صفقة القرن بين الواقع والخيال بقلم أ. علي ابو سرور
تاريخ النشر : 2019-01-10
صفقة القرن بين الواقع والخيال

منذ انتخاب الرئيس الامريكي ترامب وحتى اليوم والصحف المحليه والدوليه تتحدث عن رغبة هذا الرئيس بحل الصراع الفلسطيني الاسرائليي من خلال افكار عبقريه وابداعيه بحيث تكون هذه الافكار مختلفه عن تلك التي طرحتها الادارات الامريكية المتعاقبه بما فيها فكرة حل الدولتين تلبية للوعود التي اطلقها ترامب اثناء حملته الانتخابيه . وتنفبذا لهذه الرغبه ، فقد قام ترامب باللجوء الى كبار مستشاريه في البيت الابيض وعلى رأسهم صهره تاجر العقارات الصهيوني جاريد كوشنير وكذلك السفير الامريكي لدى دولة الاحتلال الصهيوني المتطرف ديفيد فريدمان لمساعدته في ايجاد افكار ابداعيه لهذا الصراع، وعليه وبعد مشاورات ودراسات تمت في تل ابيب بينهم وبين المتطرفين في حكومة الاحتلال تم التوصل الى فكرة جديده تتجاوز حل الدولتين اطلق عليها اسم صفقة القرن . وبعد عرض هذه الصفقة على ترامب تبناها بالكامل دون ان يقوم بدراستها بشكل واقعي وموضوعي وبدون ان يسمع الى الطرف الاخر في هذا الصراع .
لا شك بان الرئيس الامريكي الذي تبنى هذه الصفقه قد تعامل مع ملف القضية الفسطينيه كصفقة تجاريه ينظر اليها بمنظار الربح والخساره ليس الا ، وكان الهدف الرئيسي من هذه الصفقه هو سعي الرئيس الامريكي الى تحقيق انجاز يسجل له يستطيع فيه ارضاء صهره كوشنر وكذلك خصومه في البيت الابيض من خلال منح دولة الاحتلال اكبر مساحة ممكنه من ارض فلسطين التاريخيه، وانهاء القضية الفلسطينيه بشكل كامل، وسحب ملفها من اروقة الامم المتحده، ضاربا بعرض الحائط القرارات الدوليه الكثيره التي صدرت لصالح القضية الفلسطينيه، هذا بالاضافة الى تنكره الى حق الشعب الفلسطيني في اقامة دولته المستقله وعاصمتها القدس، معتبرا بان فلسطين سلعة للبيع وهو مالكها الوحيد يتصرف بها كيفما يشاء.
وعلى الرغم من الغموض الذي يحيط بهذه الصفقه ، الا ان المعلومات التي رشحت عنها والتي تناقلتها العديد من وسائل الاعلام المختلفه تفيد بان هذه الصفقة في مجملها تجاريه تستند الى اغراءات ماليه كبيره تدفع للاطراف المشاركه فيها من قبل دول الخليج. ولكن من يقرأ بنود هذه الصفقه حتما سوف يستنتج بان الهدف الرئيسي لهذه الصفقه يكمن في السعي الى انهاء القضية الفلسطينييه بشكل تام وتحويلها الى مشكلة اقتصاديه ، كما انها تهدف ايضا الى الغاء فكرة حل الدولتين والاستعاضة عنها بقيام دولة مؤقته في غزه بعد توسيع حدودها على حساب سيناء ومن ثم الحاق ما تبقى من الضفة الغربيه (42%) بها بحيث يتم ربط هاتين المنطقتين لاحقا بالاردن، ولكن الاهم والاخطر في هذه الصفقه هو سعيها الى انهاء ملف اللاجئيين وحق العوده بشكل كامل من خلال توطين اللاجئيين الفلسطينيين في اماكن تواجدهم ومنعهم من العودة الى اي ارض فلسطينيه نهائيا، هذا بالاضافة الى تطبيع العلاقات بين دولة الاحتلال والدول العربيه قبل توقيع اي اتفاق سلام بين الفلسطينيين والاسرائيليين.
