مظاهر التطور فى النثر العربى الحديث ‏ بقلم د. إبراهيم عوض
تاريخ النشر : 2018-12-17
مظاهر التطور فى النثر العربى الحديث
د. إبراهيم عوض
آداب عين شمس - القاهرة
======

الأسلوب:‏
مر النثر العربى فى العصر الحديث بألوان من التطور خَلّفَتْ وراءها ‏مظاهر متعددة فى الأسلوب، وفى الفنون الأدبية، وفى المضمون، وغير ‏ذلك. ونبدأ بالأسلوب، ومن مظاهر تطوره أن كثيرا من الألفاظ التى كانت ‏منتشرة الاستعمال قبلا قد ماتت واحتلت مكانها ألفاظ أخرى لم يكن ‏للعرب القدماء بها عهد. لقد اختفى مثلا كثير جدا من المفردات البدوية ‏وما إليها، وجدّت ألفاظ أخرى كثيرة تتعلق بمكتشفات الحضارة والعلوم، إذ ‏لم يعد قلم الأديب الآن يجرى بألفاظٍ مثل "هِرْكَوْلَة وعُطْبول وخِنْذيذ ‏وقَيْصوم وأُثْفِيّة وشِمْراخ ونُؤْى وعَرْصَة ووظيف وثَفِنَة وذَبْل وظَلِيم ‏وسِرْحان ووُكْنة وبَتّ وحَيْس ولُهَام ومَجْر ومُخْرَنْبِق، وأَشْوَى وأَصْمَى ‏وأجَافَ...إلخ"، وهو كثير يُعَدّ بالآلاف. كما اختفت أيضا صيغ كثيرة ‏مثل: "خِفّ (أى خفيف)، ونَجِيّة (أى ناقة سريعة)، وتَعْدَاء (أى عَدْو)، ‏وتَنْقَاد (أى نَقْد)، وغُيُوب (أى غِيَاب)، وخِياَط (أى إبرة)، وعُقَام (أى ‏عقيم)، ومحتظِر (أى صاحب حظيرة)، وحُسّانة (أى شديدة الحسن)، ‏وطُوَال (أى طويل)... وهلم جرا". ونفس الكلام يصدق على الأفعال، ‏سواء منها الألفاظ أو الصيغ، مثل: "بَتِعَ، بَجَدَ، ثَحَجَ، دَئِصَ، شَتَرَ، فَحَثَ، ‏تكأكأ، اثْبَجَرَّ، ابْذَعَرَّ، اسْلَنْطَأَ، احْمَارَّ، تَدَهْدَى، اخْرَنْبَق، ضَحْجَرَ، ‏عَبْهَلَ، انْبَاعَ، تَلَجَّفَ، اسْبَطَرَّ...إلخ". وبعض هذه التطورات ليست ‏وليدة العصر الحديث، بل تمت قبل ذلك بوقت طويل أو قصير.‏
وفى المقابل دخلت العربيةَ آلافُ الألفاظ الجديدة، وبعضها مستعار ‏من هذه اللغة الأجنبية أو تلك دون تغيير، مثل "أوكسجين وهيدروجين ‏وسينما وراديو وتليفزيون ومُوتُور وميكروكروم وفِلْم وإنترنت وكمبيوتر ‏وسوبر ماركت"، وبعض هذا المستعار قد تم تعريبه، أى إعطاؤه شكلا ‏عربيا بإجرائه على وزن من أوزاننا الصرفية، مثل "التلفاز والتقنية ‏والقرصان والبنزين و(حيوان) الرنّة و(حيوان) اللامَة والفَكْس، وتَلْفَنَ فلانًا ‏‏(أى كلمه فى الهاتف) ومَنْتَجَ (بتعطيش الجيم، أى عمل الموتناج) ‏وتَمَكْيَجَتْ المرأة (بتعطيش الجيم أيضا، أى وضعت مساحيق الزينة على ‏وجهها)...إلخ". وبعض ثالث تُرْجِم إلى العربية ترجمةً كـ"القطار والمذياع ‏والمِرْنَاء والسيارة والباخرة والغواصة والدبابة والطيارة والحاسوب (أو ‏الكاتوب كما أُوثِر أن أسميه) والهاتف والشطيرة والدارة وشمعة الاحتراق ‏والكابح والتكييف والصحيفة والمجلة والمرْأَب والرأسمالية والاشتراكية ‏والشيوعية والبِنْيَوِيّة والعَوْلَمة والخصخصة والتطبيع والرأى العام وتصادم ‏الحضارات والكتلة الشرقية والكتلة الغربية والحرب الباردة والدُّبّ الروسى ‏والتنّين الصينى والعمّ سام والتنويم المغناطيسى والتحالف الدولى والأصوليّة ‏وألفاظ العقود كالعشرينات والثلاثينات والأربعينات"، وهو ما يصعب ‏تقصيه وإحصاؤه. وبالمناسبة فقد يكون للمعنى الواحد أكثر من لفظ، ‏مثل: "تليفزيون/ تِلْفاز/ مِرْنَاء".‏
كذلك عرفت ألفاظنا اشتقاقات لا وجود لها فى الصرف العربى ‏كما فى الكلمات التالية: "أَسْلَمَ أسلمةً، وتأقْلَمَ تأقلُمًا، وتَمَرْكَزَ وتَمَدْيَنَ ‏وتَمَحْوَرَ وتَمَفْصَلَ وشَكْلَنَ وعَقْلَنَ، ووحدوية وثوروية وتاريخانية ‏وشكلانية، وبيضاوىّ وإسلاموىّ وفتحاوىّ". ويتصل بهذا أيضا التوسع ‏فى ألفاظ المصدر الصناعى فى مجال المذاهب والأديان والاتجاهات ‏الفلسفية والاجتماعية والأدبية وما أشبه، مثل: "الكونفوشيوسية والشنتوية ‏والطوطمية والمحسوبية والتقليدية والرجعية والذرائعية والوجودية ‏والماركسية والنازية والفاشية والصهيونية والمادية والمثالية والعقلانية ‏والستالينية والناصرية والقومية والإنسانية والكلاسيكية والرومانسية ‏والأسلوبية والأسطورية والبنيوية والشِّعْرية والنجومية"، وهلم جرا. وفوق ‏هذا لم يعد هناك كبيرُ تحرُّجٍ من النسب إلى "فَعِيلة" وصيغة الجمع كما هما، ‏مثل: "طَبِيعِىّ وطَلِيعِىّ وغَرِيزىّ وسَلِيقىّ وبَدِيهىّ"، و"أخلاقىّ وجماهيرىّ ‏وطُلاّبىّ وعُمّالىّ وعقائدىّ وعجائبىّ وذرائعىّ وشوارعىّ وقُبُورىّ وكُتُبِىّ ‏وأصولى". ومن هذه الاشتقاقات أيضا بدء بعض الأسماء والصفات ‏بــ"لا"، مثل: لادينىّ ولا أدرىّ ولامركزىّ ولامبالاة واللامعقول واللاشعور ‏واللاوعى واللاجدوى، وحالة اللاسلم واللاحرب، ونقطة اللاعودة، ‏و(الجشع) اللامتناهى".‏
