مذاهب العرب في صناعة الأدب بقلم: حسين علي الهنداوي
تاريخ النشر : 2019-01-10
مذاهب العرب في صناعة الأدب  بقلم: حسين علي الهنداوي


الباب الثاني
مذاهب العرب
في صناعة الأدب
لا شك أن الأدب بشكل عام والشعر بشكل خاص فيض إنساني تشترك فيه عدة فعاليات تنطلق من العقل والنفس وردود الأفعال تجاه الكثير من القضايا الحياتية ، وقد سلك الأدباء العرب مسالك عدة في التعبير عما يفيض في هذه النفس ، ومن أهم هذه المذاهب:
1- المذهب الفطري : الذي سيطر على كثير من الأدباء والشعراء وما يزال هذا المذهب يحرك بواعث الشعر عند الكثير من الشعراء ، ويتميز هذا المذهب بالتعبير بشكل فطري عن قضايا الكون والحياة والإنسان دون التقيد بقوانين الصنعة ، أو التصنع أو التصنيع وما هذه الجمالية التي تسيطر على الشعر الجاهلي إلا لفطرته . صحيح أن الشعر صناعة لا تصنّع وأن هذه الصناعة قائمة على أسس وركائز وقوانين وأدوات ولكن ذلك لا يعني تكبيل هذه الصناعة بقيود مكبلة له بمحسنات بديعية ترصّع جسم النص الأدبي ؛ أما ما يأتي من محسنات لفظية وبديعية تمثل فطرية الشاعر والكاتب فلا بأس بها إذا جاءت عفوية ، ولقد كان معظم شعر المعلقات قد صدر عن فطرية خالية من التزيين المصطنع وممتزجة بها أحياناً .
2- مذهب الصنعة : أخذت القضايا الجديدة التي طرأت على الحياة على مر العصور تؤثر في الأدب والشعر تأثيرات عميقة ذلك أن معالم الحياة قد أخذت تخرج الشعر والأدب عن فطريته ، حيث لم يدعِ الأدباء يتركون العنان لقصائدهم كي تمضي على سجية الشاعر وفطريته ، بل أخذوا بعد ذلك يتدخلون في تذويق النص وتحسينه كي يخرج بأحسن حلة وقد قادهم ذلك إلى إدخال الأدب إلى (مصنع الصياغة ) صحيح أن مدرسة عبيد الشعر التي عاشت في العصر الجاهلي والإسلامي والأموي كانت تهتم بتحسين الشعر وجعله يدخل في باب الصناعة إلى أنها بقيت فطرية الشعر صادرة عن نفس منبسطة هي الغالبة . وقد أخذ الأدباء في العصور التالية وبعد تحضر المجتمع وأدبائه يكتبون الشعر مصورا ما يجول في نفوسهم من قضايا وأحاسيس من خلال نماذج وضعت قصائد الشعر القديم نصب أعينهم مضيفين إليها معاني وصوراً جديدة شكلت هذا اللون من الشعر الحديث المعاصر وقد بقي المديح في الشعر أقرب إلى القديم نموذجاً من الغزل وقد كان الشعراء يجددون ويستفيدون من القديم ويضيفون له ولا يكتب أصحاب الصنعة الشعر إلا إذا حفظوا آلاف الأبيات الشعرية ونظروا في قصائد الجاهليين والإسلاميين ومحاكاة شعرهم وقد وضحت لنا كتب الأدب مدى أخذ العباسيين من الشعر السابق لهم والاستفادة منه واستغلاله . ولقد بقي هؤلاء الشعراء يحافظون على التقاليد الفنية الموروثة ويلونون معانيهم تلويناً واسعاً بفضل ثقافتهم الجديدة . وأدخل شعراء آخرون الصنعة في الرثاء وبعض الحكمة والعظة وأحاسيسهم النفسية كمرثية أبي العتاهية لصديق له :
وقد كنت أغدو إلى قصره فقد صرت أغدو إلى قبره
فتى لم يملّ الندى ســـاعة على عسره كان أو يسـره
فصار عليٌّ إلى ربــّــه وكان عليٌّ فتى قبـــره
أما الهجاء فقد تحول من نقائض طويلة إلى ضرب قصير يشبه الأمثال الفارسية يقول حمّاد عجرد في بشار بن برد :
نهاره أخبثُ من ليْلـه و يوْمُهُ أخبثُ من أَمْسِـــهِ
و لا هُوَ يُقلعُ عن غيه إلى أنْ يوارى ثرى رمسه
وتطوّر فن الفخر من ذاتي وقبلي إلى فخر شعوبي مع بقاء الفخر القبلي والفخر الشعوبي أسوأ ما قاله الشعراء لمخالفته للفطرة والدين ونعفّ عن ذكر شواهد الشعر من ذلك ؛ وكذلك تحول بعض الغزل من إعجاب بمفاتن المرأة المعنوية والجسدية إلى دعوة للتهتك والخلاعة وانتهاز الفرص لاقتناص المشاعر كما عند الشاعر بشار بن برد الخليع الفاجر كما عرف عنه والذي نعف أيضاً عن ذكر شواهد من شعره وكما وتحولوا عن عذرية الشعر إلى التجديد وقد حصل التجديد من حيث المضمون وكذلك الشكل باستخدامهم أوزان جديدة واستعمالهم الأوزان المجزوءة والمخمس والمزدوج وتحول أسلوب الشعراء من الأسلوب القديم إلى أسلوب المولدين هذا الأسلوب الشفاف الذي يعتني بالثروة اللغوية تبعاً للعناية بالثروة الفكرية واستثارة الوجدان لعرض المعاني النادرة والأحاسيس الدقيقة وهو أسلوب غير ركيك ولا مبتذل سهل ممتنع نقي وقد تعب الشعراء كثيراً في صناعة هذا النوع من الشعر (معنىً وصياغة وأخيلة وصوراً) مع تمسكهم بالصياغة العربية الفنية وابتكار أساليب تزخر بالحيوية والفكر العميق والحس الدقيق مع نظام موسيقي رشيق وقد قال بشار بن برد:
من راقب الناس لم يظفر بحاجته وفاز بالطيبات الفاتك اللهج
فصاغه سلم الخاسر
من راقب الناس مات غماً وفاز باللذة الجسور
وهكذا ارتقى الشعر بفضل هذه الصنعة التي لم تكن موغلة في التبحر في المعاني والصور والأخيلة
3-مذهب التصنيع:
علا مذهب الذوق والزخرف والزينة على مظاهر الحياة العباسية في البناء واللباس والفنون والآداب فكانت العمارات والفرش متصَنَّعةً. ولم يكن الشعراء بعيدين عن هذا الجو من التصنيع والزخرف بحكم منادمتهم للخلفاء والأمراء والوزراء وقد توفرت الأموال للشعراء جراء الكسب من مديح الخلفاء فعاشوا حياة التصنيع ونقلوا هذا التصنيع إلى قناعهم الشعري القصصي وكان منصور النمري ومسلم بن الوليد من أوائل من أدخل التصنيع في الشعر بفعل تأثير الفرس الذين يعبرون باللون وإن كان البديع هو فن عربي قديم قدم الشعر ولكن لم يكن يستعمل إلا عرضاً لا يتجاوز بيتين من قصيدة طويلة
4-مذهب التصنع :
برزت ظاهرة التصنع في الشعر بعد فترة مل الشعراء فيها من التصنيع فقد انطبعت الحياة الجديدة بطابع التصنع كثيراً أثر على الحياة الفنية والأدبية والشعرية حيث كثرت الألقاب مع وجود الخواء في الداخل ، فالدولة تضعف وتكثر الألقاب والأدب يتحول إلى خواء من حيث المضمون وتطلق عليه وعلى أصحابه ألقاب لا طائل تحتها وقد سيطر على العقل طريقة في تناول الآراء والأفكار تعنى بالتصنع حيث قام الكثير من الأدباء بتعقيد تعبيراتهم كأن تقرأ كتاباً( رسالة) من أوله إلى آخره كما يُقرأ من آخره إلى أوله أو خطابا ليس فيه همزة أو لام أو راء وعد ذلك من القدرة البلاغية بمكان عالٍ حتى استحال الأدب عموماً والشعر خصوصاً تأريخا وأحاجي وألغازا، ولم تسلم موسيقى الشعر من ذلك التكلف والتعقيد كلزوميات المعري وفصوله وغاياته وتقييد قوافيه وأسجاعه بحرفين أو ثلاثة وهذه القيود لا تزيد الشعر طرافة ، فبديع أبي تمام وبديع ابن المعتز وصيغة التشبيه لم يرتقيا بالشعر وجاء تفنن الشعراء بالطباق غير منسجم وكذلك عزف الشعراء عن التشخيص والتجسيم وأكثروا من التشبيهات والاستعارات كما في بيت الوأواء الدمشقي
فأمطرت لؤلؤاً من نرجس وسقت ورداً وعضّت على العُنّاب بالبرد
أو قول المتنبي
بدت قمراً ومالت خوطَ بانٍ وفاحتْ عنبراً ورنت غزالا
وقد استعان صفي الدين الحلي بسبعين كتاباً في بديعيته حتى كتبها ، وبذلك قد استبان لنا أن ألوان التضيع العقلي لا تستساغ ولا تتحول إلى فن كما أن الاعتماد على الفلسفة والتصنع لحكم الحكماء لم يزد الشعر إلا تقرباً عن أدواته وأهدافه وغاياته ، ثم ما لبث الشعر أن هجر الفلسفة وأصبح ألفاظاً مقعقعةً يفتقر إلى الفكر والثقافة دون موازنة بين جمال التعبير و التصوير وحسن التفكير وكذلك لم يستخدم الأدباء والشعراء الثقافة العلمية بينما أكثروا من مصطلحات العلوم وافتتنوا بالمحسنات اللفظية التي لم تزد الشعر جمالاً ولا تفكيراً ونتيجة وجود حواجز بين العلم و التفكير الفني تحول شعر الشعراء إلى شعوذات خيالية تعبر عن هلوسات مختلفة ، كقول المتنبي
كفى بجسمي نحولاً أنني رجل لولا مخاطبتي إياك لم ترني
وبذلك صار الشعر مبالغات لا ترقى به إلى وجدان بل تحوله إلى السقوط في التصورات
5-مذهب عمود الشعر العربي:
وهذا المذهب انطوى على منهج مميز بركائر هامة هي المقدمة الطللية وتعني وصف مشاهد التحمل والارتحال ووصف المحاسن ووصف الرحلة والراحلة والطريق ، والغرض الذي كتبت من أجله القصيدة وتتألف هذه النظرية من :
أ- شرف المعنى وصحته : ومعياره عرض المعنى على العقل الصحيح والفهم الثاقب فإذا قبله كان المعنى شريفاً:
أماويّ إن المال غادٍ ورائـــح ويبقى من المال الأحاديث والذكر ب-جزالة اللفظ واستقامته : ومعياره الطبع والرواية والاستعمال ، كقول امرىء القيس:
وقد أغتدي والطير في وكناتها بمنجرد قيد الأوابد هيكـــل
ج-الإصابة في الوصف : ومعياره الذكاء وحسن التمييز، كقول امرئ القيس:
كأن قلوب الطير رطباً ويابساً لدى وكرها العناب والحشف البالي
د-والمقاربة في التشبيه : ومعياره الفطنة وحسن التقدير من خلال اشتراك المشبه والمشبه به في الصفة ، ( وجه الاستشهاد ) كقول الأعشى :
تسمع للحلي وسواساً إذا انصرفت كما استعان بريح عشرق زجل
ه-غزارة البديهة : ومعياره سرعة استجابة الشاعر لموقف من المواقف
و-كثـرة الأمثال السائرة والأبيات الشاردة : ومعياره الأمثال السائـرة استعمال الناس لهذه الأبيات المتضمنة لها ، أما معيار الأبيات الشاردة هو استشهاد أهل النقد والشعر بهذه الأبيات من ذلك قول حسان بن ثابت :
لا بأس بالقوم من طول ومن عظم جسم البغال وأحلام العصــافير
وقول طرفة بن العبد :
لعمرك إن الموت ما أخطأ الفتى لكالطول المرخى وثنياه باليد
ز-وقد زاد المرزوقي على عناصر الشعر التحام أجزاء النظم وائتلافها على تخير من لذيذ الوزن : ومعياره الطبع واللسان بحيث لا يمجه الطبع ولا يتعثر اللسان بأبنيته، كقول طرفه :
أنا الرجل الضرب الذي تعرفونه خشاش ٌكرأس الحيــة المتـوقــد
