"حيفا برقة" المكان والإنسان سميح مسعود بقلم:رائد الحواري
تاريخ النشر : 2019-02-09
"حيفا برقة"
المكان والإنسان
سميح مسعود
هناك علاقة وطيدة بين الفلسطيني والمكان، وهذا يعود إلى طبيعية الصراع بينه وبين المحتل الذي يعمل على إلغاء ومحو الفلسطيني كإنسان، كمجتمع، وفلسطين كمكان، كوطن، ويعود أيضا لا أنه أجبر على ترك وطنه مكرها وغصبا مما جعل فلسطين تبقى حاضرة في وجدانه، من هنا نجد غالبية الأعمال الأدبية الفلسطينية تذكر المكان وتتناوله بتفاصيله، بكل تجرد أقول أن هذا الرواية التسجيلية تعد الأهم في هذا المجال، لتناولها علاقة الفلسطيني بالمكان، وعلاقة الفلسطيني بالفلسطيني، وما يلفت النظر أن السارد قدم لنا "حيفا" بتفاصيلها الدقيقة حتى أنه يسمي الشوارع والمساجد والمدارس والدكاكين واصاحبها بكل دقة وكأنه ما زال في عام 1947، رغم أنه لم يتجاوز الحادية عشر عاما عندما تركها مع عائلته إلى برقة، ولا يكتفي السارد بهذا الأمر بل نجده بعد عودته إلى فلسطين في عام 1995، يعمل جاهدا على الاتصال بالأهل والأصدقاء الذي كان يعرفهم قبل عام 48، حتى أنه يستطيع الاتصال بالعديد منهم، لهذا نقول أن الرواية تعد من الأعمال الأدبية المهمة والمتميزة في الساحة الأدبية الفلسطينية، حيث نجد تاريخ فلسطين قبل الاحتلال، والرفاهية التي كانت تنعم بها قبل قيام (إسرائيل)، ويعرج السارد إلى الحديث العلاقة الاجتماعية التي تميز المجتمع الفلسطيني، حيث كان المسلم والمسيحي واليهودي واللبناني والسوري والمغربي ينصهرون معا ويقدمون نموذج عن التعدد والتنوع الذي يميز فلسطين.
المكان
إذن موضوع الراوية مهم وحيوي للفلسطيني، وهو كاف ليجعلنا نتقدم من الرواية، وإذا ما أضفنا إلى اللغة السلسة وتقسيم الروايات إلى فصول، يمكننا القول اننا أمام عمل أدبي يجمع بين الشكل الجميل والمضمون الضروري، "سميح مسعود" سارد الرواية يحدثنا عن "حيفا" تلك المدينة البهية، المدينة التي لم تستطع ستين سنة من الغربة أن تمحوها من الذاكرة أو الوجدان، يحدثنا عنها قائلا: "... بعد ذلك اتجهنا نحو المخرج وواصلنا التقدم في شارع البرج نحو الشوارع المجاورة، ستانتون وعمر الخيام ودوار البرج وشارع حسن شكري على سفح الكرمل" ص103، الملفت للنظر أن السارد يحدثنا عن حضور المكان بهذه التفاصيل رغم غيابه الطويل عن حيفا، وإذا ما أخذنا صغر سنة في ذلك الوقت، يمكننا القول أن مثل هذه الذاكرة الخصبة تؤكد ارتباط الفلسطيني بوطنه وبالمكان الذي عاش فيه.
"تابعنا السير إلى مسجد الاستقلال الذي يطل على طرف وادي الصليب، ومنه اتجهنا بعدها إلى ساحة الحناطير " الخمرة" في وسط المدينة.. توقفنا أمام دكان لتأجير الدرجات استأجر كل منا دراجة ليوم كامل، واتجهنا بها بسرعة واحدة تلو الآخر نحو محطة سكة الحديد، ومن ثم غيرنا وجهة سيرنا عند فندق فكتوريا الجديد ( لأصحابه عطايا إخوان) باتجاه شارع الميناء" ص116و 117، تأكيد آخر على مكانة حيفا عند الفلسطيني وعلى الذاكرة الحية التي تحتفظ بمثل هذه الذكريات وما فيها من اسماء لأشخاص ودكاكين.
