بدايات التدوين التاريخي في الأندلس من خلال كتاب التاريخ لعبد الملك بن حبيب السلمي
تاريخ النشر : 2019-01-20
بدايات التدوين التاريخي في الأندلس من خلال كتاب التاريخ لعبد الملك بن حبيب السلمي


بدايات التدوين التاريخي في الأندلس من خلال كتاب التاريخ لعبد الملك بن حبيب السلمي 

محمد عبد المومن

باحث من المغرب

          ظهر التدوين التاريخي في الأندلس متأخرا نسبيا عن ظهوره في المشرق, وقد كان ظهوره الأول متأثرا بمناهج الفقه وعلم الحديث, لكون الذي كتبوا التاريخ في البداية من الفقهاء الذين تلقى أغلبهم علومه في المشرق على يد  فقهاء ومحدثين مشارقة, و لم يتغير منهج تدوين التاريخ في الأندلس إلا في القرن الخامس الهجري مع ظهور مؤرخين كبار كابن حيان.     

إن تتبع تطور مناهج الكتابة التاريخية في الأندلس عملية في غاية الصعوبة , كون أغلب المصادر المؤلفة خلال عصري الإمارة والخلافة قد فقد, باستثناء القلة القليلة من الكتب نذكر من أهمها كتاب " أخبار مجموعة " لمجهول,  وكتاب " تاريخ افتتاح الأندلس " لابن القوطية,  وأقدم كتب التاريخ في الأندلس المسمى بكتاب التاريخ والمنسوب لعبد الملك بن حبيب, والذي يشكل موضوع هذه المساهمة.                                

حظي كتاب التاريخ لعبد الملك بن حبيب باهتمام مبكر من طرف المهتمين, وتضاربت الآراء بينهم حول بعض القضايا التي أثارها الكتاب, كقيمته التاريخية ونسبته لعبد الملك بن حبيب...

إن الاختلاف الحاصل بين المهتمين بالدراسات الأندلسية حول كتاب التاريخ لابن عبد الملك بن حبيب, والتضارب الكبير في شأن قيمته العلمية لا يمكنه بأي حال من الأحوال أن يلغي أهمية الكتاب, لكونه يشكل في الحقيقة مرآة للفكر الأندلسي, و مدى تطوره خلال عصر الإمارة, كما أن الكتاب بالإضافة إلا ما يحويه من معطيات تاريخية يعكس لنا طبيعة الأفكار والمعتقدات التي كانت رائجة في الأندلس في تلك الفترة المبكرة, والتي ترسبت في عمق العقلية الأندلسية , كما أنها أثرت ولا شك في سلوك الأندلسيين, إذا من خلال هذا العرض سأحاول التوقف عند الإشكالات التالية, هل كتاب التاريخ من تأليف عبد الملك بن حبيب؟ ما هي قيمة هذا الكتاب وأين تبرز؟ ما هي مكانة الرجل الفكرية و أين تبرز من خلال كتابه؟

أولا – التعريف بالمؤلف

             ليس عبد الملك بن حبيب بالرجل المجهول, فقد حظي باهتمام كبير من طرف أصحاب كتب التراجم حيث ترجم له جمع غفير من الأندلسيين والمشارقة اذكر من بينهم:

-         الخشني المتوفى سنة 371 ه في كتابه أخبار الفقهاء والمحدثين.

-         الحميدي المتوفى سنة 488 ه في كتابه جذوة المقتبس.

-         القاضي عياض المتوفى سنة 544 ه في كتابه ترتيب المدارك و غيرهم كثير.

تجمع المصادر على أن اسمه عبد الملك بن حبيب بن سليمان بن هارون بن جاهمة بن عباس بن مرداس السلمي, وتختلف في انتمائه لسليم حيث يرى بعض أصحاب كتب التراجم منهم ابن الفرضي أنه لا ينتسب إلى هذه القبيلة العربية وإنما هو من مواليها.     

