انتصار طه، ستون عامًا من العطاء أول امرأة حملت العلم الأحمر في أول أيار بالناصرة بقلم: أحمد علي طه
تاريخ النشر : 2019-01-16
انتصار طه، ستون عامًا من العطاء أول امرأة حملت العلم الأحمر في أول أيار بالناصرة بقلم: أحمد علي طه


انتصار طه، ستون عامًا من العطاء

أول امرأة حملت العلم الأحمر في أول أيار بالناصرة

بقلم زوجها: أحمد علي طه

مليون قبلة على جبين كل كادحة

هي أوّل امرأة ديراوية تتعاون مع زوجها في بناء أول حجر من البيت الشيوعي في دير الأسد. حيث كان أوّل مشوارها حمل العلم الشيوعي الأحمر في مظاهرة أول أيّار بالناصرة عام 1958. وتم تكريمها في مهرجان كبير في كفر ياسيف عام 2008، ضم الكثير من الشخصيات الوطنيّة في الجليل. فمليون قبلة على جبين كل كادحة.

المرحومة انتصار طه، زوجتي ذات العطاءات الكثيرة، عشقتها وهي في سن الدلال وتزوّجتها في شهر آب عام 1957، وماتت في شهر آب اللهاب عام 2018.

يشار إلى أن الفلاحون في القرى الفلسطينية، وخصوصًا في شاغورنا، كانوا يتشاءمون من يومي الثلاثاء والاربعاء، لكن أساتذتنا الكبار من أمثال الأستاذ سهيل عطا الله حوّلوا يوم الثلاثاء إلى تفاؤل.

نحن قرّاء "الاتحاد"، الجريدة العربية اليومية الغراء، ومن كتّابها المتواضعين أصبحنا ننتظر اليوم بعد اليوم كي نقرأ زاوية صباح الخير، وكأنّها وجبة دسمة نشتهيها بين اللقمة والأخرى.

لن أنسى آب اللهاب

فهل تتغير اجواء آب الحارقة التي تحرق امتنا العربية بدون رحمة، وتطل علينا بدلا منها غيوم الشتاء، تُنَزل أمطارها على سهولنا وتلالنا وجبالنا ليرتوي الزرع ويشبع الشجر وتتضاعف الخيرات ويزداد التقارب بين شعوبنا، ويخلص المسؤولون عن إدارات شعوبهم إخلاصًا منقطع النظير، ويحفظ هؤلاء كنوز وخيرات أوطاننا الغنيّة جدًّا، بحيث تصرف على بناء الإنسان العربي سياسيًّا واجتماعيًّا وثقافيًّا كما هو الحال في الدول المتحضرة؟

إذا حصل هذا كله، أو تحقّق بعضٌ منه، يخف حزني العميق، وقد أنسى آب اللهاب، ويخف بكائي، لكنّه لا ينقطع. لأنّ البكاء والصراخ والدموع التي تنهمر بالشوارع والبيوت والمحلات العامة والخاصة والحقول والميادين العربية لا يتحملها انس ولا جان. لأنّ التشرذم فيها، والطاعة مع الذل لأوامر الرئيس الأمريكي واتباعه من دول الاستعمار أكثر من المعقول وتقشعرّ لها الأبدان.

ابدًا لن تكون لي القدرة على حمل نسيان عقيلتي التي رحلت عني فهي دائمًا في ذاكرتي، وليس من السهولة بمكان وجود غزالة مثلها خُلقًا وخَلقًا.

شيالة الهموم والافعال

حملت همّي عندما فصلتُ من المعارف أيام الحكم العسكري الرهيب، حين كنت أعلّم بمدرسة البعنة الشقيقة للدير في زمن مديرها الاستاذ المرحوم نعيم الخوري بعد رفضي املاءات الحاكم العسكري في جلسة صاخبة معه في مكتبه.

افتتحها بأقسى أساليب التهديد: انت تعمل عندنا في جهاز التعليم ومستفيد. المطلوب أن تراجع حساباتك، أنت الشيوعي الأوّل والوحيد في قرية دير الأسد. عليك أن تعرف مصلحتك، فلولانا يا أستاذ ستموت من الجوع... أجبته على الفور: إذا كان عملي عندكم مقرونًا بالعمل معكم، اعمل ما يطيب لك... وكان ردّهُ الأخير: راسك يابس... وانتهت الجلسة.

