القدس وفتوى القرضاوي بتحريم الزيارة!!بقلم:د. أحمد يوسف
تاريخ النشر : 2019-02-14
القدس وفتوى القرضاوي بتحريم الزيارة!!بقلم:د. أحمد يوسف


في سياق المراجعات:

القدس وفتوى القرضاوي بتحريم الزيارة!!

د. أحمد يوسف

كنا وما زلنا مترددين في طرح ما نراه واجباً لنصرة المقدسيين، بتشجيع المسلمين حول العالم بشدِّ الرحال لزيارة المسجد الأقصى، وتكثير سواد عمَّاره من كل فجٍّ عميق، لتعظيم شوكة أهل القدس برؤية إخوانهم وأبناء ملتهم وقد توافدوا لنجدتهم، واصطفوا بقوة إلى جانبهم، متحدين غُلاة المستوطنين الصهاينة.

بين فتوى القرضاوي ونداء أردوغان!!

قبل أكثر من 25 سنة، كانت فتوى الشيخ يوسف القرضاوي، والتي أوصت بتحريم زيارة القدس مع وجود الاحتلال، هي من أوقف زحف جحافل حجاج المسلمين من تفقد أحوال قبلتهم الأولى، ومشاهدة ما يستفز مشاعرهم الدينية من مظاهر التهويد في بيت المقدس؛ المدينة التي تحمل في مشاهدها وتراثها وطيَّات صفحاتها التاريخية سير الأولين والآخرين من الأنبياء والمرسلين، والتي تحن لها وتهواها أفئدة أكثر من مليار ونصف المليار من المسلمين.

في 25 يوليو 2017، جاء نداء الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لمسلمي العالم "تعالوا معاً لنحمي القدس"، حيث حثَّ الجميع إلى ضرورة زيارة القدس وحمايتها، وذلك بعد اندلاع أعمال العنف التي أعقبت وضع الاحتلال المزيد من القيود والبوابات الالكترونية على مداخل المسجد الأقصى تحت ذرائع أمنية واهية، وبهدف بسط الهيمنة اليهودية على المدينة الإسلامية المقدسة.. هذا النداء من زعيم مسلم يحظى بالتقدير والاحترام بين شعوب أمته، ويتمتع كذلك بمكانة عالية؛ كون بلاده تترأس منظمة التعاون الإسلامي، الأمر الذي يجعل لهذا النداء صدى كبير، كما يفتح الباب واسعاً للنقاش حول تلك الفتوى، وجدوى استمرارية العمل بها من قبل مسلمي العالم.

زيارة القدس: قضية عاجلة للبحث والمراجعة

إن المواجهات مع جيش الاحتلال بالمدينة المقدسة هي "صراع إرادات" يحاول المستوطنون من خلاله إيجاد صيغة مشابهة لما تمَّ فرضه من تقاسم زماني ومكاني على المسجد الإبراهيمي في الخليل، وذلك بمحاصرة المسلمين عبر تقليص مساحات العبادة لهم، ونزع أهليتهم عن مقدساتهم الإسلامية.

ومع تقديري الدائم للعالم والشيخ الجليل د. يوسف القرضاوي، ومكانته المتميزة على مستوى الأمة، إلا أن ما يجري في الأقصى من انتهاكات يقوم بها الصهاينة، وارتفاع وتيرة المناشدات والاستغاثات، التي لا تجد لها – للأسف - آذاناً صاغية في محيطنا العربي أو حتى الإسلامي، تستدعي معاودة النظر في تلك الفتوى، وضرورة إشراك شخصيات إسلامية سياسية في دراسة جدواها، من حيث المخاطر والمحاذير.

وبعد الاعتراف الأمريكي الأخير بالقدس عاصمة لإسرائيل، فإنني اليوم أجد نفسي مشدوداً للاستجابة للنداء الذي أطلقه أردوغان والهادف لحماية القدس والأقصى، وذلك بتشجيع كل القادرين في العالم الإسلامي لزيارة بيت المقدس؛ مسرى الرسول الكريم، ومهد رسالة الأنبياء والمرسلين.

