مفهوم النقد الثقافي وأهم تطورته التاريخية بقلم محمد زيطان
تاريخ النشر : 2019-02-20
محمد زيطان باحث المغرب جامعة عبد المالك السعدي .
مضوضوع الدراسة :مفهوم النقد الثقافي واهم تطورته التاريخية.
تمهيد:
يعد النقد الثقافي من أهم الظواهر الأدبية التي رافقت مابعد الحداثة في مجال الأدب والنقد، وقد جاء كرد فعل على البنيوية اللسانية، والسيميائيات، والنظرية الجمالية (الإستيتيقية)، التي تعنى بالأدب باعتباره ظاهرة لسانية شكلية من جهة، أو ظاهرة فنية وجمالية وبويطيقية (شعرية) من جهة أخرى. ومن ثم، فقد استهدف النقد الثقافي تقويض البلاغة والنقد معا، بغية بناء بديل منهجي جديد يتمثل في المنهج الثقافي الذي يهتم باستكشاف الأنساق الثقافية المضمرة، ودراستها في سياقها الثقافي والاجتماعي والسياسي والتاريخي والمؤسساتي فهما وتفسيرا. وقد تأثر المنهج الثقافي بمنهجية جاك دريريدا التفكيكية القائمة على التقويض والتشتيت والتشريح، ولكن ليس من أجل إبراز التضاد والمتناقض، و تبيان المختلف إضاءة وهدما وتأجيلا، بل من أجل استخراج الأنساق الثقافية عبر النصوص والخطابات سواء أكانت تلك الأنساق الثقافية مهيمنة أو مهمشة، وموضعتها في سياقها المرجعي الخارجي، متأثرة في ذلك بالماركسية الجديدة، والتاريخانية الجديدة، والمادية الثقافية، والنقد الكولونيالي(الاستعماري)، والنقد النسوي الذي يدافع ثقافيا عن كينونة التأنيث في مواجهة سلطة التذكير.إذاً، ماهو النقد الثقافي؟ وماهو تطوره التاريخي؟ وماهي مرتكزاته المنهجية؟ وماهي سلبياته وإيجابياته؟ تلكم هي مجمل القضايا التي سوف نحاول رصدها قدر الإمكان في موضوعنا هذا، والذي يندرج ضمن ما يسمى اليوم بنقد النقد.
مفهـــــوم النقد الثقافي:
من المعلوم أن مصطلح الثقافة عام وعائم وفضفاض في دلالاته اللغوية والاصطلاحية، ويختلف من حقل معرفي إلى آخر، وهو من المفاهيم الغامضة في الثقافتين: الغربية والعربية على حد سواء. فالثقافة بطابعها المعنوي والروحاني تختلف مدلولاتها من البنيوية إلى الأنتروبولوجيا وما بعد البنيوية. وتندرج الثقافة مجاليا ضمن الحضارة التي تنقسم إلى شقين: الشق المادي والتقني، ويسمى بالتكنولوجيا، والشق المعنوي والأخلاقي والإبداعي، ويسمى بالثقافة(Culture).
ومن ثم، يمكن الحديث عن نوعين من الدراسات التي تنتمي إلى النقد الحضاري، الدراسات الثقافية التي تهتم بكل ما يتعلق بالنشاط الثقافي الإنساني، وهو الأقدم ظهورا، والنقد الثقافي الذي يحلل النصوص والخطابات الأدبية والفنية والجمالية في ضوء معايير ثقافية وسياسية واجتماعية وأخلاقية، بعيدا عن المعايير الجمالية والفنية والبويطيقية، وهو الأحدث ظهورا بالمقارنة مع النوع الأول. وبالتالي، يعنى النقد الثقافي بالمؤلف، والسياق، والمقصدية، والقارىء، والناقد. ومن ثم، فالنقد الثقافي نقد إيديولوجي وفكري وعقائدي. وهكذا، فقد رفض المثقفون الأمريكيون القاطنون بمدينة نيويورك منح جائزة بولنجتون في عام 1949 م للشاعر عزرا باوند؛ لأنه كان مؤيدا لموسوليني وهتلر في الحرب العالمية الثانية. ويعني هذا أن هؤلاء المثقفين كانوا ينطلقون من مسلمات ثقافية وسياسية وأخلاقية، أكثر من انطلاقهم من مرتكز النص أو الخطاب، وذلك باعتباره علامة ثقافية وسياقية، تحمل مقاصد مباشرة وغير مباشرة، قبل أن يكون علامة جمالية أو فنية أو شكلية. ومن ثم، يهدف النقد الثقافي إلى كشف العيوب النسقية التي توجد في الثقافة والسلوك، بعيدا عن الخصائص الجمالية والفنية. ويعني هذا أن النقد الثقافي هو:" فعل الكشف عن الأنساق،وتعرية الخطابات المؤسساتية، والتعرف على أساليبها في ترسيخ هيمنتها، وفرض شروطها على الذائقة الحضارية للأمة."