على أن الأمر لا يقف عند حدود الألفاظ والصيغ، بل تدخل فيه ‏أيضا التعبيرات والصور التى لم تكن تعرفها لغة الضاد من قبل، مثل: "أعطاه ‏الضوء الأخضر، والكرة الآن فى ملعبه، ويغرّد خارج السرب، ووضع فلانا ‏على الرف، وشعر بالألم حتى النخاع، ودق طبول الحرب، ويصطاد فى ‏الماء العكر، وينشر غسيله القذر أمام الناس، وأدار ظهره للمشكلة، ‏وأعاره أذنا صماء، وانطلق كالصاروخ، ويحدث هذا فى أحسن العائلات، ‏وسقط بين كرسيين، ويبحث عن الظهر فى الساعة الرابعة عشرة، ولَكَمه ‏بقفاز من حرير، وألقى القفاز فى وجهه، ويحارب وظهره إلى الحائط، ‏وفلان على الهامش، وآلة الحرب الجهنمية، والعمليات الاستشهادية، ‏وغسيل الأموال، ونجوم الفن، وغَدَاء عمل، وابتسامة لَزِجة، والكرة ‏الأرضية، والمياه الإقليمية، والفضاء الخارجى، وغزو الفضاء، وحقوق ‏الإنسان...إلخ"، وهو بحر واسع وعميق. وكثير من هذه التعبيرات ‏والصور منقول نقلا مباشرا أو مقاربا عن اللغات الأجنبية، ويمكن التحقق ‏من ذلك إذا رجعنا إلى أى معجم إنجليزى (أو فرنسى أو ألمانى)- عربى، ‏ولسوف نجد تلك الأصول الأجنبية وترجمتها العربية. كما نستطيع التثبت ‏أيضا بالمقارنة بين المعاجم العربية المعاصرة ونظيرتها القديمة حيث نقع فى ‏الأولى على عشرات بل مئات التعبيرات التى تخلو منها الأخيرة. وهذه ‏سُنّة كونية لا تختص بها لغتنا، بل تخضع لها جميع اللغات(1). وفى مقابل ‏هذا ثَمّ تعبيرات وصور كانت تشيع على ألسنة القدماء واختفت الآن أو ‏تكاد، مثل تشبيه قَوَام المرأة بغصن البان، وضفائر شعرها بالعناقيد، ‏وأسنانها بالأقاحى، وكتشبيه الخطيب المفوَّه بسَحْبان، والبخيل البغيض ‏بمادِر، وكالكناية عن شدة الكرم بكثرة الرماد أو جُبْن الكلب وهُزَال ‏الفَصِيل، وقولهم: دَقُّوا بينهم عِطْر مَنْشِم، وأخذنى ما قَدُمَ وما حَدُث، ‏وخَرَج بالصمت عن لا ونَعَم... وغير ذلك. كما أن كثيرا من الكتاب ‏العرب الآن لم يعودوا يحرصون على ترصيع نثرهم بعبارة شعرية أو جملة ‏مُقَفَّعيّة أو جاحظية مثلا.‏
ويصدق هذا أيضا على التراكيب، إذ ثمة عدد منها قد قَلَّ ‏استعماله أو انتهى، وعدد آخر قد استجدّ أو على الأقل: قد انتشر بعد ‏أن كان محصورا فى نطاق ضيق. فمن الضرب الأول نرى أنه لا يكاد أحد ‏من الكتاب العرب الآن يقول: "تالله تَفْتَأ تهمل دروسك" (باستخدام تاء ‏القسم وحذف "لا" النافية بعدها من الفعل: "تفتأ")، أو يصب عباراته ‏فى التراكيب التالية: "أَكْثَرُ شُرْبِى السَّوِيقَ ملتوتًا" (بالاستغناء عن الخبر ‏بالحال: "ملتوتا")، أو "كَرِبَ فلان أن يفعل كذا" (بل المستخدَم فى هذه ‏الحالة "كاد" أو "أوشك")، أو "طفق يأكل" (بل نقول: "بدأ يأكل")، أو "إنْ ‏كان أحمد لَفِى حيرة عظيمة" (بل الشائع الآن: "لقد كان فى حيرة ‏عظيمة")، أو "لئن لم تكفّ عن هذا لأضربنّك" (بل يقال عادة: "إن لم ‏تكفّ فسأضربك")، و"أَكْرِمْ به" (بل نقول: "ما أكرمه")، و"قد يعلم الله ‏أنكم عاجزون" (بمعنى أنه سبحانه يعلم ذلك بكل يقين. فــ"قد" هنا ‏للتحقيق رغم مجيئها مع المضارع، ونحن الآن إنما نستخدمها مع المضارع ‏للاحتمال لا لليقين)، و"ما كان محمد لِيَفْعَلَ كذا" (بل نقول: "لا أظنه كان ‏سيفعل كذا"). كما أننا تقريبا لم نعد نستعمل حاليًّا فى نثرنا "ألا" ‏الاستفتاحية"، اللهم إلا فى قولنا مثلا: "عندى لك مفاجأة مذهلة، ألا ‏وهى كذا وكذا"...‏
ومن الضرب الثانى يمكن أن نذكر التراكيب التالية: "لَعِبَ هو الآخَر" ‏‏(أى لعب هو أيضا)، و"إذا جاء الآن لشاهد بنفسه كذا وكذا" (بإدخال ‏اللام على جواب "إذا" قياسا على "لو")، و"قد يلعب وقد لا يلعب"، ‏‏(والمتحرِّجون يقولون فى النفى: "وربما لا يلعب")، و"ضرب كلاهما الآخر" ‏‏(بدلا من "تضاربا")، و"يتخاصمون مع بعضهم البعض" (والأسلوب القديم ‏يكتفى فى هذا الموضع بــ"يتخاصمون")، و"كلما مررت به كلما وجدته ‏مشغولا"، و"بقدر ما تتقن عملك بقدر ما تتفوق على زملائك" (بتكرير ‏‏"كلما" و"بقدر ما" جريا على تكرير "‏the more‏" الإنجليزية و"‏plus‏" ‏الفرنسية فى مثل هذا المعنى، مع أن الأمر عندنا يختلف عنه فى هاتين ‏اللغتين)، و"رغم أنّ/ مع أنّ الساعة قد جاوزت الثانية صباحا إلا أنه كان ‏لا يزال مُكِبًّا على دروسه" (والصواب حذْف "إلا أنه"، إذ لا يوجد هنا ‏استثناء)، و"لا يجب أن تفعل كذا" (وصوابها: "يجب ألا تفعل كذا")، ‏و"لم آكل تفاحا فقط، بل وعنبا أيضا" بدلا من "لم آكل تفاحا فقط، بل ‏أكلت تفاحا وعنبا أيضا"، و"أنا معجب به كروائىّ"، و"سوف لا/ سوف ‏لن أفعل ما تريد منّى" (وأغلب الظن أنها ترجمة حرفية لــ"‏not‏ ‏will‏" ‏الإنجليزية)، وصوابها: "لن أفعل"، و"من أهم هذه الإجراءات هو إدخال ‏الحاسوب فى المدارس" (بزيادة الضمير: "هو" حيث لا حاجة إليه، ولا ‏مسوغ لوجوده إلا بتكلف كثير)، و"رأيته قبل أن مات بيوم" (باستخدام ‏الزمن الماضى فى "مات" يدلا من "رأيته قبل أن يموت". وهذا التركيب ‏يكثر لدى الكتاب اللبنانيين فيما لاحظت)، و"سأذهب لزيارته دون أن ‏أخطره، وإن كانت اللياقة الاجتماعية تقتضى خلاف ذلك" (أى رغم أن ‏اللياقة الاجتماعية تقتضى ذلك)، و"مصر السادات، وأمريكا بوش" (تأسّيَا ‏بأساليب الغربيين فى إضافة أسماء الدول إلى حكامها)، و"لَوْن وحَجْم ‏الكِتَاب" (وهو تركيب موجود فى العربية القديمة، لكن على استحياء، أما ‏فى العصر الحديث فيستعمل كثيرا، وبخاصة فى الكتابات الصحفية ‏والقصصية. والرافضون لهذا التركيب يقولون إن الصواب هو: "لون الكتاب ‏وحجمه")، و"ضربوا بعضهم" (وصحتها: "ضرب بعضهم بعضا" أو ‏‏"تضاربوا")، و"بين علىّ وبين سعيد" (بتكرير "بين" مع اسمين ظاهرين، ‏وهو ما يخطّئه دون وجهِ حقٍّ بعضُ المتنطسين رغم وجود شواهد كثيرة ‏عليه فى الشعر الجاهلى والإسلامى والأموى مما تناولتُه وأوردتُ بعض ما ‏عثرت عليه من أمثلة له فى كتابى: "من ذخائر المكتبة العربية"(2)، و"بين ‏محمد وعلى وأحمد من جهة، وسعيد وزيد وخالد من جهة أخرى"، ‏و"هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن..."