كم كلفك هذا الهدوء؟!بقلم : محمود حسونة
تاريخ النشر : 2019-01-09
كم كلفك هذا الهدوء؟!بقلم : محمود حسونة


1- سِيّان!!!
من اين جاءت ومتى وكيف تسللت داخلي بقوة لتصير حالة تيه مفرط لامتناهية؟؟!!!
لكنه تيه جميل جعلني أدور معه وأتمادى في جنونه، لقد حررني من كل خوفى وقيودي ومن كل ما يحيط بي، لقد خرجت فجأة من نقطة اعتبرتها ميتة في حياتي!!!
إنها مدهشة بحيويتها وجرأتها وجنونها، لقد ملأت حواسي، وتحركت في دمي، وهمست بنعومة في قلبي!!! صرت بدونها أشعر بالملل والرتابة وضيق غريب، وأجد صعوبة مع غيرها، فأشعر بحاجة ماسّة لها!!! إنّ لها تأثير غريب!!!
يا إلهي، إنّ أصعب عقاب يتسلط على الرجل أن يصير معلقا بين امرأتين واحدة زوجته والأخرى…
لا أدري ما هذا؟؟!!! إنها حالة ملتبسة بين الجنون والتعقل!!! حالة يصعب تبريرها أو فهمها!!!
هل صنعتُ لها هالة كبيرة وخادعة لا تستحقها؟؟!!! هل هي لعبة إغواء شيطانية سأغرق فيها؟!!
إنّي أخفي سرا مشتعلا في داخلي… إنه ليس سرا، إنه قنبلة موقوتة قاتلة، قد تنفجر في أية لحظة ولا بد من نزع فتيلها بسرعة!!! لكن كيف يكون ذلك؟؟!!
إذن لا بد من الصراحة والصدق...
نظر إليها لقد كانت منكسرة بشكل عميق!!!! أنفاسها متقطعة… تتنهد تنهيدات عميقة مختنقة… هل عرفت ذلك؟؟!!
قالوا أن المرأة تستشعر الخطر من بعيد بمجرد أن تنظر في عينيك!!! وأنها تدافع وبشراسة منقطعة النظير عن مساحتها الخاصة، وقد تتحول إلى قاتلة!!!
أغمض عينيه المتعبتين الحائرتين محاولا أن يغفو، ما زال رأسه مليئا بالحيرة وبالأسئلة الغامضة الصعبة!!!
في غفوته القصيرة الباهتة، رأها تنسل من الفراش كلص وهي تمشي على أطراف أصابعه حتى لا توقظه …. وما لبثت أن غادرت!!! إلى أين تذهب في هذا الوقت من الليل؟؟!!
لحق بها كانت تمضي تحت أضواء المدينة كالتائهة بخطوات ثقيلة هزيلة، وخلفها ظلها الطويل يتبعها كحارس ليلي لا يفارقها!!! كأنها تشكو له أحزانها وجروحها وهمومها الثقيلة، تشكو بصمت كما يفعل العشاق الهائمون…
شعر بخليط هائل من الشفقة والحزن، من الخيانة والجحود لميراث يستحق الوفاء، وتذكره بالوحشية المقيتة للإنسان عندما يتنكر ويترك من أعطاه كل شيء على حافة هاوية قاسية، أخذ كل شيء منهم ولم يقدم شيئا، بل أعطاهم الحسرة!!!
إنه يتحول بذلك إلى قاتل ومقتول فيخسر كل شيء بضربة واحدة!!! لقد أيقظت إنسانيته العميقة الدفينة الرائعة، أدفأ ما فينا كبشر!!! ولكن أحيانا تميت المرأة روح الحياة، وتنسى كل ما حولها دون نفسها!!!
ناداها بأعلى صوت، وظلّ ينادي حتى سمعته كل المدينة، لقد سمعه حتى النائمون إلا هي!!!!
أخيرا وقف قبالتها … فأغمضت عينيها كأنها لا تريد أن تنظر إليه!!! رأها كما لم يرها من قبل حزينة كسيرة منطفئة...ووجها الطفولي قد هيكله أسىً عميق!!!
تبعثرت الكلمات التي كانت قد ازدحمت في جوفه!!! أحسّ بالخجل يغسله من أعلاه لأسفله!!! أحس بكل شىء يضيق من حوله وكأنه في سرداب ضيق وملتوٍ!!!
-علينا أن نجتمع ونتفاهم للخروج من هذا السرداب وهذا الجنون، لن نخرج إلا إذا شعرنا بحاجة لبعضنا!!!
