جرائر الأشرار و أعاجيبهم بقلم : صلاح بوزيّان
تاريخ النشر : 2019-03-20
جرائر الأشرار و أعاجيبهم بقلم : صلاح بوزيّان


 جرائر الأشرار و أعاجيبهم

قصّة قصير بقلم الكاتب : صلاح بوزيّان 

هذا ما أتذكّره من كلام رفيعة . لُحيظات وأنا واقف أمام مسجد أبي لقاطة أبحث في الهاتف الجوّال . بين الملفّات والصُّور أفتّشُ عن كلام آخر في أبهى صورة . الكلام لا يُنسَى . أتطلّع إلى الزّقاق الممتدّ .وأنا متّشح بشجن شفيف و أردّد كلمتها : لا تتأخّر .

لم أتأخّر . أغلقتُ الهاتف الجوّال و اتّجهت إلى البنك . لعلّ المرتّب قد نُزّل في حسابي . لقد أنفقتُ بقيّة النقود في ملاحقة قنينة حليب و علبة قهوة و رغيف خبز وقبضة من الملح وحُفنات من التّمر . تحسّستُ جيبي . دسست يدي ، آه دينار . كنتُ أمشي و أشدّ الدّينار في كفّي أخشى عليه السقوط من جيبي من أثر الرّكض . سمعتُ صوتا هاتفًا لا أعلم من أين صدَر:{صبّوا الشهريات توّا يا خديجة صبّوا } خديجة من تكون خديجة ؟ أنا أعرفُ رفيعة . ازداد الرّكضُ ، وبدأت الأحلام تراودني . شيئًا فشيئًا تهلّلت أساريري . وانقشع الانقباض . دفعت الباب بكتفي ، دخلتُ البنك ، كالعادة طابوران ، طابور أصحاب المقاهي و المطاعم و الدكاكين و متوسطي رجال الأعمال يحملون أكياس الفلوس ، تلوح منها الأوراق المالية والقطع النقدية ، واقفون منشرحون و طابورنا طابور الموظفين والعملة و الأساتذة و الأطباء و الممرضون و ضباط وأعوان  الجيش و الأمن . غرقت في الأحلام رأيتُ نفسي أملك مطعما فاخرا وأنا أقبض الأموال و المحلّ يعجُّ بالزبائن ، الأطعمة لذيذة ، يشتغل معي طبّاخون ماهرون من تونس والجزائر و فلسطين و سوريا و الهند و سويسرا و إيطاليا والنمسا و النّيجر، أبيع اللحم المشوي والدجاج و الأجبان اللّذيذة و مرقُ الضأن و السباقيتي و الكسكسي و كلّ المأكولات العالمية و العصائر و المشروبات و المثلجات و الشاي ، ورأيتُ كأنّ لي شاحنة تويوتا رباعية الدّفع أمام المطعم ، فجأة وكزتني عجوز بعصاها فأفقتُ وتقدّمتُ أمام موظّف البنك أومأ برأسه وابتسم ، انبسطتُ ، وتيقّنتُ خلاص فاتورة الكهرباء ، لا أعلمُ كيف أمضيتُ الشّيك و أخذتُ الخمسمائة دينار، وخرجتُ مسرعًا . حدثت أشياء غريبة بداخلي ، سرور و شكّ ، خوف و أمان ، ولكن الآن أفرحُ وأترك الأمر لأرحم الراحمين . كانت الساعة تشيرُ إلى منتصف النّهار. دخلتُ مقهى الحاج مختار طقطق قبالة باب الجلاّدين وسط مدينة القيروان ، ألتذُّ القهوة القيروانية وأنشرحُ حينما آوي إلى الفِرناق ، في قاع الفرناق محرّك غازي يحمي المياه في قصعة كبيرة ، تُصرف إلى زبائن الحمّام ، ينبعث الدفء إلى مدخل الفرناق ، بعض الكراسي و طاولات ، آوي إلى هذا المكان العتيق ، أبرّد نار الفقد بطعم القهوة ، وأرسلُ نظراتي تخترق الجدران ، و أسـأل الزّمن ، أتذكّر الأيّام الخوالي ، كلّ شيء مضى بسرعة ، ولا يُغنيني لا سفيان ولا طارق عن عمّي مختار طقطق ، تغيّر كلّ شيء يا عمّي مختار ، وخسر كلّ شيء معناه وقيمته ، يا للأسف صرتُ وحيدًا في هذا الفرناق بين الكراسي ، غريبًا ، من سأكلّم ؟ من سأحدّث ؟ غمرتني أشواق دفينة وعجيبة لأحباب أتشمّم شذاهم وأخبارهم في كلّ ركن من أركان القيروان . جلستُ أعالج بعض الأوراق من قصّة ألف ليلة وليلة ، لم أطق صبرا ، غادرت الفرناق ، ومشيتُ في السّوق بين الدكاكين ، كان الطّقس بداية ربيع ، السّماء صافية ، دفء ، هدوء ، و جلبة بطيئة ، درّاجات هوائية و عربات محمّلة بالزّرابي ونسوة يلاحقن الحمّالين ، وأخرى مملوءة بصناديق الموز و التّفاح ، رائحة الكفتاجي تملأ الرّْبَعْ ، الرّْبَعْ  سوق مسقّفة دكاكين متلاصقة يمينا وشمالا ، باعة الأحذية و النّعال و العطور و البرانيس و الجبائب و الشاشية و السّروج و كسوات الفرسان ، وحذوه  سوق الحدّادين فيه دكاكين على شكل دائرة يتوسّطها فضاء ممتدّ يتنقّل فيه الزبائن بين المحلاّت بيُسر يبتاعون حاجاتهم ، حوانيت باعة الخضر والغلال والبقول و الجزّارين و بائع الدّجاج و سمّاكة تخشى الله تبيعُ الأسماك الجديدة ، وترضى بالربح اليسير . أسفل درج سوق الحدّادين  يوجد دكّان جلال بائع كسكروت الكفتاجي ، بجانب دكّان الجزّار محمّد بن النّاصر البرّاق بجانب باب مَرشي الحدّادين ، ها هو جلالٌ كعادته لا يغتاظ من تنقير الزّبائن عليه ، يملأ الخبز بالكفتاجي و البطاطا المقليّة ، ويلبّي طلبات زبائه  هاشًّا باشًّا . رغم قسوة ناس ، فهؤلاء النّاس هنا تراهم يبتسمون و يفذلكون ويسألون عن أحوال بعضهم البعض ، قلوب تفيض بالرّحمة و الانشراح . الكفتاجي نصف خبزة محشو بالهريسة الخضراء مخلوطة بالبيض المقلي وأحيانا مع  قليل من الهريسة الحمراء إن رغب الزّبون في ذلك ، ويضيف جلال البطاطا المقلية فوق نصف الخبزة ، أتغدّى الكفتاجي مع جدّي رأسا لرأس وهي نعمة كبرى ، نتغدّى  الكفتاجي و نتعشّى لبلابي الحمص ولكن ما أكثر العيون التي  تلهفها عيون .أحيانا أشكّ أنّ الفلوس مسحورة ، يضعها الواحد منّا في كفّه فتطير من شدّة هول غلاء المعيشة ، بائع متجوّل أو صاحب دكّان أو سمسار أو مهرّب هارب ، أو لصّ أنيق ، الكلّ يحكمُ بأحكامه و يزيد في التسعيرة كما يحلو له ، أحاديث كثيرة وشكاوى في المحطّات و الأسواق و المقاهي و المطاعم الشعبية و الدّكاكين و في مراكز البريد و الحافلات و داخل عربات القطار و في المساجد و في الأحراش ،  المهمّ قررت الذّهاب إلى الرّحبة ،أسمع الفأل { يفرّجها ربّي  خلّيها على الله ، ما يدوم حال }  الدكاكين مفتوحة أحذية وملابس و برانيس وعطور ، الحسابات تطوّقني وددتُ لو كنتُ أستطيع شراء برنسًا أو حذاء ، منذ انتفاضة 14 