتطوعي، ورسّخ من إيمانها بخدمة وطنها وشعبها، فعشقت مهنة الطب وطمحت للعمل بها للوصول إلى جميع المرضى والمصابين وتقديم العلاج لهم دون مقابل مادي. لكن الوضع الاقتصادي السيء لأسرتي بسبب الحصار الإسرائيلي الظالم، وكون زوجي عاطل عن العمل، حرم إبنتي من مواصلة تعليمها بعد إنهائها المرحلة الثانوية، إلاّ أنها لم تكلّ أو تيأس بل درست التمريض وحصلت على دورات مكثفة وتفوقت فيها بصورة لافتة.

منذ استشهادها، وأنا أتواجد في الميدان كمسعفة في الخيام الطبية في مسيرات العودة، مرتدية سترتها البيضاء التي لطختها قوات الاحتلال بالدم. فوجودي هنا يمنحني القوة  والتحدي للسير على خطى إبنتي لكي أثبت للعالم أن رزان رحلت بجسدها لكنها باقية بروحها ورسالتها التي كانت وستظل رسالة الإنسانية.

في ذلك اليوم الذي انطلقت به مسيرات العودة في يوم الأرض على الحدود الشرقية لمدينة خان يونس، فوجئت بإبنتي ترتدي زي الإسعاف، وتقول لي بإصرار:" سأشارك في مسيرات العودة، فعلينا جميعاً مقاومة الاحتلال بطريقة سلمية لإسترداد حقوقنا المسلوبة، ولا بد من التحلي بالقوة والإرادة الصلبة لإنقاذ شعبنا". لقد قامت ببيع خاتمها وهاتفها واشترت مستلزمات طبية لإسعاف المرضى على الرغم من أننا كنّا بأمسّ الحاجة للنقود، وكانت أول فتاة على مستوى القطاع تشارك في مسيرات العودة لإنقاذ المصابين وإجلائهم.

لم تعرف رزان الخوف أو التعب، بل كانت تتنقل ببسالة لإنقاذ حياة المصابين غير آبهة بوابل الرصاص الذي يطلقه جنود الإحتلال من مسافة صفر. كانت تتسلح بعزيمة عجيبة وجرأة غير مسبوقة للإستمرار في أداء واجبها الإنساني حتى آخر رمق في حياتها. وفي كل يوم كانت تزداد نشاطاً بالرغم من تعرضها الى أكثر من 12 إصابة متنوعة بين استنشاق الغار المسيل للدموع والكسور في يدها وصدرها وتلقي الشظايا. وفي ذات يوم، هرعتُ الى مخيمات العودة فور إبلاغي بإصابتها، وعندما إستقليت سيارة الإسعاف التي تنقلها وإذ بها تفتح عينيها وتقول:" أنزلوني فأنا هنا لأعالج لا لأتعالج"، وبالفعل استراحت لبضع دقائق ثم عادت لتكمل عملها.

لقد أخبرتني بعشرات القصص والمواقف الصعبة وهي تنجد المصابين، فمن أكثر المواقف شدة وأيلاما في النفس كان محاولة إنقاذ حياة الفتى تحرير أبو سبلة[1]، من ذوي الاحتياجات الخاصة، والذي هبّت مسرعة لإنقاذه، فوقع رأسه بين يديها، وقد فُجعت لرؤية دماغه يخرج من جمجمته، فقامت بعمل ما يلزم من إسعاف أولي حتى تم نقله في سيارة الاسعاف، وحينها لاحظت تبقي جزء صغير من دماغه على كفة يدها فهرعت راكضة خلف سيارة الاسعاف لعلها تستطيع إنقاذ حياته!

كان الخوف يتمكلنا في كل يوم تذهب به رزان إلى المسيرات، فنحن نعي جيداً أن الإستهداف المباشر للطواقم الطبية أو للصحفيين هو محاولة متعمدة من قبل الإحتلال لعرقلة نقل المصابين وإخفاء حقيقة تلك الجرائم البشعة عن العالم. أتساءل أي جرم أو ذنب اقترفته إبنتي وهي ترتدي شارتها البيضاء وتحاول إنقاذ أحد الجرحى حتى يطلق عليها قناص الاحتلال الرصاص على صدرها بشكل مباشر؟ أين العالم ومنظمات حقوق الانسان تجاه هذه الجرائم والمجازر التي ترتكبها اسرائيل وخروقاتها المتواصلة للإتفاقيات الدولية وخاصة إتفاقية جنيف الرابعة؟

إنني، ورغم المرارة التي تعتصر قلبي، لأفخر بإبنتي كونها نموذجاً مشرّفاً لنضال المرأة الفلسطينية التي أثبتت للعالم أن معاناتها تحت وطأة الاحتلال لم تنل من صمودها الأسطوري ومن إصرارها على مقاومة الاحتلال. ستبقى كلمات رزان شاهداً على إغتيال الإحتلال لحلم الشباب والشابات الفلسطينيات في حقهم الطبيعي والإنساني في العيش بحرية وكرامة وحقهم بالعودة، والتي دفعت رزان حياتها ثمناً لها، إني أرى رزان بعيون كل شاب وشابة فلسطينية. وأدعو في هذا اليوم العالم أجمع إلى أن يشاهد مقابلاتها القصيرة مع وسائل الإعلام قبل استشهادها، ورسائها الإنسانية له ولزملائها الذين شكلوا فريق الشهيدة رزان النجار التطوعي.

رحلت رزان لكن الفكرة لم ترحل، ووعودنا لها بإكمال مسيرتها حتى تقرير المصير في وطننا وعاصمتها القدس راسخة ما حيينا.   
--------------------------------------------------
[1]  الشهيد تحرير أبو سبلة: وهو أصم، استشهد بينما كان يتظاهر سلمياً رافعاً يديه للأعلى،على يد قناص إسرائيلي بإصابة مباشرة في الرأس، أخرجت 60% من دماغه في الهواء بتاريخ 1 نيسان 2018.