، و"مَنْ/ ما / أين هو ‏الطالب المثالى؟" (باستعمال الضمير بين اسم الاستفهام والمستفهم عنه)، ‏و"لا أدرى إن/ ما إذا كان سيأتى أَوْ لا" (اقتفاءً للأسلوب الإنجليزى ‏والفرنسى: "‏I do not know whether…, Je ne connaîs pas ‎si…‎‏"، و"هو يتحدث لا عن تونس بل عن الجزائر" (بدلا من "يتحدث عن ‏الجزائر لا عن تونس")، و"هو حريص على الذهاب إلى المدرسة لا لشىء ‏إلا ليهرب من قسوة أبيه"، و"ليس ذلك فقط، بل هناك كذا وكذا أيضا". ‏ويضاف إلى ما مرّ الإكثار من الجمل الاسمية حيث يستحسن الذوق العربى ‏استعمال الجملة الفعلية، وكذلك كثرة الجمل الاعتراضية، وحذف "وقد" ‏أو "وإنّ" من بدايات الجمل...‏
ومن مظاهر التطور فى الأسلوب الحديث كثرة الأخطاء اللغوية من ‏صرفية ونحوية ومعجمية، وانتشار الركاكة فى كتابات بعض الأدباء. وهى ‏ظاهرة مؤسفة، فقد ظل العرب فى عصور قوتهم يكتبون كتابة صحيحة، ‏إلى أن تخلفوا حضاريا وعلميا فلوحظت هذه الظاهرة، وكان المأمول أن ‏تختفى مع انتشار التعليم وكثرة المدارس والجامعات وتبسيط النحو ‏والصرف وشيوع المعاجم من كل جنس ولون. والغريب أن الكتاب الذين ‏يعانون من هذا العيب لا يجدون أية غضاضة فى هذا، ولا يشعرون بأى ‏حرج. بل إن الواحد منهم لا يكلف نفسه إذا ألف كتابا مثلا أن يعهد به ‏إلى من ينظر فيه ويصححه له قبل أن يَطْلُع به على القراء. وكثير ممن نقرأ ‏لهم فى الصحف والمجلات فلا نجد فى كتاباتهم أخطاء لغوية هم من ذلك ‏القبيل أيضا. كل ما فى الأمر أن مصححى الجرائد يعدّلون المائل، ويسوّون ‏الهوائل. ومن بين هؤلاء أسماء لامعة ذات شهرة ودوىّ، وهو أمر لا يليق، ‏وبخاصة بعد أن استفاض التعليم وبُسِّطت قواعد اللغة وانتشرت الوسائل ‏التى تعين على إتقانها كما قلنا.‏
اختفاء السجع والمحسّنات البديعية:‏
النثر العربى الحديث الآن نثرٌ مُرْسَل لا سجع فيه ولا جناس ولا ‏ازدواج ولا تورية إلا فى النادر. ولقد غَبَرَ على أدبنا النثرى زمان كانت ‏المحسنات البديعية، وعلى رأسها السجع والجناس والازدواج، سمة سائدة ‏فيه. كان ذلك فى أواخر العصر العباسى وطوال العصرين المملوكى ‏والعثمانى، ثم لما وقعت النهضة الحديثة نهض الأدب العربى، وشرع النثر ‏يتقلقل من هذا الوضع، وأخذ يتخفف من السجع والبديع قليلا قليلا حتى ‏تخلص منه. على أن النثر، حتى فى أشد عصور التخلف حُلُوكةً، لم يكن ‏كله سجعا وبديعا، بل كانت هناك كتب كاملة أفرغها أصحابها فى قالب ‏النثر المرسل، مثل: "مقدمة ابن خَلْدون" والترجمة الذاتية التى كتبها الإمام ‏السيوطى بعنوان "التحدث بنعمة الله"، وكذلك "نَفْح الطِّيب" للمَقَّرِىّ ‏و"عجائب الآثار" للجَبَرْتِىّ إلى حد بعيد (3). ويصدق هذا بدرجة كبيرة ‏على عدد من الكتب التى ظهرت فى بدايات العصر الحديث، مثل: ‏‏"تخليص الإبريز فى تلخيص باريز" و"المرشد الأمين لتربية البنات والبنين" ‏لرفاعة رافع الطهطاوى(4)، وكتب أحمد فارس الشدياق بوجه عام، ‏وكتابات محمد عبده المتأخرة(5). أريد أن أقول إن النثر المسجوع والنثر ‏المرسل كانا يمشيان جنبا إلى جنب فى عصور التخلف وفى بدايات ‏النهضة مع غلبة السجع فى عصور التخلف، والتخفف منه تدريجيا حتى ‏انتهى الأمر إلى هجره فى العصر الحديث. بل كثيرا ما كان الكِتَاب الواحد ‏يؤلَّف بالأسلوبين جميعا: السجع والمحسنات البديعية فى المقدمة، والأسلوب ‏المرسل لسائر الكتاب.‏
الأمر إذن لم يتم بين عشية وضحاها ولم يحسمه كاتب واحد على ‏خلاف ما يُفْهَم من كلام د. شوقى ضيف من أن محمد عبده قد تحول ‏بالنثر من السجع والمحسنات إلى الأسلوب المرسل(6)، مع أن الطهطاوى ‏والشدياق مثلا قد سبقاه إلى هجران السجع والبديع فى كثير مما كتبا ‏حسبما ذكرنا آنفا، كما أن الأسلوب البديعى ظل يستعمله الناثرون بعد ‏محمد عبده، مثل أحمد شوقى فى "أسواق الذهب"(7) وحافظ إبراهيم فى ‏‏"ليالى سطيح" ومحمد المويلحى فى "حديث عيسى بن هشام" ومحمد ‏توفيق البكرى فى "صهاريج اللؤلؤ" على ما هو معروف. على أنه لا بد من ‏التنبيه إلى أن الكتب الثلاثة الأولى لم تؤلَّف من أولها إلى آخرها سجعا، بل ‏ضمت، إلى جانب الأسلوب البديعى، شيئا من النثر المرسل: فشوقى فى ‏آخر كتابه يهجر السجع ويرسل الكلام إرسالا، أما حافظ والمويلحى ‏فيراوحان بين السجع والمحسنات فى مواضع وبين النثر المرسل فى مواضع ‏أخرى. ولعله يمكن القول بأن هذه الكتب وأشباهها تمثل، بمعنًى من ‏المعانى، الحلقة الوسطى بين النثر الذى كان يلتزم السجع والمحسِّنات والنثر ‏الذى قطع علاقته بهما.‏
ويرجع شيوع الأسلوب المرسل فى نثرنا الأدبى الحديث إلى عدة ‏عوامل منها التأثر بالآداب الأجنبية التى أخذ كثير من كتابنا ينظر إليها ‏على أنها هى الأسوة التى ينبغى الاقتداء بها، وبخاصة أن الأسلوب العربى ‏على أيام ابن المقفَّع والجاحظ وابن المعتز وأبى الفرج الأصفهانى وابن حزم ‏وابن طُفَيْل ومن إليهم كان هو الأسلوب المرسل. ومنها كذلك انتشار ‏التعليم والطباعة واتساع دائرة القراء بحيث شملت أوساط المتعلمين ‏وصغارهم والعامة أيضا، فكان لا بد من أسلوب يسهل فهمه ومتابعته حتى ‏على القارئ العادى. ثم إن دخول الصحافة إلى الميدان وما ترتب على ‏ذلك من وجوب مراعاة الكتّاب لعامل السرعة حتى يستطيعوا ملاحقة ‏المطبعة وتغذية الصحف يوميا بحاجتها إلى المقالات والقصص والتحقيقات ‏والدراسات قد دفعهم حثيثا إلى العمل على التخلص من الأسلوب البديعى ‏القديم الذى كان يحتاج إلى تروية وعَصْر ذهن ومعرفة بدقائق الألفاظ ‏والصيغ ومتعثكل التراكيب. ‏