ح-ومناسبة المستعار منه للمستعار له : وهــو ما سمي بالمقاربة فــي التشبيه ومعياره الذهـن والفطنة ، ومثاله قول امرىء القيس:
كأن قلوب الطير رطبا ويابسا لدى وكرها العناب والحشف البالي
ط-ومشاركة اللفظ للمعنى وشدة اقتضائهما للقافية : ومعياره كثرة مراس الشاعر وطول الدربة، والمدارسة لديه بحيث يجعل الألفاظ مقسمة على رتب المعاني ، ويجعل الأحسن مـن الألفاظ للأحسن من المعاني بحيث تكون القافية كالموعود المنتظر الذي يتشوق الإنسان للقائه . ومثاله قول الشاعر:
وعدت كأن الخلف منك سجيةٌ مواعد عرقوب أخاه بيثرب
6-مذهب البديع :
وقد عمقه ابن المعتز ، وأبو تمام فأكثروا من المحسنات اللفظية والمعنوية وصار علم البديع طريقا مهمة في تلوين الشعر وكتب ابن المعتز كتاب البديع وفصّل في المحسنات وأصبح الشعر عند أبي تمام هو البديع ، ثم جاء شعراء عصر الانحدار فكتبوا قصائدا كاملة في البديع حتى تحول الشعر إلى لعبة بهلوانية
7- مذهب الصياغة والأسلوب والصنعة في الثناء النبوي:
أ-طرق التعبير في قصائد الثناء النبوي :
إن الطريقة التي يؤدي بها الشاعر أفكاره، أو التي ينظم فيها كلامه، هي التي تظهر مقدرته التعبيرية وتبيّن موهبته البلاغية، فلكل أديب أسلوب مميز في الكتابة قلما يتكرر. وقد بنيت شهرة كثير من الأدباء على صياغتهم للكلام، وسبكهم للجمل. وإلى جانب ذلك، فإن لكل عصر ميزات عامة، تجمع خصائص الأسلوب عند أدبائه، وتميزهم عن غيرهم من الأدباء الذين سبقوهم، والأدباء الذين أتوا بعدهم. ففي أدبنا العربي تدرج الأسلوب أو طريقة الأداء من البساطة في الجاهلية وصدر الإسلام، إلى الاهتمام به والجزالة والقوة في عهد بني أمية وصدر عهد بني العباس، ومن التنميق والعناية بتحسينه في عهد بني العباس إلى الصناعة في أواخر عهدهم، والتصنع فيما بعد، حتى إذا وصل الباحثون في تتبعهم للأسلوب إلى العصر المملوكي، حكموا عليه بالتكلف والضعف والركالة، وتسرب الألفاظ العامية إلى شعر الشعراء ونثر الكتاب، فهل هذا الحكم صحيح؟ إن التعميم في المسائل الأدبية لا يسلم، ويظلم، ولا يصيب كبد الحقيقة، فالأدباء في العصر المملوكي، تباينت طرقهم في التعبير، واختلفت أساليبهم في أداء مقاصدهم، يتساوى في ذلك الكتاب والشعراء، فليست كل كتاباتهم متصنعة، وليس كل شعرهم متكلفا، ففي الأدباء من راق أسلوبه وسلس، وفي الشعراء من جزل أسلوبه ورشق، وإذا كان في الأدب المملوكي ضعف وتكلف، فهو ظاهرة عامة موجودة في كل زمان ومكان، وليست مقصورة على العصر المملوكي وحده، إلى جانب أن ما نراه تصنعا وتكلفا لم يكن أهل العصر يرونه كذلك. ولهذا أسبابه ومسوغاته، منها عجمة الحكام الذين لا يتذوقون بلاغة الأدب، ولا يشجعون الأدباء على العناية بأدبهم، ومنها سيادة ذوق الزخرفة في مظاهر الحياة كلها، من اللباس والآنية، إلى السلاح والمبنى، ومنها انشغال الأديب عن أدبه بما يقيم أوده. وربما عاد الإخلال اليسير بفصاحة اللغة عند بعض الشعراء إلى تقصيرهم في امتلاك اللغة امتلاكا قويا، وهذا لا يعود إلى عجز الشاعر عن تمثل اللغة، وإنما إلى الازدواج اللغوي الذي يعاني منه في حياته، فالناس من حوله لا يتحدثون باللغة العربية الفصحى، وهو يتعامل معهم بلهجتهم العامية، ولا يتحدث باللغة الفصحى إلا في مجالس محدودة أو إلى نفسه عندما يريد أن يعبر عما فيها شعرا، وهذا يقلل من تمكن اللغة من نفسه، ويضعف من قدرته على تصريفها في أغراضه، والتعبير بها عن مراميه، ويوقعه في الركاكة والخطأ، وربما قصد إلى ذلك ليمتّن الصلة بينه وبين الناس، فيحاول أن يقترب في تعبيره من أفهامهم، واللغة التي اعتادوا عليها. وإذا لم تكن اللغة التي ينظم بها الشاعر شعره لغة حياة، فإن ارتباطها بمشاعره وخياله يكون ضعيفا، فلا يأتي شعره كما يريد، ويصبح عاجزا عن أداء أفكاره ومشاعره أداء كاملا دقيقا، ويخرج أسلوبه مرتبكا، فيه آثار العامية التي تتعايش في نفسه مع الفصحى. ولذلك عاد الشعراء إلى الشعر العربي القديم، يحاكونه ويعارضون قصائده، ويضمّنون أبياته، ويستعينون به في التعبير عن أغراضهم، فجاءت بعض قصائدهم خليطا غريبا من الشعر القديم ومن صنعة عصرهم، فهم يريدون إظهار معرفتهم بالتراث الشعري، وبراعتهم في استخدامه، ليعطيهم ذلك نوعا من الأصالة، ويريدون إثبات مقدرتهم على اصطناع فنون البديع التي فتن بها أهل عصرهم. ويظهر هذا جليا في قول ابن نباتة، الذي عبّر فيه عن رغبته في إنشاء قصائد المدح النبوي:
فهل لي إلى أبيات طيبة مطلع ... به مخلص لي من إسار شقائي
أصوغ على الدّرّ اليتيم مدائحا ... أعدّ بها من صاغة الشّعراء
بيت زهير حيث كعب مبارك ... وحسّان مدحي ثابت ورجائي
فهو يداخل ما بين الإشارات التراثية والصنعة السائدة في عصره، ليكون من صاغة الشعراء، ولم يكن جميع شعراء العصر صاغة- كما يقول-، بل فيهم من نحا منحى الجزالة والتعبير القوي، وسار على طريقة الشعراء القدامى، بعد أن تمكّن من لغته وثقافته الأدبية، ومن هؤلاء ابن هتيمل، الشاعر الذي عاش في الجزيرة العربية، واستقر في مكة، وكان من أرومة عربية أصيلة، فإن شعره يسير على النهج العربي الأصيل في صياغته وشكله وطرق تعبيره، ويظهر أن عزلته النسبية في الجزيرة العربية قد صانت شعره من ظواهر الصنعة أو الركاكة والضعف، وله مدحة نبوية يقول فيها:
لولا محبّة أهل الدّار والدّار ... ما غاض صبري وجفني ماؤه جاري
ولا عكفت وأصحابي تعنّفني ... على العكوف على نؤي وأحجار
وإنّما لي أوطار رزيت بها ... رعيا لها من لبانات وأوطار
وليس جميع الشعراء كابن هتيمل في توجهه الشعري الأصيل، إلّا أن بعضهم قد أبدى في شعره استعدادات مختلفة للذهاب في شعرهم مذاهب مختلفة، فهم قادرون على مضارعة الشعراء القدامى في أسلوبهم، وعلى استخدام صنعة عصرهم، وعلى النظم وفق طريقة العلماء، وهذا يثير العجب للوهلة الأولى إلّا أنهم أرادوا أن يعطوا لكل مقام مقالا، وأن يرضوا الأذواق المختلفة في عصرهم، وأن يثبتوا أنهم قادرون على المشاركة في طرق التعبير الشعري المعروفة في عهدهم كلها، ومن هؤلاء أشهر شعراء المدح النبوي البوصيري، الذي نجده يرقى في أسلوبه إلى أسلوب الشعراء العرب القدامى الأصيل، ونجده يشارك أهل عصره في كلفهم بالصنعة، ولا ينسى أن يشارك العلماء في نظمهم. ومن شعره الجزل الذي يضارع به الشعر العربي القديم، قوله من قصيدة (تقديس الحرم من تدنيس الضرم) :
دعوا معشر الضّلال عنّا حديثكم ... فلا خطأ منه يجاب ولا عمد
وما ليّنت نار الحجاز قلوبكم ... وقد ذاب من حرّ بها الحجر الصّلد
تدمّر ما تأتي عليه كعاصف ... من الرّيح ما إن يستطاع له ردّ
وتسلم الجزالة والقوة للبوصيري في أسلوبه، حين يتحدث عن السيرة والمعجزات، وهذا مقام النظم عند الشعراء، عند ما يريدون قسر الأحاديث والروايات على الانصياع للتعبير الشعري فتأبي، أما البوصيري، فإنه أحيانا يجيد ذلك، مثل قوله:
وا غيرتا حين أضحى الغار وهو به ... كمثل قلبي معمور ومأهول
وجلّل الغار نسج العنكبوت على ... وهن فيا حبّذا نسج وتجليل
ويضارع الصرصري البوصيري في تنوع أسلوبه وصياغته، فيذهب بها كل مذهب عرف في عصره، ومن أسلوبه الجزل الذي شابه فيه القدماء، قوله في مدحة نبوية، يصف فيها الراحل إلى الحجاز على طريقة القدماء، وكأنه يصف سبعا من سباع البر:
ومنخرق السّربال يخترق الفلا ... ويقدم إقدام الشّجاع الدّلاهث
حسام طويل السّاعدين شرنبث ... له بطش دلهاث حصور شرابث
يخوض أهاويل الدّجى بجلاعد ... أمون السّرى بادي النّشاط حثاح
هذا الأسلوب العربي الأصيل الذي يبدو غريبا عن العصر المملوكي، يجيده الصرصري، فيعود إليه بين المدحة والآخرى، لأنه أرقى أسلوب في نظرهم، وأرقى أسلوب هو الملائم لمدح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، لذلك نجده يحافظ على أسلوبه الجزل الأصيل في مدحة أخرى، لا يختلف بين جزء وآخر من أجزاء القصيدة، مع طلاوة وعذوبة، قلما نجدها عند شاعر غيره، فيقول:
وسترت حتى نمّ دمعي بالهوى ... وأبرّ دمع العاشقين نمومه
فاعطف على قلب ملكت زمامه ... أنت الشّقاء له وأنت نعيمه
وله قديم لا دواء لدائه ... وأرى الهوى يعيي الرّجال قديمه
وحتى الشعراء الذين تأخّر بهم الزمن، حاولوا أن يجاروا الأسلوب التقليدي، وأن ينظموا شعرهم على نهج سابقيهم، لتحقيق شيء من الأصالة والقوة في التعبير، مبتعدين عن الصنعة التي ملكت عليهم ألبابهم ومن هؤلاء النواجي الذي قال في إحدى مدائحه النبوية:
محمّد أحمد المختار أشرف من ... دعا إلى طاعة الرّحن داعيه
ومن هدانا إلى الإسلام متّبعا ... رضا الإله بتنزيل وتنزيه
ومن أتانا بدين واضح فجلا ... غياهب الشّرك وانجابت دياجيه
فكأن شعراء المديح النبوي الذي أجزلوا صياغتهم، أرادوا أن يجعلوا قصائدهم رصينة مناسبة لعظمة مقام النبي الكريم وهيبته، فحاولوا مجاراة القصائد التي سمعها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من أصحابه ومعاصريه. إلا أن بعض شعراء المديح النبوي لم تصل متابعتهم للقدماء إلى شكل صياغتهم، ولم تصل بهم الصنعة إلى التعقيد، فحافظوا على طريقة وسط في التعبير، تأخذ من القديم بلاغته وصحته، وتأخذ من الجديد وضوحه وطرافته، إنه أسلوبهم الخاص الذي لم ينظروا عند صياغته إلى ما حولهم، ومن ذلك قول الشهاب محمود في جلاء مشاعر الراحلين إلى الروضة الشريفة قبل وصولهم وعنده:
متى قال حادينا رويدا فبينكم ... وبين الحمى مقدار يومين أو أدنى
وهبنا له شطر الحياة فإن أبى ... ولم يرض ما قد وهبنا له زدنا
فلم يبق من آمالنا بعد فوزنا ... بذلك ما نأسى عليه إذا متنا
