غاية ورد بقلم: محمود حسونة
تاريخ النشر : 2019-02-18
غاية ورد بقلم: محمود حسونة


1- أسطورة شجعان البحر!!!
سرقت من شالها اللون الأحمر، اللون الذي يشبه روحي وجنوني… أنا سارق الألوان!!!
امتلأ بياض الورقة بأسراري الخفية، وأصوات ممتلئة بالحنين!!!
غابة ورد أحمر لا حدود لها… تزحف في سواد الشوق الخجول!!!
التقى الشقيّان الأسود والأحمر في أسطورة الأميرة!!!
الأميرة تطل من نافذتها الواسعة في عمق البحر الأزرق في مدينتها الحالمة، هناك على الشاطئ البعيد، البعيد جدا…. مدينة تملؤها الأنوار بالأخضر... أي خرافة هذه؟؟!!
لم تخرج اللوحة بشكل كامل!!!
لقد صار اللون الأحمر يزداد لهيبا بين أصابعي!!! صرت ألعب بالجمر وبالنار!!! اللهيب الأحمر يلتهم ريشتي وأصابعي!!!
لم أستطع قول كل ما في قلبي، مرارة عمري الذي لم يسعفني وغربتي تسدُّ حلقي!!!
تأملت خربشات الألوان مليّا، توغلت في كثافة الأحمر والأسود والأخضر و ضوء خافت للقمر!!!
ثمة صورة كريش طائر الحسون، لكنهاخفيّة تختبئ لا تظهر بوضوح!!!
غرفت حفنة من رذاذ الضوء ونثرته فوق الصورة، فأخذت تلتقي ثم تغيب في قلبي وتدور وتدور وتدور وأدور معها… تصعد في أعلى رأسي ثم تنزلق عميقا في أقصى أطرافي…
أشعر بأني ضائع كطائر غريب في سماء حارقة ليست لي!!!
الصورة حضرت ثمّ غابت!!!
غاب القمر منذ قرون عن سواحلنا!!! لقد رحلت الأميرة بجدائلها وشالها الأحمر وكنوزها إلى سواحلها الجديدة ؛ لتقيم مملكتها العاشقة!!!
فهل أطير إليها من بين الرماد كطائر أسطوري، أو أركب قاربي وأبحر في بحر عينيها العميق؛ فيكون لدي حظ الوصول إلى شاطئها البعيد؟؟!!
سأكون بطلا في أسطورة (إليسا ديدون)التي تركت سواحلنا وأنشأت مملكتها الحالمة، كخرافة جميلة في مملكة قرطاج البعيدة القريبة!!!
2- رسم الطبشور…
وردتي الحمراء الأولى!!!
عندما يحلق الماضي مع الأغاني المؤلمة؛ أتذكر تلك الأيام:
ذات مساء والمخيم في سكون، رسمت بالطبشور أغنيتي الأولى على الجدران الرمادية… وردة حمراء وطفلتي ذات الضفائر الغجرية!!!
حلم صغير تحفه الطيور…
انتظرت نهارا تلو آخر لولادة الوردة...
ما كنت أعلم أن هناك هزيمة!!!
ولم أفهم كيف يمكن أن يكون الحلم حبا محرما؟؟!!
فوجئت... لقد هجم الجنود فصار سكون المخيم يئن من خطوات الجنود الثقيلة…
و الجدران ازدحمت بضجيج الصور… وبهتت خطوط وعلامات الطبشور!!!
حاولت الإغفاء على طُهر التراب متأبطا أحلامي وسنواتي المنهكة!!! فطوقتني بنحيب مخنوق!!!
لم تعد الأماكن تتسع لعينيك يا صغيري!!! ولا يليق الصباح بالسنونو وبالياسمين!!!
تأجج الحلم...
فرسمته على سطح السماء تحفة الملائكة … حلم السلام القاسي، حلم الأماني المسروقة من قسوة قلب الجنون!!!
مازلت أنتظر الشتاء لعله يأتي بالفرح والسكون...