هل يعيد الشيخ القرضاوي النظر في فتواه؟

إنني اتفهم أبعاد تلك الفتوى، التي أطلق د. يوسف القرضاوي وبعض العلماء المسلمين بمنع أو حرمة غير الفلسطينيين من القيام بزيارة القدس، وذلك بهدف قطع الطريق أمام التطبيع مع الاحتلال، وقد أخذت هذه الفتوى – آنذاك - طابعاً دينياً، بحيث أصبح من المحرج لأي عربي أو مسلم التفكير بالقدوم لزيارة المسجد الأقصى، وإظهار التعاطف وطبيعة النسب والانتماء والتعلق الديني بهذا المكان، الذي يحظى بمنزلة القداسة لدى كل المسلمين حول العالم؛ باعتباره أولى القبلتين وثالث الحرمين. 

نعم؛ ربما كان الظرف الزماني الذي صدرت فيه الفتوى مبرراً لها، لكن اليوم وبعد عمليات التهويد المتسارعة في القدس، وقيام إسرائيل بمنع الفلسطينيين الشباب من الوصول للقدس والصلاة في المسجد الأقصى، والتضييق على الجميع لجعل مسألة الصلاة فيه مكلفة من ناحية الجهد والمواجهة مع المستوطنين، الذين يتحرشون بكل مقدسي مسلم، ويسدون في وجهه كل أبواب الرزق والحياة الحرة الكريمة، ويدفعونه للتفكير بالهجرة والعيش خارج المدينة المقدسة، وقد نجحوا في ذلك، حيث تناقصت أعداد المقدسيين؛ من مسلمين ومسيحيين، بالمدينة بشكل كبير، فيما تزايد الوجود اليهودي فيها بشكلٍ ملفتٍ للنظر. ففي السنوات الأخيرة، وبحسب بحث د. مهدي عبد الهادي، رئيس الجمعية الفلسطينية الاكاديمية للشؤون الدولية بالقدس، فقد حرصت الحكومات الإسرائيلية على فرض "سيادتها" الأحادية على جميع أنحاء مدينة القدس، وحاصرتها بأحزمة استيطانية إسمنتية داخلية وخارجية، وقطَّعت أحياءها العربية كالسكين الحاد الذي يقطع اللحم الفلسطيني، وحرصت على نسبة سكانية دون 30% للفلسطينيين، مقابل 70% لليهود الإسرائيليين.

من هنا، تتكاثر النداءات بضرورة مراجعة "قرار تحريم الزيارة"، حتى لا تترك المقدسات بدون من يأتي لتفقدها والصلاة فيها، وكي لا يصبح المسجد الأقصى أثراً بعد عين.

إن اليهود يريدون إخلاء المدينة من سكانها، وحظر وصول الفلسطينيين إليها، وفرض الحضور اليهودي بالقوة داخل الأماكن والساحات الإسلامية، والتفرد المطلق بالمدينة، عبر فرض سياسة الأمر الواقع على المدينة بكل ما فيها من معالم وآثار دينية تخص المسلمين والمسيحيين العرب، وبالتالي التمكين للمستوطنين الصهاينة تنفيذ كل مخططاتهم بالمدينة المقدسة، وتحقيق نبوءاتهم التوراتية المزعومة حولها؛ أي أن تكون القدس هي العاصمة الأبدية لدولتهم المارقة.

إن المنطق يفرض علينا أن تكون لنا تحركات ورؤية لاستعادة زخم الحضور الإسلامي في المدينة، والحفاظ على قداستها وطابعها الإسلامي. فالمطلوب اليوم وكما جاء في نداء الرئيس أردوغان لحث مسلمي العالم أن يهبوا لنجدتها، عبر قدومهم لزياتها والصلاة في مسجدها، وتفقد آثارها الدينية ومراقد الصحابة والتابعين في أكنافها، وتوصيل رسالة قوية لهؤلاء الصهاينة الغاصبين، وكل من يقف خلفهم من غلاة المستوطنين، بأن هذه هي مقدساتنا التي سنبذل من أجل حريتها وتحريرها كل غالٍ من دمائنا، ولن نسمح لأحد بتهويدها أو تغيير طابعها الديني كأماكن عبادة للمسلمين.

وعليه؛ فإننا يمكن أن نشجع المسلمين في المناسبات الدينية، وخلال مواسم الحج والعمرة، أن تكون القدس "محطة توقف"، تشدُّ إليها رحال الحجيج في الذهاب أو الإياب من وإلى بيت الله الحرام.