فهذا الأسلوب في التعبير الشعري هو ما أطلق عليه أدباء ذلك العصر (الرقة والانسجام) ، المتأتي من رقة الألفاظ ودقتها، وجمال التركيب والعبارات وائتلافها، وتموج الأبيات بالإيقاع والموسيقا. ونجد الجزالة وأصالة التعبير التي قلما انحرفت في المديح النبوي عند ما دحي النبي من المغاربة، الذين لم تفتنهم الصنعة، ولم تتسرب إلى شعرهم إلا تسربا خفيفا، وخاصة أولئك الذين لم يزوروا المشرق، ولم يقيموا فيه، فإنهم ظلوا ينظمون شعرهم على غرار الشعر القديم الذي وصلهم، وكأنهم كانوا بمعزل- نوعا ما- عن مركز تيارات الصنعة الأدبية في مشرق الوطن العربي. وقد امتازت مدائح المغاربة غالبا بالأصالة والقوة والجزالة، ومن ذلك قول ابن الجياب الأندلسي:
ألا عدّ عن وصف الدّيار المواثل ...ودهر مضى لم تحظ فيه بطائل
ودع عنك تذكار الشّباب فإنّه ... زمان تقضى في ضلال وباطل
فبادر إلى محو الذنوب بتوبة ... تعفّي علي آثار تلك الرّذائل
فهل لك في إعداد زاد مبلّغ ... لنيل نعيم عند ربّك كامل
بمدح رسول رفع الله ذكره ... وأوجده من خير خير القبائل
وهذا ما نجده في جل مدائح المغاربة النبوية، فإنها في معظمها مؤدّاة بأسلوب جزل ممتع، لم تنهكه الصنعة، ولم تتسلل إليه الركاكة، لا نشعر عند قراءته بالمعاناة والتعمّل، وإنما تجري نفس الشاعر على سجيتها لا يقلد ولا ينظر إلى أسلوب غيره، بل يعبّر بالطريقة التي سمحت بها ثقافته واستعداده وتمثّله لأساليب الشعراء القدامى.
ب-مذهب النظم في الثناء النبوي :
من الواضح تماما في المدائح النبوية، وجود بعض القصائد التي اقتربت في أسلوبها وصياغتها من المنظومات التعليمية، كلها أو أجزاء منها، فالشاعر يريد ذكر بعض المعاني في المديح النبوي، وهذه المعاني قد وردت في أحاديث وأخبار وروايات، فلا يقدر على إخراجها إخراجا شعريا، ولا يجرّدها من الألفاظ التي وردت بها، والسياق الذي جاءت به، فينزل الخبر على حاله مع تقديم وتأخير بما يلائم الوزن الشعري فقط، ويظل على هذا النهج، ينتقل من خبر إلى خبر، إلى أن تصبح القصيدة نظما لأخبار وروايات، ليس لها من الشعر إلا الشكل الخارجي والوزن والقافية، فالمهم عند الشاعر أن يدرج هذه الأخبار في قصيدته بأي شكل من الأشكال، وهو يظن أنه صنع شعرا استوفى فيه معاني المديح النبوي، أو أدرج فيه ما لم يذكره غيره، وخاصة عندما يكون الشاعر من علماء الدين، ويريد إظهار علمه، أو يلحّ عليه علمه للظهور في شعره، فالعلماء في ذلك العصر كانت لهم مشاركة واسعة في الأدب وكثير منهم كان لهم ذوق كبير فيه، إلا أن بعضهم كانت تنقصه الموهبة الشعرية، ومع ذلك لا يريد أن يترك هذا اللون من النشاط الثقافي أسوة بغيره، أو إظهارا لمقدرته، أو لأنه يرى العلماء يثبتون علومهم على شكل قصائد شعرية، ليسهل حفظها، وربما فعل هو ذلك، فسهل عليه النظم الذي لا يتعدى إقامة الوزن واستجلاب القافية، وهؤلاء لا يحسنون الشعر، ولا يحسنون إقامة عموده، لطول اشتغالهم بالمسائل العلمية واختلاف ذوقهم عن ذوق الأدباء، إلا أنهم يريدون أن يفوزوا برضا الله تعالى ورضا رسوله الكريم، فمدحوا النبي صلّى الله عليه وسلّم وأظهروا معجزاته، ورووا سيرته في مدائحهم، فظهر أسلوبهم على شيء من المعاظلة والركاكة والضعف، بسبب قسرهم لطريقتم في الكتابة على أن تكون شعرا، وافتقارهم للأدوات الشعرية، مثل قول القلقشندي في مدحة نبوية:
عوّذت حبّي بربّ النّاس والفلق/المصطفى المجتبى الممدوح بالخلق
إخلاص وجدي له والعذر يقلقني ... تبّت يدا عاذل قد جاء بالملق
يا عالي القدر رفقا مسّني ضرر ... فالله قد خلق الإنسان من علق
كم طارق منك بالإحسان يطرقني ... مثل البروج التي في أحسن الطرق
والقلقشندي محبّ قال سيرته ... في مدح خير الورى الممدوح بالخلق
أيستقيم هذا الشعر مع مكانة القلقشندي العلمية، وخبرته في أساليب الكتابة العربية؟ وما كان أغناه وأغنى أمثاله عن مثل هذا الشعر وقد وصلت عدوى النظم إلى الشعراء الكبار الذي عرفوا بشاعريتهم الفياضة، وإجادتهم للمديح النبوي من أمثال البوصيري والصرصري وغيرهما، وكأن الشعراء أرادوا إثبات مقدرتهم على النظم ومنافسة العلماء في هذا اللون من الشعر، وأنهم قادرون على إيراد أكبر قدر من المعلومات حول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فلننظر كيف نظم البوصيري في همزيته خبر المستهزئين برسول الله صلّى الله عليه وسلّم من كفار قريش:
خمسة كلّهم أصيبوا بداء ... والردّى من جنوده الأدواء
فدهى الأسود بن مطّلب أيّ ... عمى ميّت به الأحياء
ودهى الأسود بن عبد يغوث ... أن سقاه كأس الرّدى استسقاء
وأصاب الوليد خدشة سهم ... قصّرت عنها الحيّة الرّقطاء
وقضت شوكة على مهجة العا ... صي فلله النّقعة الشّوكاء
وعلا الحارث القيوح وقدسا ... ل بها رأسه وساء الوعاء
فديت خمسة الصّحيفة بالخم ... سة إن كان بالكرام فداء
ويمضي البوصيري في الحديث عن الخمسة الذين نقضوا صحيفة قريش الداعية إلى مقاطعة بني هاشم، والقصيدة في معظمها سرد للسيرة والمعجزات، بأسلوب يبتعد عن طريقة الشعر في التعبير على الرغم من محاولات البوصيري لتحريك السرد في شعره بالتعقيب على الخبر الذي يرويه، يظهر التعجب أو يظهر المقصود من الحديث أو يضرب المثل، إلا أن كل ذلك لم يقرّب ما ينظمه من جو الشعر وطبيعة التعبير فيه التي تختلف عن طريقة التعبير في النثر عن الحقائق العلمية أو القصص التاريخية. والصرصري الذي أظهر شاعرية فياضة ومقدرة كبيرة في المدح النبوي، والذهاب به كل مذهب، لم يشأ أن يترك النظم، وكأنه عدوى تصيب كل شعراء المديح النبوي، أو أنها كانت مدار تفاخر وتبار وإظهار المقدرة والتميز، ولذلك نجده ينظم عقيدته في إحدى القصائد على طريقة العلماء في تقرير علومهم، وينظم السيرة والمعجزات، فيبرد أسلوبه، وتثقل صياغته، مثل قوله:
تنكّست الأصنام عند ولاده ... كما نكّستها منه في الفتح إصبع
لقد شرحت منه الملائك صدره ... وكان له من أبرك العمر أربع
وكان ابن خمس والغمام تظلّه ... وفي العشر نور الشّرح في الصّدر يلمع
وفي الخمس والعشرين سافر تاجرا ... بمال رزان للمفاوز يقطع
إلى أن أرته الأربعون أشدّه ... فأضحى بسربال الهدى يتدرّع
ويستمر الصرصري في نظم السيرة، ويعدد المعجزات دون أن يشعر أنه ينظم شعرا، وربما إلفته للشعر جعلته ينسى ذلك، فهو يعبر بالشعر عن حاجاته، فلماذا لا يجعله نظما للسيرة النبوية؟ فالمضمون السامي يغفر للأسلوب ركاكته وثقله، وافتقاره لروح الشعر وروائه. أو هكذا كانوا يظنون، وإلا فما معنى أن ينظم شاعر كبير مثل الصرصري هذا الحديث على طريقة المحدثين، فيقول:
ألا يا رسول المليك الذي ... هدانا به الله من كلّ تيه
سمعت حديثا من المسندا ... ت يسرّ فؤاد الفقيه النّبيه
رواه ابن إدريس شيخي الذي اس ... تقام على منهج يرتضيه
بإسناده عن شيوخ ثقا ... ت نفوا عن حديثك زور السّفيه
ومعناه أنّك قلت اطلبوا ال ... حوائج عند حسان الوجوه
ولم أر أحسن من وجهك ال ... كريم فجد لي بما أرتضيه
لقد انتشر النظم عند شعراء المديح النبوي، وكأنهم شعروا أنهم لا ينظمون شعرهم الذي اعتادوا عليه، وإنما ينظمون شعرا آخر، وفق قواعد نظمهم المعروفة، وربما ظنوه فنا جديدا، فنا قصيصا شعريا، لكنهم لم يتلمسوا معالم هذا الفن، ولم يحتذوا فيه مثالا معروفا، يقتدون به، ولم يطلعوا على آداب الأمم الآخرى ولو حصل ذلك، أو لو وجد من يستمر في هذا النوع من النظم ويطوره، لكان لنا فن جديد، يضارع ما لدى الأمم الآخرى من القص الشعري الملحمي، لكن الأمور لم تسر في طريق التطور الصحيح، ولم تكن واضحة في الأذهان، وطغى عليها نظم العلوم وتقريرها شعرا، والذي منه في المديح النبوي ما نظمه بعض العلماء في بيان دعاء أو تقرير حال، أو تعداد ما يخص رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقد نظم شاعر يدعى صالح بن الحسين خبر توسل آدم بالمصطفى في قوله:
فقال إلهي امنن عليّ بتوبة ... تكون على غسل الخطيئة مسعدا
بحرمة هذا الاسم والزّلفة التي ...خصصت بها دون الخليقة أحمدا
فتاب عليه ربّه، وحماه من ... جناية ما أخطاه لا متعمّدا
فماذا في هذا النظم من الشعر والشاعرية؟ الأسلوب ركيك ضعيف، يكاد يكون نثرا ثقيلا، ننأى بالعلماء عن مثل هذا التعبير، ونربأ بهم عن مثل قول أحد القضا. الحنابلة، وهو يظن أنه فاز بإبداع ليس بعده إبداع:
نبىّ أحمد وكذا إمامي ... وشيخي أحمد كالبحر طامي
واسمي أحمد أرجو بهذا ... شفاعة سيّد الرّسل الكرام
ولابن سيد الناس مقطوعات، هي من النظم العلمي الخالص، ولا يمكن أن تكون من المديح النبوي على وجه من الوجوه، وإن كان بعض أصحاب الكتب القدماء قد أدرجوها ضمن شعر المدح النبوي، منها ما قاله في سلاح النبي صلّى الله عليه وسلّم:
من قضيب ورسوب ... راسب في الضّربات
وانتضى البتار فيهم ... فلّ حدّ الباترات
خلت لمع البرق يبدو ... من سنا ذي الفقرات
ولنار المخذّم الما ... ضي لهيب الجمرات
ومنها ما قاله في أسماء دوابه:
من لزاز ولحيف ... ومن السّكب المواتي
ومن المرتجز السّا ... بق سبق الذّاريات
ومن الورد ومن سب ... حة قيد العاديات
فالنظم أثقل كثيرا من المدائح النبوية، فبدا أسلوبها باردا، ليس له من حرارة الشعر نصيب، وكثير منه ركيك ضعيف، ابتعد ببعض القصائد عن الشاعرية فلم يبق لها الشعر إلا هيكله الخارجي من وزن وقافية. ولم يكن للنظم محاسن تذكر، تضاف إلى صياغة الشعر العربي وأسلوبه، بل كان مضرا أكثر منه مفيدا، ولو عزلت القصائد التي غلب عليها النظم عن بقية المدائح النبوية، وضمّت إلى فن المنظومات العلمية، لكان ذلك أقرب إلى الصحة.