أصله من طليطلة وقد انتقل جده للعيش بقرطبة, التي غادرها والده إلى البيرة حيث ولد المؤلف أواخر القرن الثاني الهجري ربما سنة 174 ه.[1]                           

لا تخبرنا المصادر بالشيء الكثير عن مراحل حياته الأولى وطلبه للعلم ببلده, سوى انه تتلمذ عن ثلة من الشيوخ المعروفين, كصعصعة بن سلام والغازي بن قيس وزياد بن عبد الرحمن. وفي حدود 207 ه رحل إلى المشرق وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة, ومكث هناك ثلاث سنوات عاد بعدها إلى البيرة, وفي أثناء مقامه بالمشرق التقى بعدد من الشيوخ وسمع منهم, من أبرزهم عبد الملك بن ماجشون ومطرف بن عبد الله, وإبراهيم بن زياد, والمنذر الجذامي وغيرهم. [2]      

عاد المؤلف بعلم غزير من رحلته المشرقية فجلس للتدريس بالبيرة, و من هناك طارت شهرته إلى الآفاق فاستدعاه الأمير عبد الرحمن إلى قرطبة, و رتبه ضمن الفقهاء المشاورين إلى جانب يحيى بن يحيى الليثي, الذي جمعته بالمؤلف علاقة طبعها التوتر, إلى أن توفي يحيى بن يحيى فانفرد عبد الملك بن حبيب" بالرئاسة " حسب صاحب ترتيب المدارك. [3]                                .                                                                                          

يقول عنه ابن حيان في المقتبس: "  واعتلت منزلة عبد الملك بن حبيب عند الأمير عبد الله , ولاسيما بعد وفاة الشيخ يحيى بن يحيى فإنه تفرد بأثرته وحل منزلته فلم يكن يقدم أحد من أصحابه عليه, و لا يعدل بمشورته عنه " [4]. لكن هذا التأثير وهذا القرب لم يستمر طويلا إذ بعد حياة ملئها طلب العلم وتعليمه توفي عبد الملك ابن حبيب سنة 238 ه وله من العمر 64 سنة. [5]      
                                       
أما بخصوص مؤلفاته , فقد سأل عنها فأجاب بأنها ألف و خمسون. [6]  وقد يكون هذا العدد مبالغا فيه ولكن المصادر تنقل أسماء عدد كبير من الكتب التي فقد أغلبها باستثناء القلة القليلة التي نذكر منها:                                                                            
                                                                            
-         كتاب التاريخ .

-         كتاب الواضحة في الفقه .

-         كتاب وصف الفردوس .

-         كتاب مختصر في الطب .

ومن خلال اطلاعنا على أسماء كتبه المفقودة منها والباقية, يتبين لنا مدى سعة علم المؤلف, الذي لم يترك بابا من أبواب العلم المعروفة في زمانه إلا وطرقها وألف فيها, حتى اختلفت الآراء فيه هل هو شاعر أم طبيب أم فقيه, وحتى حسده الفقهاء. [7]                

و في ختام هذه الترجمة الموجزة لا بأس من إيراد بعض الشهادات في حقه, فهذا ابن حيان ينقل لنا رأي عمر بن لبابة الذي قال: " فقيه الأندلس عيسى بن دينار, وعالمها عبد الملك بن حبيب , وعاقلها يحيى بن يحيى ".

[8]                                                                                                 

أما القاضي عياض فيقول عنه: " كان قد جمع إمامته في الفقه والتنجيح في الأدب والتفنن في ضروب العلم وكان فقيها مفتيا نحويا لغويا نسابة إخباريا عروضيا فائقا شاعرا مرسلا ". [9]

هذه بإيجاز حياة عبد الملك بن حبيب عالم الأندلس, الذي أرسى قواعد عدد من العلوم والذي كان له تأثير عظيم على الفكر والثقافة عبر مختلف مراحل التاريخ الأندلسي.       