ثمّ صمت طويلا.
- لست مجبرا على الكذب… نعم حدث هذا!!!
لسنا ملائكة، نحن بشر ضعفاء مسكونين بالهشاشة...
وضعت كفيها على أذنيها، وكأنها لا تريد أن تستمع لتبريرات تكرهها وتراها سخيفة… حاولت أن تنسحب فوقف أمامها ليمنعها…
كادت أن تصرخ من قاع قلبها صرخة توقظ كل المدينة النائمة!!! صرخة سكنت في داخلها كالعاصفة!!! عادت وزمّت عينيها المتعبتين وعصرتها بألم، إنها تشعر بأنه يشق جرحا عميقا بداخلها!!!
تنهدت تنهيدات متتالية، وزفرت زفرة ممتدة، إنها تحاول أن تتكلم، ولا تقدر، وكأنه لا يستحق ذلك!!!
-ألا تعرف أن ذلك أسوأ ما يمكن أن تصنعه مع امرأة وأقساه وأكثره ظلماً، إنه خيانة وجريمة، لا تقدر على مخاطرها!!!
خرجت الكلمات من جوفها متحشرجة صاعقة وطاعنة، كان كلامها بسيطاً ولكنه جارحا.
-اعذريني على ما سأقول، لأول مرة سأواجهكِ بهذا الكلام!!!!
لن أكذب، وبصراحة مطلقة، لقد أدهشتني بتصرفاتها وفاجأتني بجمالها وسحرها الفريد، و بثقافتها وثقتها الراسخة بنفسها، هل أنا مجنون في هذه الحالة؟؟!!!
بدأت تستعيد قوتها إنها في حالة الدفاع المميت عن نفسها وكرامتها!!! شعرت أنها معلقة في الهواء وعليها ان تتشبث بأي شيء!!!
-أنت واهم ومخدوع بها، فهي ليست بهذا السحر أو هذه الدهشة كما تظن، لقد خلقْتَ لها هالة لا تستحقها!!!
- هل تعرفينها؟؟!!! هذا غير مهم، أعرفها أو لا أعرفها … إنها مثل هذا النوع من النساء المحترفات في المناورة واللعب بالعواطف!!! إنها صناعة ذهنك لا أكثر!!! وقد حولتها لكائن يفوقنا ولا يشبهنا بل يتجاوزنا!!!
- رأيي بصدق، ليس كما صورتيها، ولا لأنها جميلة وساحرة، ولا لأنها بالدهشة والأناقة، ولا كونها مناورة محترفة!!! فهناك قواسم مشتركة بينك وبينها في الكثير، بل لأنها انبثقت فجأة من حيث انقطعت أنت… لست غبيا لخوض مغامرة حُسمت نتائجها مسبقا، امرأة بهذا الشكل تستحق التقدير مني أو من غيري!!!
- أنا لست قارئة فنجان أنجّم وأخمّن، ولكن مثل هذا النوع من النساء لا ترتاح إلا إذا شعرت بأنها تتملكك، تريد ان تلتهمك كلبوة جائعة دون تردد، لن أقول لك أني أخاف عليك، لكني أقول لك إني أشفق عليك!!! المشكلة ليست فيها، المشكلة فيك أنتَ!!!
لم يكن بحاجة إلى إقناعها، ولم تكن هي أيضاً بحاجة إلى إقناعه، ولم تكن الفرصة كافية لأن تعيدهما إلى دفء العلاقة القديمة القديمة!!!
قالت وللمرة الأخيرة وهي تبتعد بخطوات متسارعة، وقد صار صوتها نقياً وواضحاً أكثر هذه المرة، أنت لا تعرف مثل هذا النوع من النساء!!! لن تكون امرأة معجزة في حياتك كما تتصور، ستكون مثل أية امرأة عادية، و ستعرف ذلك بالتجربة!!!
كانت المدينة خاشعة لشلال من الأنوار الساطعة، فرأها تتماهى مع أنوار المدينة الساطعة لتتحول لرذاذ كثيف من النور المتناثر، كالشهاب التي يشتعل للحظات ثم يتفرق متلاشيا!!!
وقف طويلا صامتا، كأنه ينتظر أمرا ما!!! وأحسّ بقلق يملأه ويظلله، وأنه داخل تيه دخله ويبحث فيه عن مخرج !!! يخشى أن يصاب بها كما حدث له قبل سنوات!!! عليّ أن أفهمها جيدا!!!