ج-مذهب التصنع في الثناء النبوي:
والأسلوب الثالث الذي برز في المدائح النبوية، هو الأسلوب المتصنع، الذي ساد في العصر المملوكي، فالأديب يجهد عقله في تنميق صياغته وزخرفتها، وحشد أكبر قدر ممكن من المحسنات البديعية التي فتنتهم. الكاتب المولع بالصنعة، غدت كتابته جمعا لضروب البديع لا أكثر، والشاعر الذي ملكت عليه الصنعة نفسه، أضحى شعره إقامة الوزن للمحسنات البديعية، ولذلك كان لا بد من أن يظهر هذا الأسلوب في المدح النبوي، طالما أنه يعد من مفاخر الشعراء، ومما يتباهون به، إظهارا لمقدرتهم، وإثباتا لإبداعهم. ولم تكن هذه المحسنات البديعية مما أتى به أهل هذا العصر، بل هي معروفة موجودة منذ العصر الجاهلي لكنها كانت تأتي عفو الخاطر، ولم يتنبه عليها إلا الشعراء العباسيون الذين أخذوا يقصدون إليها قصدا، يجملون بها صياغتهم، ولم يكثروا منها، فبقيت مبعث جمال لشعرهم، لكنها أخذت تزداد في الشعر شيئا فشيئا حتى أثقلته. وقد شارك هواة البديع في المديح النبوي، فجاءت قصائدهم مثقلة بفنونه، يجورون على المعنى والأسلوب معا، طلبا لهذه الزينة، فلا يأتون بشيء، بل إنهم يسيؤون من حيث يظنون أنهم يحسنون، ووصل الأمر ببعضهم إلى حد الربط بين المديح النبوي وفنون البديع، فخرجوا بقصائد نبوية، هي البديعيات، تجمع ما بين مدح النبي، وذكر ضروب البديع والتمثيل لها. وظن هؤلاء أنهم يمدحون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بأفضل ما عندهم، فزادوا في اصطناع بديعهم، حتى اقتربوا من نظم هذه الفنون في مدائحهم النبوية، وقد بدأ اصطناع البديع في المديح النبوي مع رسوخ هذا الفن واستقلاله، وزاد بتقدم الزمن إلى أن أصبح في نهاية العصر المملوكي مقترنا به، وكأن مدح النبي صلّى الله عليه وسلّم لا يتم إلّا بفنون بديعهم الذي أهدروا فيه طاقاتهم الذهنية، وظلموا في سبيله ملكاتهم الشعرية. ولا شك أن شعراء المديح النبوي تفاوتوا في احتفالهم للبديع حسب مذهب كل منهم في الشعر، وحسب ترتيبهم الزمني، فنجد شعراء قد أضربوا عن استخدام البديع في شعرهم، فلا نعثر عليه عندهم إلا لماما، وخاصة أولئك الذين كانوا بمعزل عن مركز الحركة الأدبية في الجزيرة العربية أو المغرب العربي، ونجد شعراء آخرين يدرجون بعض فنون البديع في شعرهم دون إكثار أو افتعال، فهم يستخدمونها حين تكون الفرصة مواتية وحين لا تسيء إلى الصياغة أو المعنى، ونجد شعراء غيرهم، كل همّهم حشد البديع حشدا في قصائدهم، دون أن يعيروا صياغتهم أو معانيهم أي اهتمام. ومن أمثلة الأسلوب الموشى بفنون البديع في المديح النبوي، دون أن يفقد رونقه وانسجامه، قول ابن أبي الفرج الجوزي :
يكفيه أنّ الله جلّ جلاله ... آوى، فقال: (ألم يجدك يتيما)
درّ يتيم في الفخار، وإنّما ... خير اللآلي أن يكون يتيما
وإذا نظرنا إلى مشاركة الشعراء الكبار في العصر المملوكي، والذين عرفوا بولعهم بفنون البديع، وجدنا شعرهم حافلا بضروب الصنعة التي تثقل أحيانا، لكنهم ظلوا محافظين على وضوح المعنى بشكل عام، وظل ظلّ الصنعة قاصرا على أبيات بعينها، ولم يغط القصيدة كلها. ومن أمثلة هذا الأسلوب المتصنع قول ابن نباتة في مدحة نبوية:
ولي سعاد شجون ما يغبّ لها ... إما خيال وإلا فهو تخييل
أبكي اشتياقا إليها وهي قاتلني ... يا من رأى قاتلا يبكيه مقتول
مسكيّة الخال أمّا ورد وجنتها ... فبالجنى من عيون النّاس مبلول
مصحّح النّقل عن شهد وعن برد ... لأنه منهل بالرّاح معلول
فالصنعة هنا هي هاجس الشاعر، وهو يفكر في مدح سيد الخلق، أو أنه استحضر هذه الصنعة عند مدح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ظانا أنه يحسن عملا، فيصطنع ألفاظ البديع، ويضمّن شعر القدماء، ويستخدم مصطلحات العلوم وغير ذلك من الأمور التي رآها ورآها معاصروه فنا عظيما، وإثباتا لمقدرة الشاعر البلاغية أو البديعية. ولننظر كيف يتلاعب بالألفاظ في مدحة نبوية ثانية، فيقول:
شجون نحوها العشّاق فاؤوا ... وصب ماله في الصّبر رآء
وعين دمعها في الحبّ طهر ... كأنّ دموع عيني بيرحاء
ولاح ماله هاء وميم ... له من صبوتي ميم وهاء
كأنّ الحبّ دائرة بقلبي ... فحيث الانتهاء الابتداء
لنا سند من الرّجوى لديه ... غداة غد يعنعنه الوفاء
فما هي الإضافة في الصب الذي ليس له في الصبر راء؟ وما هو الجديد في كلمة (همّ) لتصبح حينا هاء وميما وحينا ميما وهاء؟ ولو وصف مهندس الحب، فهل يشبهه بالدائرة في افتقار شكلها إلى بداية محددة أو نهاية معروفة؟ وما هو موطن الجمال في العنعنة التي تملأ أسانيد الحديث الشريف، لينقلها ابن نباتة إلى الشعر؟ إنه الأسلوب المتصنع الذي أعجب أهل ذلك العصر، فتفاخروا في تعقيده. وكلما تقدم بالمدائح النبوية الزمن، زادت الصنعة فيها ثقلا، حتى أخفت المعاني والمشاعر، فلم يبق من الشعر إلا الوزن والقافية، وهذه الصنعة التي يعجب المرء كيف كانت تستهوي أهل ذلك العصر، فالنواجي مثلا لا يترك مدحة نبوية له دون أن يغلّفها بضروب الصنعة البديعية، مثل قوله في قصيدة:
لعروض جفاك بحور هوى ... بدوائر هجرك تضطرب
وبهالة وجهك دائرة ... لمعاني حسنك تجتلب
وبجسم الصّبّ جرت علل ... وزحاف ليس له سبب
ولا ندري إن كان الشاعر يتغزل أو يتحدث عن العروض ودوائره وعلله وزحافاته وأسبابه وأوتاده، ولا ندري كيف كان الناس يستحسنون هذا الغزل، وكيف يتخيلون المحبوب من خلال هذه المصطلحات العروضية التي لا تجانس الشعر ولا تلتقي معه؟
وقد أفرغ جعبته من مصطلحات الحديث والفقه في مقدمة مدحة أخرى، طلبا للإدهاش وإظهار المقدرة، حين قال:
ما زال مسعر قلبي من طريق أبي الز ... زناد عن واقد الخدّين يرويه
وسلسل الدّمع أخبار الغرام فقل ... ما شئت في ابن معين أو أماليه
صب تفقّه في شرع الهوى فغدا ... إمام مذهب أهل الحبّ مفتيه
في كلّ يوم له درس يطالعه ... في صفحة الهجر بالذّكرى ويلقيه
ولا يخفى على المطلع ما في هذا الأسلوب من تصنع وتكلف، وانحراف عن النهج السليم في التعبير عن المشاعر الرقيقة التي ضاعت بين مصطلحات الحديث وأسماء رواته، وبين الفقه ومذاهبه، والدراسة والمطالعة والإلقاء، وغير ذلك من مصطلحات العلوم، والتي أظن أن الشاعر كان يحرص على إيرادها ليثبت معرفته الواسعة بهذه العلوم، وطول باعه فيها. لقد أضاع العواطف والأفكار بين الأسماء التي أراد إثبات مهارته في استخدامها للتعبير عن فكرته، وبين مصطلحات العلوم، فلم يعد التعبير العربي الأصيل موجودا عنده، ولم يعد مذهب العرب في كلامهم كافيا ليؤدي ما بنفسه، لقد ضاقت عليه مذاهب القول كلها، ولم يعد أمامه إلا أسلوب المتصنع الملتوي الذي لا يلقيق بالنثر فكيف بالشعر. وهذا كان دأب شعراء الصنعة الذين أحالوا صياغة الشعر إلى تكلف وتعقيد ثقيل، فلم يكن النواجي وحيد دهره في هذا الأسلوب، بل شاركه فيه غير واحد، تنافسوا على الفوز بمصطلح علمي، يعبّر فيه الشاعر عن أفكاره ومشاعره، ويزهو بعد ذلك بتجديده. ومن هؤلاء الشهاب المنصوري الذي قدّم لإحدى مدائحه النبوية بقوله:
فأضالعي قفص وكلّ بلابلي ... ممّا لقيت عليّ فيه نوائح
لا غرو أن رقص الفؤاد لذكرهم ... قد ترقص الأطيار وهي ذبائح
فالشاعر أراد التشبيه، فعبر عنه تعبيرا مباشرا، قبل أن يختمر في ذهنه، فماذا كانت النتيجة في التعبير؟ ركاكة وضعفا، لأنه ينقل كل فكرة أو كل جزء من فكرة نقلا عن غيره، قبل أن تصبح الأفكار والعبارات من ثقافته الشخصية، لذلك يستعين على أداء مشاعره بهذه الطريقة العرجاء، وهذا ما فعله في المدح النبوي في قصيدة أخرى، حيث قال:
خصّك الله باختصار البلاغا ... ت فأدّيتها بلفظ وجيز
وتميّزت فانتصبت لمولا ... ك بعزم نصبا على التّمييز
عفت دنيا تبرّجت لك حسنا ... كزليخا تبرّجت للعزيز
فهذا الأسلوب انحرف به صاحبه عن السليقة، وعن النظم العربي للكلام، وطريقتهم في التعبير الواضح المستقيم، الذي لا يتكئ على أشياء خارجية لإيصال المعنى إلى المتلقي. وسار ابن مليك في تصنعه من القضاء والحرب إلى الكتابة والخط، وهو في ذلك كله يتحدث عن الغزل والمدح، ويظهر أن مسألة الخط والكتابة قد استهوته، فذكر مصطلحاتها في مدحة نبوية، وقال:
أكاتب خطّ الوصل حرّر لي الضّبطا ..عسى مالكي في الحبّ أن يثبت الخطّا
فنسخة خدّي اليوم بالسّقم قوبلت ... ألم تر فيها الدّمع قد أوضح الكشطا
هو العاقب الماحي محا الكفر سيفه ... كذا قلم الشّرك انبرى وبه انقطّا
كذاك حروف الخطّ قد نقطت له ... وقد كان لا يدري الهجاء ولا الخطّا
وربما كان الشاعر كاتبا رسميا، يحرر (الضبوط) كما يفعل رجال الشرطة الآن، ويتثبت من صحة الخط والتواقيع، ليظهر إذا كان في الكتاب كشط أو تغيير، فنقل مصطلحات الكتابة إلى الغزل والمدح النبوي، فقلبت الأمور عنده وعند غيره من شعراء هذا المذهب، فبعد أن كان التعبير الطبيعي هو الأساس، والصنعة زيادة طفيفة لتجميل التعبير وتحسينه، أضحت الصنعة هي الأساس، والتعبير الطبيعي لوصل قطع الصنعة، وربطها ببعضها. ولذلك مالت الصنعة بكثير من الشعراء إلى الركاكة والضعف والخطأ، وخاصة حين يستخدمها من لا باع له بالشعر ولا ممارسة، مثل ابن زقاعة الذي تعانى الخياطة ثم طلب العلم، وأضحى أحد المتصوفة، وترك ديوانا صغيرا كله مواجد صوفية ومدح نبوي إلا أن شعره ضعيف ركيك، أثقلته الصنعة، ومن ذلك قوله:
غصن بان بطيبة ... في حشا الصّبّ راسخ
من صباي هويته ... وأنا الآن شائخ
عجبا كيف لم يكن ... كاتبا وهو ناسخ
أحمد سيّد الورى ... وبه شاد شالخ
عقد إكسير ودّه ... ليس له عنه فاسخ
فماذا في هذا النظم من الشعر، الأسلوب ضعيف، والألفاظ ليست فصيحة أو صحيحة، والتعبير مهلهل يقرب من العامية، ومع ذلك يصرّ هذا الشاعر على استخدام فنون البديع في شعره، فكانت النتيجة قصيدته تلك وقصائده الآخرى، ومنها قصيدة يتلاعب فيها بالحروف على طريقة المتصوفة، فيقول:
أقسم بالطّاء قبل هاء ... والسّين والميم بعد طاء
والألف الأوّل المبتدا ... على حروف من الهجاء
أوّل فتحي بفاتحات ... من آل حاميم في ابتداء
والباب منها إنّا فتحنا ... وحارس الباب حرف فاء
فهذا هو الأسلوب الرمزي المعمّى الذي لحقه الضعف والركاكة، ونخرته الصنعة البديعية التي لم تستخدم استخداما حاذقا، فأضحى التعبير بعيدا عن الفهم، قريبا من العامية، فيه من الركاكة ما يجعل تسميته شعرا موضع تساؤل، بل يجعلنا نتساءل إذا كان ناظم هذا الشعر في وعيه الكامل حين نظمه، ولا بأس أن نسيء الظن بالذين احتفلوا به. إلا أن مثل هذا الأسلوب الركيك ليس شائعا في المدح النبوي، واقتصر على بعض المتصوفة الذين جاؤوا من بيئات شعبية، وتوجّهوا بشعرهم إلى هذه البيئات؛ وأن أنهم لم يكن يدور بخلدهم أن يكتب هذا الشعر ويحفظ ليصل إلينا في دواوين شعرية، احتفل بها بعض الباحثين، وأشاعوها لمضمونها السامي، أو لغرض في أنفسهم، أما باقي شعر المديح النبوي، فإنه صحيح فصيح، تندر فيه الركاكة والضعف، وتقتصر على نظم بعض العلماء الذين لم يؤتوا من موهبة الشعر حظا وافرا، مثل ابن حجر في مدحته التي يقول فيها:
وأزال بالتّوحيد ما عبدوه من ... صنم برأي ثابت وصليب
لم يحتموا من ميم طعنات ولا ... ألفات ضربات بلام حروب
وما كان أغنى ابن حجر عن مثل هذا الشعر، ولكنها الرغبة في المشاركة في المديح النبوي بأي شكل من الأشكال. فصياغة المدائح النبوية تفاوتت تفاوتا كبيرا، ما بين القوة والجزالة، والسلامة والانسجام، وبين النظم والتصنع البديعي، والتكلف والضعف لأن شعراء المدائح النبوية عكسوا في شعرهم المذاهب الأدبية في عصرهم، وتوجّه كل منهم.
د- مذهب الصنعة الفنية في الثناء النبوي:
منذ القديم بحث الشعراء العرب عن وسائل تزيد التعبير عمقا، وتزيد الأسلوب جمالا، لكنهم لم يتحدثوا عن هذه المسائل، ولم يجهدوا أنفسهم في البحث واصطناعها في شعرهم، فظلت تأتي عندهم عفو الخاطر، وتندرج في أقوالهم دون تعمّل وتكلف، إلى أن تنبّه الشعراء عليها فيما بعد، فأخذوا يكثرون من هذه الوسائل التعبيرية ليزيد أسلوبهم جمالا، حتى جاء ابن المعتز، فوضع فيها كتابا، فتح به للمؤلفين بابا جديدا من أبواب التأليف، يكررون فيه ما نصّ عليه ابن المعتز، ويزيدون ويشرحون. أما الشعراء فمع تقدم الزمن أولعوا بفنون البديع الجديدة، وقصدوها قصدا، وتصنعوا إدراجها في شعرهم إلى أن أضحت زينة ينوء بها الشعر، وتثقل بها الكتابة، فأضحت من مميزات الأدب في العصر المملوكي. وكانت فنون البديع التي أشار إليها ابن المعتز قليلة بسيطة، لكن الكتّاب الذين جاؤوا بعده، ظلوا يزيدون فيها حتى أضحت على درجة كبيرة من التعقيد، لا يتقنها أو يعرفها إلا المشتغل فيها المتمرس بها، وغلبت على ذوق المتأدبين من أهل العصر، فلا يجدون الجمال الأدبي إلا بها، ولا يعترفون بشاعر إن لم يكن متصنعا لها مكثرا منها، فصارت موضع فخر الشعراء وتفاضلهم، ومقياسا لشاعريتهم. ولذلك حرص الشعراء على حشد أكبر قدر من فنون البديع في شعرهم، إلى أن أضحت بعض القصائد نظما لهذه الفنون، يتكلف الشاعر إدراجها في شعره، متجنّيا على المعنى وسلامة التعبير من أجلها، وانقلبت الوسيلة إلى غاية، وأضحى الشاعر ينظم القصيدة ليعرض فنون البديع فيها، ولا يأتي بفنون البديع لزيادة المعنى إيضاحا وعمقا، والأسلوب جمالا ورونقا، حتى جعلت مواهب هواة هذه الفنون موضع شك وتساؤل، وأفسدت الظن في مقدرتهم الشعرية، فكأنهم يعانون من فقر في الموهبة والثقافة، ويحتالون على جدبهم في الأصالة بهذه الزخارف البديعية، وهم على العكس من ذلك، فيهم أصحاب الملكات الشعرية الأصيلة، وأصحاب الثقافة الواسعة، الذين رزقوا مقدرة شعرية كبيرة، ولكنه ذوق العصر، ومجاراة السائد فيه. ونحن لا نستطيع أن نطبق على شعر العصر المملوكي مقاييسنا الجمالية، وإن كنّا لا نستسيغ هذه المبالغة البديعية، فهذه الفنون كانت تعد منتهى البلاغة عندهم، وكانت غاية كل شاعر أن يتفرد باستخدام مميز لها. وقد مال شعراء هذا العصر إلى المبالغة في اصطناع فنون البديع، ليس في الكثرة فقط، بل والدرجة أيضا، فلم يعد يؤثر فيهم التشبيه العادي أو الجناس البسيط أو الاستعارة البسيطة، فلا يهتزون إلا إذا كانت هذه الفنون على درجة كبيرة من التعقيد، وليس العمق، لأن الاستخدام الجيد لهذه الفنون، والذي يزيد المعنى عمقا، ويحسّن التعبير، لم يسلم إلا للفحول منهم، ولذلك عبّروا عن درجات التشبيه مثلا بالمرقص والمطرب، فالمرقص عندهم هو التشبية الجديد الغريب الذي يبلغ تأثيره في قارئه أو سامعه إلى درجة يدعوه معها إلى الرقص، والمطرب هو التشبيه الذي يبعث في النفس نشوة الطرب، ولا يصل إلى درجة الأول، وإلى الرقص، أما التشبيه الذي لا يصل في تعقيده وغرابته إلى درجة هذين النوعين، فإنه لا يتعدى في نظرهم المسموع أو المتروك ( ابن سعيد: المرقص والمطلوب ص 7.) ، وعلى الرغم من أن فنون البديع أكثر ما تستخدم في الغزل والوصف، إلا أن شعراء المدح النبوي في هذا العصر أكثروا من هذه الفنون في مدائحهم، وفي وهمهم أنهم يرصعونها بأفضل ما عندهم من محاسن تعبيرية تليق بفن المدائح النبوية، وليتمكنوا من نيل إعجاب الناس، ورضاهم عن هذه المدائح، ولا يستجلب ذلك إلا بفنون البديع. وزيادة على ذلك فالصنعة البديعية أضحت من أدوات الشاعر في ذلك الوقت، فلا يستطيع نظم قصيدة في أي موضوع، دون أن يدرج فنون البديع في ثناياها، ولذلك حفلت قصائد المديح النبوي بفنون البديع، وثقلت بعضها بتعقيدها، إلى أن ربط المديح النبوي بالبديع، فظهرت البديعيات التي تجمع بين المدح النبوي وبين فنون البديع جميعها مع ذكر أسمائها والتمثيل لها ولهذا يعسر على الدارس أن يستقصي فنون البديع في المدائح النبوية كلها، ولا فائدة كبيرة ترجى من بيان المواضع التي استخدمت فيها جميع الأنواع البديعية التي عرفت في ذلك العصر، والتي عرفها البديعيون ومثّلوا لها، لأنها لم تكن منتشرة، وكان تداولها مقتصرا على أصحاب البديعيات أو البديعين الذين اخترعوا أمثلة لفنون بديعية مخترعة، هداهم إليها طول تفكيرهم بمذاهب الكلام وطرقه التعبيرية، وهي لا تزيد في بلاغة اللغة، بل تعقّدها، وتفقد المعبر بها البداهة والاسترسال وأصالة التعبير الذاتي.