ثانيا – كتاب التاريخ

1 – نسبته إلى عبد الملك بن حبيب

كان المستشرق دوزي أول من تناول مٍسالة نسبة كتاب التاريخ لعبد الملك ابن حبيب, حيث اعتبر أن هذا الكتاب ليس من تأليف ابن حبيب لكون لائحة الأمراء الأندلسيين تصل إلى  حدود الأمير عبد الله , الذي تولى الحكم  بعد وفاة المؤلف بسنوات طويلة, ويقترح أن الكتاب هو من إنشاء ابن أبي الرقاع الذي وضعه في نسخته النهائية في حدود سنة 278 ه. [10]   
                                                  
 أما إميليو سانشيث البورنوث فقد  نفى أن يكون الكتاب من إنشاء ابن حبيب,  ورأى أن الكتاب الذي ألفه ابن حبيب لا علاقة له بالكتاب الذي بين أيدينا اليوم , ويتفق مع دوزي في أن هذا الكتاب هو من إنشاء ابن أبي الرقاع. [11]                                             
الموقف الثالث يمثله المؤرخ المصري محمود علي مكي, والذي يعتبر أن الكتاب الذي بين أيدينا ما هو إلا نسخة مختصرة للكتاب الأصلي الذي وضعه ابن حبيب, ويعتبر أيضا أن هذا المختصر هو من وضع بعض تلامذة ابن حبيب كما حاول الرد أراء كل من دوزي والبورنوث, معتبر متن الكتاب يحتوى على العديد الشخصيات المحال عليها و ليس فقط على ابن أبي الرقاع. [12]       

أما محقق الكتاب خورخي أغوادي, فقد طرح فكرة جديدة تماما مناقضة لما سبق, حيث يرى ابن أبي الرقاع الذي لم يتوصل الباحثون السابقون من التعرف على شخصيته, هو المدعو  علي بن سليمان بن أبي الرقاع الإخميمي, المتوفى سنة 223 ه , و الذي عاصر ابن حبيب وكان أحد رفاقه في الدراسة عندما كان المؤلف بمصر, و بالتالي فالكتاب ليس من تأليف ابن أبي الرقاع, في الوقت نفسه يقترح أن الذي دون الكتاب هو المغامي, مستندا في ذلك على عدد من الدلائل منها استخدام المغامي لضمير المتكلم, و استخدامه لعبرات ك ’’ أنشدني ابن حبيب ’’ و ’’ سألت عبد الملك ’’, في الكثير من مواضع كتاب . كما يرد على الحجج التي استند عليها دوزي والبورنوث وخصوصا على إشكالية الأمراء الواردة مدة حكمهم في متن الكتاب والذي تولوا  الحكم بد ابن حبيب حيث يقترح هذا الباحث أن المغامي هو من قام بتحديث معطيات الكتاب بعد وفاة ابن حبيب. [13]                      

2 – مضمون الكتاب ومنهجية التأليف

إن أغلب كتب التاريخ  العام التي ألفها المؤرخون المسلمون سواء المتأخرين منهم أو المتقدمين, تبدأ من أولية الخلق و تنتهي بالحديث عن الفتن والملاحم, وكأنها بذلك تريد أن تؤرخ للماضي والمستقبل, وعبد الملك بن حبيب في كتابه التاريخ لم يخرج عن هذا النمط  فكما أنه تناول بداية تاريخ العالم فقد تناول نهايته, وكما توقف عند بداية التاريخ الإسلامي للأندلس فانه توقف أيضا عند نهايته.                                                

يمكن تقسيم الكتاب الذي بين أيدينا إلى ستة أقسام حسب طبيعة المواضيع :

القسم الأول: يبدأ هذا القسم من خلق القلم وينتهي بحياة عيسى عليه السلام مرورا ببداية الخلق والرسالات السماوية عن الإسلام, و المؤلف في تأريخه لهذه الأحداث الغيبية والموغلة في القدم يستند بالأساس إلى النصوص الدينية خصوصا  القرآن والأحاديث النبوية بالإضافة إلى روايات منسوبة للصحابة والتابعين كما يعتمد بشكل أساسي على الإسرائيليات.                                                                                      

