إقتناع بقلم : أحمد هاني
تاريخ النشر : 2019-02-06
                                 
ـ صباح الخير، كيف هو حالك اليوم؟

ُ= ههمم.. خير و اى خير هذا و انا ابحث عن نفسي فى دروب الجحيم

ـ هاا و قد بدأنا صيحات النواح المعتادة، كُف عن ذلك و قل لى هل تناولت الفطور ام لا؟

= نعم تناولته... أتعلم شيئ يا دكتور راغب ، و من دون إضافات ساخرة، لقد سئمت من الحياة و فى نفس الوقت لا اريد ان اموت.. اريد ان أقع فى المنتصف اللعين.. فقط فى المنتصف

ـ هاا و قد بدأنا ثانيةٍ ، ما بك اليوم.. لِما زاد تذمُرك عن العادة؟

= تذمُر.. ههه، و هل مررت انت بجوف حياتى و أحداثها الكئيبة لتقل لى كُفا تذمراً.. هل تهوى ان تعيش بأثماً مربوط حول عُنقك و سلاسل الندم تُكبل بقية جسدك هل تهوى ذلك حقاً؟!

ـ انا لن اتكلم عن حياتى و أُبشِرك بما تهوى من المصائب فلكل واحد منا حياته التى تعُج بالأحداث الرتيبه و اللحظات الشاقة.. لكلاً منا حياته و لكن اذا سمح لى بالأختيار و كانت حياتك هى الوحيدة المتبقية بين جموع البشر فسأختار الموت بلا شك!
(ترتسم ملامح الحصرة و الخذلان على المريض مُبعداً نظره عن الطبيب)

ـ اعذرنى على إلقاء قنابل كلامى عليك، و لكنى موهوباً بصراحتى القنوعة و استخدمتُ لفظ الهبة لأن القناعة شلال ماس ليس مُقتصراً على كنزٌ فقط

= لا عليك فبالكاد لا يفرق معى اسف من عتاب، و معك حقك أيضاً القناعة كنز.. و لكن بما سأقتنع.. قل لى بما سأقتنع ؟ هل سأقنع نفسى حقاً اننى ليس لى يد بأهدار دماء اعز ما بقى بجنبى اغلب عمرى..؟ هل سأقنع نفسي حقاً انها كانت مجرد حدثة سير لعينه ألقت به فى معبر الآخرة و اعيش من بعدها فترة حزن و جيزة من بعدها أعود لطبيعتي و استكمل مشوار حياتى و كأن شيئاً لم يكن؟!

(تميل راس الطبيب للأسفل و يأكل الصمت أجواء الغرفة)

