عادت أرض الأجداد .. لن أسكن الدّهليز بقلم: صلاح بوزيّان
تاريخ النشر : 2019-02-26
عادت أرض الأجداد .. لن أسكن الدّهليز بقلم: صلاح بوزيّان


عادت أرض الأجداد .. لن أسكن الدّهليز

قصّة قصيرة بقلم الكاتب : صلاح بوزيّان/تونس

أمضى بداية ليلته قلقا يقلّب الأمور، مستلق على فراشه ، عيناه برّاقتان في السّقف ، هاهي جراحاته تطلّ وتختفي أمامه على الجدار ، وبين آن وآخر كان إسكندر يُعرض عنها، ولكنّها جراحات عميقة مؤلمة، لم يجد جوابا شافيًّا ، {ماذا نلت من هذه الثّورة ؟ لم أغادر الدهليز، ولازلت أعزب ، ولم أعد قادرًا على الإنفاق على أمّي وإخوتي ، الغلاء أحرق عقول النّاس ، من أيّ سؤال سأفرّ ؟ الأسئلة تواجهني في كلّ لحظة و في كلّ يوم ، كرهت حياتي ، ملابسي من محلاّت الروبفيكيا ، طعامي من عربات ومحلاّت الباعة ، والآن كلّ شيء تبخّر ، كيلو البطاطا ب 1500 ملّيم ، كيلو الطّماطم ب2000 ملّيم ، ولا أحبّ أن أذكر العجين والكسكسي و اللّحم و موادّ التّنظيف ، وفواتير الماء والكهرباء ، وقارورة الغاز،إنّها نار، بل نيران بألوان وأحجام وأماكن مختلفة ، كلّ تاجر يبيع سلعته بالثّمن الذي يحلو له ، أفنيت عمري في خدمة الإدارة ، أستقبل المواطنين ، وأحمل الأوراق من مكتب إلى مكتب ، اشتعل رأسي شيبا ، كرهت حياتي ،هذا الوهج متى يوشك على الانطفاء ، ألاحق الأخبار لعلّ الحلم يتحقّق ، أو خيط الأمل يضيء ، لا شيء ، لا شيء ، وُعُود كاذبة ، المرتّب هو نفسه منذ سنوات ، التّعب ازداد ، من يفهم هذه الأمور،أمر الحكومات مُريب}. تنفّس إسكندر بعمق وهدأ ، مرق شهاب في لجّة حمراء ، و اخترق السّماء ، فانخلع قلب إسكندر، قفز من فراشه ، الدّهليز هادئ والكوّة تنفتح على الخارج المظلم ، أحيانا يكثر صراخ أخوته ، ولكنّ اللّيل ثقيل طويل موحش ، وانعطاف زمن المدينة أدمى قلب إسكندر، لم تتوضّح الأمور بعد ، فالشّمس غابت وانتهت منذ مدّة ، وليل الشّتاء بارد، الصّمت كثيف وموجع، ازداد صراخ إخوته ، كبرت نار الحيرة، نهض من فراشه وبهدوء تامّ غادر الدّهليز، فتح بابا الدّار وفرّ ، سئم الدّهليز والبيت والشّغل والمدينة ،المدائن متوتّرة، بدأت حربه ، وأحيانا يرى حربه عند زملائه وجيرانه وأهل المدينة ، وعند القادم كلّ يوم من أقصى المدينة يقود حمارا عليه سلّة بيض ودنًّ حليب وبعض الفراريج ، يبصر حربه عند صاحب الحمار هذا الذي يجلس حذوى حائط معتمديّة الرّحبة الخلفي ويعرض سلعته ، و أحيانا يبصر حربه عند العمّة مفيدة الّتي تبيع خبز الطّابونة أمام باب سوق الحدّادين ، و يتخاصم إسكندرمع نعليه ، تبدّل كلّ شيء ، حربه باردة ، حارّة ، معلنة ، خفيّة ، تشتدّ عند مطلع كلّ شهر حينما يقف في الطّابور أمام الموزّع البنكي الآلي ليسحب نصف مرتّبه ويرى الأيدي الممدودة المرتعشة والعيون التّائهة ، أيدي الشّغالين والشّغالات ، ويتابع أوراق الموزّع البيضاء تتهاوى على الرّصيف كأوراق الأشجار في فصل الخريف ، كان تتسارع دقّات قلبه حينما يأتي دوره أمّام الموزّع ، وتشتدّ حربه ، إنّه يخشى أن يخصم له البنك المبلغ الذي أخذه قبل تنزيل القرض ، حرب أعصاب ، تتبللّ الملابس الدّاخلية ، ويسيل العرق في ظهر إسكندر اعتاد ذلك ، وكان غالبا ما يتهيأ لحربه باللامبالاة ، وتشتدّ حربه أيضا حينما يستبدّ به الجوع ، وترتعش أصابعه وهي تمسك بالنّقود وتبحث عن خيار ، كان الشّارع مكتظّا بالمارّة ، درّاجات هوائيّة وناريّة ، وعربات باعة الفول المطبوخ وباعة