القسم الثاني: يبدأ هذا القسم من " حديث قصي بن كلاب ", و ينتهي بوفاة النبي صلى الله عليه و سلم, ويتميز هذا القسم رغم أهمية أحداثه ومحورية سيرة النبي صلى الله عليه وسلم في التاريخ الإسلامي بالكثير من التركيز والاختصار, أما مصادر المؤلف  الأساسية فهي أقوال بعض الإخباريين والمؤرخين العرب الأوائل كالواقدي وابن إسحاق...                    

القسم الثالث: يبدأ من استخلاف أبي بكر وينتهي بخلافة الوليد بن عبد الملك, مرورا بكم الخلفاء الراشدين وخلفاء بني أمية, و مباشرة بعد ذلك ينتقل المؤلف للحديث عن افتتاح الأندلس دون أن يتطرق لباقي الحكام الأمويين ولا إلى نهاية دولتهم بالمشرق وكأن كل ما سبق كان تمهيدا منه ليصل إلى التاريخ الأندلسي.                                             

القسم الرابع: يبدأ من افتتاح الأندلس وينتهي بالحديث عن الفتن والملاحم , وقد خصص المؤلف هذا القسم لافتتاح الأندلس وأهم أحداثه, كما توقف عند حكم الأمراء الأوائل إلى حدود ولاية الأمير عبد الله " 275- 300 ه ", ويختمه بالحديث عن الأهوال التي ستصيب الأندلس والعالم في المستقبل.     
القسم الخامس: توقف فيه المؤلف عند طبقات الفقهاء, مصنفا إياهم حسب المناطق التي ينتمون إليها كمصر والبصرة والكوفة والمدينة... وهو في ذلك يكتفي بذكر أسمائهم وفضائلهم دون الإشارة إلى تواريخ ولادتهم ووفاتهم.                                     
القسم السادس:  يبدأ القسم من " آداب الحكماء و خفيات نوادر العلماء " , وينتهي ب " ما جاء في القصير و الطويل والربعة من الرجال ", وفيه يتوقف المؤلف عند عدد من المواضيع المتفرقة, أغلبها عبارة عن حكم وأقوال تدعو إلى الزهد .   
إن تتبع مضمون الكتاب يفضي بنا إلى الحديث عن منهجية التأليف, وكما يلاحظ من خلال هذا التقسيم الذي اقترحته, فان الكتاب الذي بين أيدينا يتميز بتعدد المواضيع المطروقة , والتي تشمل التاريخ والطبقات والحكم, وهذا المواضيع تتشعب إلى مباحث فرعية تتباين من حيث الحجم, فبعضها خصص له المؤلف صفحة أو أكثر فين حين لم يخصص المؤلف لبعضها الأخر سوى أسطر قليلة ومن خلال الجدول التالي سوف أحاول الكشف بتركيز عن المنهجية التي سار عليها المؤلف:   


المواضيع الفرعية المواضيع الرئيسية  

أولية الخلق و الرسالات السماوية التاريخ
سيرة النبي صلى الله عليه و سلم
الخلفاء الراشدين و الأمويين
تاريخ افتتاح الأندلس
طبقات فقهاء المدينة طبقات الفقهاء
طبقات فقهاء البصرة
طبقات فقهاء الكوفة
طبقات فقهاء أهل الشام
طبقات فقهاء مصر
فضائل عدد من التابعين
رجع الحديث عن طبقات فقهاء المدينة و البصرة و الكوفة و مصر و الشام
طبقات الفقهاء الأندلسيين
مجموعة من الحكم و النوادر الملح و النوادر  

  

3 - مصادر التأليف

            زاوج المؤلف في هذا الكتاب بين عدد كبير من المصادر المتنوعة , و هذا يعكس مدى سعة ثقافته و اطلاعه , و هذه المصادر يمكن تقسيمها إلى عدة أنواع لكن قبل ذلك لابد من ذكر عدد من الملاحظات حول هذه المصادر وكيفية استخدام المؤلف لها:                       

- الملاحظة الأولى : تتعلق بغياب الإشارة إلى أي مصدر كتابي, رغم الإشارات الكثيرة في الكتاب لعدد من أصحاب التأليف التاريخية كالواقدي وابن إسحاق على سبيل المثال .  