ه- مذهب الصنعة الخيالية في الثناء النبوي :
ولو أتينا إلى الخيال في المدح النبوي، لوجدناه متّسعا، حلّق فيه شعراء المدائح النبوية إلى آفاق رحبة، وسبحوا في عالم الملكوت، وخاصة أصحاب الميول الصوفية منهم، الذين رحلوا بأرواحهم إلى عالم الغيب والشهادة، فجسدوه برموزهم وإشاراتهم التي تستغلق على من لم يسر في طريقتهم، وتذوق مواجدهم، ومثال ذلك قول العفيف التلمساني في حديثه عن دعوة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم للناس إلى الهدى:
نادى قريشا خصوصا والأنام به ...يعني عموما فصمّوا في مناديه
ما أقبح الشّكل في مرآة أعينكم ... إذ كلّكم شخصه فيها يلاقيه
تا لله لو صدقت منكم عزائمكم ... عن كلّ قصد صحيحات دواعيه
إذا لشاهدتم بي حقائقكم ... ما يدرك الميّت المعنى فيحييه
فصار ما كان قبحا في نواظركم ... حسنا يدين بدين العشق واليه
وكذلك الأمر في الحديث عن اليوم الآخر، إذ اعتمد الشعراء على ما جاء في القرآن الكريم والحديث الشريف من وصف ليوم القيامة، ولما سيجري به، إضافة إلى الروايات الغيبية التي حملت بعض شعراء المدح النبوي إلى التحليق بخيالهم إلى مشاهد ذلك اليوم العظيم وتخيّله، مثل قول البرعي:
وللمرء يوم ينقضي فيه عمره ... وموت وقبر ضيّق فيه يولج
ويلقى نكيرا في السّؤال ومنكرا ... يسومان بالتّنكيل من يتلجلج
ولا بدّ من طول الحساب وعرضه ... وهول مقام حرّه يتوهّج
وديّان يوم الدّين يبرز عرشه ... ويحكم بين الخلق والحقّ أبلج
فطائفة في جنّة الخلد خلّدت ... وطائفة في النّار تصلى فتنضج
هذه المشاهد، والتي هي من مضمون المدحة النبوية، أطلقت لشعراء المدائح النبوية الخيال، فاتسعوا في فنون التشبيه والاستعارة، واستحضروا مشاهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومواقعه، وبعثوا الحياة فيها، مثل قول الشهاب محمود في مدحة نبوية:
وكأنّي بين هاتيك الرّبا ... أنظر الأملاك والصّحب الكراما
وأرى في المسجد الهادي ومن ... خلفه أصحابه الغرّ قياما
فالشاعر عندما وصل إلى المعاهد النبوية المشرّفة، حلّق بخياله إلى الزمن الذي كانت تشهد فيه حركة الصحابة الكرام والملائكة الأبرار، وكان فيه مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عامرا بنوره، يحيط به أصحابه.
وأفاض شعراء المديح النبوي في التشبيه والتخيل في قصائدهم، يوضحون من خلاله معانيهم، ويزيدونها عمقا وتأثيرا، ومنهم البوصيري الذي بدا مغرما بالتشبيه والتمثيل في مدائحه النبوية، ومن ذلك قوله:
واقطع حبال الأماني التي اتّصلت ... فإنّما حبلها بالزّور موصول
فإنّ أرواحنا مثل النّجوم لها ... من المنيّة تسيير وترحيل
فلو ترى كلّ عضو من كماتهم ... مفصّلا وهو مكفوف ومشكول
كأحرف أشكلت خطا فأكثرها ... بالطّعن والضّرب منقوط ومشكول
كلّ بيت حكى بيت العروض له ... بالبيض والسّمر تقطيع وتفصيل
وداخلت بالرّدى أجزاءه علل ... غدا المرفّل منها وهو مجزول
كأنّهم في محاريب ملائكة ... وفي حروب أعاديهم رآبيل
فهنا نرى مدى احتفال البوصيري بالتشبيه، في البيت الأول شبّه تواصل الأماني بحبل، والحبل مربوط بالزور، ليدل على استمرار هذه الأماني وتتابعها دون انقطاع، وهذه الأماني هي التي تجعل الإنسان في غفلة عن الطاعة، لذلك يطلب الشاعر من الغافل أن يقطع حبل الأماني، وأن يتوقف عن تعلقه بزخارف الدنيا. وهذا التشبيه أعطى المعنى وضوحا وقوة، وقرّبه إلى ذهن السامع، حين شبه المعقول بالمحسوس. وفي البيت الثاني شبه الأرواح بالنجوم، ليعرف المتلقي من حركة النجوم وغيابها كيف تتحرك الأرواح وترحل وزاد في طرافة الصورة وجمالها أن النجوم تلمع وتخفق في فضاء رحب، وتكتنفها الأسرار في سيرها وظهورها واختفائها، لا يعلم حركتها غير مدبر الكون وخالق الأرواح، والتي هي من أمر الله تعالى. وفي الأبيات الثلاثة التالية، وصف البوصيري معارك المسلمين، وما حل بالمشركين بعدها، فقد قطعت أوصالهم وتبعثرت، وتخرمت بيوتهم المنون، فشبه ذلك كله بالكتابة الغامضة المحتاجة إلى إعجام، فرفع غموضها بالتنقيط والشكل، وهنا نقلنا إلى مصطلحات الكتابة، مستعينا بها على تكوين صورة فنية، يوضع خلالها الحال التي كانت عليها جثث المشركين في أرض المعركة، ولكن كيف يفهم الأمي الذي لا يعرف القراءة والكتابة هذه الصورة، وكيف يتخيلها؟ البوصيري يريد مجاراة أهل عصره، وإظهار مقدرته على إطرافهم، ولذلك حين يتابع ليظهر أثر هذه المعارك على بيوتات قريش، يربط بين البيت وهو العائلة هنا وبين بيت الشعر، فيصف ما حل بعائلات المشركين عن طريق ما يحل ببيت الشعر عند تقطيعه وإظهار تفاعيله، وعند ما تلحقه العلل العروضية، مستعينا على ذلك بمصطلحات العروض التي تظل معرفتها حكرا على طائفة من الناس، وبذلك يحرم البوصيري وغيره من الشعراء كثيرا من الناس من فهم صورهم وإدراكها وتخيّلها، لأنها قيدت بعلم من العلوم لا يعرفه جميع الناس. حتى إذا وصل البوصيري إلى البيت الأخير من هذه القطعة، الذي يصف فيه المسلمين، عاد إلى التشبيه العادي والمقابلة، فالمسلمون في المساجد أتقياء ورعون لطفاء، لينو الجانب، مثل الملائكة التي تتصف بالشفافية والروحانية، ولكنهم في ساحة المعركة يتحولون إلى أسود تفتك بأعدائها، وللسامع أن يتخيل هذه الصورة التي تنقسم إلى مشهدين، مشهد يصف المسلمين في سلمهم، ومشهد يصفهم في حربهم، ولا شك أن الصور التي بناها البوصيري في هذه القصيدة زادت المعنى وعمقته، وأضفت عليه ظلالا عاطفية تثير مشاعر المتلقي وتؤثر فيه، لكنه قلّل هذا التأثير حين بنى صوره على مصطلحات العلوم التي لا يدرك مغزاها إلا قلة. وهذه سنة البوصيري في صوره جميعها، يعتمد التشبيه ويفصّل فيه، ويمثّل لمعانيه، مثل قوله في بردته:
والنّفس كالطّفل إن تهمله شبّ على ... حبّ الرّضاع وإن تفطمه ينفطم
كالزّهر في ترف والبدر في شرف ... والبحر في كرم والدّهر في همم
كأنّما اللّؤلؤ المكنون في صدف ... من معدني منطق منه ومبتسم
دعني ووصفي آيات له ظهرت ... ظهور نار القرى ليلا على علم
فالدّرّ يزداد حسنا وهو منتظم ... وليس ينقص قدرا غير منتظم
لقد أجاد البوصيري في وصفه للنفس التي تطلب المزيد من الملذات إذا تركها المرء على هواها، لكنه إن راض نفسه، وكفّها عن شهواتها، عادت إلى القناعة، لا تأخذ من الملذات إلا ما حلّله الله، ولكي يوصل البوصيري هذا المعنى إلى الناس، شبه النفس بالطفل الذي يعتاد الرضاع، فإذا لم يفطم استمر على هذه العادة، وكل الناس يعرفون هذه الحقيقة ويعايشونها، ولذلك يسهل عليهم إدراك الصورة، وفهم المعنى الذي أراده البوصيري، وتخيل حقيقة النفس الإنسانية، فجاء التشبيه هنا ليغني عن الشرح والتفصيل، وينجي من الإسهاب والتطويل الذي لا يليق بالشعر. لكن البوصيري عند ما انتقل إلى مدح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ووصفه وذكر معجزاته، أخذ يرصف التشابيه رصفا، قارنا بين المادي والمعنوي، ليجسد المعاني التي يريدها بالمحسوسات التي يراها الناس ويعرفونها، وهي تشابيه معروفة في شعرنا العربي، حتى وإن عكس التشبيه للمبالغة، حين عزا اللؤلؤ المكنون إلى منطق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وثغره، بيد أنه أجاد حين مثّل لوصف آيات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بقوله: إن آيات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ظاهرة واضحة لا تحتاج إلى وصف وبيان، ولكنه ينظمها في شعره لتزداد حسنا في أذن السامع، وإن كان سماعها في غير النظم لا يقلّل من قدرها، مثل الدر الذي يزداد حسنا حين ينظم في عقد، لكن بقاءه منثورا لا يقلل من قيمته. وصور البوصيري ليست صورا بسيطة مبتذلة، وليست في غاية التعقيد، فهو يبذل جهدا في بنائها، لتؤدي ما بنفسه من أفكار ومشاعر، ولا يتكلف رسمها إلا نادرا حين يجعل أحد أركان صورته من مصطلحات العلوم ليجاري بذلك ذوق أهل عصره من المتأدبين والشعراء، مثل وصفه للطلل بقوله:
نسخت آياته أيدي البلى ... فأرت عينيّ منه الصّاد شيئا