هذا، ويرى مجموعة من النقاد الثقافيين كفانسان ليتش، وعبد الله محمد الغذامي، وغيرهما... بأنه آن الآوان للاهتمام بالنقد الثقافي باعتباره بديلا للنقد الأدبي، بعد أن وصل هذا النقد – حسب عبد الله محمد الغذامي- إلى سن اليأس، ووصلت البلاغة العربية بعلومها الثلاثة(البيان، والمعاني، والبديع) إلى مرحلة العجز والموت، حيث يقول الغذامي:" مازلنا ندرس طلابنا في المدارس والجامعات مادة البلاغة بعلومها الثلاثة، ولانعي أن ماندرسه لهم هو علم لم يعد يصلح لشيء، فلا هو أداة نقدية صالحة للتوظيف، ولا هو أساس لمعرفة ذوقية أو تبصر جمالي، وإن كانت قديما كذلك إلا أنها لم تعد أساسا لتصور ولا لتذوق. ومن ذا يحتاج إلى رصد الكنايات والجناسات والطبقات في أي نص، ومن ذا يحتاج إليها لتذوق أي نص أو تعرف صيغه ودلالاته، ونحن في الجامعات ندرس طلابنا وطالباتنا كل ماهو نقيض لهذه البلاغة ومتجاوز لها، ولكننا لانجرؤ على إلغاء مقررات البلاغة، وقد نظن أن إلغاءها سيكون بمثابة الانتحار المعرفي، أو التآمر ضد التراث، وضد ذائقة الأمة. تتصنم العلوم مثلما يتصنم الأشخاص حتى لتبلغ حد القداسة، وأنا أرى أن النقد الأدبي كما نعهده، وبمدارسه القديمة والحديثة قد بلغ حد النضج، أو سن اليأس حتى لم يعد بقادر على تحقيق متطلبات المتغير المعرفي والثقافي الضخم الذي نشهده الآن عالميا، وعربيا، بما أننا جزء من العالم متأثرون به ومنفعلون بمتغيراته. ولسوف أشرح أسباب هذه النظرة عندي فيما يلي من ورقات، وأبدأ بما صار يأتيني من أسئلة حول مشروعي في (النقد الثقافي)، وعن كونه بديلا عن النقد الأدبي وعن إعلان موت النقد الأدبي."
وعليه، فالنقد الثقافي هو الذي يدرس الأدب الفني والجمالي باعتباره ظاهرة ثقافية مضمرة. وبتعبير آخر، هو ربط الأدب بسياقه الثقافي غير المعلن. ومن ثم، لايتعامل النقد الثقافي مع النصوص والخطابات الجمالية والفنية على أنها رموز جمالية ومجازات شكلية موحية، بل على أنها أنساق ثقافية مضمرة تعكس مجموعة من السياقات الثقافية التاريخية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية والقيم الحضارية والإنسانية. ومن هنا، يتعامل النقد الثقافي مع الأدب الجمالي ليس باعتباره نصا، بل بمثابة نسق ثقافي يؤدي وظيفة نسقية ثقافية تضمر أكثر مما تعلن.
زد على ذلك، علينا ألا نخلط النقد الثقافي بنقد الثقافة أو الدراسات الثقافية العامة، فالنقد الثقافي هو الذي يتعامل مع النصوص والخطابات الأدبية والجمالية والفنية، فيحاول استكشاف أنساقها الثقافية المضمرة غير الواعية، وينتمي هذا النقد الثقافي إلى ما يسمى بنظرية الأدب على سبيل التدقيق. في حين، تنتمي الدراسات الثقافية إلى الأنتروبولوجيا والإتنولوجيا وعلم الاجتماع والفلسفة والإعلام وغيرها من الحقول المعرفية الأخرى. وفي هذا السياق، يقول عبد الله الغذامي:" ونميز هنا بين (نقد الثقافة) و(النقد الثقافي)، حيث تكثر المشاريع البحثية في ثقافتنا العربية، من تلك التي عرضت وتعرض قضايا الفكر والمجتمع والسياسة والثقافة بعامة، وهي مشاريع لها إسهاماتها المهمة والقوية، وهذا كله يأتي تحت مسمى (نقد الثقافة)، كما لابد من التمييز بين الدراسات الثقافية من جهة والنقد الثقافي من جهة ثانية، وهذا تمييز ضروري التبس على كثير من الناس حيث خلطوا بين (نقد الثقافة) وكتابات (الدراسات الثقافية)، وما نحن بصدده من (نقد ثقافي)، ونحن نسعى في مشروعنا إلى تخصيص مصطلح (النقد الثقافي) ليكون مصطلحا قائما على منهجية أدواتية وإجرائية تخصه، أولا، ثم هي تأخذ على عاتقها أسئلة تتعلق بآليات استقبال النص الجمالي، من حيث إنه المضمر النسقي لايتبدى على سطح اللغة، ولكنه نسق مضمر تمكن مع الزمن من الاختباء، وتمكن من اصطناع الحيل في التخفي، حتى ليخفى على كتاب النصوص من كبار المبدعين والتجديديين، وسيبدو الحداثي رجعيا، بسبب سلطة النسق المضمر عليه.".
وعليه، فالنقد الثقافي عبارة عن مقاربة متعددة الاختصاصات، تنبني على التاريخ، وتستكشف الأنساق والأنظمة الثقافية، وتجعل النص أو الخطاب وسيلة أو أداة لفهم المكونات الثقافية المضمرة في اللاوعي اللغوي والأدبي والجمالي. أما الدراسات الثقافية، فتهتم بعمليات إنتاج الثقافة وتوزيعها واستهلاكها، وقد توسعت لتشمل دراسة التاريخ، وأدب المهاجرين، والعرق، والكتابة النسائية، والجنس، والعرق، والشذوذ، والدلالة، والإمتاع... وكل ذلك من أجل كشف نظرية الهيمنة وأساليبها.
