البنية السردية في القصة القصيرة قصة نظرة (تحليل) أنموذجاً للقاص يوسف إدريس
تاريخ النشر : 2019-01-26
بقلم:محمد زيطان باحث المغرب، تطوان

موضوع الدراسة: البنية السردية في القصة القصيرة قصة نظرة (تحليل) أنموذجا للقاص يوسف إدريس.
تمهيد:
بدءا نشير الى انه قد لا يكون من نافلة القول في العصر الراهن قبل التطرق لأي موضوع قيد البحث، التحدث عن ضرورة واهمية طرح وتحديد الجهاز المفاهيمي الاجرائي ، الدي يشتغل عليه الباحث في أي حقل من حقول المعرفة الإنسانية ، بل ان طرح هده المسالة وتوضيحها بما يلزم من تحديات وشروح قبل الدخول في صلب الموضوع الذي نحن بصدد بحثه يعتبر في راينا خطوة منهجية وتأسيسية لابد منها تستلزمها موضوعية البحث الذي نضطلع به والذي نسعى من خلاله الى محاولة وصف وفهم وتفسير العناصر المكونة لبنية البحث وهنا ضرورة الحديث عن مفهوم القصة القصيرة وأيضا الحديث عن قصة نظرة التي نحن بصدد تحليها
الامر الذي يضعنا امام مجموعة من الإشكاليات من قبيل ؛
_ مفهوم القصة القصيرة؟
_ المكونات السردية للقصة نموذج نص نظرة؟
_ اهم الإشكاليات التي لم يتم الإجابة عنها في علم السرد؟
أولا: مفهوم القصة القصيرة
تعتبر القصة القصيرة جنسا أدبيا حديثا وهي عبارة عن سرد حكائي نثري أقصر من الرواية، وتهدف إلى تقديم حدث وحيد غالبا ضمن مدة زمنية قصيرة ومكان محدود غالبا لتعبر عن موقف أو جانب من جوانب الحياة، لا بد لسرد الحدث في القصة القصيرة إن يكون متحدا ومنسجما دون تشتيت.
أصبحت القصة القصيرة دعامة كبري من دعائم الأدب المصري الحديث تشكل ضربا قائما بذاته من ضرورة الأدب وفنونه شاعت كتابتها شيوعا واسعا حتى غدت في وقت وجيز أهم أبواب الأدب وهذا الطوفان لا يمكن ضبطه وتتبعه وتوجيهه الوجهة الصحيحة إلا عن طريق بحثه ودراسته دراسة جادة توضح لنا مواضع إقدامنا وقد ظهرت في مصر نتيجة للتأثر بالأدب الغربى ومن أشهر روادها محمود تيمور و شحاته عبيد و عيسى عبيد ، و حسن محمود ، و إبراهيم المصري ، وتوفيق الحكيم ، و يوسف إدريس الذي نحن بصدد تحليل لقصته القصيرة المعنونة بنظرة .



نبذة عن الكاتب :
ولد يوسف إدريس في قرية "البيروم" بالمحافظة الشرقية شمال مصر يوم 19 ماي 1927 م ،و تخرج من كلية الطب سنة 1952 ، و ترك الطب من أجل القصة القصيرة ، وقد أصدر 13 مجموعة قصصية أولها :(أرخص الليالي سنة 1954)،و مجموعة (جمهورية فرحات)، و (آخر الدنيا) و ( حادثة شرف )....تميزت قصص يوسف إدريس بالحديث عن شخصيات مهمشة في المجتمع المصري لم تظهر من قبل في القصة القصيرة ، وهذه الشخصيات تتمثل في الفلاحين و الفقراء و العاملين و الموظفين الصغار و أطفال و صبية و المراهقين ، ويعتبر يوسف إدريس من أشهر كتاب القصة القصيرة في العالم العربي ،و يعتبر من اشهر المجددين في فنونها، يتميز قلمه بالدقة والتركيز والتعبير المميز، قدم للأدب العربى أكثر من عشرين مجموعة قصصية، وخمس روايات، وعشر مسرحيات، وترجمت أعماله إلى العديد من اللغات العالمية، ما اهله لان يكون أمير القصة القصيرة بلا منازع.