إنه يريد أن يقول: إن الطلل كان بيتا معمورا مثل شكل حرف الصاد الذي يتمثّل به للبيت المعمور، لكن أيدي البلى حولته إلى خراب، فأضحى شكله مثل شكل حرف الشين، الذي يتمثل به للييت الخرب، فكم من الناس يعلم هذه الحقيقة؟ وهل ضاقت الدنيا عن مثل يمثّل به لشكل الطلل، فلا يجد غير الكتابة وشكل الحروف؟ أظن أنه أراد تقليب تشبيه القدماء لآثار الديار بالكتابة التي انمحت معالمها، لكنه تقليب متكلف لم يرق إلى إبداع القدماء وفق ظروفهم. إلا أن للبوصيري صورا رائعة إلى جانب ما تقدم، منها تشبيهه لحال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مع باقي الأنبياء، وأنه أصل نبوّتهم، وهذا تجسيد لفكرة الحقيقة المحمدية، في قوله:
إنّما مثّلوا صفاتك للنّا ... س كما مثّل النّجوم الماء
ووصفه لبني هاشم، أهل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فيه إبداع، حين جعلهم دوحة أنبتت أغصانها علما ودينا، وأفنان الدوحة عادة تنبت الثمار والأزهار، فخلط في صورته بين المادي والمعنوي بتنسيق موفق حين قال:
واصطفى محتده من دوحة ... أنبتت أفنانها علما ودينا
وأبدع في وصف شجاعة المسلمين وغضبهم لدين الله، حين جعل الموت يغضب لغضبهم، فقال:
يغضب الموت إذا ما غضبوا ... وإذا ما غضبوا هم يغفرونا
فالبوصيري معتدل في صوره، لا يجنح إلى التعقيد، ولا يشتط في بنائها على
مصطلحات العلوم، لكنه يجيد التشبيه، ويحلق فيه، مقتنصا العلاقات بين المعنويات والمحسوسات بدقة وذكاء، فحرّك بذلك أسلوبه، ومنحه شحنة عاطفية إضافية. ومن صور أهل العصر المعبرة التي تحمل آثار الصنعة، تشبيه للشهاب محمود، يصف فيه المسلمين في جهادهم، فيقول:
وكساهم حلل النّصر التي ... نبذت تلك الأعادي بالعرا
فللنصر حلل كساها الله المسلمين، فظل المشركون في العراء، عاطلين من هذه الحلل، وفي كلمة عراء تورية، فهي نقيض الكسوة التي تحلّى بها المسلمون، وهو الفضاء الذي تركت فيه جثث المشركين المهزومين، فما أحلى حلل النصر التي كساها الله المسلمين، وما أرفع عزّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأعلى مجده في صورة الشرف الأنصاري التي رسمها في قوله:
هناك العزّ مرفوع السّواري ... وثمّ المجد منصوب الأواخي
فالعز بيت مرتفع والمجد خيمة منصوبة، وهذه الصورة تقليب لتشبيه القدماء وكناياتهم، فقد كانوا يكنون عن السيادة والعز بارتفاع بيت الممدوح، لكن الشرف الأنصاري جسّد العز، وجعل المجد مرئيا، فتقدم في هذا التشبيه خطوة إلى الأمام. وإذا أردنا استعراض التشبيه في المدائح النبوية، لعزّ علينا ذلك، ولملأنا صفحات كثيرة، وخاصة من التشابيه العادية التي تميل إلى الصنعة، والتي تظهر آثار ذوق أهل العصر، مثل وصف ابن حجر لمحاسن محبوبته المزعومة في مقدمة إحدى مدائحه النبوية بقوله:
وأهيّف خطرت كالغصن قامته ... فكلّ قلب إليه من هواه هفا
كالسّهم مقلته والقوس حاجبه ... ومهجتي لهما قد أصبحت هدفا
ولنا أن نتخيل المحبوبة التي ترمي مهجة محبّها بالسهام من عينيها، فقد نقلنا ابن حجر من الغزل ورقته إلى الحرب وقسوتها. وحاول بعض الشعراء الإغراب في تشابيههم، بتصور أمور لا وجود لها، ربط فيها المادي بالمعنوي، وأقيمت علاقة بعيدة بينهما، مثل قول الباعوني في مقدمة مدحة نبوية، مفسرا سبب سهده:
نومي بماء قراح السّهد مغسول ... فكيف يحصل لي من طيفكم سول
فالشاعر جعل النوم شيئا يغسل، وبماذا يغسل؟ يغسل بماء قراح السهد، فهذا الماء يسبب قراح السهد والسهد لا يقرح، وإنما العين هي التي تتقرح، وكأنه شبّه العين بالسهد، أو أنه أراد بالسهد العين التي يصيبها السهد، فخلط بين الأشياء، طلبا للإغراب والإدهاش، ولتحصيل المرقص والمطرب من التشابيه. ومن التشابيه التي وردت في المدائح النبوية وحملت الطابع المملوكي الخالص، تشبيه الزمردي للحديث عن رسول الله بقول:
كأنّه سكّر يحلو مكررّه ... وكم حديث إذا كرّرت مملول
فالسكر المكرر من موجودات البيئة المملوكية، والأشياء التي أكثر الشعراء المماليك ذكرها والتشبيه بها في شعرهم. إلا أن اللون البديعي الذي ساد في شعر هذا العصر هو التورية، والذي يكاد يكون جديدا في الشعر العربي، فقد أكثر منها الشعراء كثرة مفرطة، وعدوها دليل الفطنة والذكاء، واقتنصوها مما يخطر على البال أو لا يخطر، طلبا للإغراب والإطراف، وصارت التورية غرضا بذاتها، يكدّ فيها الشعراء أذهانهم، ويفتنّون في عرضها، وجعلها بعضهم مذهبا فنيا لهم. والتوراة حين تستخدم استخداما موفقا، وتوضع في صياغة جميلة، فإنها تكون بديعة ومؤثرة، تدل على ذكاء وتفكير عميقين، وخاصة إذا رزق صانعها موهبة شعرية أصيلة، ووضعها في ألفاظ مواتية، فحينئذ تندرج في الشعر اندراجا خفيا لطيفا، لا يرى فيها تصنع مفتعل، ولا تصدم الذوق بتكلفها، أما إذا جاءت على غير هذا النسق، فإنها تصبح عالة ينوء بها الشعر. وهي تمثّل الاتجاه الرمزي في الشعر العربي، أو الصنعة الفنية فيه، مثلما هو الأمر في شعر المتصوفة وألفاظهم. ومن أمثلة التوراة في شعر المديح النبوي قول محي الدين بن عبد الظاهر، مشيرا إلى هدفه من معارضة لامية كعب بن زهير:
لقد قال كعب في النّبيّ قصيدة ... وقلنا عسى في مدحه نتشارك
فإن شملتنا بالجوائز رحمة ... كرحمة كعب فهو كعب مبارك
فالتورية هنا في قوله (كعب مبارك) ، وهو وصف لما يتفاءل به، فكلمة كعب في هذين البيتين لها معنيان، معنى قريب هو اسم كعب بن زهير مادح الرسول صلّى الله عليه وسلّم وصاحب قصيدة (البردة) وهو الذي يتبادر إلى الذهن للوهلة الأولى، ومعنى بعيد هو المقصود بالعبارة المشهورة (كعب مبارك) ، وهو ما سعى الشاعر إلى إيصاله في توريته. ومن ذلك أيضا قول القيراطي في مدحة نبوية:
واكتبا في صحف الدّيار سطورا ... من حروف ليست حروف هجاء
كم علونا المعلّى بهن حروفا ... حبّذا هن أحرف استعلاء
صاح طف للإله سبعا ببيت ... رمي الفيل فيه بالدّهياء
واكحل العين عند مسعاك بالمي ... ل ففيه شفاء داء العماء
والتوراة في البيت الثاني تكمن في كلمة (أحرف استعلاء) ، فقد كان يتحدث عن الرحلة والديار، وشبهها بالكتابة، فعند ما ذكر حروف الاستعلاء، ظن أنها من حروف الهجاء، وهو المعنى القريب، والمعنى البعيد الذي يقصده الشاعر هو الرواحل التي تسمى حروفا أيضا. وفي البيت الثالث، ورّى الشاعر بكلمة دهياء، فالذي يخطر للمتلقي أنه اسم مكان أو صفة له، وهو يريد الداهية، وكذلك الأمر في البيت الذي يليه، فالميل اسم مكان أو وحدة قياس وهو الأداة التي تكحل بها العين، فتوجه معنى البيت وألفاظه توحي بأنه يقصد أداة الكحل، ولكن المعنى الذي يريده من الكلمة هو اسم المكان.
ومن التوراة في المديح النبوي قول النواجي في التشوق للمقدسات:
وسرت نسمة الغوير فقل ما ... شئت في فضل ليلة الإسراء
فالتورية في قوله (ليلة الإسراء) ، لأن المشهور من هذا التعبير هو الدلالة على الليلة التي أسري فيها برسول الله صلّى الله عليه وسلّم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وهذا هو المعنى القريب، وهو يقصد الليلة التي سرى فيها نسيم الغوير، وهو المعنى البعيد الذي يريد
و- مذهب الصنعة اللفظية في الثناء النبوي :
والتوراة كثيرة في شعر المديح النبوي، مثلما هي كثيرة في شعر العصر، وخاصة في شعر عصبة من الشعراء عرفوا باتباعهم مذهب التوراة والانسجام، وهم كبار شعراء العصر، وإلى جانبهم شعراء آخرون فتنوا بالبديع من جناس وطباق وتضمين ومراعاة النظير وبراعة الاستهلال واستخدام الأمثال، وغير ذلك من فنون البديع التي بلغت عدتها الشيء الكثير، وهي لا تزيد في بلاغة اللغة، بل تقيد حرية التعبير، وتثقل الصياغة، وهي أقرب إلى الرياضة الذهنية منها إلى البلاغة التعبيرية، ولو استعرضنا بعض نصوص المدائح النبوية، لوجدنا من هذا الضرب الكثير، فعائشة الباعونية تحدثت في مقدمة مدحة نبوية عن شيوخها من المتصوفة، فقالت:
هم عين عيني وهم سرّي وهم علني ... هم سرّ كوني وهم بدئي ومختتم
الموت فيهم حياة والفناء بقا ... والذّل عزّ فيا طوبى لصبّهم
فطابقت بين السر والعلن والبدء والمختتم، والحياة والفناء، والذل والعز.
