خصوصية التعبيرية التجريدية وتطور رؤاها البصرية المعاصرة
تاريخ النشر : 2019-03-03
خصوصية التعبيرية التجريدية وتطور رؤاها البصرية المعاصرة


بشرى بن فاطمة 

  خصوصية التعبيرية التجريدية وتطور رؤاها البصرية المعاصرة 

"الطاقة الحسية والحركة البصرية هي ذكريات اعتقلها فضاء اللوحة"، إنها الخصوصية التي استجمعها جاكسون بولوك ليعبر عن الوعي العاطفي المختزل في غموض تسربه وانعتاقه وتعابيره المنسابة إلى اللوحة وهو يستثيرها بحكمة التجلي الواقعي والاندماج التلقائي مع رموزه النفسية.
 

Phe Ruiz

 ما استفز عدة فنانين لينطلقوا في مغامرة جديدة أفرزتها الحرب العالمية الثانية والحرب الباردة احتواها النضج المتمرد والتسريب الفلسفي والنفسي والذاتية الانفعالية واستنطاق اللاشكل واللاموضوع في التصورات الحسية للتعبير بحكمة انفلتت من قواعدها لتؤسس حركة فنية عالمية ارتكزت على مبادئ السريالية وتجاوزتها بخلق تصورات الاندماج التعبيرية التي جمعت التجريد والتكعيبية لتكوّن أسلوبها إنها التعبيرية التجريدية.
 بنى هذا الأسلوب مواقفه انطلاقا من العفوية والتلقائية واللاوعي الحريص على تثبيت موقفه على خصوصية الاندماج الابتكاري في فكرة تتصادم مع صدفها وتتعانق مع ترتيبها لمواعيدها الخارقة في فضاءات اللون وتصورات البعث الأولى في اندماجاته، تلك الخصوصية المتوافقة في موازينها البصرية التي تميّز التجربة التشكيلية الحديثة حيث حملت التعبيرية وانحرفت عن جمودها وخاضت في التجريد لتشرق في ثناياه الباهتة برؤى بصرية وازنت في التعبير الحر والتجريد المطلق برموزه التي شكّلت ثورة فنية في فترة الاربعينات والخمسينات واتكأت على تسميتها الجديدة في مصطلح "التجريد التعبيري" كرؤى مميزة لنواة التجربة الامريكية في الفنون البصرية لما بعد الحرب التي تخلّصت من قواعد المدارس لتندمج بحرية وانعتاق في تطوير الأسلوب واتباع الفكرة والانطلاق بها نحو تثبيت المواقف المعاصرة من الفن وقواعده القادرة على أن  تتحرّر من قوالب المدارس بعفوية استنطقت ركودها وحوّلت إليها دوافع الابتكار. 
 
 


Susan Schimke
وقد اعتبر التجريد التعبيري في العالم العربي منفذ تكوين متجادل التقلبات التي طغى عليها الأفق الحر والتواصل المندمج مع انحسارات الفضاء واللون الذي حمل موقفا متطورا في الفن وروحا منطلقة في التعبير والرموز الكثيفة في أبعادها التي عكست هوية وانتماء لمنطقة وقضية انسانية التفاصيل الحرة في التعبير المجرد عن الذاتية بحالاتها وإيماءاتها وخطوط انفعالاتها النفسية.
 

طه الصبان 
منح التمازج بين الأسلوبين التعبيري والتجريدي موازين ثقيلة المعاني والمفاهيم أجاد كل فنان التعبير من خلالها ليصل إلى فضاءات أوسع وينطلق أبعد لتتوافق الأعمال في تكويناتها من المنطلق السريالي والفكر المتفوق على الواقعية ولكن بملامح التجريد وانتساباته الرمزية التي أجادت حرصها على تكون اللون والابعاد، الضوء والتحويرات الجدلية بينها ومن خلال هذا كان موقف الفن إيحائي الرموز حيوي الحركة عميقا بما يحوّل مفاهيم التعبير الى حالات تحلّق بل وتنفلت من فضائها لتقع على عين المتلقي وذهنه القادر على استيعابها ماورائيا في تعبيرها الذي يتقن صياغة التوقعات التعبيرية ويفسح المجال للفهم.