ومن أمثلة النثر المسجوع فى بدايات عصر النهضة قول عباس ‏خماش (الفلسطينى) فى سنة 1870م يقرِّظ مجلة "الجنان"، التى كان ‏يصدرها بطرس البستانى: "كيف لا ورضوانه البستانى، منشئ أغراسه ‏ببديع المعانى؟ كم جلا علينا من حُورِ بنات أفكاره أبكارا، وطفقتْ أنواره ‏ترقص بحكم المبانى وجميل نِكَات الفنون جِهَارا! فلَعَمْرِى إن الفكر بفكاهة ‏ثماره تمتَّع، والسرور بكواعب أترابه تجمَّع، فلسانى لا يستطيع القيام بشكر ‏ما أَوْلَى من الإنعام، على ذوى العقول والأفهام. فهو على كل حال قاصر، ‏يقول: كم ترك الأول للآخر! وغاية مَقُولِى، على قدر معقولى"(8)، وقول ‏محمد توفيق بكرى فى وصف أبناء الطبقة المترفة فى مصر على عهده: ‏‏"وأما أبناء السادة فإن أحدهم غادة ينقصها الحجاب، ينظر فى مرآة ولا ‏ينظر فى كتاب. إنما هو لباس على غير ناس، كما تضع الباعة مبهرج ‏الثياب على الأخشاب. رمادٌ تخلّف عن نار، وحوضٌ شُرِبَ أوّله ولم يبق ‏منه غير أكدار. آباء وأحساب، وحال كشجر الشلجم أحسن ما فيه ما ‏كان تحت التراب. ترى الفتيان كالنخل، وما يدريك ما الدخل؟ إلى رطانة ‏بالعُجْمة بين الأعراب، أبرد من استعمال النحو فى الحساب. ولو كان ذا ‏حيلة لتحوَّل، وهل عند رسمٍ دارسٍ من معوَّل؟"(9)، وقول البشير ‏الإبراهيمى (الجزائرى): "لا أقسم بذات الحفيف، والجناح الخفيف، ‏المشارفة فى جوها للكفيف، وبالسرّ الـمُودَع فى التجاويف والتلافيف، ‏وبالـمُغِيرات صُبْحًا عليها التجافيف، والمغيرين على الحق كالطاهر بن ‏العفيف، وبالسابغات والسوابغ من الدروع والجلابيب، وبالآخذين أمس من ‏تل أبيب كالتلابيب، وبالبحر والسفينة، والحَبْر والدفينة، إن المتنبى لمن ‏موالينا، وممن تلقى الكهانة عن أَوَالينا، وإنه ما دُعِىَ بالمتنبى إلا لأنه كان ‏شاعرا كاهنا ليناقض النبى الذى لم يكن كاهنا ولا شاعرا"(10)، وقول عبد ‏الرحمن بن صالح الخليفى (القطرى) من مقدمته لكتاب "بستان الأكياس، ‏والأفراد من الناس"، الذى أصدره عام 1938م: "أما بعد فإن أشرف ما ‏منح الله به العباد، وأقام به البلاد، العقول الراجحة، والبصائر الثاقبة ‏الصالحة، فتفتقت عن ثمارها الألسن، فأوضحت بنورها ما لم تدركه ‏الأعين. فأردت أن أجمع نبذة من الأدب، ودرجات أهل الحسَب، من مثلٍ ‏سائر، وبيتٍ نادر، وقصيدةٍ مشتهرة، ولطيفةٍ مفتخرة، لى ولأبنائى، ‏وأصدقائى وأحبائى، فأتى بعون الله وتوفيقه كُلَّ الصيد فى جوف الفَرَا، ‏وإن كنتُ من المتأخرين إلى وَرَا"(11). ‏
الكتابة بالعامية: ‏
كان الأدب العربى القديم كله يُكْتَب باللغة الفصحى شعرا ونثرا، ‏اللهم إلا الخـَرجات العامية لبعض الموشحات الأندلسية، وإلا الزَّجَل وما ‏إليه. أما النثر فلا أستطيع أن أذكر منه شيئا ذا بال سوى أن أسامة بن ‏منقذ فى ترجمته لنفسه فى كتاب "الاعتبار" كان يخلط الفصحى بالعامية ‏أحيانا، إذ كان يملى كتابه شفاها ولم يكتبه بيده، وإلا فإن مؤلفاته الأخرى ‏التى سجلها بقلمه ولم يُمْلِلْها قد كُتِبَتْ، كما كُتِب النثر العربى كله، بالعربية ‏الفصيحة. ومع ذلك لم يحدث أنْ دعا أحد، تحت أى ظرف أو لأى ‏سبب، إلى نبذ الفصحى وإحلال العامية محلها. وظل هذا هو الوضع ‏حتى العصر الحديث ووقوع معظم البلاد العربية فى قبضة الاحتلال ‏الأوربى وقدوم المستشرقين إلى بلادنا للعمل والإقامة، فعندئذ ظهرت ‏الدعوة إلى استبدال العامية بالفصحى فى الكتابة والأدب بذريعة أن ذلك ‏أصدق فى التعبير عما بالنفوس وأن العامية أقدر على استيعاب العلوم ‏العصرية، فضلا عن الزعم بأن هذا هو التطور الطبيعى للأمور. فكما ‏حدث أن اللاتينية، التى كان يستعملها عدد من البلاد الأوربية فى العصور ‏الوسطى، قد اختفت فى العصر الحديث من دنيا الاستعمال وحلت ‏مكانها اللهجات المختلفة التى انشعبت منها كالفرنسية والإيطالية ‏والإسبانية، فكذلك من الطبيعى أن تختفى العربية الفصحى لتأخذ مكانها ‏اللهجات المتعددة التى تستخدمها الشعوب العربية فى أغراض حياتها ‏اليومية.‏
ومن الذين دَعَوْا فى مصر إلى استخدام العامية فى الكتابة مجلة ‏‏"المقتطف"، التىكانت تنزع منزعا غربيا واضحا، وذلك فى 1881م، ثم ‏قاض إنجليزى فى محكمة الاستئناف المصرية اسمه وِلْمُور أصدر كتابا فى ‏عام 1902م حاول فيه التقعيد للعامية القاهرية ودعا إلى اتخاذها أداة ‏للكتابة بدل الفصحى، وتلاه بعد أربع وعشرين سنة إنجليزى آخر هو ‏مهندس الرى وليم كوكس، الذى ترجم أجزاء من الإنجيل إلى العامية تطبيقا ‏عمليا لتلك الدعوة المشبوهة(12). أما فى لبنان فممن توَلَّوْا كِبْرَ هذه الدعوة ‏روفائيل نخلة، الذى كان يدعو إلى العامية وتزيينها لمن حوله، والذى يقول ‏العالمون ببواطن الأمور إنه هو المؤلف الحقيقى للكتاب الذى عليه اسم ‏مارون غصن فى قواعد العامية اللبنانية. ومنهم أيضا سعيد عقل، الذى ‏أصدر صحيفة