وجانس الصرصري في قصيدة نبوية في جميع أبياتها، وهذا يظهر أن الجناس لم يأت عنده عفو الخاطر، وإنما أجهد نفسه لتتم له هذه المجانسة، فقال:
وخوص نواج ضمّر جابت الفلا ... فما صدّها عمّا تروم وجاها
بأكوارها شعث النّواصي من الس ... سرى تحاول عزّا لا يبيد وجاها
تودّ من التّعظيم لو بذلت له ... ليرضى فداء أمّها وأباها
نبيّ أطاعته الكنوز فلم يكن ... لها قابلا بل ردّها وأباها
وحاول ابن جابر أن يجانس بين قوافيه، فجاء بالجناس الملفّق حين قال:
إذا بلغ العبد أرض الحجاز ... فقد نال أفضل ما أمّ له
فإن زار قبر نبيّ الهدى ... فقد أكمل الله ما أمّله
ويظهر أن أدباء ذلك العصر قد اشتطوا في اصطناع الجناس، حتى ضجّ بعضهم من ذلك، ومنهم ابن حجة المعروف بولعه بالبديع، فقال في خزانته: «أما الجناس، فإنه غير مذهبي ومذهب من نسجت على منواله من أهل الأدب. وكذلك كثرة اشتقاق الألفاظ، فإن كلا منهما يؤدي إلى العقادة والتقييد عن إطلاق عنان البلاغة في مضمار المعاني المبتكرة» . وليت شعراء ذلك العصر سمعوا هذه النصيحة، لكان لشعرهم طعم آخر، ونكهة غير التي عرفت عنه، فإنهم سدوا آذانهم أمام هذا التوجيه، ولم يسمعوا له ولغيره، ومضوا يجمعون في شعرهم ما قدروا عليه من فنون البديع، يتصنعون لذلك ويتكلفون، وهذا ما جعل شعرهم يشبه المتون العلمية أو السلاسل البديعية، فلو أخذنا نصا للقيراطي، مثلا من مقدمة مدحة نبوية، لوجدنا أنه قد نظم ليكون أمثلة تعطى في درس البديع، فهو يقول:
ذكر الملتقى على الصّفراء ... فبكاه بدمعة حمراء
ما لعين سوداء منّي نصيب ... بعد حبّي لعينها الزّرقاء
كلّ أبيات من بغى أقعدوها ... عند ركض الخيول بالإيطاء
فالشاعر ينتقل من جناس إلى طباق، ومن تورية إلى تضمين، ومن استخدام مصطلحات اللغة والنحو إلى مصطلحات العروض، وكأنه وضع هذه الفنون البديعية في البداية، ثم جمع بينها بواسطة الوزن والقافية، فلا يستطيع أحد أن يدعي أن الشاعر كان ينظم الشعر على سجيته، وأنه صاغ قصيدته على الشكل الذي تبادر إلى ذهنه عند ما تداعت إليه المعاني، فلو وصلتنا الصورة الأولى للقصيدة لكانت تختلف اختلافا كبيرا عمّا هي عليه في صورتها التي أذاعها للناس، فهو يريد إرضاء ذوق أهل عصره وإدهاشهم، وإثبات مقدرته البديعية من ناحية، ويريد مدح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ونيل غفران ربه من ناحية ثانية، فجمع بينهما لينال الحسنيين. وهذا ما كان يدور في أذهان الشعراء الذين مدحوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأثقلوا مدحه بزخرف القول، من أمثال الشهاب المنصوري الذي قال في إحدى مدائحه للنبي الكريم:
برز الصّباح براية بيضاء ... زحفا فولّى عسكر الظّلماء
ضحكت على نجم السّما نجم الثّرى ... فبكت أسى بمدامع الأنواء
ووشى بسرّ الرّوض نمّام الصّبا ... وغدا يطوف به على الأحياء
والرّيح في فرش الرياض عليلة ... ترجوا الشّفاء برقية الورقاء
والماء فيه تملّق وتدفّق ... يلقى النّسيم برقّة وصفاء
فمنذ مطلع القصيدة أخذ يحشد المحسنات البديعية حشدا، فجعل تعاقب الليل والنهار حربا بين جيشين، ولتتم المفارقة له، طابق بين زحف وولى، وبين البيضاء والظلماء، وحين أراد تعليل سبب المطر في البيت الثاني، جعل النبات يضحك من نجوم السماء، فبكت النجوم بالأمطار، وهو يظن أنه أجاد حسن التعليل، وهو أحد فنون البديع. واستغرق في صنعته، فخلق عالما عاقلا شاعرا من عناصر الطبيعة، وأضفى عليها الوعي الإنساني، فالليل والنهار جيشان يتقاتلان، والنبات يضحك، والنجوم تبكي، أما نسيم الصبا فهو واش نمّام، يذيع سر الروض عند ما يحمل رائحته، والماء متملق في لقائه مع النسيم، فعناصر الطبيعة كلها تشعر وتعقل، وكلها لها علاقات إنسانية فيما بينها، والصنعة البديعية تلون ذلك كله بألوان فاقعة، هي غير ألوان الطبيعة الحقيقة . صحيح أن إضفاء المشاعر البشرية على عناصر الطبيعة و (أنسنتها) من أرقى طرق التعبير الأدبي، وهذا ما يحمد للشاعر، ولكن طريقة أداء ذلك أفسدته فنون البديع أو كادت. فالصنعة لا تفارقه حين ينظم شعره، وهذا ديدنه وديدن كثير من شعراء عصره، يرون الصنعة البديعية الفن الذي ما بعده فن، وهذا ما يظهر عند ابن الموصلي في مدحة نبوية، يبدي فيها ولعه بالجناس وبأنواعه المختلفة، فهو يقول:
يمناه ما صفحت لسائل منحا ... وكم عن المذنب الخطّاء قد صفحت
فكم فدت وودت وأوجلت وجلت ... وأوكست وكست وأثبتت ومحت
ودارسا عمّرت وعامرا درّست ... ويابسا رحمت وفارسا رمحت
وكم شفت عللا وكم روت غللا ... وكم هدت سبلا لولاه ما فتحت
فتكلف الجناس ظاهر لا يحتاج إلى بيان، فهو لم يترك بيتا لم يجانس فيه بطريقة أو بأخرى، وأتبع الجناس الطباق، فأكثر منه، وقد حاف على المعنى في سبيل جناسه وطباقه، وجانب الدقة في إيراد الألفاظ ليقيم جناسه، مثلما فعل ابن مليك الحموي حين استخدم الأسماء في التعبير عن مشاعره بتكلف وتصنع ثقيلين في قوله:
سفحت عقيق الدّمع من سفح مقلتي ... وبتّ لدى الجرعاء أجرع عبرتي
ومذ بصفا قلبي سعى طائف الهوى ... رمى بفؤادي جمرة بعد جمرة
على غاربي ألقيتم حبل هجركم ... وخيل اصطباري في الأعنّة عنّت
فلا تنكروا بالحزن أن صرت حائرا ... أشقّ جيوب الصّبر من عظم حسرتي
فأراد ذكر السفح والعقيق والجرعاء، فسفح عقيق دمعه على سفح مقلته، وجرع لدى الجرعاء عبرته، وأراد ذكر الصفا والطواف ورمي الجمار، فجعل الهوى يطوف بصفا قلبه، وجعل فؤاده يرمي الجمرة إثر الجمرة، وهو يظن أنه جاء بشيء جديد عظيم، لم يأت به أحد قبله، وزاد على ذلك حين نظم المثل (ألقى الحبل على الغارب) ، وأضاف إليه خيل اصطباره التي عنّت في أعنتها، فالحبل استدعى إلى ذهنه الأعنة، فذهب بمعنى المثل، وبجزالة ألفاظه وبساطته في سبيل صنعته التي ألبسته ثياب الصبر ذات الجيوب، فعمل بها تمزيقا وشقا. فالصنعة جعلته يكرر الألفاظ، ويقدم ويؤخر، فأفسدت المعنى والأسلوب معا، ووصل في بعض قصائده إلى الركاكة، بسبب هذه الصنعة البديعية الثقيلة، والتي يكررها في قصائده، ويكرر صورا منها دون أدنى تغيير مثل قوله:
مغرم لم يزل أسير هواكم ... راح يبكي الأسى بدمع طليق
يسفح الدّمع في الخدود عقيقا ... حبّذا السّفح مؤذنا بالعقيق
يا نزولا بالمنحنى من ضلوعي ... هل إلى الصّبر عنكم من طريق
كيف أسلو وحبّكم في فؤادي ... ساكن في مفاصلي وعروقي
وأجوز الصّراط كي لمناها ... تبلغ النّفس بالمجاز الحقيقي
ومع المتّقين أسكن دارا ... زخرفت في جوار خير رفيق «2»
فشاعرنا أسير الهوى، يبكي بدمع طليق، ماذا زاد في هذا المعنى؟ أما سفح الدموع والعقيق والمنحنى من ضلوعه، فهي صناعة مكررة حرفيا تقريبا، ولا ندري كيف يسكن الحب مفاصله وعروقه؟ وتأبى عليه صنعته إلا أن يذكر المجاز الحقيقي، حين يذكر جوازه على الصراط، وإلا أن تزخرف الدار التي يسكنها في الجنة، فلم يسلم له المعنى، ولم يسلم له جمال الأسلوب. وهذا ما نجده عند المغرمين بالصنعة البديعية، والذين لا يجيدون استخدامها في شعرهم، فأوقعهم همّ المجاراة في الركاكة والتكلف، مثل ابن حجر، العالم المتبحر، الذي أبى إلا أن يجاري الشعراء فيما هم مشتغلون به من صنعة وزخرف، فكانت النتيجة مثل قوله:
إن أبرموني بالملام فإنّ لي ... صبرا سينقض كلّ ما قد أبرموا
والدّمع في أثر الأحبّة سائل ... يا ويحه من سائل لا يرحم
يا هاجري وحياة حبّك متّ من ... شوقي إليك تعيش أنت وتسلم
لقد أدخل علمه في شعره، وجارى الشعراء في صنعتهم، واستخدم الأمثال والعبارات الشعبية، فطغت هذه الأشياء على قصيدته، فذهب الشعر وبقيت.
والمؤسف أن شعراء ذلك العصر كانوا يتابعون بعضهم بعضا في اصطناع ألوان البديع التي لم يسلم استخدامها من ثقل وتكلف، مثل متابعة الشعراء لبعضهم بعضا في إثبات الطي والنشر في شعرهم، وذكره باللفظ، فابن الدماميني قال في مدحة نبوية:
وأطوي بأذيال النّسيم رسائلي ... فأنشق عند الطّيّ من طيبها نشرا
وقال النواجي:
لي الله أحبابا طووا شقّة الفلا ... فأنشق عند الطّيّ من طيبها نشرا
فالصعنة البديعية في المدائح النبوية قلما جاءت خفيفة مقبولة، طوعها الشعراء للشعر، وأخضعوها للمعنى، وظلت حلية للشعر تحرك أسلوبه وتزينه، لكنها في الغالب كانت ثقيلة متكلفة، تمردت على الشعر، وأبت الاندراج في عالمه، فظلت ظاهرة نابية، طافية على السطح، جارت على المعنى والأسلوب معا، وأضحت ثقلا تنوء به القصيدة، بل أخذت المكان الأول في القصيدة، وكل العناصر الآخرى وجدت لخدمتها، بدلا من أن تخدم هي المعنى والأسلوب، حتى تطور الأمر أخيرا في هذا الاتجاه، فنتج عنه البديعيات التي ربطت رسميا بين البديع والمدح النبوي. وقد أسهب أصحاب البديعيات وكتب البديع في التنقيب عن فنون بديعية جديدة، وضربوا الأمثلة لها، وتوسعوا بها توسعا كبيرا، فلم يتركوا مذهبا من مذاهب القول إلا عدّوه من ضروب البديع، وتكلّفوا له تحديدا وأمثلة، فإذا لم يسعفهم التراث العربي على اتساعه، أو ما قاله أهل عصرهم، تكلفوا لها أمثلة من صنعهم. ولم أشأ أن أتبع فنونهم البديعية، وأمثّل لها من المديح النبوي، لأن شعراء المديح النبوي في معظمهم لم يلتفتوا إليها كلها، من ناحية، ولأن في متابعتها شططا وظلما للمديح النبوي من ناحية ثانية، ولأن الحديث عن هذه الفنون مرتبط بالبديعيات التي سيأتي ذكرها من ناحية ثالثة.