هذه الذكريات كانت قبل عودة "سميح مسعود" إلى حيفا، فكيف كانت ذاكرته بعد أن عاد إلى حيفا؟:
" ...نظر إلي علي متسائلا: "هل ما زلت تذكرها بعد تلك السنين؟
أجلت البصر بينهما قائلا: نعم اعرفها وكأنني لم أخرج منها طيلة الخمسين سنة الماضية" ص217، هذه الثقة بمعرفة المكان تؤكد على أن الفلسطيني مسكون بوطنه، فهما يعيشان معا وينتهيان معا، فلا يمكن للزمن أو للظروف أن تفصل بينهما.
"... ثم طلبت من أحمد مواصلة السير بخط مستقيم إلى ما بعد مسجد الاستقلال، اقتربنا من زقاق الحجاز، وبعدها صرخت بأعلى صوتي: "هذا شارعي شارع الناصرة... أخرجت رأسي من نافذة السيارة لأرى كل شيء حولي بوضوح أكثر، اعتراني اضطراب وأنا أرى المحلات التي أغلقت قبل زمن بعيد: مقهى العجمي، ودكان أبو العبد قريب والدي، ومصبغة الكرنك ومعمل الثلج الوطني وغيرها من المحلات الأخرى، نظرت بشيء من الدقة في كل جوانبها، رأيتها خالية لا شيء فيها، تفوح منها رائحة الهزيمة، ثمر الدقائق مثل ساعات فيما أنظر إلى محلات كانت تضج بالحركة والحياة في سالف الأيام، وها أنا أراها الآن تلاشت فيها الحياة وأصبحت مجرد أقبية للأشباح أحاول أن أحييها ثانية في يقظة الذكريات... هذا منزل اسرتي الذي ولدت فيه.. درت بصري فيما حولي، انهارت قواي، فقدت وعي للحظات، أفقت على صوت صديقي علي وهو يصحيني،... غمرني الحزن عندما وجدته بيتا للأشباح" ص218و219، لم يستطع "سميح مسعود" أن يكون حياديا عندما رأى حيفا، بل قدم لنا مشاعره والاحساس الذي أصابه عندما وجدت مدينته وأحياءها مجرد اشباح، أما انهيار جسده بعد أن رأى منزله فيجعلنا نتأكد أن علاقته بحيفا ليست كأي مكان آخر، فحيفا تعني له الحياة والوجود، وهذا المشهد يمثل رد حازم وواضح لكل من يحاول أن يقول أن الفلسطيني يمكنه أن يعيش في أي مكان غير فلسطين، اعتقد أن هذه الصور كافية لجعلنا نسقطها على بقية الفلسطينيين المحرومين من وطنهم.
وبعد أن يتجول في حيفا يذهب إلى "عمود فيصل" : "وجدت العبارة التي كانت مكتوبة عليه في الماضي قد مسحت "الاستقلال يؤخذ ولا يعطى" لا أثر لها على النصب التذكاري" ص227، وكأن "سميح مسعود" في هذا المشهد اراد أن يذكرنا بأن الاحتلال الحالي امتداد للاحتلال الإنجليزي فهو ما زال موجودا ولم ينتهي.
برقة
السارد ولد في حيفا لكن بلدته والده هي "برقة" القريبة من نابلس، يحدثنا عن امجاد اسرته في برقة فيقول: "...بعدها ذهبنا إلى محطة سكة حديد المسعودية، وهي محطة رئيسية أقيمت في العهد العثماني على أراضي جدي وسميت بالمسعودية تكريما له" ص70، كلنا يجهل سبب التسمية "المسعودية" لكن السارد يخبرها أن السبب مبينا المكانة والخير الذي كانت تنعم به "برقة" قبل الاحتلال، فهي الآن مجرد قرية فقيرة لا يصلها إلا أهلها، بينما كانت في السابق مركز لتجمع الحجاج ومحطة ومركز رئيسي للسكك الحديدية.
المكان والفلسطيني
يقدما السارد أكثر من المكان، فيحدثنا عن العلاقة بين الفلسطيني فلسطين، فهو هنا كائن حي وليس مجرد جماد يمكن استبداله أو الاستغناء عنه ببديل آخر، "...وإنما أصبوا فقط إلى إحياء صورة لي ولأسرتي تتشابك مع المكان في ذاكرة واحدة، أعيد فيها رسم حيفا وبرقة في أطياف ضوء لا تعرف النسيات، أقدمها إلى من تاهوا في مدنهم وقراهم دونما انقطاع" ص201، هذا القول يؤكد على أن علاقة الفلسطيني بالمكان علاقة حياة، علاقة وجود، فلا يمكن أن يكون له كيان، أن يشعر بوجوده دون فلسطين، دون الوطن.