أسبوعية بالعامية اللبنانية المكتوبة بحروف لاتينية. ومنهم ‏كذلك الشاعر يوسف الخال، الذى كان يسمى العامية: "اللغة المحكيّة" كى ‏يغطى سوأتها خداعا منه لمن لا يوافقونه على رأيه وموقفه(13). وفى بلاد ‏المغرب العربى قام بهذه الدعوة الأثيمة منذ العشرينات بعض الرهبان ‏الفرنسيين المسمَّيْن بــ"الآباء البيض" كالأب فوكا والأب سلام، فضلا عن ‏عدد من المستشرقين أمثال ماسينيون وكولون وفرساى. وقد وقف فى ‏وجه هذه المخططات أبناء البلاد الشرفاء(14). ويذكر محمد مزالى أن كثيرا ‏من المستشرقين قد أَفْنَوْا أعمارهم فى دراسة اللهجات العامية فى بلاد ‏المغرب العربى ناعتين الفصحى بالجمود والقصور، وإن كان بعضهم تراجع ‏عن رأيه كالمستشرق وليم مرسيه، الذى عاد فكتب يمجد لغة الضاد ‏مؤكدا مقدرتها على التعبير عن أى رأى أو إحساس مهما دَقَّ أو ‏لَطُف(15).‏
وكانت المسرحيات الهزلية هى السابقة فى اصطناع العامية، أما ‏الآن فكثير من المسرحيات، هزليةً كانت أم جادّةً، تصطنع هذه اللهجة ‏كمسرحيات محمد تيمور ويوسف إدريس ومصطفى محمود وألفرد فرج ‏ونعمان عاشور وعلى سالم وغيرهم فى مصر. وقس على ذلك نظراءهم ‏فى البلاد العربية الأخرى. على أنه لا بد من القول بأن من كتاب ‏المسرحيات من يؤثرون الفصحى ولا يَرْضَوْن النزول إلى مستوى العامية فى ‏إبداعهم كمحمود تيمور(16) وعلى أحمد باكثير وتوفيق الحكيم (من مصر)، ‏ومحمد المسعدى (من تونس)، وسعد الله ونوس (من سوريا). أىأن هناك ‏تيارين لغويين مختلفين فى ميدان التأليف المسرحى. أما فى ميدان القَصَص ‏فثمة عدد من المؤلفين يزاوجون فى أعمالهم بين الفصحى فى السرد ‏والوصف والتحليل وبين العامية فى الحوار بدعوى أن الناس لا يتحدثون ‏فى حياتهم اليومية بالفصحى، فكيف يصح أن نُنْطِقهم بها فى الروايات ‏والأقاصيص؟ وفاتهم أن الواقعية لا تعنى نقل الواقع كما هو لأن هذا ‏مستحيل، بل العبرةُ بالإيهام بذلك، وهو ما يمكن جدا أن يتحقق من خلال ‏الفصحى. والمهم أن يحسن الكاتب تصوير شخصياته والمطابقة بين ‏مستواها الفكرى والاجتماعى والنفسى وبين لغتها فيجعل لغة العامة ‏والخدم مثلا أبسط من لغة الرؤساء والمثقفين. وهذا هو المحكّ الحقيقى ‏لموهبة القصاص وبراعته لا اللجوء إلى العامية، التى نعرف كلنا أنها ليست ‏عامية واحدة للعرب جميعا ولا فى أى بلد على حدة، بل ولا فى أية ‏مدينة، إذ هى تحتلف باختلاف الأحياء والطبقات والأجيال كذلك. وأين ‏الكاتب الذى يجرؤ على الزعم بأنه يعرف كل تلك اللهجات العربية بدقائقها ‏وشِيَاتها المختلفة؟ ‏
وعلى أية حال فإن استعمال العامية فى النثر العربى مقصور تقريبا ‏على المسرح والقصة، أما فيما عدا هذا فليس ثمة شىء يستحق الإشارة ‏إليه، ومنه كتاب "مذكرات طالب بعثة"، الذى ألفه لويس عوض فى ‏بريطانيا أيام أن كان يدرس هناك للحصول على درجة الدكتورية فى الأدب ‏الإنجليزى، وذلك رغبة منه فى كسر رقبة البلاغة العربية كما كان يقول، ‏وهى غاية مريبة لا يترتب عليها إلا تفتيت العرب لغويا مثلما تم تفتيتهم ‏سياسيا، فلا يكون ثَمَّ تفاهم بين بعضهم وبعض. كما تقوم بينهم وبين تراثهم ‏وكتابهم الكريم حينئذ حواجز كَؤُود لا يسهل اختراقها ولا القفز فوقها إلا ‏لقلة قليلة. وللعلم فإن العامية التى كتب بها لويس عوض كتابه ذاك هى ‏عامية مصطنعة غير التى نتحدث بها أو نعرفها. بل إنها لأبعد عن تمثيل ‏عقل صاحبها ونفسه من اللغة الفصحى التى يفترى عليها الافتراءات ‏ويحسب أنه قادر على القضاء عليها. وقد نُسِىَ هذا الكتاب الثقيل الظل ‏الآن وأصبح فى خبر "كان"، ورجع صاحبه من يومها إلى الفصحى فى كل ‏ما يكتب، وإنْ وَضَع كتابا فى أوائل الثمانينات يحاول فيه التشكيك فى ‏قِدَم اللغة العربية وأصالتها.‏
وقد قام توفيق الحكيم فى ميدان التأليف المسرحى بمحاولة البحث ‏عن أسلوبٍ وسطٍ بين العامية والفصحى يمكن أن يُقْرَأ بهذه أو بتلك ‏حسبما يريد القارئ، إذ قرّب الأسلوب العامى على قدر المستطاع من ‏مستوى الفصحى نطقا وتركيبا وكتب به مسرحيته: "الصفقة" بحيث إذا ‏أحب القارئ أن يقرأها بالعامية فما عليه إلا أن يقلب القاف همزة (أو ‏جيما قاهرية)، والذال دالا، ويترك الإعراب، أما إذا تعامل معها على أنها ‏من الأدب الفصيح فليقرأها كما هى مكتوبة. وقد ذكر المؤلف فى الخاتمة ‏أنه إنما فعل ذلك للتقريب بين طبقات الشعب الواحد، وكذلك بين الشعوب ‏العربية المختلفة، من خلال توحيده لأداة التفاهم بينها قدر الإمكان(17). ‏لكن فاته أن العامية التى استخدمها فى "الصفقة" وأراد التقريب بينها وبين ‏الفصحى إنما هى إحدى العاميات المصرية التى لا أظن أحدا من الكتاب ‏المسرحيين العرب خارج مصر يستطيع استخدامها. أى أنه سيكون لدينا ‏تجارب من هذا النوع بعدد الشعوب العربية على الأقل. أيا ما يكن الأمر ‏فالذى يهمنا هنا هو أن هذا العمل المسرحى قد كُتِب بلغة لم يسبق للعرب ‏أن فكروا فى استخدامها فى أى من إبداعاتهم الأدبية على كثرتها الكاثرة ‏وتنوعها الهائل. ومبلغ علمى أن أحدا آخر من كتّاب المسرح لم يحاول أن ‏يتابع هذه التجربة الحكيمية. ‏
الكتابة بلغة أجنبية: ‏