- الملاحظة الثانية : تتعلق بعدم اهتمام المؤلف بسلسلة السند, ففي الغالب نجده يكتفي بالقول "قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ", أو"  قال أبو هريرة  ", على سبيل المثال. [14]                             .           
- الملاحظة الثالثة : الإحالة إلى عدد من الشخصيات الغير معروفة , حيث يكتفي المؤلف بإيراد الاسم ناقصا أو يقتصر على الكنية كقوله: " قال أبو القاسم ".[15]
                  
- الملاحظة الرابعة: استعمال بعض الأفعال التي تفيد التلقي المباشر كقوله: " حدثني " [16] و " حدثنا "  [17]  و كذلك قوله " أخبرنا " [18] ولكن في حالات نادرة .                                                                
هذا بالنسبة للملاحظات أما بالنسبة للمصادر فقد قسمتها إلى عدة أنواع هي:

* الآيات القرآنية : التي أكثر المؤلف من إيرادها خصوصا في الأقسام الأولى من الكتاب خصوصا على سبيل الاستشهاد, وللتأكيد على ما ذهبت إليه أقوال الفقهاء و المحدثين الإخباريين . 

* الأحاديث النبوية: هي أيضا كثيرة في الكتاب ولكن أغلبها لا أصل له, مما يشير إلى أن المؤلف أوردها دون نقدها, لكن هذا التوجه يكمن تفسيره بكون علم الحديث كان لا يزال في بدايته خلال عصر ابن حبيب, ولن يتم تأصيله إلى بعد وفاة المؤلف.  

* روايات منسوبة لشيوخ المؤلف : خصوصا المشارقة منهم كإبراهيم بن المنذر الحزامي, وعبد الملك ابن الماجشون,  وأصبغ بن فرج و غيرهم والذين نقل عنهم أغلب مادة الكتاب.     

* روايات الإخباريين والمؤرخين: كابن إسحاق المتوفي سنة 151 ه, و الواقدي المتوفي سنة 207 ه, والذين إما أنه نقل عن كتبهم مباشرة أو أنه نقل أقوالهم عن شيوخه المشارقة.    

و تبقى هناك إشارة أخيرة تتعلق بصعوبة تحديد مصدر كل المعطيات الواردة في الكتاب, لكثرتها و تنوعها, فعلى سبيل المثال يمكن القول إن المؤلف قد أخذ الأحاديث المتعلقة بالفتن والملاحم من شيوخه المصريين, مثلما فعل رفيقه في التحصيل نعيم ابن حماد المتوفي سنة "228 ه", والذي خلف مؤلفا في هذا الصدد, أما النبوءات المتعلقة بنهاية الأندلس يصعب التكهن بمصدرها, و قد يكون المؤلف قد نقلها من الروايات الشفوية الشائعة في المجتمع الأندلسي, كما يمكن أن تكون قد أضيفت إلى الكتاب في فترة لاحقة .   