ثانيا: المكونات السردية:
1-الحدث السردي : - الحدث:
و تدور أحداث هذه القصة حول طفلة صغيرة و هي خادمة شاهدها الكاتب عائدة من الفرن ،تحمل فوق رأسها حملا معقدا يكاد يقع منها رغم قبضتها القوية عليه ،فطلبت من الكاتب أن يضبط ما تحمله على رأسها ، فساعدها ثم أكملت طريقها ، ولكنه سرعان ما التفت الكاتب بنظرته إلى الطفلة وهي تكمل سيرها وسط الزحام و الازدحام الذي يملأ الشارع و الفضاء ، ثم تقف الطفلة فجأة لتتأمل مشهدا سلب جل اهتمامها بنظرة طويلة حالمة ، بعد رؤيتها لمجموعة من الأطفال يلعبون الكرة فيما بينهم .
وتصور هذه القصة جانب من جوانب الحرمان و القهر و الفقر الذي تعيشه الطبقات الفقيرة المطحونة اجتماعيا والتي تجسدها الطفلة ، في مقابل الطبقات الميسورة التي تعيش حياة الرفاهية ،التي تجسدت في القصة من خلال صورة الأطفال وهم يلعبون فيما بينهم الكرة .
وهنا تكمن المفارقة السردية التي تخلق ذلك التوتر الحكائي الناتج عن صراع و تقابل ثنائي بين عالمين متناقضن جسده الكاتب في قالب قصصي جمالي يعكس مجموعة من الأبعاد الانسانية التي تنجلي في هذا الأفق التخييلي .
إن قصة " نظرة" هي تركيب فني تتقابل مجموعة من القيم و الأفكار و المواقف و الوضعيات ،إذا كانت الطفلة ترصد تلك الاختلالات التي تجتاح البنية المجتمعية من خلال ذلك التفاوت الطبقي الشاسع بين الطبقات الفقيرة و الميسورة ، ويعكس الكاتب هذا التعارض بمعجم لغوي قصصي يستند إلى مجموعة من الثنائيات : الفقر | الغني _ العمل | اللعب _ الصغر | الكبر _ الخوف | الاطمئنان _ الميالان | التثبيت _ الانتظار| المُضي _ الصمت | الصراخ _ الحيرة | الضحك ...
إنها تقابلات تحيل هذا الواقع المختل الذي تختل معه أحداث القصة فنيا لترسم لنا تلك الهوة الشاسعة و ذلك التناقض الصارخ في المجتمع المصري .
و قد مثل الكاتب دور الشاهد المراقب للأوضاع الذي يحاول تعديلها و خلق التوازن الذي يكسر ذلك الاختلال التخييلي في عناصرها ، و يتجلى ذلك بوضوح في محاولته لتعديل الحمل الغير الثابت الذي كانت تحمله الطفلة ، و إصرارُه على مراقبة وضعيتها و مسارها ،فاذا كانت الطفلة تحمل ذلك الحمل الثقيل الذي يوحي إلى حمل الظلم و الأسى و الفقر في مجتمع طبقي لا يعرف الرحمة و الشفقة لهؤلاء الأطفال المساكين ،( وهذا ما يخلق هذا الاختلال الحكائي )،فإن الكاتب يحاول تعديل هذا الاختلال من خلال رمزية تعديله لحمل الخبز فوق رأس الطفلة و تقديم مجموعة من النصائح لها ،والكاتب هنا يدعونا إلى الاهتمام و الرفق و العطف بحال هذه الطبقة المحرومة التي تصرخ صرخة رنانة في قلب مجتمع أجوف لا يعرف غير مصالحه ،صرخة أطفال أبرياء تجبر على السير في طريق الفقر و الجوع و القهر و الذل من أجل لقمة الأمل و الحلم,
2 - الشخصيات .