ربما تكون الخطوة الأولى في إطار هذه الرؤية هي تشجيع المسلمين من الدول الآسيوية، ومن أوروبا وأمريكا للقدوم للقدس وتأكيد انتمائها الإسلامي، والتصدي لمحاولات تهويدها وتدنيس مقدساتها، والتي يقوم بها الحاخامات وغلاة المستوطنين بتواطؤ من اليمين المتطرف ومن يمثلونه في سدة الحكم والسياسة داخل إسرائيل.

ولعل ما جاء في خلاصات مؤتمر "الطريق إلى القدس"، والذي انعقد في العاصمة الأردنية عمان بتاريخ 28 إبريل 2014، ما يعتبر مندوحة عن مطلق التحريم، حيث نادى مفتي القدس والديار الفلسطينية؛ الشيخ محمد حسين، المسلمين في كل أنحاء العالم لزيارة القدس المحتلة: "نصرة للمسجد الأقصى وإخوانهم المسلمين المحاصرين فيها".

وبخصوص زيارة الأقصى تحت الاحتلال، فقد رأى العلماء المشاركون أنه "لا حرج" في زيارة الأقصى لفئات الفلسطينيين أينما كانوا؛ في فلسطين أو خارجها، مهما كانت جنسياتهم، وللمسلمين من حملة جنسيات بلدان خارج العالم الإسلامي.

وأضافوا: "وفي جميع الحالات، يجب أن تراعى ضوابط تتعلق بأن لا يترتب على ذلك تطبيع مع الاحتلال وإلحاق الضرر بالقضية الفلسطينية، وأن تحقق الزيارة الدعم والعون للفلسطينيين، ووجوب أن يكون البيع والشراء والتعامل والمبيت والتنقل لصالح الفلسطينيين والمقدسيين دون غيرهم، وأن يدخل الزائر ضمن الأفواج السياحية الفلسطينية أو الأردنية، بعيداً عن برامج المحتل، إضافة إلى أنه يُفضل أن يكون مسار رحلة الأقصى ضمن رحلات الحج والعمرة قدر الإمكان وبشكل جماعي مؤثر، حتى يحقق المصلحة الشرعية المعتبرة، ويدعم الاقتصاد الفلسطيني والمقدسي تحديداً وحماية الأقصى والمقدسات".

في الحقيقةً، لم يعد السكوت يجدي مع تطاول الصهاينة وتجاوزاتهم في المدينة المقدسة، كما لم يعد يكفي الاعتماد على ثبات "المرابطين" وتضحياتهم داخل ساحات المسجد الأقصى لحماية المسرى والذود عن حياضه، بل يجب أن نتحرك لتشجيع ملايين المسلمين من الدول الغربية وبلدان العالم الإسلامي للقدوم إلى فلسطين، بهدف تأكيد هويتها الدينية؛ باعتبار ما فيها من مقدسات وآثار هي للمسلمين بمنزلة المهج والأرواح.

إن المطلوب - اليوم - هو أن نعيد القدس لدائرة الاهتمام الإسلامي، والحث على زيارتها لجميع أبناء أمتنا الإسلامية، القاطنين في الغرب ودول أسيا، كخطوة لردع كل من يفكر من الصهاينة بطمس معالمها الإسلامية وتغييب هويتها الفلسطينية.

أتمنى أن يجد هذا الاقتراح من يتبنى العمل به، والخروج برأي أو فتوى جديدة لا تضيق واسعاً على المسلمين حول العالم، وتسهم في هبَّة جموعهم زاحفة نحو القدس، وشدِّ الرحال لمسجدها الأقصى، وتظهير هيبة المسلمين ومكانة مدينتهم المقدسة.

الجدير بالذكر، أن الذي يدفع إلى إعادة النظر في فتوى "تحريم الزيارة" هي تلك الاجراءات المتصاعدة التي يقوم بها الحاخامات وغلاة المستوطنين، لشطب الآثار الإسلامية والمقدسات من الذاكرة الإسلامية، لحساب خارطة تهويد المدينة المقدسة.

إن نداء أردوغان يأتي في سياق القول لكل المسلمين: لا تتركوا الأقصى وحيداً، ولا تخذلوا المقدسيين.. إننا نريد أن تعجَّ شوارع القدس القديمة بالمسلمين من كل مكان، وألا تبقى كلأ مباحاً لقطعان المستوطنين.

