منتصف الشتاء بقلم: محمود حسونة
تاريخ النشر : 2019-02-03
منتصف الشتاء بقلم: محمود حسونة


1-غريق وحريق!!!
الورقة البيضاء أمامي مرآة متشققة تُشظّي خواطري كشهاب ثلجيّ متناثر!!!
أحاول أن أمنحها سرا يختبئ و ينام في قلبي الأنيق….
كطفل صغير يكتشف عالمه البعيد!!!
أمسكت الفرشاة ورميت بالنقطة الحمراء على زاوية البياض...
نقطة ضائعة في مساحة شاسعة من الجليد….
داعبت النقطة بفرشاتي، أغوص في عمقها لعلّي أخفف من قلبي أنين عميق!!!
إنّي أدقُّ باب الشمس!!!
فتحت الشمس بابها… فاندفع شعاعها على الثلج النائم في صدري...
استيقظ الثلج سيولا … أخذت أتخبط وأستغيث كالغريق!!!
رميت لونا أصفرا آخر و خلطه بفرشاتي… تطايرت فراشات النار من موقد قلبي… فدبِّ الحريق... صار مشهدي غريق يلفّه حريق!!!
أسرعت وسكبت لونا أسودا على كامل الورقة!!!
انطفأت الشمس و خيم الليل، وعاد الثلج ينام في قلبي ويحلم…. فهل أدعه نائما في قلبي يحلم ولا يستفيق؟؟!!
2- صورة لها رائحة!!!
انسكب فنجان قهوتي على الشرشف الأبيض!!!
فاحت رائحته كوردة مشتعلة!!!
رائحة لها سواد الليل وصمت الصباح!!!
الرائحة سحابة تحوم خارجي وتمطر داخلي!!!
تلاعبت بمزاجي!!!
أنعشت خيالي... لقد دوختني!!!
ظننت أني أسبح في بحر بني دافئ!!!
صرت أبحث عن معنًى آخر لبقعة البن التى ارتسمت أمامي صورة لهارائحة فاخرة على بياض عذري!!!


3- كراستي القديمة… سمراء من قوم عيسى...
وعندما فتحت جدتها فرحة الباب شعرت بشيء غريب يلامس قلبي، أخذت ألتفت حولي أفتش عن قاربي وكيف سُرق مني أو هرب؟؟!!!
ثمّ أخذ يعضّ قلبي بقسوة، وأنا أحاول أن أبعده، ثمّ انطفأ جسمي فجأة، وأخذ يذوب متلاشيا كأنه لا شيء!!! لم أعد أرى شيئا مع رعشة أجفاني إلا سوادا كفراغ بعيد!!! أفرك يديّ وكأني أفرك العالم بينهما!!!
لم أفهم، كيف يمكن أن يكون الإنسان ورقة صغيرة تعبث بها رياح الأقدار على هواها؟؟!! هذا اللغز المغلق!!! كيف يمكن أن أثبت وأقاوم أمام هذا العصف الذي يهاجمني من حيث لا أدري؟؟!!
معضلة الإنسان!!! كيف يتفق كل ما حوله؛ ليخلق منه إنسانا مضيّعا…
إلى الآن لم أعثر على إجابته التي تهدئ خاطري… إلى متى ستبقى هذه معضلة الإنسان التي تنخر عقله وجسمه وتتركه ممزقا بالحنين وجبروت الشوق للذين أحبّهم ذات يوم بصفاء ثمّ ذهبوا ؟؟!!!
مرة أو مرتين في الأسبوع، كنت أذهب لبيت صديق أبي النصراني ومعي صندوق البلاستيك المملوء بالسمك المغطى بقطع الثلج…
تستقبلني زوجته فرحة بابتسامتها الرقيقة، ولاتتركني أذهب!!! تسحبني من يدي لداخل البيت وتقدم لي العصير المثلج وتجلس لتتحدث معي وكأني أحد أبنائها… كانت امرأة لطيفة ودودة ووحيدة...