تعكس شخصيات هذه القصة ذلك التباين و التعارض و التوتر الذي كشفنا ملامحه سابقا، الكاتب انتقى شخصيات عمله من تلك الطبقة التحتية التي تواجه صراعا دائما من أجل إثبات وجودها و ابراز مكانتها في مجتمع لا يرحم حضورها و قيمتها .
فالشخصية الأساسية لهذا العمل (الطفلة) ، هي قيمة دلالية وعلامة ايحائية ،تكشف معالم الفقر و القهر و المعاناة التي تعانيها الطبقات الكادحة في صراعها مع مظاهر الظلم و الاستغلال ، و يظهر ذلك جليا من الأصناف التي يصورها لنا الكاتب في القصة من خلال تلك الطفلة البريئة الصامتة المستسلمة لقدرها الخاضعة للأوامر سيدتها ، الخائفة و المرتعدة من نظرة المجتمع إليها ، وتهديد العقاب التي ينتظرها في حالة عدم إنجازها لعمل سيدتها ، يبرز ذلك من خلال هذه الجمل :( الطفلة الصغيرة الحَيرى – زيادة في الاطمئنان – نصحتها أن تعود إلى الفرن ...،انتظرت قليلا لتتأكد من قبضتها - لم تلتقط أذني منه إلا كلمة ستي ...)
كما يبرز الكاتب مجموعة من الخصائص و السمات الخارجية ، التي تربطها بالطبقة الاجتماعية التي تنتمي إليها من خلال مجموعة من الأوصاف ، التي تصور حالتها المرثية البئيسة : ثوبها القديم الواسع المهلهل الذي يشبه قطعة القماش التي ينظف بها الفرن – رجليها اللتان كانتا تطلان من ذيله الممزق كمسمارين رفيعين – قدميها العارتين كمخالب الكتكوت في الأرض – وجهها المنكمش الأسمر ....
في مقابل ذلك تبرز شخصية الكاتب الذي جاء مشاركا في الأحداث ، مراقبا و شاهدا لما يراه من أحداث ترسم معالم التطور الدرامي للحبكة القصصية ، فنظرته ، نظرة عطف و اهتمام و رئفة تسعى إلى خلق الاتزان و جاوز الاختلال و الاضطراب الذي يميز أحداث القصة .
و نجد كذلك حضورا خفيا و مضمرا لشخصية السيدة التي توحي إليها كلمة " ست " التي تلفظت بها الطفلة ، و تكشف الحالة النفسية ( الخوف) التي رافقت الطفلة أثناء تلفظها بهذا اللفظ قساوة هذه السيدة و شدتها في التعامل مع الطفلة : ( فقد كنت أتوقع في كل ثانية أن تحدث الكارثة )
و بقصد الكاتب هنا بالكارثة سقوط الحمل من فوق رأس الطفلة ، و سميت بالكارثة لان وقوع الحمل الذي تحمله ، سيسبب لها أدى و ألما و عقابا من سيدتها القاسية التي لا ترحم الأخطاء و الزلل حتى لو كانت بسيطة ،وهذا ما يكشف هذا الطغيان و الاستغلال التسلطي و السلطوي من بعض الفئات الغنية اتجاه الخادمات و العاملات البئيسات .
في مقابل الطفلة التي تمثل الفئة المحرومة ، هناك فئة الأطفال الذين يلعبون بالكرة بغير اهتمام ولا المام بأحد، سوى بمشاعر الضحك و الصراخ التي ترافق مشاركيهم في اللعبة ، وهذه فئة مناقضة و متناقضة مع الفئة التي تنتمي إليها الطفلة ، وقد جسد الكاتب هذا التناقض من خلال عدة ثنائيات : 1 – العمل| اللعب ( عمل الطفلة يقابله لعب الأطفال) :2- الصمت| الصراخ (صمت الطفل يقابله صراخ الأطفال ) 3- الحيرة والحزن الضحك ،(حيرة الطفلة لما تحمله و حزنها على حالها مقابل ضحك و لهو الأطفال ) 4- العري القسري |العري الاختياري ،(ويبرز ذلك في قدمي الطفلة الحافية بسبب الفقر و الظلم في مقابل عري أقدام الأطفال الاختياري من اجل اللعب و الاستمتاع )
3- الفضاء .