هناك خيط ناعم ودقيق شفاف يتسرب عبر طرقات المدينة وأنوارها وأبنيتها يشق طريقه إلى داخله بنفاذ غريب …. ما زالت ملامحها عالقة بعينيه متشبثة بقوة في خاطره، لم يبق في ذهنه غيرها!!! هاهو يشتم عطرها الذي يلتصق به ويحيطه كهالة من الألوان، كيف انزلقت إلى داخلي بهذه القوة؟؟!!
هل في مثل هذه الحالةيبقي الإنسان وفيا ؟؟!!!
2- أبوّة...
عصافير الصباح تنقش الهواء، الصباح فضي شتائي، ما زلت في فراشي نصف نائم، حين دخل أطفالي، فلم أستطع تحقيق خلوتي المنشودة، بدؤوا يشاركونني دفء الفراش، وقد أحاطت وجوههم بي من كل جانب...
حاولت ترتيب كلمات النص الأدبي، لكنها كانت تتمزق على شفرة أصواتهم و عبثهم، نهضت بخواطري المشحونة، ودخلت الغرفة المغلقة، أمسكت بأصابعي الباردة القلم وبدأت أفرغ خواطري من مخزونها...
بدأت الأبوّة تفيض أثر انحباس!!! فأشعر بدوار ناعم، صوت ابنتي الصغيرة يسكن أذني وهي تبحث عنّي، ورائحة زكية تفوح من صوتها تملأحواسي، صوتها بطيئ هامس كوزن إيقاعي يهز مشاعري، صوتها صورة ، صورتها صوت!!!
هرعت من مكاني وفتحت الباب، و جثوت على ركبتيّ، فارتمت في أحضاني وهي تطلق ضحكة صافية كنقش العصافير، وأظافرها الطرية تخمش رقبتي، فرُحت أملّس على شعرها، وأمسح ماء دموعها الصافي؛ فأشعر بسحر لا يرى، سحر لا يمسك!!! في الوقت الذي كانت فيه الأوراق تنزلق عن المكتب من نسمة نظيفة.
3- مساحة!!!
سمع وقع خطوات، ثمّ رأى ظلًا يتمايل… أخيرا ارتسمت أمامه بكامل حشدها وجبروتها!!! شعر بدوار ناعم جميل وهو يتأمل وجهها الذي لامسه ضوء الشمس الخافت فكساه حمرة وردية!!! إنها مساحة مستحيلة وغامضة للاكتشاف البطيء...أشعلته بابتسامة مشرقة في لحظة سريعة، فأغمض عينيه قليلا، فرآها مثل حلم مرَّ به ذات ليلة!!!
أراد أن يسألها على الأقل عن اسمها، لكنه تراجع، لأنه ظنَّ أنَّ سؤاله سيبدو هزيلاً وتافها!!!
لقدغادرت وشعرها الأسود الطويل يتهدل على كتفيها ويغطي وجهها فبدت كحورية هاربة في فضاء لا حدود له!!!
التفتت نحوه فجأة كأنها تودعه، فدار معها شعرها الأسود الناعم فنسج دائرة من الضوء الكستنائي اللامع!!!
ما سر التفاتتها؟؟!! أهي تعرفه؟؟!!! أقابلها ذات مرة؟؟!!
لقد ظللته كغيمة باردة في لحظات كاللسعات!!! وغادرت كقطعة ضوء نضرة تخترق الظلال والنوافذ!!! كانت ضيفة انطفأ بريقها، ولم يبق منها إلا علامات باهتة!!!
كان عليَّ أن اسألها أكثرو أكثر!!! كم كنت غبياً!!! لقد كانت هنا، في هذا المكان بالضبط!!! وهربت منّي إلى مكان لا أعرفه!!! لاأفهم ما حدث!!! أتكون صدفة قاتلة لتراها مرة وحيدة، أم تصير البداية لقصة طويلة، ربما سأحكيها لها يوماً إذا جمعتنا الصدف!!! هي الحياة، قد تحملنا أحيانا خيبة ثقيلة لا نقدر عليها حتى النهاية….
كلما عثر عليها بالصدفة أعاد قراءة سطورها بعد أن كاد أن ينساها، إنّ لها سلطان قاسٍ وجبروت أكبر، تجتاحه كموجة عاتية تجرفه معها، وتشعل الشوق المجنون النائم في رأسه!!!
في المرة الأخيرة كاد أن يشعل ناره بها وهو يلامسها بعينيه، ويضيء الخفايا المعتمة فيها!!!!
