القلبُ محلُّ نظرِ اللهِ تَعالَى ومُستقرُّ أَنْوَارِهِ بقلم : الحبيب خميس بوخريص
تاريخ النشر : 2019-03-19
القلبُ محلُّ نظرِ اللهِ تَعالَى ومُستقرُّ أَنْوَارِهِ بقلم : الحبيب خميس بوخريص


القلبُ محلُّ نظرِ اللهِ تَعالَى ومُستقرُّ أَنْوَارِهِ
إنّ القلب هو ملك الجوارح يوجّهها كيف شاء، وإذا صلح القلب صلح سائر الجسد، وإذا فسد فسد سائر الجسد، فقد ورد في صحيح البخاري عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أَلا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلا وَهِيَ الْقَلْبُ)، والقلب هو محلُّ نظر الله سبحانه وتعالى، فإذا كان قلبًا سليمًا طاهرًا صافيًا وردت عليه الأنوار الإلهية وامتلأ بالمعارف والأسرار. فإذا أقبل العبد على الله، قذف الله في قلبه نورًا، فرأى الخير خيرًا والشرّ شرًّا، فأكبر شيء في الإيمان هو النور الذي يقذفه الله في قلب الإنسان، فالمؤمن مُبصر يرى ما لا يراه الآخرون ويسمع ما لا يسمعون.       
قال تعالى: (أَفَمَنْ كَانَ على بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ) محمد14.
 قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره: (أي على بصيرة ويقين في أمر اللّه ودينه، بما أنزل اللّه في كتابه من الهدى والعلم، وبما جبله اللّه عليه من الفطرة المستقيمة، "كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُم" - أي ليس هذا كهذا ، كقوله تعالى: "أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَىٰ"؟) اهـ.
- عنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (لا تَحَاسَدُوا، وَلا تَنَاجَشُوا، وَلا تَبَاغَضُوا، وَلا تَدَابَرُوا، وَلا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا. الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لا يَظْلِمُهُ، وَلا يَخْذُلُهُ، وَلا يَكْذِبُهُ، وَلا يَحْقِرُهُ. التَّقْوَى هَا هُنَا - وَيُشِيرُ إِلى صَدْرِهِ ثَلاثَ مَرَّاتٍ- بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ. كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ: دَمُهُ، وَمَالُهُ، وَعِرْضُهُ) رواه مسلم.
 - عَنْ حُذَيْفَةُ رضي الله عنه سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا، فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ، حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ، عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا فَلَا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتْ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، وَالْآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا، وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا إِلَّا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاه) متفق عليه.                                                                                            
 - عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: - وَأَهْوَى النُّعْمَانُ بِإِصْبَعَيْهِ إِلَى أُذُنَيْهِ!- (إِنَّ الْحَلالَ بَيِّنٌ، وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ لا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ، كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ، أَلا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلا وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ، ألا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلا وَهِيَ الْقَلْب) رواه مسلم.  
- عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ)، قَالَ رَجُلٌ: إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا، وَنَعْلُهُ حَسَنَةً، قَالَ: (إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ، الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ، وَغَمْطُ النَّاسِ) رواه مسلم.                      
- عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (لَا يَدْخُلُ النَّارَ أَحَدٌ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ، وَلَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ أَحَدٌ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ كِبْرِيَاءَ) رواه مسلم.
أَنْـوَاعُ القُلُـوبُ:                                                                                قال ابن القيّم رحمه الله "الوابل الصيب من الكلم الطيّب ص29-32": (إنّ القلوب ثلاثة: القلب الأول: قَلبٌ خالٍ من الإيمان وجميع الخير، فذلك قلبٌ مُظلمٌ قد استراح الشيطان من إلقاء الوساوس إليه، لأنه قد اتّخذه بيتًا ووطنًا، وتحكّم فيه بما يريد، وتمكّن منه غاية التمكّن. القلب الثاني: قَلبٌ قد استنار بنور الايمان وأوقد فيه مصباحه، لكن عليه ظُلمة الشهوات وعواصف الأهوية، فللشيطان هناك إقبال وإدبار ومجالات ومطامع، فالحرب دول وسجال، وتختلف أحوال هذا الصنف بالقلة والكثرة، فمنهم من أوقات غلبته لعدوّه أكثر، ومنهم من أوقات غلبة عدوّه له أكثر، ومنهم من هو تارة وتارة.  