يلعب الفضاء دورا مهما في البناء الجمالي لهذه القصة ، و الفضاء من العناصر الأساسية التي يحتكم إليها الكاتب كونه يتفاعل و يتوافق و يتناصف مع البناء الدرامي للأحداث و كونه أيضا مجالا تتحرك فيه الشخصيات و تتجاذب فيها العلاقات و تختلط الطبقات .
وقد وظف يوسف ادريس في قصته هذه ،فضاء الحارة باعتباره فضاء مفتوحا، مولدا لتوترات الأحداث و منشأ لتصادم الرغبات ، ويوسف ادريس هنا يشترك مع مجموعة من الكتاب المصريين و العرب الكبار الذين خلدوا و جسدوا فضاء الحارة في أعمالهم الأدبية ، كنجيب محفوظ و يوسف السباعي و ابراهيم أصلان ، لما لها من خصوصيات و مميزات تعكس نمط الحياة في البيئة الشعبية التي تتخللها الطبقات الشعبية التي تتفاعل فيما بينها بتلقائية و عفوية و حركية قل نظيرها في الفضاءات الأخرى .
و تتحرك شخصيات هذه القصة في شارع مزدحم من شوارع الحارة ، وتبرز شاعرية هذا الفضاء باعتباره تجسيدا للبنيات المجتمعية و ما يتخللها من تفاوتات طبقية تعكس ملامح المجتمع المصري ، فالطفلة الفقيرة تائهة في طور الشارع العريض المزدحم بالسيارات الممتلئ بالتناقضات الخاضع لمعيار الاختلال التي
كشفنا ملامحه سابقا ، فهذا الازدحام يرمز و يوحي إلى ازدحام الأفكار و التطلعات و الأحاسيس التي تنتاب الطفلة العاملة ، ومحاولة عبورها لهذا الطريق المزدحم يحيل إلى محاولتها للانفكاك من وضعها المزري وشق طريق الأمل و الحلم من أجل غد أفضل يتجاوز اختلالات الطريق الوعرة السابقة ، لكن هذا الحلم يواجه تحديات تكمل في طبيعة هذا الشارع المزدحم المليء بالتناقضات و المليء بالقسوة و المليء بالاستغلال ، وهذا ما لا يدع مجالا للرحمة و فسحة للعطف ، لهذا تقع الطفلة في دوامة هذه الحارة التي ابتلعتها بحسب قول الكاتب في نهاية القصة ، وتوحي هذه العبارة عن الاختفاء و الانهيار أمام قسوة المكان و شدة قهره لأوضاع الفقراء.
4 - الرؤية السردية .
لقد اس ة النقدية المخصصة للنصوص السردية ، وهي مكون خطابي أساس و تقنية سردية تحدد وضع السارد و علاقته تأثرت مقولة الرؤية السردية بأهمية كبيرة في الدراس بأحداث هذا العمل.
وباطلاعنا على أحداث هذه القصة نجد أن معرفة السارد بأحداثها محدودة و مقرونة بمعرفة الشخصية الرئيسية لها ، حيث أن معرفته تقتصر على ما يدركه و يراه و ما يلمحه بالعين المجردة في الواقع الذي تجري فيه الأحداث ، وتتفاعل فيه الشخصيات ،علما أن السارد كان هو الآخر شخصية من الشخصيات الأساسية لهذه القصة ، بحضوره كشاهد و مراقب لتمفصلات الأحداث ، فهو يوظف عدساته في الحكي بطريقة مشابهة لعدسات الكاميرا في السينما ، يتتبع خطوات شخصية الأساسية (الطفلة) و يصف حركاتها و الأفعال التي تقوم بها ( قبضتها الدقيقة التي استماتت عليها – فيميل رأسها – مضت وهي تغمغم بكلام كثير – تخترق الشارع العريض – تخطو خطوات ثابتة – تتمايل بعض الشيء ...)، كما يرصد أهم أوصاف التي كانت تتسم بها ( حيرى – وجهها المنكمش الأسمر – مخالبها الدقيقة – قدميها العارتين – الفتحات الصغيرة الداكنة السوداء في وجهها ...)، لكن هذا الوصف الذي يخصصه السارد كنبرة تبأيرية ترصدية لشخصيات عمله ،يقتصر فقط على التمفصلات الخارجية السطحية الظاهرة ولا يتعداها إلى الأعماق الداخلية الخفية ، كما أن معرفة السارد لا تتخطى ما يشاهده و يدركه بالملاحظات و يتبين ذلك من الأمثلة التالية :( ولست أدري ما دار في رأسها – فما كنت أرى لها رأسا و قد حجبه الحمل – وهي تغمغم بكلام كثير لم تلتقط أذني منه إلا كلمة "ستي " – ابتلعتها الحارة ..)
