إنفلاق السفرجلة بقلم:عمر حلمي الغول
تاريخ النشر : 2019-02-17
إنفلاق السفرجلة بقلم:عمر حلمي الغول


نبض الحياة 

إنفلاق السفرجلة 

عمر حلمي الغول 

على غير العادة، دون الصديق حيدر عوض الله  صفحة من سجل حياته في رواية بعنوان "السفرجلة"، التي صدرت الطبعة الأولى منها عام 2016، عن دار الأهالي الأردنية، توقف فيها الروائي عند اربع محطات اساسية من تجربته الشخصية، مرحلة الطفولة وطلاق والدته من والده في مخيم النصيرات في قطاع غزة، ثم مرحلة الفتوة، التي قضاها في مخيم اليرموك ولبنان، ثم مرحلة الدراسة الجامعية في بلغاريا، واخيرا المحطة التونسية، التي واكب فيها جزءا من مسيرة الثورة، دون ان يغوص في تفاصيلها، بقدر إقترابها اوبعدها من تجربته الخاصة، وموقعه في العمل داخل إحدى دوائر منظمة التحرير الفلسطينية. 

بدأ عوض الله روايته بمقولة عاكسة أختياره عنوان الرواية، التي جاء فيها " الحياة أشد فجورا من خيالاتها .. السفرجلة حياة، كل قضمة منها بغصة." مع اني كنت اعتقد، ان الرواية حملت في ثناياها مجموعة عناوين بارزة تعكس تجربته، مثلا اللقب، الذي كانوا يلقبونه به، وهو " أبو حشكو"، اي الفضولي، الذي يدس أنفه في كل شيء، أو "الجوع". لا سيما وان تجربة المخيمات والجوع، بالإضافة للجوع الجنسي، التي لازمته في تجربته، كان يمكن ان تجمع اكثر من عنوان من حياته تحت يافطة العنوان. مع ذلك فإن إختيار عنوان "السفرجلة" لروايته، وما لازمها من ربط بين كل مرحلة، أو "قضمة"، كما ورد في مقولته، توجد غصة، وألم ومعاناة، فيه منطق، ويستجيب لدراسته الجامعية "الفلسفة"، ونبوغه فيها، حيث شاء إدخال البعد الفلسفي في العنوان. 

تجربة وجيه الطفولية في مخيم النصيرات، وفق ما أعتقد، انها تحاكي تجربة ابناء المخيمات الفلسطينية عموما في داخل الوطن والشتات. مع إستثناء في الخصوصية الخاصة لكل إنسان. ولكن لا تختلف شقاوة وجية الطفولية مع المدرسة وكرهها، والهرب منها، وذبح الحرادين واستخدام دمها لغسل اليدين بها، لمنحها قوة تحمل عصي الأساتذة، والبيارة، وسرقة البرتقال، والتنقل بين حب وآخر لبنات الجيران، ولعبة العريس والعروس، ونزعاته الطفولية البريئة، وحتى الطلاق بين والديه، لم تكن إستثنائية. ولكنها حملت نكهة حيدر عوض الله، وعلاقاته مع جده لإمه وبخله، والضغط على والدته للطلاق من ابيه، لإنه تزوج بأخرى وسافر بعد حرب حزيران 1976، والعلاقة مع اخواله، الذين تباينت العلاقة معهم أرتباطا بعلاقتهم معه، والأهم علاقته مع شقيقاته "نجاة" و"منى"، اللواتي عانين ما عاناه، وإن كانت اخته الصغرى "نجاة" محل رعاية جدتها لإمها، ثم علاقته مع ابو عنتر، زوج خالته، الذي كان بمثابة "البوليس الحربي" ليد جده، والذي كان يطارده احيانا لمجرد رؤيته. وهو ما يعكس الضيق الشديد، الذي عاناه، ووقع تحت سيفه. 

جميع اللوحات، التي ساقها نجيب (حيدر)، هي لوحات حقيقية، ومع ذلك حملت صورة الواقع على بشاعته، ومرارته، حيث سلط الضوء على معاناة سكان المخيمات، وبيوت الزينكو، والطعمة (مطعم وكالة الغوث وتشغيل اللاجئين)، وزيت السمك والحليب في المدرسة، والشوارع الآسنة، والمناعة، التي يكتسبها ابن المخيم بحكم معايشته لكل انواع الثلوث البيئي. وهنا الصورة ذاتها في كل المخيمات والتجمعات الفلسطينية، التي ربط فيها نجيب المخيم بالثورة بشكل طبيعي دون إفتعال، من خلال ربطه بين وجود والده في معترك الكفاح السياسي، وتحمله مسؤولية النضال في الحزب الشيوعي الفلسطيني بمراحل تطوره المختلفة. أضف إلى ما قام به الفتى اليافع نجيب عندما إلتحق في البداية بجبهة النضال، ثم شارك في الدفاع عن الثورة اثناء الإجتياح الإسرائيلي عام 1982 في صفوف الجبهة الديمقراطية، وما قام به من فعل بطولي بتدمير ثلاث دبابات في صوفر، ثم عودته لإحضان الحزب حيث التربة والبيئة الخصبة له من خلال إنتماء والده وخالته (زوجة ابيه) والإطار الصديق لعائلته. 