البرتقال لسان عصفور والطمسن والحلو ، سيّارات ، أغانٍ متداخلة متلاحمة متنافرة ، المزود ، نجوى كرم ، صالح عبد الحيّ ، جبال غبار تلفّ المكان ، بقايا قوارير حليب تتقاذفها الشاحنات كلّما مرّت ، أكياس بلاستيكيّة كثيرة تعلو وتعلو، تتناثر هنا وهناك ، الهواء ملّوث مقرف و الدّخان أسود كثيف ، درويش يحمل كيسا على ظهره يحوقل ويسترجع، درويش ثانٍ يتمتم ويشير بأصابعه ويصرخ يا لطيف يا لطيف ، ارتجف ليل المدينة ، كثيرة هي العجائب ، عدّ إسكندر دكاكين الشّباتي والهمبورغار، وخبز الطابونة فأخطأ ، مهول عدد الدكاكين ، ثورة بطنيّة هائلة ، الضوء خافت ، هذا دكّان ملابس جاهزة تبدّل إلى مطعم دجاج مصلي ومشوي وكسكروت كفتاجي حارّ وهرقمة ورأس خروف مصلي .. وهذا دكّان يبيع التّبغ والسّجائر والحلوى والجرائد .. بدّله صاحبه إلى دكّان بيع خبز الطّابونة والشّباتي .. وهذا دكّان اللبلابي لم يبدّل ، إسكندر اعتاد المجيء إلى دكّان القابسي ليأكل صحفة لبلابي حارّة ،هذا خيار المرحلة. وقف إسكندر أمام دكّان اللبلابي ، الطابور طويل ورقمه 13 ، من حسن حظّه أنّ صاحب المحلّ يعرفه ، القابسي اشتغل في دكّانهم الأوّل في الرّحبة ، ثمّ بعد وفاة والده الحاج الحبيب ترك الدّكان لأخيه الأصغر، وفتح هذا الدّكان في نهج سيدي بوراوي قبالة الجامع ، كان إسكندر يتردّد على الدّكان الأوّل في الرّحبة منذ كان فتى يدرسُ بالمعهد و ينشط الطليعة العربية ، إسكندر لا ينسَى كيف كان يذهبُ إلى وسط المدينة و يهتف عاليًا تحيا فلسطين ، وهو الّذي كان ينظّم الاحتفالات الفلسطينية بالمعهد.كان آنذاك ابن العشرين. وهو الآن وهنا في القيروان رغم مرارة الفقر وشدّة الانتظار وألم أقاويل الفضوليين ــ له بيت ويأكل في الشّارع ــ يتلذّذ صحفة اللبلابي ، الأكلة الشعبية القيروانية، ينتعش بملاقاة البؤساء والحيارى مثله ، ازداد عدد الزّبائن بعد ثورة 14 جانفي ، نسوة يتوافدن على المحلّ ، ويملأن المواعين ، المناضد مملوءة بالصّحاف ، الرّؤوس مطأطأة والأفواه تلتهم الطّبيخ وتتأوّه، العيون برّاقة تستطلعُ وتحذرُ ،البخار يتصاعد ، الكلّ منهمك يقاوم الجوع ، الجوع عود ثقاب سريع الانطفاء ، رائحة زيت الزيتون وخلّ التّفاح والبهارات . عجزت والدته لم تعد قادرة على تنويع الطّعام ، أنهكها ألم الرُّكبِ ، وعجز هُوَ فلم يعد قادرا على شراء السّمك واللّحم ، اجتنب الازدحام، وجلس على كرسي في عمق الدّكان ، وضع الصحفة أمامه على طاولة نظيفة تتوسّطها قارورة ماء حنفية ومن حولها أكواب ، أمسك بالملعقة ، خلّـط الحمص المطبوخ بزيت الزيتون وبالخلّ جيّدًا وبهدوء ، ثمّ انهمك يأكل الخليط اللّذيذ ، التفّت السّاق بالسّاق ، تدلّت يده اليسرى سائبة فنسيها ، لاحتْ أمامه وثيقة التّرقية الاستثنائية. قطّب جبينه وبكى . سنة ونصف ينتظر وصول الوثيقة من إدارة المناظرات بوزارة التربية إلى مديرية التربية بالقيروان . ذهب إلى تونس العاصمة مرّات و مرّات ، وسأل عن أمر الوثيقة ، أخبرته سيّدة بالوزارة بحلول موعد إرسال محضر جلسة الترقية إلى مديرية القيروان ، إسكندر يعلم حجم الفساد الّذي لحق الإدارة التونسية و البطء الّذي عشّش في سير العمل وطرائق التّسيير و إهمال كثير من الموظّفين لأعمالهم ، وتعيين كوادر إدارية في غير اختصاصهم ، كلّم إسكندر نفسه :{تعطّلت البلاد}. شبع إسكندر وتذكّر ليلة بات طاويا في صفاقس سنة 1993، عندما أغلق المطعم الجامعي ، واشتدّ به الجوع فعاد إلى غرفته