تطـــور النقـــد الثقافـــي:
من المعلوم أن الدراسات الثقافية قد ظهرت منذ القرن التاسع عشرأو ربما قبل هذه الفترة بكثير، في ظل العلوم الإنسانية( علم الاجتماع، والأنتروبولوجيا، والإثنولوجيا، وعلم النفس، وعلم التاريخ، والفلسفة...)، وذلك مع انبثاق الثورة الصناعية. هذا، وقد انتشرت الدراسات الثقافية بشكل متميز في الغرب منذ سنة 1964م، وذلك مع تأسيس مركز بريمنغهام للدراسات الثقافية المعاصرة، وبروز مدرسة فرانكفورت في الأبحاث الثقافية ذات الطابع النقدي والسوسيولوجي، لتنتشر الدراسات الثقافية بشكل موسع في سنوات التسعين في مجالات عدة، بعد أن استفادت من البنيوية ومابعد البنيوية. وتشكلت على هداها نظريات ومذاهب وتيارات ومدارس واتجاهات ومناهج نقدية وأدبية وظهرت في الغرب مجموعة من الدراسات الثقافية لدى رولان بارت، وميشيل فوكو، وبيير بورديو صاحب المادية الثقافية، وإدوارد سعيد، وهومي بابا، وجي سي سبيفاك، وجان بودريار، وجان فرانسوا لوتار...
ويعني هذا أن مدرسة بريمنغهام الإنجليزية ومدرسة فرانكفورت الألمانية من المدارس التي ساهمت في إغناء الدراسات الثقافية، فكانت النظرية النقدية تنظر إلى النقد الأدبي على أن من بين وظائفه الرئيسة هي:" التصدي لمختلف الأشكال اللامعقولة التي حاولت المصالح الطبقية السائدة أن تلبسها للعقل، وأن تؤسس اليقين بها على اعتبار أنها هي التي تجسد العقل، في حين أن هذه الأشكال من العقلانية المزيفة ليست سوى أدوات لاستخدام العقل في تدعيم النظم الاجتماعية القائمة، وهو ما دعاه هوركايمر بالعقل الأداتي."
وكانت هناك نظريات أخرى ساهمت في إفراز النقد الثقافي والدراسات الثقافية إلى جانب مدرسة بريمنغهام ومدرسة فرانكفورت كنظرية ما بعد الحداثة، والنظرية التفكيكية، ونظرية التعددية الثقافية، والنقد النسوي، والمادية الثقافية، والماركسية الجديدة، ونظرية الجنوسة، والنقد الكولونيالي (الاستعماري)، ونظرية الاستجابة والتلقي، وثقافة الوسائل والوسائط الإعلامية، والخطاب السردي التكنولوجي...
هذا، ويمكن الحديث عن نوعين من الثقافة: ثقافة الاستقبال وثقافة الرفض والمقاومة. وتنبني ثقافة الرفض بدورها على أنواع ثلاثة من القراءات: قراءة الهيمنة، وقراءة التحاور، وقراءة المعارضة.
بيد أن الظهور الفعلي والحقيقي للنقد الثقافي لم يتحقق إلا في سنوات الثمانين من القرن العشرين(1985م)، وذلك في الولايات المتحدة الامريكية، حيث استفاد هذا النقد من البنيوية اللسانية، والأنتروبولوجيا،والتفكيكية، ونقد ما بعد الحداثة، والحركة النسوية، ونقد الجنوسة، وأطروحات مابعد الاستعمارية... ومن ثم،لم ينطلق النقد الثقافي إلا بظهور مجلة:" النقد الثقافي" التي كانت تصدر في جامعة مينيسوتا في شتى المجالات الثقافية. وبعد ذلك، أصبح النقد الثقافي يدرس في معظم جامعات الولايات المتحدة الأمريكية التي كانت تعنى أيما عناية بتدريس العلوم الإنسانية. بيد أن مصطلح النقد الثقافي لم يتبلور منهجيا إلا مع الناقد الأمريكي فنسان.ب.ليتش، الذي أصدرسنة 1992م كتابا قيما بعنوان:" النقد الثقافي:نظرية الأدب لما بعد الحداثة".ومن ثم، فليتش هو أول من أطلق مصطلح النقد الثقافي على نظرية مابعد الحداثة، واهتم بدراسة الخطاب في ضوء التاريخ والسوسيولوجيا والسياسة والمؤسساتية ومناهج النقد الأدبي. وتستند منهجية ليتش إلى التعامل مع النصوص والخطابات ليس من الوجهة الجمالية ذات البعد المؤسساتي، بل تتعامل معها من خلال رؤية ثقافية تستكشف ماهو غير مؤسساتي وماهو غير جمالي. كما يعتمد النقد الثقافي عند ليتش على التأويل التفكيكي، واستقراء التاريخ، والاستفادة من المناهج الأدبية المعروفة، والاستعانة بالتحليل المؤسساتي... كما أن منهجية ليتش هي منهجية حفرية لتعرية الخطابات، بغية تحصيل الأنساق الثقافية استكشافا واستكناها، وتقويم أنظمتها التواصلية مضمونا وتأثيرا ومرجعية، مع التركيز على الأنظمة العقلية واللاعقلية للظواهر النصية لرصد الأبعاد الإيديولوجية، متأثرا في ذلك بجاك ديريدا، ورولان بارت، وميشيل فوكو...
