أنامل المطر بقلم: محمود حسونة
تاريخ النشر : 2019-02-09
أنامل المطر بقلم: محمود حسونة


1- اختصار
أنامل المطر تنقر زجاج النافذة، يأتي الصوت نقيا وهادئا،
فيشعرك باستيقاظ مفاجئ في إحساسك وروحك!!!!
سلّطت ضوءا خافتا ملونا على زجاج النافذة، وراقبت المشهد…
رسام يرسم بقطرات الماء الملونة!!! رسام خرافي متخفٍ وبعيد في عمق العتمة والمجهول …
تنقر حبات المطر الزجاج، تتناثر كرذاذ زجاجيّ ملون ومتطاير ثمّ تتراكم لتبني مدينة كبيرة تملؤها المباني الضخمة والطرقات الضيقة الملتوية، وأجسام ضبابية مختلفة تركض دون توقف لاهثة منزلقة، وبريق ألوان كسراب بعيد هارب…
ترى الهلع المجنون بوضوح في المخلوقات، والجمادات في حركة حائرة متوترة… لتزداد عندي قشعريرة الدهشة!!!
مدينة تعجّ بالأسرار والخفايا والأساطير تتكوّن ثمّ تنهار متهاوية وبسرعة في مشهد مأساوي حزين … ودخان سيجارتي الكثيف ينبعث من بين ركامها الذي ينحدر متعرجا هاربا في سحيق متلاشٍ وقاسٍ!!!
يتكرر المشهد مرارا في التكوين ثم الانزلاق السريع عن الزجاج ثمّ التلاشي !!!
وكأن دولاب الزمن يدور إلى الخلف!!!
شريط لمشهد متكرر ومتشابه… يلخص رحلتنا بكل تشابكها وتعقيداتها في هذا الوجود…
انهمرت الأمطارغزيرة دفعة واحدة، وأخذت تخبط على الزجاج بعنف، والصوت صار عاليا وثقيلا….فتحول المشهد لطوفان ينزلق ويجرف معه كل شيء…
لم يبق إلا تلك الشجرة الخضراء الكبيرة التي تطل من خلف النافذة...تؤنس وحدتي وتأخذ بأفكاري إلى أقصى حدود هذيان الوعي!!!
2- التفاف...
ارتشفتُ أولى جرعاتي من قهوتي الصباحية بأدخنتها ورائحتها…
حشوت قلبي ودماغي برائحتها ومذاقها المجنونتين!!!
في الليلة الماضية شممت رائحة قهوة تأتي من بعيد، تشبه
رائحة القهوة التي كان يشربها أبي... قهوة معجونة برائحة الياسمين...
أحسست فجأة بغيابه….
كم كان صادقا حين قال لي: الأشياء الجميلة لها نهايتها… وأنها جميلة بنهايتها!!! لذلك فإن الطيور لا تتوقف عن الرحيل والهجرة!!!
اقتحمتني كلماته كصرخة تدوي في أعماق مختنقة!!!
لكنْ أليس هذا سخفا، وأنَّ الحياة ستأخذ طابعا عبثيا بذلك؟؟!!
هل تولدت هذه الأفكار من شرب القهوة والسجائر المدوّخة؟؟!!
لكني شعرت بأني أتكلم بجدية!!!
كانت شمس الصباح تعلو دافئة، وكان الصخب يملأ صمت عينيها الصافيتين!!!
- سأسافر إلى أبعد نقطة في هذا العالم، طائر يبحث عن دفء جديد...
هربت بعينيها إلى أفق ضاق بها… كأنها أرادت أن تقرأ رؤى قلبها ببريق هادئ...
-أنا أعرف ذلك!!! تقصد أنك ستسافر في قلبي!!!
لا أعرف هل هي فهمت ما قلت، أم أني لم أفهم ما قالت؟؟؟
3- نجم اسهيل…
النجم المضيء يصب نوره كخيط النار، يستنهض جسدي فأتبع على هداه خطى القوافل…سامر من سمّار الليل يجرحه الشوق ويعجُّ بالحنين...
وحادي العيس يحدو على ربابته، وصدى الأطلال يرنُّ ينادي ظبيته...يرتدُّ عن سطح سراب تختفي في طياته القصائد والصهيل….
عرج الصقر يلحق بظعينته ... ثم حطَّ على أغصان قلبي كسيرا حزينا… ينقش بمسمار منقاره قصائده العذرية على جدائل النخيل….
غاب النجم وتشتت ندى الصباح… وضلّ صاحبكم الطريق
واختبأ في الرمال القيظ والهجير...
يقول الراوي: أن للرمال ذاكرة تلفها بعباءتها الصفراء!!! وأنَّ إله الريح إذا غضب يصير كضبعة مسعورة فتهجم الريح يثور الغبار والرمال تهيج أعاصير!!!
أقبض حفنة من الرمال تزوغ في كفي وتهرب من بين أصابعي، وتطير وتعفر وجهي …. تغيب الملامح… لا وجه للرمال ولا قلب سميح!!!