3- أولا... ولا أخيرا...
هي عناد الموج، تقبض البرق وتحوله ثريات وعناقيد ماسية لعرائش الدوالي وزهر اللوز…
هنا جذر تقفز غصونه من جديد؛ لتعود الحكاية من أولها في مساحة الرواية لأزهار الليمون…
تسرح ضفائرها وهي مثخنة بالجرح، وتنشرها كأصوات الرعد صعودا إلى الشمس…
تسير إلى حقل الجنة بطوفان مذبحة، فينفتح الدرب برنين الدم وصوت الصهيل….
رعشة فتيان الأزقة وهم يرجّون قضبان الموت المعبئة بسر الضوء…
حلم يتفتح كنوّار الربيع، ويجتاز هشاشة القفار الممتدة، ليتأكد الحلم الذي يتراءى بين أصابعها رغما عن التغريب…
فهل يضيق الكوكب بها ؟؟!!!
4- رقصة الفراشة
انطفأت الأنوار فأشعلت شمعتي…
انزلقت شيئا فشيئا في عذوبة اللحظة...أتأمل سحر الألوان واللهيب…
أغرق في تفاصيل الضوء والفراشة والظلال ….أرى وأسمع وأستمتع بالفراشة تحوم في حديقتي تجمع الألوان والضوء بجناحها الرقيق!!!
اللهيب حفلة زفاف الفراشة الأنيق، تتراقص حوله تلامسه بجناحها تغرف منه الضوء، ثمّ تقترب مني كالهمسة، ترشق بخفة وجهي بالنور، كرذاذ عطر منعش، وتكحل عيني بالضوء، وأنا مشدود إليها أتمتم وأغني لها كطفل أغاني الفرح والضوء والربيع!!!
تذهب وتجيء بالضوء، ثم تنزلق إلى قلبي بهدوء تسحره بلون ناعم، ثمّ تعبر جسمي إلى أعمق نقطة، كفرح واسع وكبير…
ترتب الفوضى، تمسح بأجنحتها آلامي، تلتقط الغبار والحزن وترميه في الفراغ خارج أسوراي فأشعر بما لا يوصف وأستريح !!!!
الفراشة… ريشة ربّي تزيني بالأضواء والفرح والألوان …
تنام على خدي كأنه خِدر لذيذ بها يليق، وتحكي لي حكايات الأزهار والندى والعيد، وحكاية من ألف ليلة وليلة عن الجنية التي سحرت الأميرة إلى فراشة …
أية أغنية هذي التي تصدح في حديقتي؟؟!! أية سحابة هذي التي تمطرني وتبللني بعسل الضوء؟؟!!
أخذتني نشوى وحمى الضوء!!! صرت أركض وراء فراشتي حافيا وهي ترتجف أمامي وتصرخ من فرط هشاشتها...
ثم صرت أطير كحمامة تتبع خيط حرير...
لكن فراشتي سقطت في اللهيب!!! احترقت فراشتي، وناحت حمامتي وانطفأ النور...
صدمني الفراق وكل الخوف، لقد تركتني فراشتي وحيدا على حافة الطريق!!!
هل سقطت الفراشة في اللهيب لتعيش حياة العسل الأبدية كما تقول الأساطير؟؟!!!
الفراشة التي التهمها اللهيب هي حبيبتي، النجمة الهاربة في البعيد ويتبعها قلبي ويستجير!!!
5- غزالة نزقة…
جلست كأميرات الأساطير على ضفة النهر، وهي تشعُّ بالشغف و الأحلام...
سنبلة من أغاني الربيع، تداعب الماء بقدميها، وتسرّح ضفائرها الغجرية مع النسيم كنغمة ناي ناعس و رقيق... عصافير وفراشات ملونة تغازلها، وأنغام تحوم حولها تراقصها وتلاعب شالها ..
جذبتني من قلبي الكبير، وتناثرت حنينا إليها و هي تناديني بنظرات عينيها الهائلتين الحارقتين المسرفتين في الجنون... اقتربت منها فحلقت كعصفورة بعيدا، ثم عادت وحطّت على كتفي...