ومن مظاهر التطور فى نثرنا الحديث استخدام بعض الكتاب العرب ‏للّغات الأجنبية فى إبداعهم الأدبى حَصْرِيًّا أو بجانب لغتهم العربية. وهناك ‏عدة أسباب لذلك: فمثلا الكتاب الجزائريون الذين أنتجوا أدبهم باللغة ‏الفرنسية كمحمد ديب وكاتب ياسين ومولود فرعون ومولود معمّرى ومالك ‏حداد وإدريس الشرايبى وآسيا جبار إنما فعلوا ذلك لأن الفرنسيين فرضوا ‏لغتهم فرضا على الجزائر وعملوا على فَرْنَستها، وكانت ثمرة هذا الوضع أن ‏هؤلاء الكتاب الجزائريين وأمثالهم ممن تعلموا فى ظل الاحتلال الفرنسى ‏لبلادهم قد أتقنوا لغة المحتلين فى الوقت الذى لم يحسنوا فيه تعلم لسانهم ‏القومى والدينى أو لم يريدوا ذلك. كما أن لبعض الكتاب التونسيين أعمالا ‏بلغة الفرنسيس مثل ألبير ممى والهاشمى البكوش وكلود بنعادى ومحمود ‏أصلان ومصطفى الكعبى وصالح القرمادى، وكذلك الحال بالنسبة إلى ‏فريق من الكتاب المغاربة كعبد اللطيف الكعبى والطاهر بن جلون وعبد ‏الكبير الخطيبى تأثرا منهم بالاحتلال الفرنسى لبلادهم. أما مؤلفات جبران ‏ونعيمة مثلا بالإنجليزية فقد أُلِّفَتْ فى الولايات المتحدة الأمريكية، ومن ثم ‏استُخْدِمَتْ فيها لغة البلاد التى كانوا يقطنونها وأصدروا مؤلفاتهم كى تُقْرَأ ‏هناك. وتشبه هذه الحالة حالة المصريين الذين غادروا أرض الكنانة إلى ‏فرنسا وأضْحَوْا جزءا من نسيج المجتمع الفرنسى مثل جويس منصور ‏وأندريه شديد، كما تشبهها حالة إدوار عطية اللبنانى الذى كتب ترجمته ‏الذاتية بالإنجليزية، إذ كان قد تجنس بالجنسية البريطانية وأصبح يعيش فى ‏جزيرة جون بول، وكذلك أهداف سويف المصرية التى صدرت لها بآخرةٍ ‏بعض الأعمال القصصية بالإنجليزية بعد أن تركت مصر وتزوجت من رجل ‏إنجليزى تعيش معه فى بلاده. بل إن أديبا كإبراهيم العريِّض البحرينى الذى ‏لا يدخل تحت أى بند من هذين له مسرحية بالإنجليزية عن "وليم تل".‏
ويتصل بها نَوْعَ اتصالٍ ما درج عليه كثير من الناثرين العرب فى ‏العصر الحديث من تطعيم كتاباتهم ببعض الألفاظ أو التعبيرات الأوربية ‏لتوضيح ما يقولون أو تأكيده أو لمجرد الاستعراض. وهم فى هذا قد ‏يكتبونه بالحروف العربية، وقد يسوقونه كما هو فى أصل لغته بالحرف ‏اللاتينى. ويتصل بذلك أيضا ظاهرة وجود أدب عربى مكتوب باللغة ‏العربية خارج ديار العرب. أقصد به الأدب المهجرى فى الولايات المتحدة ‏الأمريكية وفى أمريكا الجنوبية، وهو الأدب الذى أنتج لنا جماعتين أدبيتين ‏مشهورتين هما الرابطة القلمية فى أمريكا الشمالية، والعصبة الأندلسية فى ‏البرازيل من أمريكا اللاتينية، وأخرج طائفة من أعلام النثر الحديث أمثال ‏الريحانى ونعيمة وجبران وشفيق المعلوف ورشيد الخورى. ولهذا الأدب ‏سماته التى تميزه عن غيره من الآداب داخل الخيمة الكبيرة للأدب العربى ‏الحديث مما تناوله الدارسون فى بحوثهم وكتبهم، مثل البعد عن فخامة ‏الأسلوب وجزالته، وهَجْر التعبيرات التقليدية، وافتراع كثير من الصُّوَر ‏المجنَّحة، والهيام بالطبيعة، والدعوة بقوة إلى الحرية، وسريان نفحة صوفية ‏وإنجيلية فى كتاباتهم، وكثرة صفحات الشعر المنثور فى إبداعاتهم. ‏وظاهرة الأدب المهجرى هى، بلا شك، ظاهرة جديدة لا عهد للأدب ‏العربى القديم بما يشبهها.‏
فنون نثرية جديدة: ‏
انصرفت همة المترجمين فى العصر العباسى إلى نقل العلوم الطبيعية ‏والرياضيات والفلسفة، وكذلك ما قاله أرسطو عن الشعر والخطابة، أما ‏الأدب فلم ينشط له التراجمة إلا فى أضيق نطاق. وقد كان اتجاه الترجمة ‏فى بداية العصر الحديث كاتجاهها تحت حُكْم العباسيين، أى نقل كتب ‏العلوم من طب وكيمياء وصيدلة وجغرافيا إلى لسان العرب، ثم تحول الحال ‏فيما بعد فانفتحت الأبواب والنوافذ انفتاحا لترجمة المسرحيات والقصص، ‏ثم لحقت بهما كب الأدب الأخرى. ولدينا الآن مقدار هائل من تلك ‏الإبداعات الأدبية نقله المترجمون العرب الـمُحْدَثون من الإنجليزية والفرنسية ‏والإيطالية والألمانية والإسبانية والروسية واليونانية واللاتينية، وكذلك من ‏اللغات الشرقية كالفارسية والأوردية والعبرية واليابانية...إلخ.‏
وكان من أثر ذلك أنْ دخلت المسرحية الأدب العربى، الذى لم يكن ‏يعرفها من قبل، اللهم إلا بعض المشاهد التمثيلية البسيطة أو فى خيال الظل ‏أو فى قصة "سعد اليتيم" و"سارة وهاجر" مما كان يمثَّل فى الاحتفالات ‏الشعبية ببعض البلاد المصرية(18). وكما تقضى سُنّة التطور بدأ الفن ‏المسرحى عندنا ضعيفا ساذجا ثم قَوِىَ بعد ذلك واستحكم، وكثرت ‏المسرحيات الجيدة ما بين مأساوية وملهاوية، وفصيحة وعامية، ومؤلَّفة ‏ومقتَبَسة، وتاريخية واجتماعية وفلسفية، ودينية واشتراكية ووجودية، ‏وواقعية ورمزية وعبثية...إلخ. وظهرت أسماء كثيرة فى هذا الميدان ‏كأحمد شوقى وفرح أنطون وإبراهيم رمزى ومحمد ومحمود تيمور وعزيز ‏أباظة وتوفيق الحكيم وعلى أحمد باكثير ونجيب سرور وعبد الرحمن ‏الشرقاوى وصلاح عبد الصبور (من مصر)، وعمر أبو ريشة وسعد الله ‏ونّوس ومصطفى الحلاج وممدوح عدوان وعلى عقلة عرسان (من سوريا)، ‏وجبران ونعيمة وسعيد تقى الدين وعصام محفوظ (من لبنان)، وهارون ‏هاشم رشيد وسميح القاسم ومعين بسيسو وغسان كنفانى (من فلسطين)، ‏ويوسف العانى ونور الدين فارس وعادل كاظم (من العراق)، وصقر ‏الرشود وعبد العزيز السريع (من الكويت)، وسلطان السالم وفؤاد عبيد ‏‏(من البحرين)، وعبد الرحمن المناعى وخليفة الكبيسى ودلال خليفة (من ‏قطر)، وعبد الله القويرى وعبد الكريم الدناع وعبد الحميد المجراب (من ‏ليبيا)، والحبيب أبو الأعراس وناجية ثامر وعز الدين المدنى وسمير العبادى ‏والتيجانى ذليلة (من تونس)، وكاكى عبد الرحمن والكاتب علولة (من ‏الجزائر)، والطيب الصديقى وعبد الكريم برشيد ومحمد شهرمان (من ‏المغرب)، وخالد أبو الروس وإبراهيم العبادى والطاهر شبيكة والفاضل ‏سعيد (من السودان).‏