القلب الثالث: قَلبٌ مَحشُوٌّ بالإيمان قد استنار بنور الإيمان، وانقشعت عنه حجب الشهوات وأقلعت عنه تلك الظلمات، فلنوره في صدره إشراق ولذلك الإشراق إيقاد، لو دنا منه الوسواس احترق به، فهو كالسماء التي حرست بالنجوم، فلو دنا منها الشيطان يتخطاها رجم فاحترق، وليست السماء بأعظم حرمة من المؤمن، وحراسة الله تعالى له أتم من حراسة  السماء، والسماء مُتعبّدُ الملائكة ومُستقرُّ الوحي، وفيها أنوار الطاعات، وقلبُ المؤمن مُستقرُّ التوحيد والمحبة والمعرفة والإيمان، وفيه أنوارها فهو حقيقٌ أن يُحرس ويُحفظ من كيد العدو فلا يُنال منه شيئًا إلا خطفه، وقد مُثِّل ذلك بمثالٍ حَسنٍ وهو ثلاثة بُيوت: بيتٌ للملك فيه كنوزه وذخائره وجواهره، وبيتٌ للعبد فيه كنوز العبد وذخائره، وليس جواهر الملك وذخائره، وبيتٌ خالٍ صفر لا شيء فيه، فجاء اللصُّ يسرق من أحد البيوت، فمن أيّها يسرق، فإن قلت من البيت الخالي كان مُحالًا؛ لأنّ البيت الخالي ليس فيه شيء يُسرق، ولهذا قيل لابن عباس رضي الله عنهما: إنّ اليهود تزعم أنها لا توسوس في صلاتها، فقال: وما يصنع الشيطان بالقلب الخراب، وإن قلت يسرق من بيت الملك كان ذلك كالمستحيل الممتنع، فإنّ عليه من الحرس واليزك ومالا يستطيع اللصُّ الدنو منه، كيف وحارسه الملك بنفسه، وكيف يستطيع اللصُّ الدُنوَّ منه وحوله من الحرس والجند ما حوله، فلم يبق للصِّ إلا البيت الثالث، فهو الذي يشن عليه الغارات، فليتأمل اللبيب هذا المثال حق التأمل، ولينزله على القلوب فإنها على منواله. فقلبٌ خلا من الخيرٍ كلّه، وهو قلب الكافر والمنافق، فذلك بيت الشيطان قد أحرزه لنفسه، واستوطنه واتخذه سكنًا ومستقرًّا، فأي شيء يسرق منه وفيه خزائنه وذخائره وشكوكه وخيالاته ووساوسه. وقلبٌ قد عمر بجلال الله عزّ وجلّ وعظمته، ومحبته ومراقبته والحياء منه، فأي شيطان يجترئ على هذا القلب، وإن أراد سرقة شيء منه فماذا يسرق منه، وغايته أن يظفر في الأحايين منه بخطفه ونهب يحصل له على غرِّة من العبد وغفلة، لا بد له إذ هو بشر وأحكام البشرية جارية عليه من الغفلة والسهو والذهول وغلبة الطبع، وقد ذُكر عن وهب بن منبه رحمه الله تعالى أنه قال: و في بعض الكتب الإلهية لَستُ أسكن البيوت ولا تسعني، وأي شيء يسعني والسماوات حشو كرسيِّ، ولكن أنا في قلب الوداع التارك لكلِّ شيءٍ سواي، وهذا معنى الأثر الآخر: ما وسعتني سماواتي ولا أرضي ووسعني قلب عبدي المؤمن.                                                                                                                                                     
وقلبٌ فيه توحيد الله تعالى ومعرفته ومحبته والايمان به والتصديق بوعده ووعيده، وفيه شهوات النفس وأخلاقها ودواعي الهوى والطبع، وقلبٌ بين هذين الداعيين، فمرَّةٌ يميل بقلبه داعي الإيمان والمعرفة والمحبة لله تعالى وإرادته وحده، ومرَّةٌ يميل بقلبه داعي الشيطان والهوى والطباع، فهذا القلب للشيطان فيه مطمع وله منه منازلات ووقائع، ويُعطي الله النصر من يشاء، وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم، وهذا لا يتمكّن الشيطان منه إلا بما عنده من سلاحه، فيدخل إليه الشيطان فيجد سلاحه عنده فيأخذه ويقاتله، فإنّ أسلحته هي الشهوات والشبهات والخيالات والأماني الكاذبة وهي في القلب، فيدخل الشيطان فيجدها عتيدة فيأخذها ويصول بها على القلب، فإن كان عند العبد عدّة عتيدة من الإيمان تُقاوم تلك العدّة وتزيد عليها انتصف من الشيطان، وإلا فالدولة لعدوِّه عليه ولا حول ولا قوة إلا بالله، فإذا أذن العبد لعدوِّه وفتح له باب بيته وأدخله عليه، ومكّنه من السلاح يُقاتله به فهو الملوم، فنفسك لُم ولا تَلُم المطايا ومُت كمدًا فليس لك اعتذار) اهـ. 
اللّهمّ يا مُقلّبُ القلوب ثَبِّتْ قُلوبنا على دينك، واملأها بأنوارك حتى تكون لنا بصائر فنرى الحق حقًّا فنتّبعه، ونرى الباطل باطلًا فنجتنبه. 
اللّهمّ صلّ وسلّم على سيّد الأولين والآخرين سيّدنا محمد وعلى آله الطيّبين الطاهرين.