وحتى عندما أوفد للدراسة في اكاديمية العلوم الإجتماعية في صوفيا عاصمة بلغاريا، كان هناك مبعوثا من الحزب، وخاض غمار النقاش والحوار السياسي مع الأعضاء والأشقاء من فصائل العمل الوطني والقومي والأممي دفاعا عن قضيته الوطنية، التي لازمها موضوع الدراسة للفلسفة، وكذلك لم يغب عن حيدر ملاحقته للنساء في كل زاوية، إلى ان توقف عند حبيبته، التي إختارها زوجة له. واعاد ترتيب اموره الإجتماعية والسياسية والحزبية. وبقدر ما امتع القارىء، بقدر ما آلمه، وهو يتلو علينا تعقيدات الفوز بخطيبته وزوجته نتاج الواقع  والموروث الإجتماعي. وكيف إنتصرعلى العقبات والعراقيل الإجتماعية، وفرض نفسه على أنسبائه بشكل درامي، فيه الكثير من الشجاعة والفروسية، لإنه اراد الإحتفاظ بأم جنينه، التي تزوجها بشكل مدني في بلغاريا بداية الأمر، ودون علم الأهل، بإستثناء شقيقها، الذي كان يدرس في بلغاريا، وعندما حانت لحظة الحقيقة، كان عليه إشهار زواجه من زوجته بين الأهل والأقارب، إلى تمكن بعد كفاح تمكن من عقد قرانه عليها بشكل دراماتيكي بالتواطؤ مع اخوها ايضا، صديقه ونصيره. 

جال نجيب طويلا عن صراعاته داخل الأسرة، ومع زملاء العمل والدراسة والحزب، كان شفافا جدا، حتى اني اعتقد انه بالغ نسبيا في سرد تجربته الشخصية، التي حملت معاناة الفلسطيني الخاص والعام، ونقلت صورة الكفاح، ومحطات النضال المختلفة، فربط بين السياسي والإجتماعي والتربوي والثقافي مع البعد الإقتصادي والمالي، ومركبات التعقيد، التي يعيشها الفلسطيني عموما، وإبن محافظات غزة خصوصا، فمن خلال ما تم مع زوجته حاملة جنسية البلد، التي ولدت وترعرت فيه، ومعها مولودها الطفل، الذي لم يتجاوز عمره الشهور المنسوب لوالد من غزة، ارغمتها الجهات الأمنية في المطارعلى البقاء ثلاثة ايام دون السماح لها بالدخول لإهلها، وخيروها بين الدخول لوحدها، وبين العودة من حيث اتت، فاضطرت للعودة إلى تونس مع مولودها. 

رواية السفرجلة، رغم خصوصيتها، غير انها كانت لوحة إضافية من مشاهد البؤس والألم والمعاناة الفلسطينية العامة، والبحث عن الأمل. وكما ذكرت في البداية، كلما قضم من السفرجلة قضمة، كان يواجه غصة جديدة أكثر إيلاما وتعقيدا. وكانت الرواية مشوقة ومتعة في إستقطاب القارىء لمواصلة الركض مع حفريات الروائي في تجربته الإجتماعية والسياسية والحزبية، حتى توقف شهريار الملك حيدر عند وصوله جسر الملك حسين (اللنبي) في طريق العودة للوطن عام 1994. حيث توقف عن الكلام المباح. تاركا تجربته الجديدة لغيث روائي جديد.  

لاحظت غياب بعض النقاط الفنية في النص الروائي، حيث كان حيدر ينتقل من نقطة إلى أخرى احيانا داخل حدود كل مرحلة دون فصل نسبي، كأن يضعها تحت ارقام، او يعطيها عناوين ثانوية. كما اني كنت افترض ان يترك كتابة ذكرياته لمرحلة اوسع، واعمق. لكني شعرت ان حيدر كأنه يخشى ان لا يتمكن من كتابتها لاحقا، فاسرع في بثنا لواعجه وهمومه، همومنا، وترك لنا الحكم على مرحلة محددة من حياته. 

[email protected]

[email protected]