ويميل بعض الدارسين إلى القول بأن القصة هى أيضا من الفنون ‏الأدبية الطارئة على الأدب العربى، استمدها من الآداب الغربية فى هذا ‏العصر. وهو رأىٌ فَطِيرٌ متسرع، ففى التراث الأدبى الذى خلّفه لنا أسلافنا ‏قَصَصٌ كثير منه الطويل مثل "رسالة النمر والثعلب" لسهل بن هارون، ‏و"رسالة الغفران" للمعرى، و"رسالة التوابع والزوابع" لابن شُهَيْد، و"رسالة ‏حَىّ بن يقظان" لابن طُفَيْل، وبعض قصص "ألف ليلة وليلة، و"سيرة ‏عنترة"، و"سيرة سيف بن ذى يزن"، ومنه القصير كالحكايات التى تَغَصّ ‏بها كتب الأدب وجَمَعَ طائفةً كبيرةً منها محمد أبو الفضل إبراهيم وعلى ‏محمد البجاوى ومحمد أحمد جاد المولى فى أربعة مجلدات كبار، ‏و"المقامات"، وبعض قصص "ألف ليلة وليلة" أيضا... إلخ، ومنها النثرىّ ‏كالأمثلة السابقة، والشِّعْرِىّ كقصائد الشَّنْفَرَى عن لقائه بالغول، وقصيدة ‏الحُطَيْئة: "وطاوِى ثلاثٍ عاصبِ البطن مُرْمِلٍ"، وكثير من قصائد عمر بن ‏أبى ربيعة، وأبيات الفرزدق عن الذئب، ورائبة بشار، ومغامرات أبى نواس ‏الخمرية، وقصيدة المتنبى عن مصارعة بدر بن عمار للأسد... وهلم ‏جرا.‏
وقد يعترض بعضٌ بأن الشكل الفنى للقَصَص الغربى يختلف عنه فى ‏القَصَص العربى القديم. لكن هذا الاعتراض ليس بشىء لأن الفن ‏القصصى تتغير أشكاله مع الزمن، والقصص الغربى نفسه فى بدايته يختلف ‏عنه الآن من هذه الناحية اختلافا شديدا، وليس هذا بمسوغ عند أحد ‏للقول بأن الغرب لم يكن يعرف القصة من قبل. بل إن الشعر العربى نفسه ‏قد تغير الآن تغيرا هائلا عن الشعر الذى كان يَنْظِمه العرب القدماء، فهل ‏يصح الزعم بأن العرب لم يعرفوا الشعر فى الماضى؟ إن هذا مثل ذاك. بل ‏إن عددا كبيرا مما تركه العرب من قَصَص ليصمد لمحكّ الشكل الفنى ‏الحديث، وكثير من النقاد العرب الكبار فى عصرنا قد أثبتوا هذا وأطالوا ‏القول فيه.‏
كذلك قد يحتج الذين يَنْفُون عن العرب القدامى معرفتهم بالفن ‏القصصى بأن "ألف ليلة وليلة" والسِّيَر الشعبية مثلا تقوم على حوادث ‏مغرقة فى الخيال لا علاقة لها بالواقع اليومى. إلا أن هذا احتجاج خاطئ، ‏ففى كثير من قِصَص "ألف ليلة وليلة" تصويرٌ حىٌّ للواقع العربى والإسلامى ‏فى الفترة التاريخية التى تدور فيها، أما الجانب المغرق فى الخيالات ‏والغرائب فها هى ذى الواقعية السحرية تعيده لنا اليوم من جديد، وكثير ‏من القصاصين والنقاد يتحدثون عنها حديث المبهور، فهل نستطيع القول ‏بأن الروايات التى يكتبها قصاصو أمريكا الجنوبية على أسس من هذه ‏الواقعية السحرية لا تمت بصلة إلى فن القصة؟
وهناك أيضا من يحاولون التهوين من شأن "المقامة" بدعوى أن كتّابها ‏كانوا يَتَغَيَّوْن استعراض عضلاتهم اللغوية فحسب. وهذه، فى واقع الأمر، ‏دعوى مُنْكَرة لأن المقامات ليست براعة لغوية فقط، بل فى كثير جدا مما ‏ترك الهمذانى والحريرى مثلا الحكاية الشائقة والتصوير العجيب والحوار ‏الخلاب والعقدة المحكمة. فإذا أضفنا إلى ذلك كله الأسلوب اللغوى ‏المزخرف الذى كان يستخدمه كاتب المقامة أدركنا إلى أى مدى كان ‏المقامىّ متقنا لفنه ممسكا بخيوكه بغاية الإحكام. وأين هذا من بعض كتاب ‏القصة الحاليين ممن يعانون من فقر المعجم وركاكة الأسلوب والجهل بقواعد ‏النحو والصرف؟ صحيح أن الذوق الأدبى قد تغير الآن، بَيْدَ أن هذا لا ‏ينبغى أن يدفعنا إلى الافتئات على ذلك الفن وأصحابه، الذين كانوا فى ‏إبداعهم أبناء عصرهم الأوفياء. وبالمناسبة لم يكن كتاب القصة ونقادها ‏فى بدايات العصر الحديث فى مصر مثلا يَرَوْن فيها فنا جديدا، بل مجرد ‏امتداد لفن قديم عرفه العرب من قبل مما أوضحتُه فى الباب الأول من ‏كتابى: "نقد القصة فى مصر: 1888- 1980م" فى الفصل المسمَّى: ‏‏"القصة المصرية والتراث القصصى العربى"(19).‏
على أن الجديد الذى عرفه القصص العربى فى العصر الحديث ولم ‏يكن له وجود فيما خلفه لنا العرب القدماء هو رواية القصة على لسان ‏عدة أشخاص من أبطالها، كلٌّ يراها من زاويته ويفسر ما يراه تفسيرا ‏يختلف كثيرا أو قليلا عن تفسير الرواة الآخرين. وهذا الشكل الفنى قد ‏أخذناه عن الأوربيين، وأساسه فكرة "النسبية"، التى أفرزها هذا العصر ‏الذى نعيش فيه. ومن ذلك أيضا "تيار الوعى"، الذى أخذه بعض ‏قصاصينا عن نظرائهم فى الغرب، وهو أحد مظاهر التأثر بالدراسات ‏النفسية. ومن هذا الجديد كذلك المزج بين القصة والمسرحية، هذا المزج ‏الذى تمثَّل فى "بنك القلق" لتوفيق الحكيم وسماه صاحبه: "مَسْرِوَاية"، وإن ‏لم ينتشر كما كان يُرْجَى له. وإذا كان الشىء بالشىء يذكر فإن "السيرة ‏الشعبية" مثلا كانت تمزج هى أيضا بين الشعر والنثر، وإن اختلفت فى ‏هذا المزج عن طريقة "المسرواية"، التى تتألف من فصل قصصى يتلوه فصل ‏مسرحى... وهكذا دواليك، أما "السيرة" فيَرِدُ الشعر فيها أثناء السرد ‏والحوار كجزءٍ منهما لا كشىءٍ منفصل.‏