وما يثبت صحة ما نقول ما صرح به رئيس الكنيست الصهيوني يولي إدلشتين في الايام القليلة الماضيه، والذي قال بأن مصطلح "حل الدولتين"، قد عفا عليه الزمن، ولن يصلح للواقع السياسي في الوقت الحالي". وأضاف رئيس الكنيست: "لا أعتقد أن أي شخص بوسعه أن يقص على الخريطة، حدود الدولتين بشكل صحيح، للحصول على وضع مثالي، علينا أن نبدأ بالتفكير خارج الصندوق. كل هذه التصريحات حول دولتين لشعبين، وأن الحل الوحيد هو حل الدولتين، هي بكل بساطة، غير صالحة". هذا الحديث يؤكد بما لا يدع مجالا للشك بان صفقة القرن هي طبخه اسرائيليه بامتياز تم اعدادها في تل ابيت من قبل صهاينة البيت الابيض ومتطرفي حكومة الاحتلال.
ومن الواضح ايضا بان الرئيس الامريكي وافق على هذه الفكره الشيطانيه دون ان يراعي مشاعر الفلسطينيين اصحاب هذه الارض، بل استند الى موافقة حكام دولة الاحتلال وبعض الزعماء العرب المهرولين والمطبعين مع الكيان الصهيوني، معتقدا بان موافقة الفلسطينيين على هذه الصفقه هي تحصيل حاصل كونهم الطرف الاضعف في هذه المعادله . وبناء على هذه المعطيات، اخذ ترامب يتحرك على المستوى العربي والدولي لشرح هذه الصفقه ، ظانا بان البيئه السياسيه في المنطقه العربيه اصبحت ناضجه وجاهزه لقبول هذه الصفقه ، خاصة بعد ان تم ازالة معظم العقبات التي كانت تشكل خطرا على تنفيذها ومنها: تدمير العراق وسوريا وليبيا واليمن ، وتغير نظام الحكم في مصر، هذا بالاضافة الى الاستفادة من المشاكل الاقتصاديه الصعبه التي تواجه بعض الدول العربيه ، وكذلك حاجة بعض الزعماء العرب لتولي مناصب قياديه عليا في بلادهم والتي لا يمكن ان تتم الا بموافقة امريكيه، اضف الى ذلك كله ، حالة الفوضى وعدم الاستقرار السياسي التي اجتاحت العديد من الدول العربيه. هذه الاسباب وغيرها مكنت ترامب من الحصول على موافقة الدول العربيه المؤثره والمعتدله على هذه الصفقه، وما يدل على ذلك ما نراه اليوم من زيارات متبادله تطبيعيه بين مسؤولين عرب وصهاينه لعواصم عربيه ولدولة الاحتلال في تحد صارخ لمشاعرالفلسطينيين واحرار العرب وكذلك لقرارات الجامعة العربية التي اقرت بالاجماع المبادره العربيه المتعلقة بالقضية الفلسطينيه .
ولكن المفاجيء للرئيس الامريكي والذي لم يتوقعه ابدا ، هو رفض الفلسطينيين قيادة وشعبا لهذه الصفقة جملة وتفصيلا في تحد واضح وصريح للادارة الامريكيه، الامر الذي دفع بترامب الى المماطله في الاعلان عن هذه الصفقه، كما ان رفض الفلسطينيين للصفقه احرج العديد من حكام العرب الذين ايدوا هذه الصفقه والذين لم يتوقعوا ابدا بان يكون الموقف الفلسطيني بهذه القوه وبهذا التشدد، الامر الذي ادى الى تردد بعضهم وتحفظ البعض الاخر على قبول هذه الصفقه.
لا شك بان ترامب ادرك تماما بانه كان من الواجب عليه ان يسمع للطرف الفلسطيني قبل قبوله الصفقه حتى يتمكن من تقييمها بشكل موضوعي، خاصة وانه جاء من بيئة تجاريه بعيدة كل البعد عن تاريخ المنطقة العربية وحيثيات الصراع على فلسطين، وماذا تعني فلسطين للفلسطينيين وللعرب، ومدى ارتباط الامة العربيه بهذه الارض المقدسه ،وما هو الثمن الذي دفعه ابناء فلسطين مسلمين ومسيحيين منذ وعد بلفور وحتى يومنا هذا من اجل المحافظة على عروبتها.