ويعني هذا أن ليتش ينتمي إلى نقد ما بعد الحداثة، حيث يلتجىء إلى تشريح النص تفتيتا وتفكيكا، واستجلاء الأنظمة غير العقلية والأنساق الثقافية الإيديولوجية ضمن رؤية انتقادية وظيفية. وبتعبير آخر، يتعامل ليتش مع النص أو الخطاب من خلال التركيز على الأنظمة العقلية واللاعقلية، وتفكيكها اختلافا وتقويضا وتضادا، وذلك على غرار التصور التفكيكي عند جاك ديريدا. ويعمل ليتش أيضا على نقد المؤسسة الأدبية التي توجه أذواق القراء بالطريقة التي ترتضيها هذه المؤسسة. ومن ثم، ينتقد ليتش المؤسسة الثقافية التي كان لها تأثير سلبي على طريقة التلقي والاستجابة لدى القراء. وهنا، يتفق ليتش في نقده مع نقاد استجابة القارىء، مثل: بليتش وفيش... ويتفق كذلك مع نقاد مؤسسة الأدب كتودوروف وكوللر، وتأثر كذلك بميشيل فوكو، وجيل دولوز، وليوتار الذين انتقدوا مؤسسات المجتمع الاستهلاكي من خلال ربط الخطاب بالمؤسسة. كما يستعرض ليتش مجموعة من الأعمال الثقافية التي تنتمي إلى النقد المؤسساتي، مثل: كتاب إدوارد سعيد عن "الاستشراق"، وكتاب ميشيل فوكو حول: " السلطة والمعرفة". وهنا، يضيف ليتش مصطلحا آخر إلى نظرية التقويض لدى جاك ديريدا، وهو مصطلح التمأسس (Instituting)، ويعني المصطلح استحالة الهروب من المؤسسة، بدلالة أنه لايمكن محاربة المؤسسة إلا بواسطة مساءلة المؤسسة نفسها.
ومن أهم النقاد العرب الذين انبهروا بالنقد الثقافي عند فانسان ليتش هو الناقد السعودي عبد الله محمد الغذامي في مجموعة من كتبه النظرية والتطبيقية، مثل: " " النقد الثقافي: قراءة في الأنساق الثقافية الغربية" (2000م)، وكتاب :" تأنيث القصيدة والقارىء المختلف"(1999م). وكتاب:" نقد ثقافي أم نقد أدبي" (2004م)...
فإذا أخذنا كتابه القيم:" النقد الثقافي" الذي ظهر في طبعته الأولى سنة 2000م، فيحدد فيه الكاتب مفهومه للنقد الثقافي، ويذكر أهم الخلفيات المعرفية التي كانت وراء ظهور النقد الثقافي، مع التركيز على (فانسان ليتش) باعتباره رائد النقد الثقافي في الحقل النقدي الأمريكي. وبعد ذلك، ينتقل الكاتب إلى توضيح عدته المنهجية التي حصرها في مجموعة من المفاهيم، كالجملة الثقافية، والمجاز الثقافي، والتورية الثقافية، والدلالة الثقافية، والوظيفة النسقية، والنسق المضمر، والمؤلف المزدوج...ومن ثم، يخلص الكاتب إلى تطبيق منهجيته الثقافية على الشعر العربي القديم والحديث والمعاصر، مركزا على أشعار المتنبي، وأبي تمام، ونزار قباني، وأدونيس...
هذا، وقد توصل الباحث إلى أن هذا الشعر كان شعر الفحولة، والتغني بالطاغية الذكوري، وقد امتد هذا إلى شعر الحداثة الذي صار شعرا رجعيا ؛ لأنه يسير على النهج القديم في تمجيد الفحولة والطاغية. وفي هذا النطاق، يقول الغذامي:" تصنع أدونيس شعرا جميلا وخلابا، لكنها لاتضيف شيئا جديدا جدة جوهرية إلى الثقافة العربية، ذلك لأن الشعر مذ معرفة الإنسان به يقوم على هذه الأسس، وهي أسس خالصة الشعرية، ولقد تشبعت الذات العربية بها منذ الأزل، وهي في عرفنا ما أسهم في شعرنة الشخصية العربية، وصيغها بالصبغة الشعرية، حتى صار النموذج الشعري هو الصيغة الجوهرية في المسلك والرؤية، مما سمح للنسق الفحولي التسلطي والفردي بأن يظل هو النهج والخطة.
وبما إن أطروحة أدونيس تدور حول هذا النموذج النسقي وتصدر عنه، فإنها لايمكن أن تكون أساسا للتحديث الفكري والاجتماعي.وملاحظة أدونيس على غياب الحداثة في البعد الاجتماعي والفكري صحيحة بالضرورة، والسبب فيه وفي نموذجه الذي هو نموذج مغرق في رجعيته، وإن بدا حداثيا، وادعى ذلك، إنها حداثة في الشكل وحداثة فردية متشعرنة، فيها كل سمات النموذج الشعري، بجماليته من جهة، وبنسقيته من جهة ثانية.".
أما في كتابه الثاني :" نقد ثقافي أم نقد أدبي؟"#، فقد دخل في سجال نقدي مع الدكتور عبد النبي اصطيف حول مبادىء النقد الثقافي، وقد تبين لنا مدى التباعد بين الكاتبين، واختلاف وجهة نظريهما بشكل طبيعي. فالأول يدافع عن النقد الثقافي، والثاني يدافع عن النقد الأدبي.
هذا، ويصدر الباحث الجزائري حفناوي بعلي كتابا بعنوان:" مدخل إلى نظرية النقد الثقافي المقارن، وقد اعتمد في عرض آرائه على كتابات عبد الله الغذامي، التي تعتبر مراجع ومصادرأساسية لكل الكتابات العربية في النقد الثقافي بحثا وجمعا وتوثيقا ونقدا.
أما الدكتور صلاح قنصوة في كتابه:" تمارين في النقد الثقافي. فإنه يدرس الجمل والأمثال الشعبية الشائعة والمتداولة بين الناس، وذلك في ضوء المقاربة الثقافية القائمة على مجموعة من التصورات الفلسفية ذات الطابع الاجتماعي، لكي يقيم الدليل على انعدام الهوة بين الإنسان العامي والإنسان المثقف، مختلفا في ذلك مع أبي حامد الغزالي، وابن سينا، وأبي حيان التوحيدي. ومن ثم، يتضمن الكتاب قواعد وتمارين تطبيقية ووضعيات للإنجاز.