تحدثني كثيرا عن طفولتها في مدينة يافا وعن التمزق الذي أصاب أسرتها فبعضهم هاجر لبيروت، ومنهم من انتقل للعيش في مدينة الناصرة، وآخرون سكنوا في ضواحي دمشق...
- لم أعد أرى إلا بعض أطيافهم الهاربة...
- كنا نظن انهم سيعودون قريبا!!! وإلى الآن لم يعودوا!!!
أما أولادها فجميعهم هاجروا إلى أمريكا!!! إلا واحدة من بناتها تزوجت وتسكن قريبا منها...
تحدثني وأنا أتفرّس ملامح وجهها، فأراه متعبا حزينا، ملامح حفرتها الفُرقة ولوعة الاشتياق، والوحدة القاتلة وهموم الدنيا، وصعوبة اللقاء!!!
ما يكسر وحدتها إما كتاب تقرأه، او حفيدتها التي كانت تقيم معها بضع أيام في الأسبوع...
كنّا نتبادل النظرات أنا وحفيدتها، نظرات لم أفهمها، بدون أن نخبر بعضنا بشيء… ثمّ صرت أتوغل عميقا في عينيها، أغوص وأطفو أعبث بهما أصطاد سمكا ذهبيا، يقفز بين يدي ثم يهرب عائدا إلى بحرعينيها العميقتين، فألحق به وأبلل ملابسي، وعندما أتعب أرسو على رمال شاطئها أبني قصورا رملية عالية بأبواب فسيحة وشبابيك تطل على حدائقها الخضراء، والياسمين المشاغب يعربش على النوافذ ورائحته تعطرني كبخور سحري من المسك، وهي تنتظرني على شرفتها... عيونها عالما واسعا لا ينتهي!!! بحار ممتدة بلا شواطئ مدن مسحورة تعجُّ بالقصور والكنائس والمآذن … عينان هائلتان غابة من المجهول تحتاج لسنوات وأنت تنقب في أشيائها، لكنهما صافيتان طيّبتان لا تعرفان الكذب.
كانت تحضر الكراريس والأقلام نكتب ونقرأ، أعلمها الرياضيات وتعلمني الإنجليزية… كانت لغتها الإنجليزية راقية… أضرب وأطرح أخماس في أسداس ثم أجمع وبعدها أقسم... نرسم الدوائر نقسمها لمثلثات نلونها نحسب الزوايا والخطوط المتواز ية والمتقاطعة، نقيس ونكتب... صرت أعشق الرياضيات والإنجليزية والسمك والعجوز الطيبة فرحة، وأحب أبي الذي يصطاد السمك وأحب جدها الذي يحب السمك!!!
ثم نلعب ونضحك ببراءة لذيذة… ترسم لي سمكة كبيرة وتغمض عينيّ بكفيها الناعمتين،وتطلب مني ان أرسم عين السمكة وأنا مغمض العينين، فأرسمها في ذيل السمكة ، فتضحك من قلبها ضحكة ترنُ كقطعة ذهبية على بلاط قلبي النظيف...
لماذا لا نطيل الساعات الجميلة ونستبقيها؟؟!! ونعيدها ونكررها عشرات المرات حتى تملُّ منا ونملُّها!!! لماذا تمر مسرعة لتتحول لذكريات يملؤها الشجن والوجد؟؟!! ثمّ تتحول لسجن أبدي يعوم في رأسي….
-تعال غدا، عليك أن تأتي!!!
اطلبي من جدك ان يشتري السمك من أبي، اجعليه يشتري كل يوم حتى أستطيع أن آتي!!! ثم وزعيه على الجيران وعلى القطط المشردة!!! بعثريه في الطرقات في الهواء، أعيديه للبحر اصطاده من جديد وأحضره كل يوم حتى أراك، سمّدي به أشجار حديقتكم كما يفعل الفلاحون!!!
