معشوق السنجق (13) بقلم:محمد يوسف محمد المحمودي
تاريخ النشر : 2019-01-31
معشوق السنجق (13) بقلم:محمد يوسف محمد المحمودي


معشوق السنجق (13)

محمد يوسف محمد المحمودي

مترجم وصحفي حر

[email protected]

كان العمل يقاس في السنجق بعدد الساعات؛ دونما نظر إلى الإنجازات. وإن كانت ساعات العاملين دقائق يضيعون أكثرها في الحديث عن أمورٍ تافهةٍ تشغل جلهم. تجد السفيه يتكلم عن النساء أو المخدرات، وتجد المعتدل فيهم لا يكف عن انتقاد المشتغلين في السياسة والأندية الرياضية وفرقها ومشجعيها. 

لم تكن الإنجازات أو الكفاءات معيارًا معتبرًا في مؤسسات تعتمد في اختيار مدرائها على عدد سنوات الخدمة تارةً والمحسوبية تارةً أخرى؛ مع تهميشٍ متعمد للنابغين وتحدٍ تام للمجددين والمبدعين، وإن كانت بعض قطاعات التطوير والتجديد تتبنى سلسلة من برامج التحسين والتميز الوظيفي، كانت الإدارات الفرعية تستعين ببعض كوادرها الشابة في تنفيذ الاستحقاقات المطلوبة منها وتصريف شئونها كافةً دون أن تلزم بقية العاملين فيها بتطبيق ما تم إنفاق المال والوقت عليه.

كانت طبائع أحمد، ومحمد ويوسف تحول دون قبولهم بالدونية أو التبعية لمن لا وزن له ولا مكانة في فضاء العلم والتقدم. ولأنهم يطمحون من خلال انخراطهم أعمالهم التي لا تعني لهم الكثير ماديًا واجتماعيًا إلى تغيير قطاعٍ حيوي من قطاعات المجتمع وتأهيله حتى يستوعب حركة التغيير ويساهم في إعداد جيلٍ أكثر نشاطًا وهمة ينقذ بلادهم وأبنائهم من دركات هذا القعر المظلم. 

لذلك، كان الحل الوحيد لثلاثتهم يكمن في نسج حيلٍ لطيفة وذكية لاستمالة العاملين إلى طريق التجديد والتطوير باعتباره أرضية مشتركة تلاقت عليها بعض تطلعاتهم مع تطلعات إدارة السنجق العليا التي لم تكن تهدف إلى تحقيق ما يفكر فيه هؤلاء الرفاق. الطريف في الأمر أنهم وجدوا جميعًا معارضةً قويةً من أقرب الأقربين في بادىء الأمر. وها هي سنجق تبلغ محمد عبر رسالةٍ نصيةٍ عدم إقتناعها بفكرته وإيمانها بفشله شأنه شأن غيره السابقين الذين حملوا لواء التأهيل والتدريب وعجزوا عن تطوير المؤسسات وتدريب العاملين بها على المهارات اللازمة لمواكبة سرعة التغيير في العقد الثاني من الألفية الثالثة. 

الآن، بدأ الصدام قويًا بين علا ويوسف؛ عندما أراد توجيهها إلى مهمةٍ مغايرة تؤهلها لدورٍ أكبر ومهمة تنفيذية تعينه فيها على تحقيق رؤية ورسالة ورقية لم يستطع أحدٌ قبله بلورتها إلى واقعٍ بعد. حاول يوسف إقناع علا أن خطوتها تلك تقيها شرور وتدابير من تحسن الظن بهم. وها هي علا تثور وترى حبيبها في صورة الذئب المتربص بالقطيع. وعندما فشل في إقناعها بحديثه الخاص معها، نزل غضبانًا أسفًا وهو عازم على فرض الأمر وفعل ما تأباه لعلمه أنه في مصلحتها وخيرٌ لها وللعمل. 

وفور علمها باجتماع يوسف بمدير العمل ومحمد زميله؛ وثبت غاضبة وانطلقت تهرول نحو مكتب الإدارة وهي تقول لنفسها: "آه من هذا الذئب الذي يريد أن يفرض رأيه علي ويسيرني في طريقٍ أكرهه كما يسير الراعي الأغنام. والله لأركلنه ولأوصدن أبواب قلبي التي فتحها له. والله لأرينه." 

وهكذا تعاملت علا مع الأمر كما لو كان تحديًا بينها وبينه. وهنا نسيت المبادئ المشتركة بينها وبينها، ونسيت حديثه عن وجوب العمل بروح الفريق والتضحية بأي شيءٍ في سبيل تحصيل غايتهما ببناء مؤسسة قوية تعمل على تأهيل وتخريج كوادر قيادية قادرة على النهوض بالأمة وتخليصها من براثن الجهل والتخلف. دخلت علا المكتب بإصبعٍ ممتدٍ حتى عين يوسف؛ صارخةً في وجهه: "إما أنا أو أنت هنا." عندها، ثار يوسف وغلبته حميته ومشاعره بالاستفزاز من فتاته وقال لها: "أنت غبية." زادت دماء علا غليانًا فهاجت وماجت وانطلقت تسبه وهي صاعدة السلم ومحمد يمسك بيوسف وهو يتحدث من خلفها: "من يراها يظنها عاملة فاعلة أو نشيطة. والله كانت وستظل معطلة." نظر يوسف إلى محمد وقال له: "لا فائدة فيها؛ تصر على استعدائي وتبالغ في سوء الظن بي. والله كنت أريد لها الخير." 

نظر محمد إلى يوسف؛ مشفقًا عليه وقال: "صدق ظني فيك يا بطل!  وتعشقها يا رجل." كانت عينا يوسف تشيان بما تخفيه نفسه، لكنه وقتها قال: "لا والله أبدًا لم ولن تكون حبيبتي أبدًا." عندها، أقبل محمد على صاحبه يضمه وينظر إلى علا الغاضبة ويراها غزالًا شاردًا وراقت له وحلت في عينيه. بدا محمد يفكر فيها بعدما سمع زئيرها الذي راق له.

عمومًا، صدمة يوسف كانت كبيرة، وربما كان شعوره شعور الفاشل الذي وجد مشقة في احتواء حبيبته. كان يفكر في الورقة التي يحملها في جيبه وتمنحه سلطة إقصاء من يرفض التوجيه ويقاوم ما يقره من رؤى. تذكر كم كان يريد أن يضع أسماء بعض العاملين المتسمين بالسلبية دونها، لكنه يفشل اليوم وسيزيده فشلًا في مسيرته أنه بسبب حبها واستثنائه لها، سيتثني غيرها كما استثناها، رغم عدم تعاونها معه شأنها شأن غيرها من العاملين. قد يكون الأمر منصفًا للآخرين وفيه قدر من النزاهة والعدالة والمسئولية، لكنه أرهق الرجل حينما انطلق وحده في أول الأمر. بالفعل، انضم إلى محمد ويوسف نفرٌ من زملائه، لكن التزامهم بالرؤية كان شكليًا بغية الحصول على امتيازات ومكافآت مشكوكٌ فيها....