 

farrar wilson

إن اعتماد التجريدية التعبيرية ليس مجرّد استسهال لحركة الفرشاة بضربات تثير اللون ليلتقي مصادفة في الفضاءات الموسّعة للوحة منمقة وجاهزة حتى تكوّن قالبها، إن التجريد التعبيري لغة عميقة الطرح وفكرة جمالية ابتكارية تخوض تصورات مبنية على حالات حسية وفكرية وانطباعات واقعية لها مستوياتها في خلق مفاهيمها التوضيحية.
 

سهيل بقاعين 
يزيح الأسلوب التجريدي التعبيري غموض الفهم الذي تقع فيه التجريدية ومركباته التي قد تلقي اللوحة في الابهام واللافهم والنفور الكلي واعتبار اللوحة مجرد عمل فرداني لا يعبّر إلا عن ذات مُنجزها، لأن التعبيرية بامتزاجها في الشكل واللون والخامة مع التجريد، تفتح مجالات تستفز المتلقي للبحث وتثير عينه للغوص، فلا هو يبحر في عمل مبهم ولا هو عمل مباشر أو سطحي، لأن هذا الأسلوب سيخلق عنده تساؤلات مبنية على التواصل بين المتلقي واللوحة وبالتالي يثير الأسلوب استنتاجات التوافقات البصرية ورؤاها البنيوية.
يرتكز الأسلوب التجريدي التعبيري على قوة الفرشاة ومداها الدقيق في التعمق في الانطباعات التلقائية والتعبير عن كل ما يرشح من عاطفة يثيرها الفن، فالأفكار التلقائية التي تبدأ من اللاوعي ترتجل الفكرة في تماسها المتكامل مع الألوان التي تنطلق بلا هدف يدفعها أو يستثيرها لتكوّن فكرتها من عفوية التلاقي والاندماج وما تفرضه من لغة تتناسب مع حالاتها المتفرّدة وهو ما يميّز هذا الأسلوب بخصوصيات التبقيع والتلطيخات التي تحاول الفرشاة أن تتركها بعمق.
يحمل الأسلوب لغة مميزة في اندماجها وتأقلمها المتكامل والتقاطه المشاعر الأولية التي تخلق تواصلا حقيقيا مع المتلقي الذي يتفاعل بحثا عن القيم الجمالية الخاصة، يقترب الأسلوب التجريدي التعبيري من الفنون المعاصرة من حيث تقمص الفن بشكل ذاتي تركيب وأداء إقحام خامات مؤثرة في التعبير ومجردة في التوافق مع عنصر اللوحة وهو ما يخلق هالة من التفاعلات الحسية.
يعتبر اللون والأبعاد الضوئية والتفاعلات التدريجية من العناصر الفاعلة التي تخلق مع الفرشاة والقماش حالة السرد البصري والحركة المتناغمة التي تتعاصف وتتماطر في مواسمها المشرقة والمعتمة في بؤرها وتلطيخاتها وتسربها وانسيابها لتصمت وتصرخ وتحاكي بصراحتها حالات التجلي التي تنبعث من رحم فضائها ليتحكم فيها كل فنان حسب مزاجه ومداه المستفز لمتلقيه أو لقضيته التي يحاول تبنيها وهو يتفاداها بصريا.
رغم الانتقادات التي عرفتها التعبيرية التجريدية إلا أنها استطاعت أن تتماهى مع ذاتيتها وتسطع بأسلوبها وتفجر ألوانها من عمق التفعيل النفسي لها، إذ استنطقها وتفوّق على ذاتيته جماليا ما وسّع دوائر التعبير وتفادى التوضيح ليضمن التوافق الفهمي بين الذات والعمل الفني والمتلقي.


*الأعمال المرفقة: 
متحف فرحات الفن من أجل الإنسانية
Farhat Art Museum Collections