وعليه، يعرف صلاح قنصوة الثقافة بأنها فعالية سلوكية وذهنية وفكرية يمكن تعليمها وتعلمها، ويتم نقلها عبر الأنساق و النظم الإجتماعية. وبعد ذلك، يقسم الثقافة إلى ثلاثة مستويات، ثقافة الجلد، و هى تتضمن العرق و الدين و اللغة، و ثقافة المشترك أو المتصل القومى، و الثقافة المعاصرة للمجتمع أو الأمة.
هذا، ويعرف النقد الثقافي بأنه دراسة النصوص والخطابات في ضوء المقاربة الثقافية، باعتبار أن النص حامل لثقافة معينة سواء أكانت مادية أم معنوية، قولا أم ممارسة فعلية. وبالتالي، يحصر النقد الثقافي في نقد الأساطير والأوهام على غرار تفكيكية جاك ديريدا، ونقد الأصولية الدينية تقويضا وتفكيكا، والوقوف ضد فكرة صراع الحضارات التي يطرحها صمويل هتنغتون، وتعرية الداروينية الجديدة، ونقد كل الأفكار والقضايا المستجدة في الساحة الفكرية العالمية بصفة عامة، والساحة العربية بصفة خاصة.
علاوة على ذلك، ينتقد بعض النصوص في ضوء المقاربة الثقافية كدراسة :" ألف ليلة وليلة" الزاخرة بالأنساق الجمالية والثقافية والفلسفية والحجاجية. كما يرصد المؤلف ثنائية الهوية والغير من خلال الدفاع عن الذات، ولكن الكاتب يمارس في الوقت نفسه النقد الذاتي لتقويم بنية الثقافة العربية تفكيكا وتشريحا ورصدا.
ومن الكتب التي تندرج ضمن النقد الثقافي ماكتبه محسن جاسم الموسوي تحت عنوان:" النظرية والنقد الثقافي".
حيث يرى الكاتب بأن النقد الثقافي قد ظهر مرافقا لنظريات مابعد الحداثة أو مابعد البنيوية، وأن هذا النقد يستعين بمجموعة من العلوم المعرفية، لمعرفة أثر فعل الثقافة في المجتمعات. ويعنى الكتاب بقضية الحياة الثقافية وتعقيداتها وأنساقها في المجتمعات العربية. و الكتاب في الحقيقة دعوة صريحة لممارسة النقد الذاتي، وتصحيح أخطائنا وعيوبنا، والنظر إلى الواقع بمنظار تفكيكي حقيقي، بغية التحرر من شرنقات النقص والتخلف والتقوقع الحضاري. ويرى جاسم الموسوي بأن النقد الثقافي يهتم كثيرا بتناول النصوص والخطابات التي تحيل على الهامشي والعادي والمبتذل والعامي واليومي والسوقي والوضيع، وذلك في مقابل النصوص المنتقاة للكبار والمشهورين من الكتاب والمبدعين.
ويكاد يتفق محسن جاسم الموسوي مع عبد الله الغذامي، حينما يعتبر نظرية السرقات الشعرية وفكرة الطبقية لدى الجمحي وغيره تكريسا للثقافة المركزية القرشية، التي كانت تتحكم بشكل من الأشكال في توجيه متلقي الشعر العربي، إذ كانت تفرض مجموعة من مقاييس التقبل والاستجابة، وتشترط معايير الاستساغة الجمالية والفنية الصحيحة...
المؤثـــــرات الثقافيــــة :
استفاد النقد الثقافي نظرية وتطبيقا من حقول ومجالات معرفية عدة، مثل: الفلسفة، والبلاغة، والأدب، والنقد. كما انفتح على مجموعة من المناهج النقدية تمثلا أو معارضة، مثل : البنيوية، والسيميائيات، والتفكيكية، والتأويلية، والنقد النسائي، والبنيوية الأنتروبولوجية، وجمالية القراءة، والماركسية الجديدة، والتاريخانية الجديدة، والنقد الكولونيالي أو ما يسمى أيضا بالنقد الاستعماري، والنقد الجنوسي... وبصفة عامة، لقد تأثر النقد الثقافي أيما تأثر بالنقد الحداثي والنقد ما بعد الحداثي على حد سواء.
كما تأثر هذا النقد الثقافي بكتابات ريتشاردز، ورولان بارت، وميشيل فوكو، وجاك ديريدا. وفي هذا النطاق، يقول الغذامي في كتابه:"النقد الثقافي":" لقد تدرجت النقلات النوعية في مجال النظر النقدي من أطروحة ريتشاردز في التعامل مع القول الأدبي بوصفه (عملا) إلى رولان بارت الذي حول التصور من (العمل) إلى (النص)، ووقوفه على الشفرات الثقافية كما فعل في قراءته لبالزاك وفي أعماله الأخرى التي فتح فيها مجال النظر النقدي إلى آفاق أوسع وأعمق من مجرد النظر من (النص) إلى (الخطاب)، وتأسيس وعي نظري في نقد الخطابات الثقافية والأنساق الذهنية. جرى الوقوف على فعل الخطاب وعلى تحولاته النسقية، بدلا من الوقوف على مجرد حقيقته الجوهرية، التاريخية أو الجمالية."
ويبدو لنا من هذا أن النقد الثقافي أقرب إلى المنهج التفكيكي من باقي المناهج الأخرى ؛ نظرا لوجود مجموعة من القواسم المشتركة التي تتمثل في : الاختلاف، والتشريح، والنص المضاد، والتقويض، واستكشاف المضمر والمختلف...