4 – قيمة الكتاب

لقد تضاربت الآراء بخصوص قيمة كتاب التاريخ لعبد الملك ابن حبيب, حيث كان المستشرق الهولندي دوزي أول من تناول هذه المسألة, معتبرا أن هذا  الكتاب عبارة عن مجموعة من الأساطير العديمة القيمة بالنسبة للمؤرخ, أما المستشرق الإسباني أنخل غونثالث بالنسيا, فقد اعتبر القيمة التاريخية للكتاب ضئيلة, مستندا في ذلك على نفس الحجة التي استند عليها دوزي, أي غلبة الجانب الأسطوري في رواية ابن حبيب للأحداث التاريخية. [19] نفس الموقف نجده يتكرر أيضا عند بويكا, الذي قال عن الكتاب:  " لا يعتبر في حد ذاته قيما كمصدر تاريخي وبهذا المعنى يمكن أن ننسبه إلى المصادر الثانوية للتاريخ الإسباني العربي  ". [20]                                               .             
مقابل هذه الآراء المقللة من قيمة الكتاب نجد رأيا مخالفا حاول صاحبه الدفاع قيمة الكتاب, هذا الموقف يمثله المؤرخ المصري محمود علي مكي, الذي قام بدراسة وافية للكتاب, حيث اعتبر هذا الباحث أن قيمة الكتاب تكمن في قدمه, إذ انه أقدم عمل تاريخي أندلسي يصل إلينا والوحيد من صنف التاريخ العام, كما أن ما يحفل به من أساطير ونبوءات تعكس أفكار ومعتقدات الأندلسيين خلال تلك الفترة المبكرة من تاريخ الأندلس.        

 و في رأيي إن قيمة الكتاب تكمن في عنصرين أساسيين, هما احتفاظ الكتاب بالروايات الشفوية المتداولة عن التاريخ الإسلامي عامة والأندلسي بشكل خاص خلال القرن الثالث الهجري, أما العنصر الثاني فيكمن في الأساطير والنبوءات والتي أوردها المؤلف والتي لا يمكن التعامل معها كشكل بدائي من أشكال الكتابة التاريخية في الأندلس, وإنما كمعتقدات شعبية ترسخت في عمق الفكر الأندلسي, وأثرت عليه على مر القرون , إن الأساطير التي يحفل بها الكتاب تبقى قابلة للدراسة, خصوصا باستعمال مناهج جديدة كما يمكن قراءتها قراءة جديدة باستخدام السيميائيات على سبيل المثال.                           

ثالثا – خصائص الكتابة التاريخية عند عبد الملك بن حبيب

1- خصائص الكتابة التاريخية عند عبد الملك بن حبيب

إن كتاب ليس المؤلف التاريخي الوحيد لعبد الملك بن حبيب,  و لكنه الوحيد المتبقي بعد أن ضاعت جل كتبه كما أنه من أقدم الكتب الأندلسية التي وصلتنا, وبالتالي فهو يمثل وثيقة فريدة ليس فقط على مستوى المعطيات التي يضمها, ولكن أيضا على مستوى المنهج المتبع, وبالتالي فهذا الكتاب يمثل نموذجا لما يمكن أن تكون عليه الكتابة التاريخية في الأندلس والغرب الإسلامي خلال النصف الأول من القرن الثالث الهجري, وحسبي ظني فان الكتابة التاريخية عند عبد الملك بن حبيب تتميز بعدد من الخصائص أجملها فيما يلي:

1 – المزاوجة بين التاريخ العام والتاريخ المحلي: وهذه المحاولة تعتبر رائدة ليس فقط على المستوى الأندلسي بل على مستوى العلم الإسلامي, إذ إن لم يظهر التاريخ المحلي بشكل مستقل إلا في فترة متأخرة نسبيا, و بالتالي فابن حبيب يمثل حالة متميزة ورائدة لإفراده قسما خاصا بالأندلس وربما يكون ذلك بسبب كونها أول إقليم ينفصل عن الخلافة وتتطور فيه نزعة محلية.    