كان النوم يستعصي عليَّ، أحضنه أربت عليه كطفلي الصغير، أعزف و أغني له أغنياته التي يحبها، أتحايل عليه، يغفو قليلا فتأتي صورتها.. فيقفز يلهث وراءها، بقعة ضوء باهتة تغيب في عبِّ الضباب!!! حالة تشبه حالة الموت!!!
أستحضر صورة وجهها القمحي الصغير، أعد رموش عينيها رمشا رمشا أعيد وأكرر، وأكرر وأعيد حتى يموت الليل ويموت معه النوم … كلما غابت أستحضرها أرسمها على الورق وألونها كما ألون زهرة برية لم يمسسها أحد، أرسمها على الجدران بأحجام مختلفة على جذوع الأشجار، بشعرها المنسدل كشلال ماء أسود، أكتب رموزا بالحروف وكلمات في الحب والمحبوب… أرسمها على خطوط كفي كلما غابت أنظر إليه … أرسمهاعلى باب غرفتي، أرسمها قصيدة نائحة، أربط لها فتلات شعرها بمناديل أنسجها بيدي، أقرأ قصائد الغزل، أحفظها كاسمي وأغنيها … جننتني!!!
في اليوم الموعود أحمل صندوق السمك الثقيل وكأنّي لا أحمل شيئا!!!
أركض وقلبي يركض أمامي يرقص ويغني!!! لا ارى شيئا سوى صورتها وهي تطل عليَّ من شرفتها كأميرة عاشقة، تراني فتركض تفتح الباب، تمسح العرق عن وجهي، تملّس على شعري...
أحب رائحة السمك، أحبُّ رائحة البحر التي تندلع من شعرك، أحبُّ يديك اللتين تجرفان ماء البحر وتعفرانه على وجهي...
أحب السندباد البحري الذي يطل من عينيك الحائرتين...
أحب القلق والقسوة في ملامح وجهك الذي لفحه هواء البحر المالح!!!
لم أعرف أن تلك الأيام ستكون قصيرة!!! وأنَّ عليك أن تتشبث بها إلى أبعد الحدود ولا تدعها تمر… وهل ذلك ممكنا ؟؟؟!!! وكيف سنفهم بعدها معنى الذكريات التي احتضنت طفولتك، وذلك الشجن اللذيذ الذي سيفوح منها!!! لم أعلم أنها ستكون رحلة قصيرة، و لن أحفظ منها سوى وجهها القمحي الصغير!!!
هل صحيح ما قالته لي جدتها فرحة؟؟!! هل صحيح أنها سافرت وهاجرت بلا عودة، وبلا وداع!!! ماهذا الكون؟؟!! وما هذه الأقدار؟؟!!
لم أنسى تفاصيل ذلك المساء الخريفي البائس، حيث اختلط لون أوراقه الصفراء بلون الشفق الناري الأحمر، والسواد الذي خيّم على وجهي وصار كموجات تعلو وتقبض على عنقي...
ها أنا محاط بالجدران الباردة والصمت الثقيل، لا شيء إلا الصمت وهذه الغرفة الباردة، وشجرة هرمة تعربش بأغصانها اليابسةعلى نافذتي!!! المدينة كلها نائمة، إلا هذا الداخل المستيقظ الحزين وذكرياته التي تمور في داخلي تحرث دمي وتفتح جراحاتي…قارب صغير تائه في عبّ البحر!!!
هذا ما كتبته في كراستي القديمة….
أكبر حزن يعيشه الإنسان، عندما يُسرق منه على غفلة من يحب!!!! ويرمى به بعيدا على حواف غامضة لا يراها ولا يسمعها ؛ فيضيع منه جزءا جميلا من عمره!!! أهذه الدنيا؟؟!!
سأعطيك جزءا ضئيلا من السعادة ثم أسحبه منك لتبقى تشتهيه كقطرة ماء في صحراء العطش!!!