وعليه، فقد ظهر النقد الثقافي في الغرب كرد رد فعل على النظرية الجمالية، والبنيوية اللسانية، والسيميائيات النصية، والبويطيقا، وفوضى التفكيك وعدميته، وذلك باتجاهاته المختلفة: الماركسية الجديدة، والمادية الثقافية، والتاريخانية الجديدة، وما بعد الكولونيالية، والنقد النسوي...
هذا، وقد ارتبط النقد الثقافي، وذلك على مستوى التحليل، وتشغيل الآليات المنهجية، بمجموعة من العلوم الإنسانية، كالتاريخ، والإثنولوجيا، والأنتروبولوجيا، وعلم النفس، وعلم الاجتماع، والفلسفة، وعلوم الإعلام، وعلوم الحضارة.... إذاً، " فقد تبنت الدراسات الثقافية دور مساءلة العلوم المنتمية إلى الحقل الاجتماعي وعلوم الإنسان، واستجوبت ممارسات النقد الأدبي التقليدية وممارسات النظرية الجمالية، ولعبت فيها دورا حاسما، وهذا ما يجعلها إفرازا للنظرية البنيوية وما بعدها، وتجسيدا لما يمكن أن تفضي إليه مابعد البنيوية من دور في الحياة العامة، وهو دور أحجمت عنه ما بعد البنيوية في صورتها التقويضية لأسباب منهجية تتعارض جذريا مع طرحها، لكن الدراسات الثقافية تبنته، واعتبرته وازع قوتها، ودافع نشاطها."
وهكذا، فالنقد الثقافي هو مجموعة من المناهج والمقاربات المتعددة الاختصاصات التي تصب كلها في الحقل الثقافي، وخدمة الأنساق المضمرة اللاعقلية والأنظمة الإيديولوجية.
3- مواضيع النقــــد الثقافي:
تتناول الدراسات الثقافية بصفة عامة والنقد الثقافي بصفة خاصة المواضيع ذات الطبيعة الثقافية والذهنية والفكرية سواء أكان ذلك في المجتمعات الطبيعية البدائية أم المجتمعات الثقافية المتمدنة.أي: دراسة ثقافات المجتمع المختلفة، ودراسة نظمه، وقيمه، وعاداته، وتقاليده، وأنماط تفكيره وتصوره. والتعريف كذلك بوسائطه، وفنونه، وإنسانياته. ويعني هذا أن الثقافة ترتبط بعالم الفن، والخيال، والأفكار، والتشكلات البشرية، والتركيز على المؤسسات الثقافية، وتبيان أنظمتها الدلالية، ومعرفة كل ما أنتجته الثقافة وما أفرزته.
ومن ثم، فالنقد الثقافي هو الذي يدرس النصوص والخطابات ضمن أنساقها الثقافية المضمرة، سواء أكان ذلك في الشعر أم الرواية أم القصة أم المسرح، بل يمكن القول : إن النقد الثققافي يمكن تطبيقه في جميع المجالات الأدبية والفنية. وبالتالي، يدرس النقد الثقافي مواضيع الطابو( المرأة، والجنس، والشذوذ، والسحاق، واللواطية، والاغتصاب...)، وعلاقة الأنا بالغير، والهويات المهمشة، والمواضيع المرفوضة والممنوعة في الأوساط الأكاديمية، كما تنكب على الأعراف غير المقبولة مؤسساتيا. وبهذا، تتحول ثقافة الهامش إلى ثقافة المركز. ومن " هذه الصعوبة القاهرة، أصبح التعامل مع الثقافة تعاملا محليا. أي: ضمن المؤسسة (الثقافة) الخاصة. ولذلك، يأتي تعريف الثقافة أبدا مقصورا على خصوصية مجتمعه، ومقصورا على ذاتية الخصوصية.أي: إن النظام الثقافي في خصوصيته سيبقى منغلقا على نفسه مهما حاول الانفتاح. ليس مستغربا أن نجد دراسات الثقافة تصب اهتمامها على جزئية فرعية أو على مجتمعات صغيرة جدا ومحدودة كالاهتمام بجزئية من قيم المجتمعات البدائية في علم الأنتروبولوجيا، أو دراسات الجنوسة (التذكير والتأنيث) كموضوعة (تيمة) في نصوص بعينها، أو التركيز على الجنس في الدراسات النسائية، وهلم جرا. ويعود سبب الخصوصية المنغلقة إلى حد الثقافة نفسه، وخصوصية الثقافة ذاتها. فإذا كان الحد يقضي بأن الثقافة نظام دلالي، فلابد أن يقف النظام الدلالي نفسه حدا بين ثقافة وأخرى."
وعليه، فمواضيع النقد الثقافي عديدة ومتنوعة، ومن الصعب استقصاؤها، أما في مجال النقد الأدبي، فيدرس النقد الثقافي النصوص والخطابات من خلال الانتقال مما هو جمالي إلى ماهو ثقافي وتاريخي وسياسي وإيديولوجي ومؤسساتي.
