بائع الروايات بقلم سلامة عودة
تاريخ النشر : 2019-03-04
بائع الروايات  بقلم سلامة عودة


بائع الروايات
وقفت موزع النظرات في الشارع الرئيسي لمصيف فلسطين ، مدينة رام الله الزاخرة بحضارتها وتطورها عند المنارة بالقرب من دوار ساحة الأسود ، ومتأملاً في غد تشرق فيه شمس الحرية وتقلم براثن الاحتلال، وتتألق هذه البنايات الشامخة والمعالم الحضارية التي تقف شامخة رغم عواصف الريح وقواصف الظلم، وباحثاً عن رواية الطنطورية لرضوى عاشور باعتبارها مقرراً في الثانوية العامة في الفرعين: الأدبي والشرعي، سرحت الطرف في أسماء المكتبات التي تناثرت درراً بين حديقة المحال التجارية المتنوعة المشارب والأغراض، وسرعان ما وقع نظري على روايات تربعت ناصية الشارع وزينت رصيفه، حثثت الخطى نحو هذه الفسيفساء الثقافية كي انتقل بقلم عيني بين العناوين ، فثمة روايات فلسطينية وعربية ومترجمة ، والرواية كما يصفها النقاد حياة على الورق بتفاصيلها قاطبة ، وهي تجسد تاريخ فكر وعاطفة في الآن ذاته، كسر الصمت العلمي الذي أطرني وأنا انتقل بين هذه الورود الكتابية ، صوت جأءني ليقض مضاجع سكوني، وللوهلة الأولى خيل لي أن صاحب هذه الروايات يريد أن يسوق بضاعته بالطريقة التقليدية المعروفة ، يسألني : أي عنوان لرواية نال إعجابك أو أرسى سفينة بحثك ؟ التفت إليه قائلاً : دعني أقلب صفحات بعض العناوين الرواية على منضدة عرضك ، تبسم ورحب بي ، وعاجلني بسؤال : هل تبحث عن عنوان محدد ؟ قلت : نعم، رواية الطنطورية ، فقال : لرضوى عاشور روايات كثيرة ، ودونك رواية ثلاثية غرناطة ، أو أقول لك: يمكنك أخذ ثلاث روايات وبوصفك قارئاً ، سأعطيك الثالثة مجاناً ، تملكني الحماس ورحت أشاهد هذا البائع كيف يسوق بضاعته ، وما هالني إلا رؤيته يتحدث مع زبون أخر يقول له: لا تأخذ هذه الرواية قواعد العشق الأربعين ، وعليك قراءة متطلب سابق لها وناوله رواية تمهد لهذه الرواية ، راقني الحوار وقلت في نفسي إن هذا البائع يفهم في بضاعته، وأظنه ناجح في تسويق ثقافته وبضاعته، وإذا بزبون يسأل عن رواية بعنوان ( سكارستي) أظن أن اسمها كذلك ، ما دفع البائع للقول: إنها لاتزال في الفرن ، فقد قرأت نصفها ، وهي أمامي أشرع في النصف الثاني منها ، ولكن سأزودك برواية انتهيت منها بالأمس ، وأحداثها جميلة تتحدث عن قصة طريفة راح يقصّها على مسمعي ومسمعه.
تقدمت وساجلته الحديث ، لعلك قارئ جيد للروايات ، فقال: هذه مهنتي ، واتقاني لعملي يحتاج إلى جهدين: جهد التسويق وجهد الترويج ، والفرق بينها في عرف فلسفتي أن الجهد الثاني أهم من الأول، ذلك بأن جهد الترويج يحتاج إلى معاينة السلعة الثقافية والسلعة الثقافية تحتاج إلى قراءة وتلخيص ، وفن التلخيص يحتاج إلى خبرة ، والتاجر الرائع هو من يفهم في مهنة نذر نفسه لامتهانها، وهذا الجهد جعلني أزداد ثقافة وبالثقافة تهذب عقلي ، وصقل لساني ، وساعدني ذلك على استقطاب الزبائن ، وتسويق سلعتي الثقافية ، ولكن أتسمح لي أن أوجه لك سؤالاً، فقلت على الرحب والسعة ، فقال: هل أنت قارئ نهم ؟ قلت: أزعم ذلك. فقال: لدي مجموعة من الروايات قد وضعتها في أكمام كرتونية لا أقدمها لأي زبون، إلا إذا كان قارئاُ ( ومجاملاُ لي ) أمثالك ، ذلك بأنها في مستوى عال من اللغة وتحتاج إلى من يحلل مضامينها، ويقف على رموزها، وصراعاتها التي في ثناياها. قلت له: إلي بها، ففض خاتمها وكانت فعلاُ عناوين رائعة لكتّاب كبار امتهنوا صنعة الرواية وعلا كعبهم فيه، فتلقفت ثلاث روايات كي يقدم لي رواية مجانية ، وما لبث أن تناول الرابعة وقدمها لي هدية ، وانتقدته نظير الروايات الثلاث ، وودعني وقال: الثقافة كنز يبحث عنه ، والكنز ذخيره يبحث عنها الجميع بغض النظر عن مستواهم العلمي ؛ فالأدب صورة الحياة ، والحياة فيها تباين البشر ، ودعته ووعدته بالعودة إلى منهله ثانية.