وأغرق في المناجاة والبكاء إلى حين غلبه النّعاس ، تردّد صوت في صدر إسكندر :{ أصمد أيّها الرّجل} ، قاطعه صوت ثان :{ ابني أنهكته الذّئاب ، يا ربّ فرّج على ابني} ، تعجّب إسكندر ظنّ نفسه يحلم ، فجأة أردف الصّوت الثاني في بكاء شديد :{ ياربّ لا يخفى عليك شيء ،خربتْ تونس وهذا ابني قد ذاق ألوان الظّلم ، ارأف به فهو صابر وعجّل له بالنّصر واليسر، آه على فلذة كبدي من بعدي ، إنّه يسكن دهليزا هربًا من بشاعة النّاس وظلمهم ، لم يسرق ولم ينافق ولم يخن ولم يكذب قطّ ، قلبه أشدّ بياضا من الحليب ، إنّه رجل من زمن ولّى ومضى ، أنهكته الغربة} اشتدّ بكاء الصّوت الثّاني ، وقف إسكندر، ارتعد كاد يغمى عليه زاغت عيناه ، اندهش ، تعجّب ، سأله القابسي : {إسكندر أأنت بخير ؟ مابك ؟ } تلعثم ، لاشيء ، ردّد بينه وبين نفسه :{ لم أكن أحسب أنّ ثمّة من يدافع عنّي ، هذا الصّوت صوت جدّي ، جدّي أنا متيقّن أنّه جدّي ، سبحان الله الأرواح جنود مجنّدة ، ولكنّ جدّي مات منذ مئات السنين مات في زمن نورالدّين وصلاح الدّين الأيّوبي} جلس إسكندر ثمّ وقف ثمّ جلس ثمّ وقف ثمّ جلس ثمّ وقف ، هذا الصّوت ساكن فيّ منذ زمن ، إنّني أعرفه جيّدًا ، نعم أذكر أنّه كلّمني مناما و أوصاني أن أصون لساني ، و أن أظنّ بالنّاس الخير ، وأن أتفاءل ، أذكر كان ذلك في أوّل ليلة أنام في الدّهليز، تخلّلته طمأنينة نسفت الحيرة وأعادت ترتيب البيت ، جيئة الأجداد وقود للرّوح . الدّكان فسيح كراسي وطاولات وزبائن ، قهقهات ، تأوّهات الحرارة ، جميع الصّور والرّموز القبيحة الّتي أرهقته ترمّدت تحت لهيب نار الجدّ ، جراثيم كثيرة تجوب الدّروب ، خفافيش تريد أن تتطهّر ، أحمق يراود امرأة عن نفسها تبصق عليه وتلعنه ، مدّ إسكندر يده بيضاء ، تحرّكت الأصابع ، وضع النّقود على الطّاولة ، تخطّى الرّقاب ، لا ينتهي طابور اللّبلابي ، انطلق يمشي على الطّوار، سمع أصوات تآلُفٍ وطّاعة ، وآهات ممزوجة بحرقة وألم ، روائح البلاستيك و البول وزيت محرّكات فاسد مسكوب على حائط ، كانت كلّها تنبعث من أركان مظلمة. نشبَ خصام سرعان ما تحوّل إلى معركة بالعصيّ والدّبابيس ، سبّ وشتم وكلام بذيء ، يا ابن ... ، يا ولد ... كان إسكندر يمشي ويرمق تفاصيل المعركة ، أطلّت سيارة البوليس ، فرّ المتعاركون ، ولم يبق إلاّ غبار أحذيتهم النتنة ، إنّه يتبع ظلّه و ظلّه يتبعه ، وهو يتذكّر ما قاله جدّه. في سنوات خلت ، كان يذهب إلى المسرح و إلى قاعة السّينما الكازينو ، تهدّمت قاعة السينما وتحوّلت إلى خرابة تأوي أكوام الفضلات ، المدينة تغيّرت ملامحها ، كثر عدد المقاهي ، كلّ متر مربّع تجد مقهى ، وتسمع قيلا وقالاً ولغطا كثيرًا ، سئم إسكندر هذا المشهد ، وقف رأى أمّه المتعبة والبيت الكئيب والدّهليز البارد وزملاء العمل والأحلام ، فكّر في الرّحيل ، المشهد قبيح وليست فيه علامات تغيّر. وما إن التفت إلى طرف الشّارع حتّى رأى أخاه مسعود يجري وينادي:{ إسكندر ، إسكندر ، أمي تناديك لقد ربحنا قضيّة أرضنا المغتصبة جاءنا الخبر منذ حين ، و وافقت سناء على الزّواج ، جاءت أختها إلينا ، وتحدّثت مع أمّي وطلبت تحديد موعد لعقد القران} ، ارتعد إسكندر، انتفض ، قفز وهرول نحو البيت ، :{يا إلهي حلمي حياتي تحقّق ، هذه هي الثّورة ، عادت أرض الأجداد إلينا ، لن آكل في الشّارع ، لن أسكن في الدّهليز ، سأتزوّج سناء وأنجب أطفالاً ، كان يجري ويتحدّث والدّموع تغمر وجهه ، وأخوه خلفه يلاحقه .