4- مرتكزات النقــــد الثقافي:
ينبني النقد الثقافي على مجموعة من الثوابت والمفاهيم النظرية والتطبيقية، وهي بمثابة مرتكزات فكرية ومنهجية، لابد أن ينطلق منها الباحث أو الدارس لمقاربة النصوص والخطابات فهما وتفسيرا وتأويلا. وتتمثل هذه المفاهيم والمرتكزات في العناصر التالية:
الوظيفة النسقية: ويرى الغذامي أنه لابد من ربط النقد الثقافي بالنسقية، فإذا كان رومان جاكبسون قد حدد ست وظائف لستة عناصر، الوظيفة الجمالية للرسالة، والوظيفة الانفعالية للمرسل، والوظيفة التأثيرية للمتلقي، والوظيفة المرجعية للمرجع، والوظيفة الحفاظية للقناة، والوظيفة الوصفية للغة. فقد حان الوقت لإضافة الوظيفة النسقية للعنصر النسقي. ويعني هذا أن النقد الثقافي يهتم بالمضمر في النصوص والخطابات، ويستقصي اللاوعي النصي، وينتقل دلاليا من الدلالات الحرفية والتضمينية إلى الدلالات النسقية.
 الدلالــــة النسقية: يستند النقد الثقافي إلى ثلاث دلالات: الدلالة المباشرة الحرفية، والدلالة الإيحائية المجازية الرمزية، والدلالة النسقية الثقافية. و" إذا قبلنا – يقول الغذامي- بإضافة عنصر سابع إلى عناصر الرسالة الستة، وسميناه بالعنصر النسقي، فهو سيصبح المولد للدلالة النسقية، وحاجتنا إلى الدلالة النسقية هي لب القضية، إذ إن ما نعهده من دلالات لغوية لم تعد كافية لكشف كل ماتخبئه اللغة من مخزون دلالي، ولدينا الدلالة الصريحة التي هي الدلالة المعهودة في التداول اللغوي، وفي الأدب وصل النقد إلى مفهوم الدلالة الضمنية، فيما نحن هنا نقول بنوع مختلف من الدلالة هي الدلالة النسقية، وستكون نوعا ثالثا يضاف إلى الدلالات تلك. والدلالة النسقية هي قيمة نحوية ونصوصية مخبوءة في المضمر النصي في الخطاب اللغوي. ونحن نسلم بوجود الدلالتين الصريحة والضمنية، وكونهما ضمن حدود الوعي المباشر، كما في الصريحة، أو الوعي النقدي، كما في الضمنية، أما الدلالة النسقية فهي في المضمر وليست في الوعي، وتحتاج إلى أدوات نقدية مدققة تأخذ بمبدإ النقد الثقافي لكي تكتشفها، ولكي تكتمل منظومة النظر والإجراء.".
وما يهمنا في هذه الدلالات الثلاث هي الدلالة الثقافية الرمزية التي تكتشف على مستوى الباطن والمضمر، فتصبح أهم من الدلالتين السابقتين: الحرفية والجمالية.
الجملة الثقافية: يعتمد النقد الثقافي على التمييز المنهجي بين ثلاث جمل رئيسة، وهي: الجملة النحوية ذات المدلول التداولي، والجملة الأدبية ذات المدلول الضمني والمجازي والإيحائي، والجملة الثقافية التي هي:" حصيلة الناتج الدلالي للمعطى النسقي، وكشفها يأتي عبر العنصر النسقي في الرسالة، ثم عبر تصور مقولة الدلالة النسقية، وهذه الدلالة سوف تتجلى وتتمثل عبر الجملة الثقافية. والجملة الثقافية ليست عددا كميا، إذ قد نجد جملة ثقافية واحدة في مقابل ألف جملة نحوية. أي: إن الجملة الثقافية هي دلالة اكتنازية وتعبير مكثف."
ونفهم من كل هذا أن الجملة الثقافية هي الهدف والمرمى، وأنها تعنى باستكشاف المنطوق الثقافي، وتحصيل المعنى السياقي الذي يحيل على المرجع الثقافي الخارجي.
 المجاز الكلي: يهدف النقد الثقافي إلى استخلاص المجازات الثقافية الكبرى التي تتجاوز المجاز البلاغي والأدبي المفرد، حيث يتحول النص أو الخطاب إلى مضمرات ثقافية مجازية:" وهذا، معناه أننا بحاجة إلى كشف مجازات اللغة الكبرى، والمضمرة، ومع كل خطاب لغوي هناك مضمر نسقي، يتوسل بالمجازية والتعبير المجازي، ليؤسس عبره قيمة دلالية غير واضحة المعالم، ويحتاج كشفها إلى حفر في أعماق التكوين النسقي للغة، وما تفعله في ذهنية مستخدميها.
والمجاز الكلي هو الجانب الذي يمثل قناعا تتقنع به اللغة لتمرر أنساقها الثقافية دون وعي منا، حتى لنصاب بما سميته من قبل–يقول الغذامي- بالعمى الثقافي. وفي اللغة مجازاتها الكبرى والكلية التي تتطلب منا عملا مختلفا لكي نكشفها، ولا تكفي الأدوات القديمة لكشف ذلك، وخطاب الحب مثلا هو خطاب مجازي كبير، يختبىء من تحته نسق ثقافي، ويتحرك عبر جمل ثقافية غير ملحوظة.
ويعني هذا أن النص أو الخطاب الثقافي يتحول إلى استعارات ومجازات كلية تحمل في طياتها مدلولات ومقصديات ثقافية مباشرة وغير مباشرة.
التورية الثقافية: تتكىء التورية الثقافية في النقد الثقافي إلى معنيين : معنى قريب غير مقصود، ومعنى بعيد مضمر، وهو المقصود. ويعني هذا أن التورية الثقافية هي كشف للمضمر الثقافي المختبىء وراء السطور. وفي هذا الصدد، يقول الغذامي:" وتبعا لمفهوم المجاز الكلي بوصفه مفهوما مختلفا عن المجاز البلاغي والنقدي، فإن التورية هي مصطلح دقيق ومحكم، وهو في المعهود منه يعني وجود معنيين أحدهما قريب والآخر بعيد، والمقصود هو البعيد، وكشفه هو لعبة بلاغية منضبطة، ونحن هنا نوسع من مجال التورية لالتكون بهذا المعنى البلاغي المحدد، ولكننا نقول بالتورية الثقافية. أي:إن الخطاب يحمل نسقين، لامعنيين، وأحد هذين النسقين واع والآخر مضمر.