فرشت لها البحر سريرا، وحملت القمر وطرحته بين يديها ،فأسقطته من بين أصابعها، وفرّت كغزالة نزقة!!!
قالت: أنا الأميرة التي لا يتسع لها عرش ولا تاج، أنا الأميرة المتهادية فوق الغمام، أنا الأميرة التي لا تنحني... الكريمة ابنة الكرام....
لا تنزعوا النصل من قلبي، دعوها تبث عسلها المر في دمي.
ها أنذا عطشان والنهر يجري أمامي، يجتاحني البرد، و النار في قلبي!!!! أنا آثمٌ؛ لأنّي لم أتعلم عشق الأميرات !!!
6- تنازل!!!
يا من نحبهم، يشهد الله علينا ومن في الأرض ومن في السماء، أننا نحب أن نهديكم كل ما لدينا من حب ووفاء... وإن دارت الأيام، وقست قلوبكم!!! وقررتم الرحيل!!!
فارحلوا بصمت!!! ارحلوا صامتين بلا أعذار؛ لتبقى ذكراكم طاهرة في خاطرنا كعبق الأزهار!!!
7- عجائب!!!
عاش عشرين عاما!!!
عاش طويلا رغم النكبات والنكسات والسرقات والشعارات والانتخابات والاتفاقيات والترّهات والخطابات والهتافات والمغامرات والنفقات والمخابرات والإصلاحات والتحديات والثورات والثروات والمخططات والانتصارات المزيفة!!! كيف استطاع أن ينجو عشرين عاما من هذا الجحيم؟؟!!!
8-هَدهَدة...
كان الصوت يأتيني من بعيد… كخيط ضوء دقيق وخافت، يصبُ في عيني وينمنم في أذني، يشتعل ثم ينطفئ كالومضات… ثم صار الصوت هالة بيضاء، صورة مبهمة …
أسبلت جفنيّ أحاول أن أجمع فتات ملامحها من تلافيف ذاكرتي، وأشتم رائحتها التي تشبه رائحة الفجر الناعمة...
منذ زمن بعيد لم أر وجه أمي، لقد غابت وتركت جرحا عميقا في روحي و ذاكرتي...
نهضت من سريري مسرعا، فتحت الباب فانسابت كقطعة ضوء ناعمة… أشعلت شموعها المعطرة، ثم أقامت صلواتها بخشوع... حضنت رأسي المتعب، لفحة نسيم باردة أحاطت بي، تلاشيت في بحر حنانها. ..
- حدّثني عن آلامك القاسية، عمّا يوجع قلبك، تحدث عن كل شيء …
أنظر إليها وأتحدث، أتفحص ملامحها وأتحدث، أقبض على رائحتها بكفي وامسح وجهي وثيابي وأتحدث... وصرخات مكتومة تخرج من فمي و أنفي وأذني وأطرافي كلهيب النار، مع أنّة وجع...
لا تغادري، تعال نتمشى في حقل القمح الذي يحبك وتحبينه،
فيلوح لك ويوشوش أذنيك بأغاني ومواويل الحصادين، وغناء الحساسين، والسنونات التي كانت تحطُ على كتفيك لتطعميها!!!
ثم نجلس تحت شجرة التوت، تحكي لي الحكايات عن جدك الكردي الكبير الذي جاء هنا متطوعا، وخطا حيث خطوات الأنبياء والأولياء، حيث أقام جميع المؤمنين صلواتهم في معابدهم وكنائسهم بسلام …. ورفض أن يغادر وتزوج من أهل هذه الأرض وتركك كوصية لهذا التراب في أفياء شجر السرو والخروب… ما يزال القلب ممتلئا بالأشواق الدفينة...
لماذا تصرين على الرحيل؟؟!! هلّا تأتي معي في قاربي الصغير في رحلة قصيرة، نصطاد بعض السمك، ونراقب النوارس العاشقات وهنّ يفلّن ريشهن، وأنت تسرحين جدائلك المخضبة بالحناء مع النسائم، وتستنشقي الهواء القادم من بلادك البعيدة، لقد مت والغُصّة تأكل قلبك عليها…
لا ترحلي، هل هذا كثيرا عليك؟؟!!!