ظل قويا متماسكا يومها، أراد أن يتجرأ و يسألها عن كل شيء، عن حياتها بالتفصيل، وكأنه متأكد من قبولها، لقد خاف أن يفقدها!!! وثق من ابتسامتها المشرقة في وجهه!!! لن تكون هذه المرة كالمرات الماضية، تأتي وتذهب دون كلام!!!
- أنا لا أطلب أكثر من ذلك!!! لن أتخط هذا الحد!!!
نظرت اليه بعينين دافئتين!!!
- من قال لك أني لم أقصد ذلك؟؟!! قد كُنت حوريتك الهاربة من جنة لياليك الحالمة، أليس كذلك؟؟!! عليك أن تعرف أن الإنسان ليس كياناً تافها يهيم في الفراغ، وعليه أن يدفع عنه وباستمرار الفشل والضعف !!!
أحياناً أرى في عيون الكثيرين مشروعا محتملا قاتلاً، مشروع حياة سريعة مسروقة، اسمه الزواج ما يلبث أن يشيخ بسرعة وينتظر فرصته المخيفة ليقف بالاثنين على حافة الهاوية!!!
لم تسأله عن أي شيء يخصه!!! لقد تأكد أنها كانت تعرف عنه الشيء الكثير…
ثمّ واصلت باندفاع أكثر…
-لا ترهن حياتك بزواج تافه، بفتاة تستعبدك أوتستعبدها باسم حب سريع وورقة زواج لا تساوي الحبر لذي كتبت به!!!
وإلا ستكون مثل الآخرين، الذين يهتمون بالقشور التافهة للزواج وللحياة، ولا يعرفون شيئا عن المراة سوى أنها تحت تصرفهم!!! و أنها حاجة شهوانية ينهشونها بطريقة مقرفة، وكأن الأمر لا يعنيها مطلقا!!! ويتركونها تكابد مصيرا مأساويا محتوم بالفشل!!!
شعر بأنَّ كل كلمة قالتها كانت حكمة متقدة!!! وأنه يقترب منها أكثر فأكثر، وكأنه عرفها وأحبها منذ كان طفلا!!!
- لا تقبل بأية فتاة ما لم تعطيك ماتحب، ولا أقل منه وعن نفس راضية وإلا فتلك خيانة حقيقية، عنئذٍ ستحفظها في قلبك، وستملأ قلبك وعقلك بحبها وحمايتها كوديعة ، وإلا ستكون جاحدا!!! ولو غابت فستبقى في ذاكرتك الأبدية!!!!
بذلك لن يموت حبكما وسيبقى يحفر و ينغرس فيكما حتى آخر العمر!!!
إنها أوّل فتاة تخترق وعيه بجدارة وحكمة وحنكة، فازداد خوفه من أن يكون غير قادرعلى حبها بالطريقة المثلى، وأن يخونه يقينه بحبها، فأحس بالبرودة تنهشه، وأنه على الحافة بين الجنة والنار!!!
ثمّ جاء صوتها أكثر دفئا و نعومة ووضوحا!!!
لا تخف، ولا تتسرع، لا أطلب منك أن تحبني، وأن تمتلئ بي إلى حد اللارجعة، التسرع يقتل الحب بسرعة في العقل وفي القلب!!! انظر لمن تحب بعينيك وقلبك وعقلك، بصبر وتأمل وتأنٍ، ستكابد صعودا وهبوطا!!! لكن في النهاية ستطمئن كثيرا لخطوتك التالية!!!
مدت يدها الناعمة ووضعتها في يده فشعر بدفء لذيذ؛ وأحس بنورٍ يخترقه ويتمادى عميقا في داخله!!!
همست في أذنه وهي تسحب يدها قائلة: سأراك قريبا!!!
تركته ومضت وقد ظلّ يراقبها بعينيه الحارتين، حتى خفت وميضها وانطفأ، وكلماتها ما زالت تتردد عليه كأنها تأتيه من البعيد محملة برذاذ النسائم العطرة!!!
4- قصة أبي!!!
لكن المركب امتلأ!!! فحملتني وحشرتني في المركب!!! كنت صغيرا ابن عشر سنوات أو أقل، قالت: لا تخف سألحق بك في مركب آخر لن أتأخر!!!
كان الشاطئ يعجُّ بالخلق الضعفاء، لقد دفعهم الغرباء بقسوة وقوة نحو الشاطئ!!! ليس أمامهم سوى البحر وموجه العالي الداكن، وفوقهم سماء تشتعل بالحرائق، ويحيط بهم ضجيج عال بالصراخ والدعاء ونواح الأطفال!!! كانت الملامح جامدة، كملامح من يصلبون للموت ويعرفون أنهم سيقتلون بعد قليل، وأنهم في انتظار الرصاصة القاتلة!!!
