محمد داود في "يا أمنيات" بقلم:رائد الحواري
تاريخ النشر : 2019-02-12
محمد داود
في "يا أمنيات"
جميل أن نقدم حزننا بشكل ناعم وهادئ، فهناك شعراء استطاعوا أن يكتبوا بهذا الشكل من الحزن مما يسهل على المتلقي تناول فكرة "الألم والقسوة" واعتقد أن الشاعر العراقي "منصور الريكان" من الذين وضعوا بصمة في هذا اللون من الشعر، وها نحن نكتشف الشاعر " محمد داود" الذي يقدم حزنه بهذه الفاتحة المؤنثة:
"يا أمنيات الهائمين من البلاد إلى البلاد
إلى بحارٍ بلا شواطئ وانتماء"
حرف النداء ينبهنا إلى أن هناك من يريد أن ينبهنا/يحدثنا لأمر ما، من هنا علينا الاصغاء والانتباه لما يريد قوله، دائماً فاتحة النص الأدبي مهمة وضرورية، فالشاعر لا يريد أن يصدمنا بألفاظ والمعاني القاسية، لهذا جعل فاتحة القصيدة بألفاظ بيضاء إذا ما استثنينا "بلا" فكل الألفاظ جاءت بيضاء "أمنيات، الهائمين، البلاد، بحار، شواطئ انتماء" فمثل هذا الألفاظ تسهل عملية الدخول إلى القصيدة التي جاءت بمضمون مؤلم لكن بألفاظ بيضاء.
والجميل في هذه الفاتحة أن المتلقي يهيم في صورة "الهائمين" في بلاد مجهولة وفي البحار التي تفتقد الشواطئ، فهذه الصورة تفتح خيال المتلقي ليتفكّر في تيه البلاد والبحار المجهولة، فهي بهذه الصورة تحذرنا من مغادرة الوطن والذهاب في مغامرة نهايتها تيه وضياع.
الحزن الناعم يبتعد عن الطرح المباشر للألم، لكنه يوصل فكرته، وهنا تكمن عبقرية الشاعر:
"ساعدينا حتى نكمل الذكرى عن الموتى
عن الصور الحميمة في أغاني الأصدقاء"
الشاعر يطلب المساعدة من "الأمنيات" وهي مؤنث، وهذا النداء بدوره له أثر هادئ على القارئ الذي يشعر بالسكينة لأن المخاطب هي أنثى، ورغم وجود لفظ أسود "الموتى" إلا أن الشاعر يضع له ستار يحد من حدة السواد من خلال "الصورة، الحميمة، أغاني، الأصدقاء" والتي جاءت أيضاً يغلب عليها طابع الأنثى "الصورة، أغاني"، فحالة التأنيث لم تأت بوعي الشاعر، بل جاءت من اللاوعي، فيبدو وكأنه ـ في العقل ـ يبتعد عن القسوة والسواد حتى لا يتوتر ومن ثم ينعكس التوتر على القصيدة ومن ثمة علينا نحن القراء.
"أمهلي عثراتنا كي نلتقي
لا تغاري من بكائيات العذارى
من صلاة التائبين "
إذن فاتحة القصيدة تستمر في تأثيرها على القصيدة بحيث نجد هذا المقطع كامل الأنثوية، دون أية وجود لأي لفظ مذكر، وهذا يخفف من حدة السواد الذي جاء في "عثراتنا، بكائيات" فالشاعر يستمر في تقديم الألفاظ البيضاء "أمهلي، نلتقي، العذارى، صلاة، التائبين" كل هذا يجعلنا نتأكد أن هناك فكرة الحزن/الألم لكن يتم تقديمها بهذا الشكل الناعم.
"وامنحي رغباتنا أمل العبور إلى الضياء بقلب سافرٍ
فرحٍ بانهمار النار بوحاً فاسقاً وترفقي"
يستمر الشاعر في طلبه والاستعانة "بالأمنيات" من خلال "امنحي، رغباتنا، أمل، العبور، الضياء، بقلب، سفر، فرح، بوحا، وترفقي" وهذه الألفاظ البيضاء بالتأكيد تخفف علينا من "انهمار، النار، فاسقا" وإذا ما أخذنا ما يحمله طلب الاستعانة من وجود الأمل والخلاص، يمكننا القول أن الغلبة تكون للفكرة البيضاء، للأمل، لكن هذا لا ينفي وجود الألم من عند الهائمين في البلاد والبحار، وإذا ما توقفنا عند الألفاظ المذكرة والمؤنثة سنجد أن الشاعر يقلب صورة الأنثى "النار" لتعطي معنى أسود، بينما جاء "الضياء" المذكر ليعطي صورة بيضاء، فهل هذا الانقلاب في بنية القصيدة؟، إن لفظ "الضياء" يأتي بصيغة المؤنث وبصيغة المذكر، وهذا ما يجعل القصيدة منسجمة ومتناسقة في بنيتها.

"حتى يعود الرشد خلف لغاتنا البلهاء
خلف قصائد الفقراء"
ما يضاف إلى جمالية القصيدة أن مقاطعها متناسقة وتكمل بعضها، فبعد "ترفقي" نجد الشاعر يُتبعها ب"حتى يعود الرشد" فالبياض في "يعود، الرشد، لغتنا، قصائد" يؤكد على تناسق القصيدة من خلال " لغتنا، القصائد" وهما أداة تخفيف عند الشعراء اضافة إلى المرأة والطبيعة والتمرد/الثورة، وإذا ما علمنا أن الشاعر يستخدم صيغة التأنيث في القصيدة والتي يمكننا أن نسقطها على المرأة، فيكون الشاعر استخدم عنصرين من عناصر التخفيف "هما التأنيث/ المرأة، والكتابة/القصيدة، وهذا يسهم في التخفيف والتهدئة من حدة الألم الكامن في القصيدة.
يختم الشاعر القصيدة ب:
"فننحني أو نتّقي
وهج الشموس بغيمة سحرية
حفرت ضفائرها على خصر الغياب ونستقي
من مائها ما زاد عن وقت اللقاء لنلتقي"
نجد التأنيث في كلا من "الشموس، بغيمة، سحرية، حفرت، ضفائرها" وكلها تعطي إيحاء على أن هناك مرأة، خاصة بعد لفظ "خصر" ونجد ما يُضاف إلى هذه الصورة الجميلة من خلال "ونستقي، اللقاء" فكل هذه الألفاظ بشكلها المجرد قادرة على تخفيف وحتى إزالة السواد من مضمون القصيدة، وجعلنا نهيم في عالم الأمنيات،
القصيدة منشورة على صفحة الشاعر على الفيس.