2 – غلبة الجانب الأسطوري في عدد من أقسام الكتاب خصوصا ما تعلق منها بأولية الخلق وافتتاح الأندلس .        
3 – الاختصار والتركيز فيما يخص حياة الرسول صلى الله عليه وسلم, رغم توفر المصادر التي تمكن من التوسع في الحديث عن سيرته ومغازيه, خصوصا أن المؤلف رحل إلى المشرق والتقي بعدد من الفقهاء وفي نظري إن هذه الجنوح إلى الاختصار عن الإخباريين المسلمين الأوائل تحتاج إلى وقفة .                                                  

4 – تأثره بعلم الحديث, فعبد الملك بن حبيب فقيه كتب التاريخ, وبالتالي فكتابته التاريخية متأثرة بعلم الحديث سواء على مستوى المنهج أو المضمون.                                              


5 – غياب الحس النقدي عند ابن حبيب, وهذا الغياب غير مفهوم عندما يتعلق بنقل ابن حبيب لأقوال شيوخه المصريين حول الأندلس, والتي تعكس جهل هؤلاء بتاريخ الأندلس و جغرافيتها.                                                                                         

6 -  الاعتماد على الإسرائيليات, وهذه خاصية لا ترتبط فقط بعبد الملك بن حبيب بل ظاهرة ملازمة لكتب التاريخ العام, و قد لجا إليها المؤلف كما لجأ إليها غيره لملئ الفراغ الكبير في المعطيات المتعلقة بتاريخ العالم قبل الإسلام.                                       

خاتمة

        من خلال اطلاعنا على مضمون ومنهجية الكتاب التاريخ لعبد الملك بن حبيب,  وبمقارنتهما مع ما كان سائدا في العلم الإسلامي خلال القرن الثالث الهجري, يتبين أن خصائص الكتابة التاريخية عند ابن حبيب, تنطبق على باقي مؤلفي هذه الفترة إذ يمكننا أن نتحدث عن نمط محدد من الكتابة التاريخية كان سائد في شرق العالم الإسلامي وغربه, كما يمكننا  نستنتج أن هدف ابن حبيب من كتابة هذا المؤلف هي نقل المعرفة التاريخية إلى المجتمع الأندلسي,  خصوصا في ظل الفراغ العلمي الذي كان يعرفه خلال بداية القرن الثالث الهجري.      

 ـ ابن الفرضي , الدار المصرية للتاليف والترجمة ,القاهرة 1966 , ص 269[1]

 ـ نفسه , ص 270 .[2]

 ـ القاضي عياض , ترتيب المدارك , تحقيق محمد سالم هاشم , دار الكتب العلمية , بيروت , 1998 , الجزء الأول , ص 382 .[3]

 ـ ابن حيان , المقتبس من أنباء الأندلس  , الجزء 1 , ص 14 , نقلا عن المكتبة الشاملة . [4]

 ـ ابن الفرضي , مصدر مذكور سابقا , ص 272 . [5]

 ـ القاضي عياض , مصدر مذكور سابقا ,  الجزء 1 , ص  384  .[6]

 ـ نفسه , ص 385 .[7]

 ـ ابن حيان , مصدر مذكور سابقا , الجزء الأول , ص 25 .  [8]

 ـ القاضي عياض , نفسه , ص 383 .[9]

 ـ عبد الملك بن حبيب , كتاب التاريخ ,  تحقيق خورخي اغوادي , المجلس الأعلى للابحاث العلمية , مدريد 1991 , ص 77 من الدراسة . [10]

 ـ نفسه , ص 78 . [11]

 ـ نفسه , ص 83 .[12]

  ـ نفسه و ص 86 . [13]

 ـ  عبد الملك بن حبيب , كتاب التاريخ , مصدر مذكور سابق ,ص 156 .[14]

 ـ نفسه , ص , 67 . [15]

 ـ نفسه , ص 103 .[16]

 ـ نفسه , ص 149 .[17]

 ـ نفسه , ص 150 .[18]

 ـ عبد الملك بن حبيب , كتاب التاريخ , ص 78 من الدراسة .[19]

 ـ بويكا , المصادر التاريخية العربية في الأندلس , نقله الى العربية نايف أبو كرم , منشورات علاء الدين دمشق 1999 , ص 46[20]