صار المركب يعلو ويهبط … وأخذ يبتعد وأنا أراقب أمي،
كان وجهها الأسمر الصغير ملطخ بالطين والتراب، وثوبها مغسول بالدم، إنه دم أبي، لقد رأيته ينزف بعيني، ثمّ إنها دفنت رأسه في حضنها حتى لا أراه، وهو يلتقط أنفاسه الأخيرة، لقد أصابوه في عنقه وصدره!!!
رأيت العالم كله ينطفئ في عينيّ أمي العسليتين!!! وعرفت أن شبابها وطموحها قد اندثر ككومة تراب تبعثرت!!!
غطس قرص الشمس في مياه الأفق البعيد، وهبط الظلام بسرعة غريبة!!!ا وأخذ المركب يشق طريقه الليلي مبتعدا عن الشاطئ وعن أمي!!!
لفحت وجهي ريح باردة؛ فأحدثت فحيحا في أذنيَّ!!! والظلمة الحالكة أخذت تفرز رعبا، فصرت أرتقب انقضاضا مباغتا ومجنونا، فينكمش قلبي الصغير؛ فأضع كفيَّ الصغيرتين على رأسي؛ لأعلن استسلامي لقدر مجهول!!!
لماذا لم ترافقني أمي في هذه الرحلة القاسية؟؟!!! لقد تركتني وحيدا بائسا!!! والذل يأكل قلبى وجسمي!!! أيُّ لعنة حلّت بي!!! هل ستلحق بي كما وعدتني بصحبة أبي فقد يكون حيًّا!!!
كان الانتظار مرًّا في الصباح التالي، كنت في فراغ مغلق كفقاعة رغوة، ثمّ اكتشفت كلَّ شيء في لحظة مجنونة واحدة، اكتشفت أن أمي لم تعد!!! أمي ضاعت مني كما ضاع كل شيء!!! لا أرى أمي فلا أرى مخلوقا في هذا العالم، الذي صار قبيحا بغيابها!!!
أخذت أرتعد فجأة، لقد صرت وحيدا تماماً، غارقا في غربة مستحيلة لا أمٌ ولا أبٌ!!! كأني الوحيد في هذا الكون خارج عن الزمن الحقيقي!!! لقد اصطدمت بالحياة على هذه الصورة
المفجعة!!!
لماذا تركت أمك على الشاطئ؟؟!! لماذا هربت وتركتها؟؟؟!!!
لم أتركها، ولم أهرب، قالت سألحق بك في مركب آخر!!!
هل تعلم أن المركب الذي ركبته قد غرق بعد أن أطلقوا عليه وأصابوه؟؟!! أو أنهم قتلوها على الشاطئ لتنضم لقافلة أبيك قبل أن تصعد للمركب!!! عليك أن تصّدق ذلك!!!
كل يوم أذهب إلى الهضبة المفروشة بالحصى، افترش الحصى البارد صامتا بلا حركة ولا صوت!!! أحدّق كصقر صغير في المساحة السوداء التي تمتد أمامي، أراقب قدومها عبر البحر الممتد إلى الأبد!!
كنت أتخيلها أحيانا كحزمة نور معلقة في السماء، تشعُّ متلألئة من خلال السواد القاتم، فأمد كفي المرتعشة نحوها لألمسها، ألمسها فقط!!! لكنها كانت تختفي فجأة كما ظهرت فجأة!!! فكرت كثيرا في أن أظلُّ واقفا مغروسا كشجرة فوق هذه الهضبة في العراء إلى أن أموت!!!
لقد ضاعت أمي منّي، كما ضاع كل شيء منّي!!! لقد ضاعت أمي منّي فضاع كل شيء منّي!!!
من يرى أمي من أهل الأرض أو السماء فليسلم عليها، وليبكِ على كتفها بدمعي!!!
5-احتجاج...
أنت وحدك ووحيد!!! حقيقي وغير مزيف!!! هادئ ورزين!!!
كم كلفك هذا الهدوء؟؟!!
هل الحياة ثقيلة عليك؟؟!! لماذا؟!!
أنا لا أعلم !!!
لكني أعلم أنك ثقيل في مشهدنا؛ لأنك تحتج بقوة!!!؟؟؟
بقلم:محمود حسونة(أبو فيصل)