ومما لا شك فيه بان الرفض الفلسطيني لهذه الصفقه قد احرج ترامب ، الامر الذي دفعه لاتخاذ سلسلة من الاجراءات العقابيه ضد الفلسطينيين قيادة وشعبا لاجبارهم على قبول هذه الصفقة المهينه ولارغامهم على الموافقة على بيع فلسطين لليهود المساكين والتي من اهمها: وقف دعم وكالة الانروا ، وقف جميع اصناف الدعم الامريكي للحكومة وللشعب الفلسطيني ، والاعتراف بالقدس عاصمة لدولة الاحتلال، والسماح لدولة الاحتلال ببناء مزيد من المستوطنات في الضفه الغربيه وضم الكتل الكبيره منها اليها، وفتح باب الهجره امام الفلسطينيين ، والضغط على الدول التي تستضيف اللاجئييين الفلسطينيين لتجنيسهم في اماكن تواجدهم ، واسقاط صفة لاجيء عن ملايين الفلسطينيين، ومنع توريث صفة لاجيء، وزيادة الحصار للقيادة الفلسطينيه وللشعب الفلسطيني ، وتشجيع استمرار الانقسام بين شقي الوطن، والتحريض على الفلسطينيين قيادة وشعبا واتهامهم بالارهاب، هذا بالاضافة الى وقف تحويل الضرائب من دولة الاحتلال الى السلطة الوطنيه الفلسطينيه.
من الواضح بان ترامب قد خضع لعملية تضليل وخداع من قبل صهره كوشنير وفريدمان وحلفاء اسرائيل في البيت الابيض والمتطرفين في حكومة الاحتلال من خلال اقناعه بان جميع اطراف الصراع موافقة على هذه الصفقه بما فيهم الفلسطينيين، وما يؤكد ذلك هو عدم قدرة هذا الرئيس على استيعاب فكرة رفض الفلسطينيين للصفقة باعتبارهم الطرف الاضعف في المعادله. ترى هل كان رفض الفلسطينيين للصفقه كافيا لاقناع ترامب بان الفلسطينيين ليسوا الطرف الاضعف في معادلة الصراع مع الاحتلال؟ وهل اقتنع هذا الرئيس بان الفلسطينيين هم من يمتلكون مفتاح الحل والربط في هذا الصراع؟ ترى هل تسائل الرئيس عن سبب رفض الفلسطينيين لهذه الصفقه؟ من المؤكد بان ترامب لم يعلم بان الفلسطينيون يؤمنون ايمانا قاطعا بانهم هم اصحاب ارض فلسطين الشرعيين من بحرها الى نهرها وهم لن يرضوا ابدا بان يكون مصيرهم كالهنود الحمر في ارضهم. ان الرفض الفلسطيني للصفقه كان ردا طبيعيا على الرواية التاريخيه المزوره المبينه على ايدولوجيه صهيونيه كاذبه تهدف الى تزوير تاريخ الارض الفلسطينيه لصالح الاحتلال بهدف الاستمرار في احتلالها والتي استطاع كوشنير وحلفائه اقناع الرئيس ترامب بها.
لا شك بان رد الفلسطينيين على الصفقه جاء ليؤكد لترامب وغيره بان القرار الفلسطيني لم يكن ابدا مناوره تكتيكيه بل هو موقف صلب وثابت ناتج عن قناعة راسخه لدى الفلسطينيين بان ارضهم ليست للبيع وان اي اتفاق سلام لا يستند الى العدل الذي يضمن حقوق الشعب الفلسطيني في العيش في ارضه بسلام وبقيام دولته المستقله كاملة السيادة وعاصمتها القدس لن يكتب له النجاح .
ترى هل ادرك الرئيس الامريكي بان الحكام العرب الذين وافقوا على هذه الصفقه ليسوا باصحاب قرار؟ وهل ايقن بانهم لن يجرؤوا على الموافقة عليها مهما كانت الاغراءات؟ وهل ادرك ترامب بان الشعوب العربيه من المحيط العربي الى الخليج لن يقبلوا بالتنازل عن شبر من ارض فلسطين؟ وهل ادرك ايضا هذا الرئيس بان كوشنير وفريدمان وصهاينة البيت الابيض قد اوقعوه في فخ خبيث سيؤدي الى تركه البيت الابيض؟
اما بخصوص صفقة القرن، فان نجاحها وتمريرها سيكون دربا من دروب الخيال وسيحل بها ما حل بسابقاتها من المبادرات والخطط مهما طبل لها المطبلون او صفق لها المهرولون ، لان السلام الذي لا يستند الى العدل ولا تقبل به الشعوب لا يدوم.

بقلم أ. علي ابو سرور