لعنةُ إيزابيلا بقلم: ناديا العلي
تاريخ النشر : 2019-01-07
ناديا العلي | كاتبة سورية

إنّها الثانيةُ بعد منتصف الليل، أحدَّق بها منذ ما يقارب النصف ساعة، لا زالتْ متسمرةً تشير إلى ذات التوقيت، تمامُ الثانيةِ من ليلةٍ شتويةٍ معتمةٍ، زَادُها الريحُ و بهجتُها العبثُ ببناتِ الشجر، فيظهرُ الحفيفُ على هيئةِ مناجاةٍ ليليةٍ تستجدي عطفاً أو تطلبُ مُناجدة، و للوهلةِ الأولى خِلتُ أن هذا الصريرَ منبعثٌ عن عبثِ الهواءِ بخشبِ النوافذِ القديم، لكنه يزدادُ حدةً و يزيدُني رعباً فوق رُعب، يقتاتُ أمنَ روحي و يعيثُ ببقايا الطمأنينةِ فيَّ فساداً عظيماً.
شددتُ غطائِي عليَّ حتى أخفيتُ داخلَه وجهِي و تشبثتُ به بكاملِ قوتي، إنها ليلةٌ باردةٌ حقًّا ، أقضِيها بحكمِ العادةِ وحدِي، إذ أنَّ لي أباً يقضي جلَّ وقتِه بالترحَال من هنا إلى هناك دونَ أن يكترثَ لوجودِي حتّى سكانُ القريةِ يتهمونَه بالجنون، و أنا لا أُنكر غرابةَ أفعالِه، إنَّه يصرخُ فجأةً ثم يهمدُ دونَ حراكٍ لساعاتٍ طِوال، يتكوَّر فيها علی نفسِهِ شاخصَ البصر، مرتعشَ البدن، يتصببُ من جبينهِ العرقُ كماءٍ منهمر، أركضُ نحوه كل مرة فيدفعُني بعيداً، ينتفضُ مذعوراً و يتواری عن ناظريَّ خلف باب غرفتِه، يقفلُ على نفسهِ و ينتحبُ كثكلَى على رُفات وليدِها، و لطالَما أثارَ هذا فيَّ العَجب! أيعقل أن يبكي رجلٌ بهذهِ الحدَّة ؟!
و إن هذا لسؤالٌ عقيم لم أجد له جواباً.
آه .. يا إلهي ، صوتُ الصريرِ يتعالَى، بيدَ أنَّ الريحَ تشتدُ عتواً، و أنَّ هذا الحالَ مستمرٌ حتّى الصَباح، و أي صباح تراهُ يأتِي إذا كانت عقارب الوقتُ لا تبرح موضعها!
إنّها تمامُ الثانيةِ مجدداً ، أيعقلُ أن عطباً ما أصابَ الساعَة؟ كيفْ و أنا لازلتُ أسمعُ وقع تكاتِها؟
الخوفُ يتقدُّ داخِلي كشعلةٍ من لهب، و أبِي اختارَ التوقيتَ الخطأَ ليتركني وحيدةً مجدداً و يرحَل إلی حيثُ لا أدري، الأضواءُ تهتزُ يمنةً و يُسرى، يبدو أن التيارَ سيُقطَع، أوه .. لقد قُطعَ بالفعِل، يا لها من ليلةٍ مُريبة!
ماذا؟ وقعُ خطىً؟ هل تراهُ عادَ أبي؟! ؛ ترجلتُ من فراشي بلهفةِ الذي عثرَ على ملجأ له و سارعتُ الخطی أنيرُها بضوء شمعةٍ تكادُ أن تفنى، أسابقُ الرعبَّ الذي يتسلّلُ إلى جوفِي علّنِي أكفُّ عَدوَهُ بقليلٍ مِن أَمانٍ مسروقٍ من تباريحِ وجهِ أبي المُبهمة، دلفتُ من البابِ الی خارج الغرفة و نزلتُ الدرجَ إلى الطابقِ السفلي، عجباً ! ؛ ما مِن أحدٍ هنا، بابُ البيتِ موصدٌ كما تركتُه، و لا دليلاً علی مجيءِ أحد.
سبقَ الرُعبُّ أمانِيَّ المُتداعي و فجَّر نفسه كحزامٍ ناسفٍ داخِلي، أطرافِي المرتجفةُ لم تعدْ تقوى على حملِي، و دربُ العودةِ إلى فِراشِي باتَ طويلاً و شاقاً، لكن عليَّ أن أعود بخوفٍ أدرتُ نفسي باتجاه الدَّرج و هممتُ بالصعودِ، لكنَّ خيالاً ما ارتسمَ علی الجدار المُنارِ بضوءِ شمعتيَّ المتهادِي و دلفَ غرفتَنا المهجورَة، رأيتُه بأم عيني يدخلُ الغرفةَ المحظورة التي تتوسطُ صدر بيتنا، تلك التي لطالما مُنعتُ من الاقترابِ منها حتی تناسيتُ وجودها، إنّي على يقين بأني رأيتُه يتوغلُ عُمقها، غللتُ يدي إلى صدري و أمسكتُ بقلبي خشيةَ أن يَقع، ادعيتُ شجاعةً زائفةً و عزمتُ أن ألِج وراءَ الظلَّ لأتأكدَّ من صحةِ ما تهيأَ لِي، و بخطوةٍ مترددةٍ بين التقدُّم و التراجُع أتممتُ عشراً نحوهَا، صوتُ الصريرِ يتعالَى، إذاً لا شكَّ أنَّه مبعوثٌ مِن هُنا، أمسكتُ قبضةَ الباب المواربِ بيدٍ ترتعش و دفعتُها بحركةٍ خاطفة ليفتح الباب علی مصراعيهِ، و تفتح عينيَّ عن آخرهما على هولِ المشهد، الصريرُ ينبعثُ بصخبٍ مِن هذا الكرسيّ المهتزِّ جيئةً و ذهاباً، تعتليهِ امرأة بثوبٍ رثٍ ممزق، وشعرٍ مبعثرٍ يغطي أكتافها، تُقعِدُ في حضنها شيئاً لم أستطع تمييز ماهيته، سرت قشعريرة محتدةٌ في أنحاءِ جسدي، و بصوت كاد أن يختنق سألتْ:
- م ... م .... من ..... أ ... أ ... أن .. أنتِ ... ؟
خمدَ صوتُ الصريرِ المدويِّ فجأة؛ ليعلو فوقَ إزعاجهِ صراخٌ تفتقَ مِن عمقي حينَ أدارتْ نحوي وجهَها٬ ثم وقعتُ مغشياً عليّ.


ناديا العلي