= يا صااح اننى ما زلت اسمع لصوت أنينه حتى بعد فراقه، عقلى لم يزق نسيان مشهد مصرعه ابداً بل يضيئه لى كل ليلة قبل نومى و كأنى اشاهد نفس الفيلم فى نفس السينما  المظلمة، أتذكر كل مشهد فيه بالتفصيل بالرغم من أن وقتها لم أكن أملك الا القليل من الوعى.. القليل جداً لدرجة أنني لم اكن استطيع المشى..
يومها اتذكر أنِ فعلت اشياء يستعيذ الشيطان من فعلها، فى الصباح تشاجرت انا و امى و الغريب ليست المشاجرة بلى انى دفعتها من امامى عندما اعترضت طريقى للنزول فأسقطها ارضاً و كانت هذه للمرة الأولى ُترفع يداى لمن لها الفضل فى وجودى، و فتحت خزنة ابى بعد سرقة نظرى له و هو يدخل ارقمها السرية أمس و لم اقتصر على سرقة النظر فقط بلى وسرقت مال يكفى لملئ العديد من البطون التى تتغذى على الجوع و تشرب من شلال الفقر، تناولت يداى الهاتف و اخذت ترن على أخوة ابليس و اخذت اذكرهم بألا ينسوا جرعتى من السم المعتاد لشربه فى صحبتهم ، قضيتُ الليل فى أشهر الملاهى الليلة فُجراً و فسقاً، الفتيات من حولى يتمالون باجسادهن كمثل الأفاعى لا يدركن التوقف، الناس من حولى يلهفون على الخمر و كأنه ماء زمزم - و لعياذ بالله - لا اعلم اذا كان هذا تحدى بين شياطينهم ام ماذا و لكنى اذكر ان شيطانى شارك بهذا التحدى و اخذت أُنطحهم و لا اكف عن تناول او شرب اى شيئ ينساق امامى لدرجة ان كانت لمعدتى او رئتى لسان فلم تكن تقف عن الصرااخ بتاتاً، العالم من حولى تلون بالاسود درجة بدرجة و انغمق سواده حتى اصبحت لا ارى شيئ، اصوات السماعات التى كانت تطرم أذُناى فى البداية سمعتها وقتها و كأنها همسات قطةٍ كفيفة، اتذكر حينها انى وصلت لدرجة أصبحت ارى نفسي من الاعلى و احاول ان اساعدها على النهوض و لكن بدون جدوى، استمر الامر فى السوء حتى بلغ قمته و توقف عقلى عن الأدراك و سقطتُ على الارض كمثل سقوط الذبائح فى يوم العيد، بعدها اتذكر بعض من لمستهُ عيناى من المشاهد الطفيفه جداً منها انى اصبحت بين يدى حارسان الملهى و بجوارى اخاً من اخوة ابليس يتحدث الى الهاتف فربما تذكرت ذلك المشهد من شدة صدمة جسدى بأسفلت الطريق عندما ألقوا بى الى الخارج.. ثم شهدتُ يدا لم اراها مُنذ وقتاً طويل ترفع بي و تحملنى الى سيارة.. و لم يخنى نظرى حينها و اتذكر انها يدا صديق اشتقت له من يوم ما انقطع الوصال بيننا.. رأيته ملتهفاً عليِ بشدة و مزهولاً لما وصلت له و لم تصمد عيناه كثيراً و اجهشت بالبكاء كمثل طفلاً رضيع.. يصرخ فى وجهى و يحسنى على الأفتياق و انا صامتاً و جسدى كمثل الثلجات القطبية.. ادركت سيارته التوقف و نزل مسرعاً و ترك باب السيارة مفتوحاً و اخذ يخطى الطريق نحو صيدلية الى الجانب الأخر.. كان يجلب لى بضعة محاليل ملحية تساعدنى على الافتياق فهو دكتور مثلك و على دراية بهذه الاشياء.. و لكنه لم يكن يعلم انه يجلب عزرائيل لأخذ روحه، ففى طريقه للعودة مهرولاً أسقط علبة دواء من يده فأنحنى لألتقطها و لم يكن يعلم ان عزرائيل آتٍ له على سيارة دهسته و تلاشت روحه حتى ألتقطها و ذهب بها بعيداً.. و كأن عقلى نبضت به الروح عندما رأيت مشهد مصرعه.. أراه امامى غارقاً بدمائه و المحاليل و الادوية من حوله.. نبض بعقلى الروح و لكنى لم استدع عافيتي بعد فخرجت بنصف جسدى من السيارة احاول الوصول و ضمه إليىِ.. تعطلت الحركة و تلافت الناس من حولنا و أنطفى كل شيئ من جديد حتى أدركت نفسى و انا موجود على ذلك السرير اللعين، فقل لى الان هل اقتنع بأنى حقاً لم أكن سبباً بمصرعه؟!

(يكفكف الطبيب بضعة القطرات السائلة على خده و يتكلم)

ـ يا له من قلب تحمل كل هذه المأسى و صمد، و لكنك لم تُدرك بعد بما ستقتنع، انا لم أقصد ان تقنع نفسك بأنك ليس لك يد بموت صديقك و لكنى أقصد ان تقتنع بأن هناك سبب و درساً لنجوك من كل ذلك.. أقتنع بأن فى هذه الليلة انك ولدت من جديد و لعلك ستقتنع و تدرك خطيئتك و تبدأ فى تصحيح ما دنسته و فعلته بمن حولك، تعود لتقبل يداى أمك لتغفر لك و تعود عوناً و سنداً لأبيك، و تُدرك درب ربك الذى لهاك عنه شيطانك و أبعدك عنه.. اقتنع بعودتك و انها فرصة لن تتكرر فى توبة تُمحى لك جبال سيئاتك... و لعلك تقتنع بأن ربك اخذ صديقك الى مكان ندعوا فى كل صلاة الى الوصول له فأخرج من ذلك الباب و قدم إلى العالم أعمالاً حسنة تصعد بها درجات حتى تصل إلى رفيق عمرك، فأقتنع بذلك حقاً و أفعل به .