قيم الحياة الديمقراطية وآفاقها بقلم: د. بهاء الدين خويرة
تاريخ النشر : 2019-02-12
قيم الحياة الديمقراطية وآفاقها بقلم: د. بهاء الدين خويرة


قيم الحياة الديمقراطية وآفاقها

بقلم: د. بهاء الدين خويرة

أستاذ القانون العام- جامعة فلسطين الأهلية/بيت لحم

لم يكن الإدراك البشري يتوقع أن الاختراع الذي أطلق عليه الإغريق تسمية Demokratia سيحاط بهالة كبيرة من الأفكار المعقدة والتساؤلات المتنوعة، وأن الخوض في هذا المسار سيمثل مسعى متجدداً باستمرار، يمتلئ طريق البحث فيه بالألغام الفكرية متعددة الأشكال، دون وجود أية ضمانات لإنجاز الهدف المرسوم من استقصاء مكامنه ومناهله المتفرعة، وهذا حال الذين بذلوا في الماضي جهداً مضنياً في دراسة تطور مفهوم الديمقراطية تحت جبل من الآليات الضخمة، وتعقيدات بقيت دون معالجة، أعطت لهذا الموضوع اهتماماً ذا أهمية عالمية لشعوب الأمم كافة.

والحقيقة أن فقدان القدرة على تفسير اللغة الديمقراطية التقليدية أو محاولة فهم ممارسات المؤسسات الديمقراطية وسلوكياتها التي ابتعدت عن قيم الحياة الديمقراطية وأساسها؛ لامس بشكل مباشر أسس مبدأ سيادة القانون كأحد أهم ركائز الدولة القانونية؛ لكون ترسيخ ثقافة القاعدة القانونية هو الطريق المشترك بين حياة الديمقراطية وإقامة دولة القانون، بوصفهما وسائل مقررة في سبيل حماية الأفراد والجماعات من التسلط السياسي.

والديمقراطية في إطار هذه المفاهيم؛ ليست نظاماً سياسياً جاهزاً أو هياكل تنظيمية جوفاء أو وسيلة للحوار والوفاق فقط، بل هي آليات وأدوات تبلورت من أجل المسائلة والمشاركة والمراقبة والمبادرة. لذا قيل إن الديمقراطية ليست مجرد شكل من أشكال الحكم فحسب؛ بل هي نظام من نظم المجتمع، وكذلك وسيلة من وسائل الحكم الصالح، ومنهج في التعامل الاجتماعي، إضافة لكونها مذهباً سياسياً يقوم على اعتبار الشعب مصدر السيادة وصاحب السلطة الحقيقية.    

والذي يميز الديمقراطية ويعرفها، يدرك إدراكاً تاماً بأن جني ثمار سيادة القانون لا يمكن أن يتدفق إلا مع تفتح براعم ربيع الديمقراطية، وهذا الأمر يتوقف بالدرجة الأولى على السلوك السياسي للقادة والنخب الحاكمة للمنظومة السياسية، وكيفية إدارتها لهذا التنوع بصورة متجانسة، عبر وسيلة إدارتها لشؤون الحكم في البلاد، وضرورة أن تعكس السلوكيات السياسية لهذه الإدارة واقع التمثيل السياسي للمجتمعات المتعددة على اختلاف اعتباراتها وانتماءاتها وارتباطاتها الخاصة، وذلك ضمن إطار آلية محددة تعمل على التوفيق بين الولاءات الخفية لتلك النخب السياسية من جهة، وبين ولاءاتها الوطنية التي يتطلبها منطق الثقافة الديمقراطية المكرسة على مستوى الكفاءة السياسية، والتي تتطلب بدورها الاعتراف والتلاقي مع الآخر، من خلال ترجمة عملية لسلوكيات النخب الحاكمة، بشكل يهدف في المجمل إلى الاعتراف بالاعتبارات والخصوصيات التي يتكون منها المجتمع السياسي، وبالتالي ضمان الحق في التمثيل السياسي على مستوى المنظومة المؤسساتية الدستورية.           

ومن هنا تأني فكرة عقلنة التعددية السياسية والخصوصية المرتبطة بالمجموعات المختلفة لتحقيق فكرة الديمقراطية، وهي فكرة تتطلب ثقافة سياسية، وفلسفة عقلانية في إدارة التنوع السياسي من قبل النخب الحاكمة، ولعل ذلك يمكن تحقيقه عبر تنميط سياسات ديمقراطية تضمن المساواة الحقيقية بين المجموعات المختلفة ايدولوجياً، مما يؤدي إلى إزالة التناقضات والفوارق الاجتماعية والاقتصادية والتقليص قدر الإمكان من فجوة الاختلاف الفكري بين الأغلبية والأقلية على قاعدة المزج والتوفيق بين المتناقضات. وهذا بطبيعة الحال يعزى لآليات تطبيق مفهوم الديمقراطية وجوهرها، التي تواجه دون أن تدري اضطرابات عميقة، بالرغم من كونها أفضل شكل من أشكال الحكم. 

ومن هذا المنطلق؛ يبرز الدور الأيديولوجي لمنظومة التعددية الحزبية في تصحيح البنية السياسية للنظام السياسي وإصلاحها وتفعيل آلية عملها، وكذلك العمل على تبني سياسات أيديولوجية ديمقراطية على شاكلة السياسات المعتمدة في الديمقراطيات الغربية، والتي من شأنها نشر الثقافة الديمقراطية وتعميق آفاقها لدى الرأي العام بمجمله، والارتقاء بالوعي الجماعي إلى مستوى المسؤولية الوطنية، تلك المسؤولية التي تتطلب الوحدة والانصهار والحد من الانقسامات السياسية، والالتفاف حول واقع الأزمة الحاصلة في البلاد برؤى جماعية صادقة، تجعل من البناء القومي الاجتماعي أكثر تماسكاً في مواجهة ظاهرة التسييس واستنفار العصبيات المتنوعة.