زيارة القدس: الجدل والحوار القائم

بالرغم من وجاهة ما تمَّ ذكره، وما جاء في نداء الرئيس أردوغان، إلا أن هناك تحفظات يذكرها البعض على موضوع زيارة القدس لغير الفلسطينيين، وهي وجهة نظر لها أيضاً وجاهتها، كونها صدرت عن مرجعيات دينية يتوجب أخذ محاذيرها؛ لاعتبارات تتعلق بالتطبيع وكسر الحاجز النفسي بين المسلمين واليهود ونحو ذلك.. لقد أجريت حواراً مفتوحاً عبر شبكة التواصل الاجتماعي حول هذه المسألة، وقد جاءت الإجابات والتعليقات متفاوتة، وهي تشي بأن هناك انقساماً داخل الشارع المسلم حول الموقف من الزيارة، من حيث "الحِلِّ والحُرمة"، وما بينهما من شبهات تستدعي – بلا شك - النظر والمراجعة، وربما عقد مؤتمر إسلامي لذلك، بغرض الاستئناس برأي المقدسيين وأخذ موقف علماء فلسطين في ذلك.

وبناء على ما يجري في القدس من عمليات تهويد واسعة، وتمدد استيطاني داخل المدينة المقدسة، وسطوة حكومة الاحتلال بانتزاع صلاحيات الجهات الإسلامية لحساب المستوطنين، والقبضة اليهودية المتعاظمة لتغييب الحضور الإسلامي هناك بدافع تفريغ القدس من ساكنيها الأصليين، فإننا نجتهد في القول: إن فتوى الشيخ القرضاوي التي صدرت قبل أكثر من عقدين ونصف العقد من زمن الاحتلال للمدينة المقدس تحتاج اليوم إلى دراستها من جديد.. فإذا كانت الفتوى مبررة في ذلك الزمن البعيد،  بهدف وقف عمليات التطبيع مع دولة الاحتلال، وحماية القرارات الخاصة بمقاطعة إسرائيل، التي صدرت عن الجامعة العربية ومنظمة التعاون الإسلامي، فإنها اليوم، وفي ظل تكاثر الدول العربية الإسلامية التي  لها علاقات مع هذا الكيان الغاصب في السرِّ والعلن، وتزايد حالات الهرولة وأساليبها المختلفة لإقامة علاقة معه، فإن المقاطعة - للأسف- أصبحت مسألة فيها نظر، حيث باتت التهديدات التي يتعرض لها المسجد الأقصى والمقدسيين هي الواجهة المفتوحة للصراع مع الاحتلال، والتي تتطلب أساليب جديدة لبث الرعب في قلوب هؤلاء المستوطنين الصهاينة، جراء عمليات التهويد وتدنيس المسجد والمقدسات.

ختاماً: إن الرأي لإعادة النظر في فتوى الشيخ القرضاوي وبعض المؤسسات والشخصيات الإسلامية الأخرى أصبحت حاجة ملحة وضرورة واجبة، ولكن يجب أن يشارك فيها إلى جانب المرجعيات الدينية عددٌ من الشخصيات السياسية من العالمين العربي والإسلامي.

في الختام: اقتبس هنا ما قاله ابن القدس الأبيّةِ د. فيصل الحسيني (رحمه الله): "إن زيارة السجين ليست اعترافاً أو تطبيعاً مع السجَّان"، والقدس اليوم – كما يقول د. مهدي عبد الهادي – أسيرة، وبحاجة لمن يتضامن معها، وإننا لا نرى مبرراً للخوف أو التردد، ولكنَّ الأمر الذي "يشوِّه" هذه الزيارات هو عندما "تتم في العتمة"، دونما تنسيق أو حضور لأهل القدس، حيث إن الهدف هو التضامن مع الفلسطينيين في القدس، ومن باب أولى دعوة ممثلي المجتمع المدني والشخصيات العامة والدينية في القدس حتى تكون مع الزائر جنباً لجنب، بدلاً من ظهوره مصحوباً بحراسة الاحتلال!!

إننا نعارض ونرفض قذف الناس بتهم "التطبيع" جزافاً وبصورة عشوائية لمجرد الزيارة؛ لأن في ذلك عدواناً على حرية وحركة الإنسان.

إن حجر الزاوية من وراء هذا الكلام، أنه قد آن الأوان لمراجعة فتوى الشيخ القرضاوي وضرورة التأمل في نداء أردوغان، والخروج بعد إعمال الفكر ومداولة الرأي، بما يمكن اعتباره الكلمة الأخيرة وفصل الخطاب.