جانفي صرت غير قادر على شراء قطعة قماش لأخيط سروالا بل ألبس الملابس المستعملة المجلوبة وأكره الملابس الفرنسية و أنتقي الهندية و الإيطالية والأحذية الألمانية ، وأنا أمشي على يمين باب تونس ، قرب مقام سيدي عبيد الغرياني لمحتُ بغلاً يترحرحُ ، امتعضتُ و خالجني أسف وأعقبه أسى ، لم يكن الباعة مكترثين بالبغل ولا برائحة البول ولا بالزِبلِ ، أسرعتُ بمحاذاة سور الرّحبة ، كانت لي نوبة في إطعام الطّير ، إذا حضرتْ أخرجُ ، و أنفرد ، أمشي قرب باب تونس ، ولا أغلط في عدّ الطّيور ، كانت تأتي على حين غفلة من النّاس وتحطّ على الأرض قُربي  بسرعة ، في المرّة الأولى تفاجأتُ ، ولكن اعتدتُ ، وأذكر صقرا أكل و شرب ثمّ لاحقني ، مكث أيّاما طويلة يطوف بالمدينة ويغيب وراء السحب ثمّ يعود و يلحق بي فوق سطح بيتي ، فأختلي به ، أتأمّله تاركا مسافة فاصلة بيني وبينه ، الصّقر جميل و مهيب و ضخم . ها هو يظهر إنّه يلاحقني ارتبكتُ أخشى أن يراه النّاس ، ابتعدتُ عن الرّحبة ،  جريتُ  وهو يتبعني ، يقترب منّي كثيرا ثمّ يصعد ليبتعد عن السّيارات ، دقّقت النّظر ، إنّه يحمل رسالة ، لا لا إنّه مخطوط ، لا لا  رسالة ، لا لا ورقة ، لا لا منديل ، كنتُ أجري ، يسبقني الصقرو ألاحقه ، وأسبقه ويلاحقني ، أجهدني الجري ، اقتربتُ من فسقية الأغالبة ، هدأت الحركة ، خفّفتُ الجري ، توقفت ، حطّ الصقر أمامي وضع الرسالة أمامه ، يا بنيّ لا تخف ، اضطربتُ خامرتني مخاوف تجلّت قُدّامي ، صقر يتكلّم بصوت حسن ؟ استلب إعجابي به فأردف : اهدأ يا بنيّ ، نعم أتكلّم ، ثمّ تحوّل إلى صورة شيخ وقور تلحّف ببرنس ، و على رأسه تاج ملكي ، نور على نور لم أر مثله من قبل ، هَلِعت بادئ الأمر ولكنّني أحسستُ  بطمئنينة ، تكلّم الشيخ : يا بنيّ إنّما هي تشكّلات نتّقي بها شرّ آدميي هذا الزّمان ، بعد الشدّة يأتي الفرج وهذا العربون ، هممتُ بمساءلته فردّ : قال الله تعالى { فَإنَّ مَعَ اُلْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ اُلْعُسْرِ يُسْرًا } ترك الرسالة وحلّق عاليًا على هيئته الآدمية ، اندهشتُ وسارعت إلى الرّسالة فتحتُها ، انطلقت رائحة العنبر ، بعد البسملة { ألاَ إنَّ نَصْرَ اللَهِ قَرِيبٌ } . خيّمت السكينة على المكان ، ركبني النّوم فتوسّدت مرفقي قرب فسقية الأغالبة ، ورأيتُ قوافل كثيرة تأتي من كلّ صوب تحطّ قرب الفسقية ، أخرى تتّجه تلقاء المدينة وأخرى تذهب إلى مقام أبي زمعة البلوي ، وجوه يتلألأ نورها كأنّها أقمار ، و إبل و مواشي و عسكر وجحافل الخدم ، كلّهم يكنسون المكان ، والموالي يغرسون النّخيل ، و مواكب و ذبائح و طبول تنقر و مزامير وزغاريد ، نُصبت الخيام  وفجأة أفقت على صوت المؤذن يرفع آذان صلاة العصر ، فأسرعت إلى إدارة الكهرباء والغاز لأسدّد ثمن الفاتورة .