سأحتاج إلى زمن طويل لكي أنسى أو أتناسى…. كانت الأفكار مختلطة في رأسي كخيوط دقيقة متشابكة …. أنظر في المرآة فأرى في عيوني حزن عميق راكد كصخور البحر القاسية، أفهمها ولا أفهمها، أقف في مواجهة نفسي وجها لوجه أنصت إليها، فأمتلئ بأسئلة بلا أجوبة!!! والأنين يتدفق لا ينتهى من ألم كبير؛ فلا أعثر سوى على مزيد من الحيرة…
أمضي الليل وأنا واقف على حافة الهاوية أحدّق فيها وتحدّق فيّ…
وصدى خافت لنداء الروح يردد: ن.ج.ل.ا.ء… ذات العينين النجلاوين!!! يموت الصدى وأموت معه!!!

4- كراستي القديمة... خجل!!!
هي من كانت تطاردني، تغازلني، تنثر على رأسي وخطواتي ريشا أبيضا …
تغني لي ما شاءت من أغاني الغرام...
-ما اسمك يا أسمر؟؟!! تكلم يا أكحل!!!
مع كل شروق، مع نور الشمس الخجول، وبصحبة الندى تنتظرني عند المنعطف…
يغمرني الخجل ويخنقني، تموج الأرض تحتي، أتعثر في خطواتي كأبله!!! وقلبي يكاد يقفز من صدري ويسقط بين أقدامي!!!
في إحدى المرات استنجدت بأمي فضحكت ملء قلبها حتى كاد أن يُغمى عليها!!!
مرة واحدة توقفت مطرقا، لتقترب مني… كان الزقاق فارغا... أنا وهي وقطة تموء…
لامست بإصبعها شامة خدي…
لم أتكلم!!! لم أتحرك!!! لم أسمع ولم أفهم ما قالت!!!
كل ما فعلته أني نظرت إلى عينيها… بعدها أنا متطاير كورقة ممزقة بعثرها الريح في الفضاء!!!
نسائم ماكرة!!!!
راقت لها النسمات؛ فانسابت على مزاجها، وتركت النسائم الماكرة تعبث بها...
أسبلت جفنيها و انزلقت من أقصى سعادتها تتمايل وترقص!!!
سافرت كموجة في جسد المدينة الهادئ!!! ملأت الفراغ بالعواصف والضوء والماء!!!!
أيقظت المدينة…
موسيقا تعزف، أبواب تُصفق، زجاج يُنثر، ليل يصهل، سُحب تتكسر، شعر وأشعار وشعراء، جيوش تُهزم…
من يلملم التفاصيل الهاربة من مشهدها المتلألئ في مساء مجنون كهذا، في لوحة تُرسم ؟؟!!!

5-ساعات آخر الليل!!!
أشعلتُ سيجارتي وكأني أشعل أحزاني!!!! وأخذت أحتسي أخر فنجان من قهوتي على مهل…
كان النور من خلفي يعكس ظلال أصابعي على الورق… صرت أعبث بها، ارسم بظلال أصابعي أشكالا متكسرة وأعماقا وأبعادا متداخلة، وكأنّي أملك عالما صغيرا أشكّله بإرادتي!!! كانت لعبة ممتعة، أن تصنع عالما تعبث به على هواك!!!
وفجأة وكأني اكتشفت سرا!!!
كتبت لمستي الأخيرة!!!
ماذا تريد؟؟!!!
هناك شيء غامض ينام في عمق السؤال!!!
كانت الحروف صغيرة سوداء متلاصقة، فبدت كسربٍ من النمل الأسود!!! يكاد ان يزحف فوق أصابعي ثمّ يغطي كامل جسمي!!!
الآن، الآن … لا أرغب إلا النوم!!!
انسحبت إلى فراشي، أغلقت عينيَّ وأذنيَّ وفمي وجراحي وذاكرتي، وأبقيت قلبي مفتوحا…
شعرت بالراحة وانا أستكين في غفوتي بعد سهرة غريبة!!!
رأيت نورا ينسل عبر نافذتي ويملأ قلبي!!!
لكني لم أعرف، هل هو نور الفجر أم نور حريق؟؟!!
بقلم: محمود حسونة(أبو فيصل)