قلبي ممتلئ بالحنين لتلك الذكريات الصغيرات السعيدات، لا تتركيني لوحدي في هذا الفراغ البهيم!!! أصارع أمواج الغدر التي تسرق مني كل شيء…
سنجلس تحت الزيتونة الهرمة صديقتك القديمة نشوي السمك على جمر الوجاق، ونصنع قهوتنا، نشرب ونتحدث عن الأرجوحة التي كنتي تهدهديني عليها تحت هذه الزيتونة، تدفعيني مبتعدا عنك فأخاف وأصرخ، ثم أعود إليك ضاحكا، فتتلقفيني ضاحكة... أضحك فتضحكين… أنام فتسهرين تحميني من الهوام، وتهشّي بغصن الزيتون عليّ لأهنأ بنوم عميق!!! ألم تكوني تتعبين؟؟!!
أرجوك ابق قليلا ولو للحظات… للحظة واحدة!!!
طارت حمامة الضوء ترفرف بأجنحتها مبتعدة إلى مفرق القمر!!!
طارت وتركتني وحيدا، لحقت بها خطوتين وثلاث فصدمني الفراغ ولفتني العتمة… أنا مهزوم لاحول لي ولاحيلة في استرداد أشيائي وحبيباتي!!!
طارت فغرقت في ظلمة الفراق والخوف، وحيدا مع الفراغ البهيم….
انكمشت على نفسي مرتعشا كما ينكمش طفل صغير من لؤم البرد!!! انسحبت إلى سريري خائفا حزينا ودفنت نفسي في غطائي كجنين ضعيف يبحث عن الدفء والأمان في رحم أمه الرحيم!!!
9- صحو !!!
قضيت ساعات أتأمل المدى البعيد بعينين منطفئتين…
ألم كبير يسري في أطرافي ويمتد ببطء ثقيل كالأوزار…
تارة أسرح في ذكرياتي المتناثرة، وتارة أخرى في أحلام مبتورة تحوم في مكانها كالدِوار!!!
في لحظات الصحو النادر، أدخل في مسارب الخيال ….أشعر أنني أحلق كعصفور صغير يعبر المسافات بلا خوف ويخترق حدود السماء إلى الأنوار …
بعدها أموت من ألام الدهشة … أي يد طاغية أطاحت بحلمي ورطمته بالأرض والجدار؟؟!!!
أغفو إغفاءة طويلةعميقة، لأقوم من جديد ، وأطير ملحقا مرة أخرى وأتحرر من السوار والأسوار !!! لا أريد الكثير!!!أريد أن أبقى غارقا في الهذيان، هذيان يلفني بالألوان، يأخذني إلى احتفالية كبرى، تشبه مسرحية صامتة لا يكدر صحوها كذب ولا عسف ولا أنواء ولا أشرار!!!
10- شمعة حرير...
تسجد في محراب النار فوق تلة مضاءة، مبللة بمناديل الندى!!!
شمعة حرير تقطر زجاجا ناريا، والملائكة حولها تزّف الضوء والنار...
تـربض على كتف الليل، تتلفع بالغبش، وتسرح جدائلها من جديد…
حُبلى بوطن... وحين باغتها المخاض ظلت تصرخ وتصرخ في بوق المدى الدامي...
تخنس، تهدأ، ترتعش، تغلي، تشهق، تفور، تنزف دما بلون الرمان…
اندفع وليدها كشمس فتية، يشق بدمه الجداول على سواحل الشآآآم …
قبض بيده الطرية زهرة فولاذية، ضغط عليها وظل يضغط و يضغط... والدم العندمي ينقط وينقط وينقط وينقط...
إذا لامسته بيديك، تشتعل بين أصابعك النار !!!
بقلم: محمود حسونة(أبو فيصل)