لهذا نستخلص أن الرؤية السردية التي وظفها السارد هي الرؤية مع ،لأن معرفته متساوية مع معرفة الشخصيات و تقتصر على ما تراع بالعين المجردة .
5- سمات النص الأساسية :
أ- فعل النظرة .
يمثل هذا الفعل البؤرة المركزية التي تتحرك في ظلها الأحداث ، وهي سمة طاغية في أحداث القصة ، طالما أنها صادرة من العنصرين الأساسيين في هذا العمل القصصي : السارد و الشخصية المحورية ، فهي نظرة مزدوجة تحاول أن تحيط بعالم تملأه التناقضات و يعمه الصراع .لهذا نجد أن الكاتب اختار هذه الصفة عنوانا لقصته ، طالما لها هذا الوجود البارز في مساحة الحكي ، وكما قلنا سابقا ففعل النظرة بعلاقته بالشخصيات هو فعل مزدوج، تارة يصدر من الشخصية الرئيسية ( الطفلة ) ، وتارة من السارد :
فالنظرة الأولى ( نظرة الطفلة ) ، توحي إلى نظرة الحسرة و الألم التي تنتاب نفسية هذه الطفلة الخادمة ، وهي ترى أطفالا في مثل سنها يلعبون و يمرحون و يصرخون ، بينما هي محرومة من اللعب و الضحك ، بل و تشقى بالعمل و المعاناة تنفيذا لأوامر سيدتها قسرا و جبرا .
أما النظرة الثانية ( نظرة السادرة )، فهي نظرة الشاهد الرقيب المتأمل في الواقع الاجتماعي اللاإنساني لتلك الطفلة المحرومة من متعة اللعب ، مع اجبارها على العمل القهري في هذه السن المبكرة كخادمة ، وهو يشير بذلك إلى قضايا هذه الطبقات المطحونة و المنسية ، ليبرز لنا أهم ملامح الاستغلال الذي تتعرض له ، إذا فنظرته هي نظرة عطف و رئفة و محاولة لإصلاح هذا الواقع المرير ، وذلك بتوجيه الأنظار إليه عبر الحبكة القصصية المتينة .
ب- سمة الخوف و التوجس .
و قد جاءت هذه السمة مضمرة و خفية وتوحي إليها الأحداث الظاهرة الخارجية ،طالما أن السارد لم يتعمق في وصف المشاعر الداخلية و اكتف بما يراه خارجيا واتضحت معالم هذه السمة من خلال ( كل ما حدث أنها انتظرت قليلا لتتأكد من قبضتها ثم مضت وهي تغنم بكلام كثير لم تلتقط أذني منه إلا كلمة " ستي " ) فبعد أن نصح السارد الطفلة بأن تعود إلى الفرن و تترك الصاجة ثم تعود فتأخذه ( بعد أن لاحظ ثقل الحمل على رأسها )، لم تعمل البنت بتلك النصيحة بخوفها المؤكد من سيدتها ، وكل ما فعلته أنها انتظرت قليلا لتتأكد من إحكام قبضتها على هذا الحمل ، ثم مضت تغمغم بكلام كثير لم تلتقط أذن الكاتب منه إلا كلمة "ستي" ، وهذا يدل على خوفها الشديد المكتنز في أعماقها ولا شعورها من قهر وشدة و عنف مشغلتها ، في حالة تأخرها عن العودة . فهي إذا مسلوبة الارادة و محكومة بأوامر السيدة .