بعد أسبوعين كانت عملية الفصل. وفي ذلك الحين لم يكن في قريتنا دير الأسد من الجامعيين أو خرّيجي المدارس الثانويّة سوى من يعدّون على أصابع اليد الواحدة وأنا كنت واحد منهم، ومدارسنا كانت بحاجة ماسّة لكلّ خريج.

لم نقل لدوف: أمرك يا سيدي

لم تفكر زوجتي المرحومة انتصار طه بالاستسلام لأوامر الحاكم العسكري دوف ولم أعمل كغيري ممن "دندلوا" رؤوسهم للأوامر العليا. ما عدّتُ وقلتُ لدوف أمرك يا سيدي. بل درسنا أنا وزوجتي الوضع دراسة دقيقة، وقرّرنا فتح دكّان سمانة وأدوات منزلية وأحذية وألبسة بدعم بعض التجار الكبار من ابناء شعبنا في الداخل.

عشرون عامًا كانت المرحومة خلالها المسؤولة عن إدارة شؤون الدكّان فكانت العامل والمعلم، وأكثر من خمسمائة زبون من البعنة ودير الأسد... ذهابًا وايابًا.

من جد وجد ومن زرع حصد. ولم تنقطع ابتهالاتها للمولى عزّ وجل: "ابعد اولاد الحرام عنا". وأبدًا عيوننا سهرانة على عملنا... فما نيل المطالب بالتمني ولكن تؤخذ الدنيا غلابا.

نعم. نجحنا نجاحًا باهرًا في عملنا التجاري. واطمأنت قلوبنا حينذاك بتسليم هذا العمل التجاري إلى ولدنا الكبير وزوجته واولاده.

وبعد تفكير دقيق، ومشاورات بيني وبين عقيلتي اتفقنا... ثمّ وقفنا على ارجلنا... ومشينا خطوة إلى الأمام، وأخرى إلى الوراء... ومضينا بعزم أشد وأقوى إلى الأمام خطوات وخطوات دون الالتفات إلى الوراء. وما هي الا بعض أسابيع مرّت، وإذا بنا نقضي يومنا وليلنا في أرضنا الطيّبة التي ورثناها عن آبائنا وأجدادنا، ومن سبقهم منّا من لحمنا ودمنا من بطون الكنعانيين والفينيقيين واليبوسيين قبل آلاف السنين.

عدنا للأرض

عدنا والعود أحمد إلى منطقة المختارة والمختار، إلى أطهر أرض وأحلى منطقة في وطننا... تربتها حمراء أشبه بحناء العرائس والعرسان، نشمّ منها روائح لم نألفها من قبل، ولم تكن في أحلامنا يومًا من الأيام... تغذّي نفوسنا بالغبطة والسعادة وطول العمر.

عدنا أنا وهي يدًا بيد في المرحلة المتأخّرة من شبابنا وزرعناها من أشجار اللوزيات على مختلف أنواعها ما يزيد عن أربعمائة شجرة، ومائتين من أشجار التفّاح ومائة شجرة دوالي حزّمت الكرم حزامًا يدل على أنّ صاحب الكرم وصاحبته على مستوى من المعرفة والذوق الرفيع.

وبين تلك الأرياف نصبنا عدّة عمارات للنحل، لتلقيح الزهر، تتكون كل واحدة منها من طابقين أو ثلاثة، تدار بنظام ملكي ليس مثله النظام الملكي عند الإنسان، أي أنّ الطابق أو ما نسمّيه بالجرن الواحد يضم الملكة وحرسها وعمال البناء داخل الجرن والشغيلة وحرس الجرن عند مدخل النحل والخروج منه، وطاقم طبي يحافظ على سلامة النحل.

ويشار إلى أنّ النحلة المريضة داخل الجرن لا يمكن أن تبقى في داخله، بل تحملها واحدة من النحل وتبعدها عنه وإذا لم تستطع حملها واحدةٌ فتشاركها أخرى ويحملانها ويبعدانها عن الجرن.

العبرة من النحل

ولن أغفل عن المقولة التي تؤكّد أنّ خلية النحل تحارب لآخر نحلة وتموت لآخر فرد في حربها مع الدبابير. وهذه قمّة الشجاعة والفداء. فيا ليت شعوبنا العربيّة مع قياداتها تأخذ العبر من هذه الحشرة الصغيرة، عندها ستظل أوطاننا وخيراتها لأهلها وسكّانها. يا ليت، يا ليت، يا ليت....