وإذا كانت التعددية الحزبية تعكس التناقضات السياسية والاجتماعية والاقتصادية خاصة في المجتمع المتعدد، فإنها توفر في نفس الوقت رؤية لحل المشاكل كافة، من خلال تقابل المصالح والأيديولوجيات التي تقودها تنظيمات ثابتة قادرة على المنافسة السياسية ضمن إطار الوسائل الشرعية الدستورية.

ويبقى للسلوك السياسي للنخبة الحاكمة الأثر الفعّال في إدارة التنوع الناتج عن الانقسامات السياسية، والذي بدون تشربه قدراً مقبولاً من الثقافة السياسية الديمقراطية التي تنفتح وتتلاقى مع الآخر وتعترف به، سيكون الحديث عن الصيغة السياسية التوافقية للنظام السياسي مجرد حبر على ورق. وهذا ما حصل تحديداً في النزاع السياسي الفلسطيني الداخلي نتيجة الفهم المغلوط لظاهرة السلطة ذاتها، التي تمثل أكثر الإغراءات خطورة على التوافق بين سيادة القانون والديمقراطية وتحقيق التجانس بينهما. خاصة حينما يُنظر إليها باعتبارها لصيقة بصاحبها، مع أنها ليست سوى ظاهرة مصاحبة للمكانة أو المركز الذي يشغله الشخص وليست امتيازاً للشخص نفسه.

لذلك فالمشكلة ليست في استعمال السلطة المخولة قانوناً لمركز شخص ما، لكون استعمالها يعد أمراً ضرورياً من أجل حماية أولئك الذين يرغبون في العيش والعمل تحت مظلة دولة القانون الديمقراطية، على خلاف أولئك الذين يحاولون بشتى الطرق إلحاق الشلل بالنظام الدستوري ومقوماته الأساسية.

فلا من مناص إلا بإتباع الديمقراطية الواقعية المحققة، حتى وإن بدا للبعض بأن الديمقراطية لا يمكن أن تتحقق في بلد واقع تحت الاحتلال، أو أنها قد تفسح المجال للأصوات المتطرفة بأن تكون مسموعة أكثر، فهذه اعتقادات تخلط بين فكرة الديمقراطية كأسلوب ومنهج في التعامل الاجتماعي وبين مطلب إنهاء الاحتلال كهدف استراتيجي مسلم به ولا خلاف عليه. كما أن التطرف لا ينمو في ظل أجواء الديمقراطية والتعددية السياسة وحكم سيادة القانون، بل إنه يزدهر أكثر في مناخات كبت الحريات أو تقليص مساحتها.

ومن أجل تحقيق التجانس والتوافق بين الإطارين القانوني والديمقراطي، لابد من حماية النظام الدستوري المستند في الأساس على مجموعة القواعد التي تنظم تأسيس السلطة وانتقالها وممارستها، وبكل ما يتعلق بالتنظيم السياسي الذي بموجبه يتم إسناد السلطة للحاكم مُحدداً صلاحياته وسلطاته، وكذلك تحديد القواعد المتعلقة بالتنظيم الحكومي، فبقدر الانحياز للديمقراطية الراشدة وحيادها السياسي؛ تأتي مقدرتها على كشف كل ما يهدد النظامين السياسي والدستوري أو يعمل على تقويض الديمقراطية داخلهما.

وعلى مستويات مماثله؛ فإنه ليس من المنطق في الديمقراطية الحقيقية (بمفهومها الواسع العريض) أن تُختزل ممارستها ضمن أسلوب محدد ضمن أنظمة معينة؛ وهو ما يعني أن الانتخابات لا تمثل المفهوم الحصري لممارسة الديمقراطية؛ لكونها في حد ذاتها ليست هدفاً أو غاية، إنما هي وسيلة ديمقراطية لتحقيق إرادة الشعب، ومن الوارد أن يمارس الشعب الحكم بالأدوات والآليات المبينة في الدستور، وأيضاً من خلال أطر متنوعة تقع خارج النص الدستوري دون أن تتنازع معه أو تخرج عليه.

فكفالة حرية الفكر والرأي، والتعبير عنهما بكافة وسائل التعبير دون تقييد مبهم أو تخصيص لا لزوم له؛ تعد باكورة النهج الديمقراطي، وتتفرع عنها بقية الحقوق الملازمة للكرامة الإنسانية، تلك الكرامة التي تعتبر ينبوع الحقوق كافة، وتوجد بمجرد تمتع الشخص بالإنسانية بصرف النظر عن الذكاء أو الأخلاق أو الوضع الاجتماعي أو أي عامل آخر.

ولكي لا يكون لكلامنا السابق صيغة الترف الفكري عديم الأثر، نقول وباختصار إن قيم الحياة الديمقراطية تقع ضمن ذات السلوك البشري، بحيث لا يمكن إشاعة مفاهيم التسامح والمحبة والعدالة والمساواة (وغيرها) دون ترسيخ أسس الديمقراطية ومقوماتها؛ وليس من المتصور أن يقوم نظام الحكم على نهج ديمقراطي قويم؛ دون حماية حقوق الأفراد وحرياتهم، وتوفير البيئة الملائمة للتمتع بهذه الحقوق لا التغني بها في نصوص تشريعية جامدة تفتقر لجوهر الممارسات الواقعية في التعامل الاجتماعي.