وهكذا، يوسع الغذامي البلاغة العربية القديمة، ليتخذ من التورية مفهوما إجرائيا جديدا، بغية تطبيقه على النصوص في ضوء المقاربة الثقافية.
 النسق المضمر: يعتمد النقد الثقافي على مصطلح النسق المضمر، وهو نسق مركزي في إطار المقاربة الثقافية. باعتبار أن كل ثقافة معينة تحمل في طياتها أنساقا مهيمنة، فالنسق الجمالي والبلاغي في الأدب يخفي أنساقا ثقافية مضمرة. وبتعبير آخر، ليس في الأدب سوى الوظيفة الأدبية والشعرية، فهناك كذلك الوظيفة النسقية التي يعنى بها النقد الثقافي. وفي هذا الصدد، يقول عبد الله الغذامي:" نزعم في عرضنا لمشروع النقد الثقافي، أن في الخطاب الأدبي، والشعري تحديدا، قيما نسقية مضمرة، تتسبب في الـتأسيس لنسق ثقافي مهيمن ظلت الثقافة العربية تعاني منه على مدى مازال قائما، ظل هذا النسق غير منقود ولا مكشوف بسبب توسله بالجمالي الأدبي، وبسبب عمى النقد الأدبي عن كشفه، مذ انشغل النقد الأدبي بالجمالي وشروطه، أو عيوب الجمالي، ولم ينشغل بالأنساق المضمرة، كنسق الشعرنة."
ويعني هذا أن النقد الثقافي يكشف أنساقا متناقضة ومتصارعة، فيتضح بأن هناك نسقا ظاهرا يقول شيئا، ونسقا مضمرا غير واع وغير معلن يقول شيئا آخر. وهذا المضمر هو الذي يسمى بالنسق الثقافي. وغالبا ما يتخفى النسق الثقافي وراء النسق الجمالي والأدبي. ومن ثم، فاستخلاص الأنساق الثقافية المضمرة ذات قابلية جماهيرية شعبية، على عكس الأنساق النخبوية التي لاتلقى شعبية عامة على مستوى الاستقبال والاتصال. بمعنى أن النقد الثقافي في خدمة القيم الإنسانية وخدمة الإنسان كيفما كان مستواه الاجتماعي والطبقي والعرقي والإثني:" إن قيما مثل: قيم الحرية، والاعتراف بالآخر، وتقدير المهمش والمؤنث، والعدالة، والإنسانية، هي كلها قيم عليا تقول بها. أي : ثقافة، ولكن تحقيقها عمليا ومسلكيا هو القضية. ولو حدث وكشفنا أن الخطاب الأدبي الجمالي، الشعري وغيره، يقدم في مضمره أنساقا تنسخ هذه القيم وتنقض ماهو في وعي أفراد. أي: ثقافة، فهذا معناه أن في الثقافة عللا نسقية لم تكتشف، ولم تفضح، ويكون الخطاب متضمنا لها، دون وعي من منتجي الخطاب ولا من مستهلكيه.".
ويعني هذا أن المقاربة الثقافية لايهمها في النص تلك الأبنية الجمالية والفنية والمضامين المباشرة، بل ما يعنيها هو استكشاف الأنساق الثقافية المضمرة.
المؤلف المزدوج: يمكن الحديث في إطار المقاربة الثقافية - بشكل من الأشكال- عن مؤلف مزدوج، الكاتب الجمالي والأدبي الذي ينتج أنساقا أدبية وجمالية فنية ظاهرة ومباشرة أو غير مباشرة، وذلك عن طريق الرمزية والإيحائية، وهناك في المقابل المبدع الثقافي الذي يتمثل في الثقافة نفسها التي تتوارى وراء الظاهر في شكل أنساق مضمرة غير واعية:" يأتي مفهوم المؤلف المزدوج بعد هذه المنظومة الاصطلاحية لتأكيد أن هناك مؤلفا آخر بإزاء المؤلف المعهود، وذلك هو أن الثقافة ذاتها تعمل عمل مؤلف آخر يصاحب المؤلف المعلن، وتشترك الثقافة بغرس أنساقها من تحت نظر المؤلف، ويكون المؤلف في حالة إبداع كامل الإبداعية حسب شرط الجميل الإبداعي، غير أننا سنجد من تحت هذه الإبداعية وفي مضمر النص سنجد نسقا كامنا وفاعلا ليس في وعي صاحب النص، ولكنه نسق له وجود حقيقي، وإن كان مضمرا، إننا نقول بمشاركة الثقافة كمؤلف فاعل ومؤثر، والمبدع يبدع نصا جميلا فيما الثقافة تبدع نسقا مضمرا، ولايكشف ذلك غير النقد الثقافي بأدواته المقترحة هنا."
ويعني هذا أن هناك فاعلين رئيسين: المبدع الفردي أو مايسمى أيضا بالمبدع الأدبي والجمالي والفني، والفاعل الثقافي الذي يتمثل في السياق الثقافي. وثمة مفاهيم أخرى لم يشر إليها عبد الله الغذامي، مثل: السياق الثقافي، والمقصدية الثقافية، والتأويل الثقافي.
بقلم الباحث محمد زيطان.