كانت المرحومة تقطف العسل من الأجران بهمّة ونشاط، وأحيانًا دون استعمال الكفوف في يديها ودون استعمال الغطاء على وجهها أيضًا. أمر عجيب، وفيه من الغرابة ما يلفت النظر، وما يعطي المرحومة تقديرها واحترامها. ولم تقف عند حدود تربية النحل داخل الكرم، وإنّما ربّت الدجاج من أجل البيض والقرقة والصيصان والحمام البلدي، وربّت الأغنام واهتمّت بها كما يجب، وهنا تفاجئنا صيحة الديك بتقسيم الليل واقتراب موعد الفجر، وهي موسيقى تشنّف الآذان وتبعث السرور وذكر الله رب العالمين.

مع الكاتب سهيل كيوان وإلى الأمام

وقد كتب عن الكرم والعمل به كثيرون أذكر منهم الكاتب الفاضل سهيل كيوان.

كان مقاله بعنوان "دولة أبو علي أحمد علي طه وأم علي" نشره في صحيفة "كل العرب" يوم 21/7/2000 " في قمّة الجبل الذي تقوم عليه قرية دير الأسد الجليليّة، أقام أبو علي الأستاذ احمد علي طه دولته المستقلة، فهو يعيش هناك وزوجته منذ أكثر من عشر سنوات، يحيط به بستان هو جنّة صنعتها أيدي هذين الزوجين المكافحين". والخليق بالذكر، أنّ لأم علي، الشريكة الوفية والمخلصة، الدور الداعم وخصوصًا في بداية المشوار. فقد صرّحت بأمانة وصدق: كنت املأ حرجي بالحصى لأخرجه من الأرض ليسهّل على المحراث حرثها، والعاملين والزبائن التنقّل بين الأشجار وقطف وأكل ما تشتهي نفوسهم من الثمر. واستمرت الزوجة تقول: لا يوجد مستحيل في هذه الدنيا ومن يريد عملًا عليه أن ينجزه بالإرادة القويّة والإتقان.

واختتم كيوان لقاءه: واخيرًا يمكن القول أنّ أبا علي وزوجته يمثلان نموذجًا جيّدًا للعودة إلى الأرض والمحافظة عليها، ليس فقط من خلال الكلام والشعارات، بل من خلال العمل... الله يعطيهم ألف عافية وعافية.

وأنا بالنيابة عن عقيلتي التي ودّعتني، قدّرنا جهد استاذنا في هذا المجال منذ خرج اللقاء للنور وتناولته وقبّلته هاتيك القوى التي تقرأ دون أن تكل أو تمل من شبابنا وشابّاتنا في وطننا وطن الآباء والأجداد. تمنياتنا لأستاذنا سهيل بالصحة وطول العمر والعطاء غير المحدود.

إن المرحومة كانت من المتطوعات لتحويل هذه الأرض من صخرية إلى بستان ذهبيّ التربة، يضحك شجره وزهره وثمره. وقد لفت أنظار جميع المواطنين في قريتنا والقرى المجاورة لنا. وكثرت الزيارات الجماعيّة له، للمتعة أولًا ثمّ لشراء ثمره... لقد جهدنا في سبيل ما أردنا وفي ذات الوقت ازددنا قوة وعزمًا... فمن يتهيب صعود الجبال يعش أبد الدهر بين الحفر.

أيها الإخوة والأخوات هذه ترجمة مختصرة من ملفات حياتها. رأيت من واجب الوفاء تدوينها في هذه السطور القليلة، لأتخلص من الكثير من الخواطر المحزنة التي تغلي في جسدي الضعيف وتكاد تقضي عليّ وتقتلني.

حبيبتي الغالية

ما جال في خاطري أن ينقطع حبل الوصل بيني وبينك بهذه السرعة. وما فكّرت في يوم من الأيّام، أنّ عقيلتي الغالية "انتصار" قبل أن تنهي وجبة فطورها بثواني معدودات تودع الحياة بزخرفها وبهجتها إلى اللاعودة دون أن تودّعني ولو بنظرة أو بسمة أو كلمة. تركتني حائرًا مغمومًا، أحمل الهموم الثقال وحدي، بين أربعة حيطان: لا غمز ولا لمز، ولا همس ولا لمس، ولا سلام ولا كلام.

(دير الاسد)