"اكتشفت مبكرا خصوصية بحث والدي عن الجذور، تشربت تجربته، دخلت في تكويني الثقافي والعاطفي... ساعدني البحث عن الجذور أن اكتشف أن أفضل نص يمكنني كتابته، هو النص المغموس بحروف تحفظها الذاكرة عن حيفا وبرقة تتداخل فيها أحداث طفولتي الباكرة بأحداث الوطن" ص212و213، سبب وجود هذه التحفة الأدبية حية بيننا هو الترابط والتكامل بين السارد والمكان، فقد ورث عن أبيه "البحث عن الجذور" لهذا عكف على الكتابة "حيفا برقة"، التي تحمل حقيقة العلاقة التي تربطه بحيفا وبرقة.
هل يمكن للفلسطيني أن يتجاهل/ينسى فلسطين بعد أن يحصل على جنسية محترمة تجعله "محترم في كافية دول العالم؟: "في صباح يوم من أيام تموز 1995 حصلت على الجنسية الكندية، وبعيدا عن التلاعب بالكلمات يهمني التأكيد هنا على أنها ليست بديلا لهويتي الوطنية، ولا يمكنها أن تنسيني قضيتي وناسي أو أن تقطع الحبل السري الذي يربطني بكل ذرة تراب من بلادي" ص214، اجابة شافية على كل من يحاول ان إيجاد (وطن بديل) للفلسطيني وعلى كل من يتحدث عن (نسيان فلسطين) لأنها اصبحت من الماضي.
يحدثنا عن برقة وعن مدرسته فيها فيقول: "...زرت مدرستي القديمة، وقفت مطولا أمام عقد الصف الأولى ابتدائي الذي بدأ فيه وعي الطفولي بحقائق الحروف والكلمات المكتوبة، تأكد لي في تلك اللحظات أن ذاكرة الإنسان ليست ملكه محصورة فيه بل تتعداه، وتتواصل في شريط عمره مع مكونات كثيرة، تبدأ مع والديه ومدرسته وتتراكم مع اتساع الأمكنة التي يعيش فيها مع تواصل أيامه بأزمنة متعاقبة، بكل ما تعتري الزمان والمكان من تغيرات وتقلبات" ص238، بهذا القول يمكننا القول أن علاقة الفلسطيني بالمكان ليست علاقة عابرة/عادية، بل علاقة معقدة تتداخل فيها الأشياء الحية ومع الجماد، والنواحي النفسية مع الزمن، بحيث لا يمكن أن نسقط عليها منطق الرياضيات "واحد زائد واحد يساوي اثنان"، بل هي علاقة يتشابك فيها المادي والروحي، ويتوحد فيها الوجدان مع الطبيعة، ويجمع الأفراد/المجتمع معا، كل هذا يجعل تفكيك هذه العلاقة وتقسيمها أو تفسيرها من ناحة واحدة غير دقيق وغير موضوعي.
وهذا ما أكده لنا عندما سأل السارد "رجل مسن من سكان حيفا عن والد صديقه "سامي يوسف نهاد" فكان ردة فعل الرجل المسن بهذا الشكل: "وقبل أن أنهي عبارتي نهض عن مقعده ببطء واتجه معي إلى باب المسجد واشار لي قائلا: "هناك على بعد امتار من هنا محلات الحاج سامي، ها هي قرية من المسجد ومن سبيل "الطاسات" كانت له محلات ومخازن ملحقة بها كان يتاجر بالأثاث ومواد وسلع أخرى كثيرة أذكر منها بانيوهات من النوع الفاخر" ص 246، الملفت لنظر أن الشيخ الكبير تأتيه طاقة ليقوم ويعلم "سميح مسعود" عن محلات "سامي" وكأن الشيخ بهذا الحديث عن الماضي يجد ذاته التي فقدها، وأيضا نجد "سميح مسعود" يدخل في الحدث حتى أنه يتحدث عن تفاصيل المكانة وكأنه يريدنا أن نتأكد أنه ينتمي لحيفا، فالمكان والشيخ وسميح مسعود أصبحوا كيانا واحدا لهذا وجدناهم بهذه المشاعر والعاطفة الجياشة.