والرمال بحر الصحراء المخيف … تغرقني أنا السامر الجريح!!!
4- وشم!!!
مرَّ في الطريق الذي رسمتها خطاهم...
بين الشجيرات التي خبأتهم وحفروا على جذوعها أسماءهم ...
لم يبق إلا ذكراك أيتها الأيام !!! تحوم كفراشات شاردة وراء أجفاني!!! وتدبُّ في جسمي ولا تنام!!!
هنا جلسنا، وهنا كتبنا ميثاقنا، وتفقدنا أشياءنا وأسماءنا وأسماء أمهاتنا وحبيباتنا... وكتبنا قصائدنا عن الغرام والحمام ...
قصائد مزقتها الريح؛ فصارت جوقة عصافير غفيرة تسافر وتوزّع الفرح والسلام...
وهناك صعدوا درجات عليا نحو الغمام...
يسكن صمت صارخ في قلبي، والريح الملعونة ما زالت تُدوي وتشعل الأحزان!!!
لم يبق الٱن سوى الأغنيات!!!
أغنيات حزينات بين الحطام!!!
5- ابن البحر...
وخبب الفارس وراء دغل الأثل، يرعد بعد وهج الضوء ويجتاح صدر النار...
يرتطم بالحديد و الفولاذ عند حقل الشوك…
لقد زمجر النوّ؛ فاندفع البحرُ ووصل إلى أعناق الغيم، فأتى صوتُ البحرِ العارم في زمنِ اللّهو عاليا!!!
ها هو النسر البحري يقف على أبواب السفح، للتو خرج من الماء ، بشعره المخضب بالحناء!!!
فاتحا ذراعيه عن آخرها لاحتضان السوافي والأقدار، يتدحرج ويقفز بعيدا كشهاب الليل!!!
لقد تناثرت شظاياه على بُعد وردة من حاجز الشوك...
ينزُّ قطرات ندى أحمر مخمليّ، تتوهج كالذهب على جنبات الطريق!!!
والفوران الأحمرُ يتدفّق يرسم شكل قلب وأنامل العشب تتحسّس دبقَ شريانه المفتوح…
من هنا مرّت المجنزرات القاتلة!!!
كانت الفرس تنتظره بكامل زينتها، لتحمله إلى تلة في الجليل ليقيم في محاربه ….تاركة خطا ورديا يمتد إلى نافذة غزالة، يقولون: إنها خطيبته العذراء... عبْر النافذة أطلَّت الغزالة مكحلة بالإثمد تحتضن باقة ورد، تنادي وتصرخ في وجه الخرافة:
لقد دهمتْ الرعاع بحافرها الشيطاني براءة حلمي، وأغضبت الرَّب، ورقصت فوق حلمي، كما رقصت سالومي الفاجرة في قصر هيردوس رقصتها الماجنة حول رأس النبي يحيى المقطوع !!!
6- دخان وليل وشتاء!!!
الرعد موال صاخب، والسماء غيث وأضواء برق...
تدبُّ نار الموقد في قطع الحطب وتلفها بثيابها المندلعة؛ ليتوهج الجمر كالكرز، الجمر فاكهة الشتاء أنضجتها النار!!!
ينشر الدفء فروته ، يخرج الدخان هربا من النار، ويتفشى كغمام شفيف خفيف ويأخذ أشكالا مبهمة!!!
يشكله الوضوح شيئا فشيئا...
غزالة كحزمة ورد طائش على بركة حلم راكد، تخنس أمام دفء النار، تلملم فضاء شالها، وجواهرها المستحيلة!!!
يشمل الدفء تلالها وأوديتها وسواحلها الناعمة الملساء... وغزالها يتلوى وجعا يحرقه لهيب الثلج المندلع في الضلوع!!! يصعد نداء يقظ من عين الغزال الملهوف، ومضة برق تلمع على جسد الغزالة لتصير بؤرة شعاع تُزيغ البصر...
تبعها مطر أحمر نثر ألوانه و ألحانه السرية السحرية!!!
يسيل ماء الدلف كجدول رقراق، تغمس الغزالة قدمها وتعبث بمائه، وتداعب دوائر الماء أساور لتكمل مكيدتها!!!
فاحت رائحة الياسمين الهادئ...
طاب للغزال أن يأخذ عروسه على رخام الليل المبلل، اختفيا في حريرة الدفء لتبهرهم كنوز الخالق والدهشة خضوعا لإيقاع قانون الوجود، الذي فطن له المخلوق منذ الأيام الأولى...
تنفجر الوردة وتترك لونها الكرزي ينساب على جدار الليل المنهار!!!
المطر سخيّ، طوفان، ريح، عاصفة صغيرة تحوم، تفوح رائحة الكستناء ويملأ الشهد المكان.
أفقت على النار وقد طمرها البرد اللئيم، وغاب الدخان، وخدّر البرد أطرافي؛ لكن اللوحة ما زالت تتراءى أمامي كحلم مثير مبهر تحت ندف الثلج، ووقع غزال سعيد يرمح في براح فسيح!!!
بقلم: محمود حسونة(أبو فيصل)