ج- رمزية الحمل في القصة .
إن الحمل الذي كانت تحمله الطفلة على رأسها هو حمل فني استخدمه الكاتب للدلالة على اختلال الذي يعرفه الواقع و المجتمع المصري ، واختلال هذا الحمل فوق رأس الطفلة هو اختلال لواقع يعرف تناقضات متعددة ، فالحمل حسب قول الكاتب هو حمل ثقيل و معقد ، أنه حمل الظلم و الأسى و الفقر في مجتمع طبقي لا يعرف الرحمة و الشفقة بهؤلاء الأطفال المساكين ، حمل تكابد الطفلة و تجاهد من أجل تحمله ، و يزداد تأجج هذه المعاناة في نفسية الطفلة حينما ترى الأطفال يلعبون و يصرخون و يركضون بحرية و ارادة ، منفعلين و متفاعلين مع جو الكتعة التي يعيشونها .
إنه واقع متناقض مهترئ مصاب بالخلل و الاختلال يحاول يوسف إدريس أن ينقله لنا بأمانة في قالب جمالي تخييلي محكم البناء و التشييد الفني .
6- الصور السردية :
تعد الصورة وسيلة للتشخيص و التعبير الفني و الجمالي عن قضايا انسانية متعددة فهي طريقة لتشكيل و التصوير و الوصف ، موادها البلاغة و اللغة ، ورؤيتها انسانية محضة و غايتها الوظيفة الفنية و الجمالية ، بمراعاة مجموعة من المعايير التجنيسية المرتبطة بالجنس الأدبي التي تنتمي إليه ، و ذلك من خلال استحضار مجموعة من السياقات التي تحيط بالصورة من الداخل و الخارج مثل السياق البلاغي و السياق اللغوي و الذهني و النصي و الجنسي ، ولا تقتصر الصورة السردية على مكونات البلاغية التقليدية ( المجاز – التشبيه – الاستعارة ) ، بل تشمل العمل السردي ككل من خلال مكوناته ( الاحداث –الشخصيات – الزمان – المكان ...) ، وسماته وبنيته الحكائية و نظامه الزمني في تسلسل الأحداث .
وقد شكل هذا المبحث ( الصورة السردية ) مجالا خصبا في الدراسات النقدية المعاصرة ، حيث تناوله مجموعة من النقاد المغاربة ، ومن بينهم محمد أنقار ، مصطفى الورياغلي ، عبد الرحيم الإدريسي ( من خلال كتابه استبداد الصورة) ، وشرف الدين مجدولين ....
و بتأملنا للصور السردية في هذه القصة نجدها خاضعة لشروط السابقة التي ذكرناها المرتبطة بالسياق القصة و خصائها و مكوناتها و سماتها المرتبطة بجنس القصة ، ومن بين هذه الصور :
- " كان غريبا أن تسأل طفلة صغيرة مثلها إنسانا كبيرا مثلي لا تعرفه ، في بساطة و براءة أن يعدل من وضع ما تحمله " ، وهنا نجد صورة موجزة تشير إلى بطلة القصة و ملامحها ، فهي طفلة صغيرة و بسيطة بريئة تحمل على رأسها حملا مركبا مضطربا يحتاج إلى تعديل .
و الكاتب هنا يقابل بين عالمين متناقضين : عالم صغار و عالم كبار ( طفلة صغيرة – إنسانا كبيرا ) ، غير ان الصورة ترصد تناقضا واضحا في المهام ،فالطفلة هنا تعمل خادمة في حين ان العمل من مهام الكبار، لكنها رغم ذلك تقاوم هذا الوضع بالحكمة و الصبر ،و هذا ما سيظهر جليا في مراحل لاحقة من القصة " أخيرا استطاعت الخادمة الطفلة ان تخترق الشارع المزدحم ،في ببطء كحكمة الكبار"
إن الوظيفة هنا مقلوبة و معكوسة حيث ترتدي الطفلة ثوب الكبار و تتقمص دورهم و أفعالهم ( العمل ) و صفاتهم ( الحكمة ) و هذه صورة فنية تعكس ذلك التناقض الصارخ في بنية المجتمع المصري .