الوطن ليس فندق، فالفندق ليس اكثر من مجرد مكان ننام فيه، لكن الوطن/البيت شيء آخر، " إنها أول ليلة أنام فيها في بلدي بعد 61 عاما من الشتات، أذكر آخر ليلة نمت فيها في حيفا، كانت يوم سقوطها، أويت إلى الفراش آنذاك في حضن أمي، بقيت يقظا لم استطع النوم، أصغيت إلى صوت الرصاص يشق صمت الليل، وها أنا الآن أعود كهلا إلى بدي، أوي إلى الفراش، وغصة في الحلق تدميني، وأشعر بكثير من الإصرار أنني جزء من هذا المكان يملك كل منا الآخر" ص310، يحسم لنا السارد فكرة الوطن وكيف ينظر الفلسطيني إليه، فمن خلال ما أورده لنا نجزم أن المكان والفلسطيني شيئا واحدا، ليس هناك وجود لأينا منها بعيدا عن الآخر.
يؤكد "سميح مسعود" على حقيقة التكامل والتوحد بين الفلسطيني ووطنه من خلال حديثه عن "إميل حبيبة": "في صبيحة اليوم التالي زرت مع عبد السلام وعمر ضريح إميل حبيبي ... وقفت أمامه بإجلال كبير، وأعدت قراءة الكلمات المكتوبة على ضريح عشرات المرات بسيل من الحنان والعاطفة "باقي في حيفا"" ص329، ليس "إميل حبيبة" فحسب متعلق/مرتبط بحيفا، بل السارد أيضا، وما زيارته الضريح إلا تأكيد على هذا العلاقة بحيفا وبأديبها "إميل حبيبة" وكأنه أراد أن يقول أن مثل هذا الرجل.
المجتمع الفلسطيني
المجتمع الفلسطيني يمتاز بالتعدد والتنوع، وهي سمة المجتمع المدني، المجتمع الذي تخطى فكرة القبيلة والعشيرة والطائفة والدين، فهو تشكل من خلال هذا الواقع، "...كانت تمتلئ بهم باحة الدير، وتسمع أصوات لهمساتهم باللغة العربية ولغات أخرى غيرها، ...لاحظت وجود مجموعة من المسيحين وحدتهم حيفا وأكدت على وحدة مصير شعبها العربي المسيحي والمسلم معا... بينما كنا نمضي في طريقنا إلى شارع الملوك قال حامد وهو أكبرنا سنا: "مار الياس" هو النبي إيليا عند اليهود، وهو الخضر أيضا، وكنيته "أبو العباس" عند المسلمين، أبو إبراهيم" عند الدروز يحتفلون به منذ القدم، له مقامات كثيرة في فلسطين" ص112، من خلال هذا المشهد يتأكد لنا الحالة الحضارية والثقافية التي كانت تنعم بها فلسطين قبل قيام دولة الاحتلال، التي شردت الشعب ومن بقى منه أصبح مسيحي، مسلم، درزي، شيشاني وشركسي، يهودي، وهذا يؤكد على أن دولة الاحتلال أعادتنا إلى عصور القبيلة والطائفة.
من يعرف حيفا لا يمكنه إلا أن يكون مدنيا، مثقفا بثقافة التعدد والتنوع، "... أخبرني أن مجرما أقدم علنا على قتل قريبه غابي طعنا بالسكين خلال احتفال عيد الميلاد المجيد للروم الأرثوذكس في 7 يناير 2012 باغته من الخلف متنكرا بلباس "بابا نويل" وطعنه أكثر من مرة في ظهره. اغتيل بعد أن شارك في صباح نفس اليوم في تظاهرات المسلمين ضد منع الآذان في مساجد يافا" ص264، فالتربية المدينة التي يمتاز بها الشعب الفلسطيني جعلت "غابي" المسيحي يشارك في تظاهرة ضد منع الآذان، في المقابل الاحتلال واداوته تحول دون بقاء هذا الثقافة وهذا النهج، لهذا تم تصفية "غابي" ليكون عبرة لكل من يريد الاستمرار في السير مع ثقافة التعدد والتنوع.
ولم تقتصر علاقة الفلسطينيين على المفاهيم الثقافية والاحتفالات، بل نجدها تعدت ذلك إلى المساهمة المادية: "...قدم الأرض التي أقيم عليها الدير هدية منه لمسيحي برقة.. قدم لهم عشرة دونمات لكي يبنوا عليها ديرا مجاورا لمنزله" ص67، أن يُقدم مسلم عشرة دونمات من الأرض القريبة من منزله، أي في وسط البلد كما نقول الآن، بمعنى أنها ذات قيمة مادية كبيرة، لبناء دير يؤكد على أن ثقافة التعدد والتنوع جزء اساسي من بينة المجتمع الفلسطيني وليس علاقة عابرة.