-" كل ما حدث أنها انتظرت قليلا لتتأكد من قبضتها ثم مضت وهي تغمغم بكلام كثير لم تلتقط اذني منه إلا كلمة ستي "
و نجد هنا صورة مضمرة قائمة على سمة التكثيف ، وقد وظف الكاتب كلمة " ستي " هنا بطريقة فنية دقيقة ، فهي توحي باهية والخوف من مخالفة اوامر سيدتها و عجزها عن التصرف إلا في حدود اوامر سيدتها ، فهي لا تملك التحكم في مصيرها و حاضرها ، وتوحي أيضا بالقهر الاجتماعي و قسوة المشغلات .
- " ما دار في رأسها " وهي صورة مجازية ( استعارة مكنية تصور الأفكار كالألة التي تدور ، وهذا تجسيم و ايحاء بتتابع ).
- " ما كنت أرى لها رأسا " هنا كناية على صغر رأسها و كبر حجم ما كانت تحمله فوق رأسها .
- " ثوبها الذي يشبه قطعة القماش " تشبيه يدل على حال الطفلة الفقير و البئيس و توحي بالإهمال و عدم العناية بها من طرف سيدتها .
- " ابتلعتها الحارة " استعارة مكنية صورَ من خلالها الكاتب الحارة كوحش ضخم ابتلع الطفلة و توحي باختفائها أمام هذا الازدحام الذي يعرف الفضاء .
إنه ابتلاع للإنسان و لقيمته كإنسان في ظل الطابع المادي الذي يطغى في هذا الفضاء المليء بالتناقضات الإجتماعية .
- " أطفال في مثل حجمها" هنا تشبيه فيه توضيح و ايحاء بالمفارقة بين حالها البئيس ( الحرمان ) و حالهم ( الاستمتاع) .
7- الأسلوب القصصي :
يتميز أسلوب يوسف إدريس في هذه القصة بالنزوع إلى البساطة و الايحاء و الميل إلى الإيجاز و التركيز و البعد عن الاستطراد و الاقتصاد في الوصف ، بالإضافة إلى توظيف مجموعة من الصور البيانية .
وقد اختص الوصف برصد أهم السمات الخارجية للطفلة ، ذلك بالتركيز على صفاتها الخارجية :( المظهر – اللباس – الهيئة – الملامح – الأفعال و التصرفات )، بينما نجد غيابا للوصف الداخلي المباشر المركز على المشاعر و الأحاسيس و الأفكار ، لكنه رغم ذلك حضر مضمرا بشكل خفي من خلال الايحاءلت التي كنا نترصدها في أقوال الطفلة و أفعالها و تصرفاتها .
أما الحوار فقد جاء صامتا غير منطوق ، غير أنه كان اكثر قوة و دلالة من الحوار الملفوظ، و يحيل إلى الحوار الضمني الذي جرى بين السارد و الطفلة ، وهو حوار يصرح حبه الكاتب و ترك للقارئ فسحة لاكتشافه و قراءة أبعاده .
هكذا نستخلص من نهاية التحليل أن يوسف إدريس برع في سبك عمله الفني الذي جسد واقعا مليئا بالتناقضات يعج بالصراع و التوتر و الاختلال بين طبقات اجتماعية مختلفة و متفاوتة في القيمة و في نمط القيم و الأفكار .
إنه واقع يعج بالسلبيات التي حاول الكاتب استحضارها و التفاعل مع مظاهرها و خفاياها من أجل نظرة مستقبلية تسعى إلى اصلاح واقعها ، هذا كله عولج في قالب تخييلي محكم البناء في مكوناته و عناصره الفنية .
بقلم الباحث محمد زيطان