حيفا المدينة العصرية والحديثة
يحاول بعض الجهلة تشويه الحقيقة، فيتحدثون عن (إسرائيل) المتحضرة والحديثة، جاعلين من فلسطين قبل الاحتلال مجرد خرائب وقرى متخلفة، لكن "سميح مسعود" يرد على هؤلاء من خلال روايته لواقع حيفا، فيقول: "... أنها أقدم مدرسة وأعرق مدارس حيفا اسست في عام 1922، تابعة للجمعة العربية الإسلامية، وتحدث بافتخار بأن الشيخ عز الدين القسام قد عمل فيها مدرسا، وهو نفسه الذي دعا في منتف ثلاثينات القرن الماضي إلى استخدام الثورة ضد الإنجليز والصهاينة" ص102، إذن كانت المدارس في فلسطين تعد مسألة عادية، كانت هذه المدرس غير تقليدية، لهذا نجد "القسام" يعلن ثورته على الاحتلال منها.
"...اتفقنا على الذهاب إلى سيمنا الأمين الصيفية في شارع يافا، لمشاهدة أول عرض لفلم "الوردة البيضاء" لمحمد عبد الوهاب" ص104، لقد كانت المدن الفلسطينية تنعم بالسينما، وهذا يشير إلى مواكبتها للعصر وللحداثة، وعلى تفاعل الجمهور مع الفنون.
لكن لم تكن فلسطين مستهلكة للفنون، بل كانت أيضا تنتج الفن: "...وفلم "قبلة في الصحراء" أول فلم روائي عربي من إخراج إبراهيم لاما وبطولة بدر لاما وكلاهما من أصل فلسطيني من مدينة بيت لحم" ص106، وهذا ايضا رد مدوي على كل من يحاول أن يشوه الحقيقة، حقيقة أن فلسطين كانت تعتبر من أرقى الدول في منطقة الشرق الأوسط قبل قيام دولة الاحتلال.
ولم يقتصر الأمر على السينما والانتاج السينمائي، بل تعداه إلى الإذاعة والتي تعد من أوائل البلاد التي استخدم الراديو في حينها: "...كنت أتنقل فيه ما بين إذاعة الشرق الأدنى (صوت بريطانيا) التي كانت تبث برامجها من دينة يافا، والإذاعة الفلسطينية التي كانت تبث برامجها باسم "هنا القدس" وقد أسست عام 1936 قبل وقوع الإضراب الشهير بإيام معدودة، وكانت ثالث إذاعة عربية، بعد إذاعة القاهرة والإذاعة العراقية" ص107.
وفي الرياضة كان هناك اندية رياضة تقيم المباريات فيما بينها: "...هذه المباراة هي "دربي" جرت بعد ظهر يوم الأحد 19 حزيران 1946 على ملعب "الموارس" التابع لنادي شباب العرب، وقد أدارة المباراة الحكم عطا الله قديس، وساعده على الخطوط إبراهيم نسيبة وفوزي معتوق. وقدر كما جاء في نفس المقالة أن "عدد الجمهور الذي حضر لمشاهدة المباراة خمسة آلاف متفرج" ص110، إذن كانت الرياضة في أوجهها في فلسطين، وكانت الجمهور يتفاعل معها، وإذا ما اخذنا نسبة السكان في وقتها، يمكننا القول أن فلسطين كانت متطورة رياضيا لهذا نجد هذا العدد من الجمهور.
ولم تكن الرياضة متوقفة على كرة القدم، بل تعدتها إلى وجود مسابح: "...اتفقت مع أصدقائي للذهاب معا لزيارة العزيزة لنسبح ونتسابق ونلعب قبل افتتاح المدارس، هذا المسبح كان أفضل مسبح في حيفا أنشأه عزيز الخياط في غرب حيفا في منطقة بيت جليم، سمى بالعزيزية مشتقا من اسم منشئه" ص115، ما ذكره السارد يشير إلى وجود مجموعة مسبح في حيفا، وهذا يعينا يؤكد الرخاء والرفاهية التي كانت فيها حيفا.
وفي مجال العمل النقابي والمطبوعات كانت فلسطين رائدة فيهما أيضا: "...أن بدايات العمل النقابي في فلسطين قد بدأ عام 1922، وأن مجلة "حيفا" الأسبوعية كانت تنطق باسم العمال العرب في فلسطين ابتداء من عام 1924، وبعدها تم تأسيس بدلا منها مجلة باسم "حيفا مجلة العمال" شمل اهتمامها القضايا العمالية والسياسية والنضال ضد الانتداب البريطاني" ص120.
الرواية من منشورات دار الراية للنشر، حيفا، فلسطين، الطبعة الأولى 1014.