ليس هذا فقط، بل هناك أيضا النقد القصصى والتأريخ للرواية ‏والقصة القصيرة والترجمة لأعلامهما، وهو أمر لم يعرفه الأدب العربى القديم، ‏إذ كان النقد آنذاك منصبا على الشعر بالدرجة الأولى، ثم الخطابة ‏والرسائل الديوانية بعد ذلك. وها هو ذا مثلا كتاب "الصناعتين" لأبى ‏هلال العسكرى، وكتاب "نقد النثر" المنسوب لقدامة بن جعفر، و"المثل ‏السائر" لابن الأثير، فلْنُقَلِّبْ فيها كما نُحِبّ، فلن نجد أى كلام فى النقد ‏القصصى. أما الآن فالدراسات النقدية والتأريخية التى تدور حول فن ‏القصة وأعلامه واتجاهاته وأشكاله قد بلغت من الكثرة والتنوع مدى ‏بعيدا، وهذا من شأنه أن يساعد أدباء القصة على التجويد والتطوير ‏المستمر. ولا شك أننا مَدِينون فى هذا المجال للنقد القصصى الغربى الذى ‏قرأناه فى لغاته الأصلية أو مترجما، وهذا النقد يرجع فى أساسه إلى ما ‏كتبه أرسطو عن المسرحية والملحمة.‏
وكما هو الحال في القصة والزعم القائل بأنها فن جديد اقتبسناه من ‏الغرب ولم يعرفه التراث الأدبى العربى نجد أيضًا من يقول إن المقال هو من ‏الفنون التى لم تعرفها أقلام العرب القدماء. يقول الدكتور شوقى ضيف مثلا ‏إن "المقالة قالب قصير قلما تجاوز نهرا أو نهرين في الصحيفة، ولم يكن ‏العرب يعرفون هذا القالب، إنما عرفوا قالبا أطول منه يأخذ شكل كتاب ‏صغير، وهم يسمونه: "الرسالة"، مثل رسائل الجاحظ، ولم ينشئوه من تلقاء ‏أنفسهم، بل أخذوه عن اليونان والفُرْس، ورَأَوْا فيها بعض الموضوعات ‏الأدبية التى خاطبوا بها الطبقة المتميزة من المثقفين فى عصورهم. أما ‏المقالة فقد أخذناها عن الغربيين، وقد أنشأتها عندهم ضرورات الحياة ‏العصرية والصحفية، فهي لا تخاطب طبقة رفيعة في الأمة، وإنما تخاطب ‏طبقات الأمة على اختلافها. وهي لذلك لا تتعمق في التفكير حتى تفهمها ‏الطبقات الدنيا، وهي أيضا لا تلتمس الزخرف اللفظي حتى تكون قريبة ‏من الشعب وذوقه الذى لا يتكلف الزينة والذى يؤثر البساطة والجمال ‏الفطري" (20).‏
وتعتمد حجة الأستاذ الدكتور فى نفى معرفة أسلافنا لفن المقال، ‏كما نرى، على صغر حجم المقال ووضعه الطبقات الدنيا فى الحسبان قبل ‏أية فئة أخرى فى المجتمع، ومن ثم البعد عن العمق الفكرى والزخرف ‏البديعى. ومن السهل الرد على كل نقطة من هذه النقاط: فالمقالات ‏تتفاوت طُولاً وقِصَرًا، وإذا كانت هناك مقالات صغيرة بالحجم الذى ذكره ‏أستاذنا الدكتور فهناك مقالات أطول من ذلك كثيرًا، ومنها ما يستغرق ‏صفحة كاملة من الجريدة، وما أدراك ما صفحات الجرائد؟ وعلى أية حال ‏فمعيار الطول ليس بالمعيار المهم إلى هذا الحد، فهو معيار شكلى. ثم من ‏قال إن جميع المقالات تفهمها الطبقات الدنيا في مجتمعنا أو حتى تهتم بأن ‏تقرأها أصلا؟ الحق أن الأمر هنا هو كمسألة الطول والقصر: فهناك ‏المقالات السطحية التى تشبه قزقزة اللب، وهناك مقالات أرفع من ذلك ‏قليلا، وهناك مقالات عميقة لا يصبر عليها بل لا يفكر مجرد تفكير في ‏مطالعتها إلا كبار المثقفين: إما لموضوعها الذى لا يهم أحدا غيرهم، وإما ‏للأسلوب الراقى الذي كُتِبَتْ به. وهل المقال يكتبه محمد عبده أو ولى ‏الدين يكن أو العقاد أو الزيات أو طه حسين أو شوقى ضيف كمقال يكتبه ‏أنيس منصور أو محمود السعدنى مثلا؟
ويبقى الزخرف اللفظى، وهو لم يكن طابع النثر القديم كله كما بيّنّا، ‏فقد غَبَرَ زمن طويل على التأليف العربى لم يعرف فيه هذا الزخرف، ثم ‏أخذ الكتاب العرب يَسْلُكون طريقه ويتدرجون فى تعقيداته إلى أن بلغوا ‏من ذلك شأوا بعيدا. ومع ذلك فقد مر فى هذه الصفحات أن السجع ‏وغيره من الزخارف البديعية لم يكن دَيْدَنَ النثر كله حتى فى أشد عصور ‏الأدب العربى تخلفا. وعلى أية حال فإن التزام البديع أو نَبْذَه إنما هو مسألة ‏ذوق يتغير بتغير العصور. ولقد كانت المقالة فى بداية النهضة الحديثة ‏تُزَخْرَف بالسجع وغير السجع من المحسنات البديعية، فهل ينفى هذا عنها ‏صفة المقالة؟
ومن الذين ينكرون معرفة الأدب العربى القديم لفن المقالة أيضا أنيس ‏المقدسى، فهو يقول إن "قِوَام المقالة شخصية الكاتب، وأهم مزاياها أنها ‏انعكاس وجدانى، فهى لا تتسع للتّقَصِّى والاستقراء كالمباحث العلمية أو ‏الفلسفية، ويشترط فيها أن تتجنب طريق الوعظ والتعليم، فلا يتكلف ‏صاحبها الجِدّ والوقار شأن الحكماء والمربين، بل يعالج الموضوع مهما كان ‏نوعه فى جو من التَّفْكِهة والطلاوة، وفى أسلوبٍ حُرٍّ من أغلال الصنعة"، ‏ثم يخرج من ذلك بأن كتابات العرب القدماء كانت تخلو من هذه الشروط، ‏ومن ثم لا يدخل شىء منها فى فن المقالة(21). والواقع أننا لو أخذنا مثلا ‏شرط التفكهة والطلاوة لأخرجنا معظم المقالات من الميدان، إذ قلما ‏يستطيع كاتبٌ هذه الطلاوة وتلك التفكهة، فليس كتاب المقالات كلهم كعبد ‏العزيز البشرى أو إبراهيم المازنى أو زكى مبارك مثلا. والعجيب أن ‏الأستاذ المقدسى الذى يستبعد من فن المقالة أية كتابة تعتمد على الوعظ ‏والتعليم أو تتسم بالجِدّ والوقار هو هو نفسه الذى يقول إن "المقالة" الغربية ‏فى أول عهدها كانت "عبارة عن فصل وجيز يعالج بعض الشؤون ‏الأخلاقية أو الإصلاحية"(22)، فكيف غض البصر هنا عن شرط خلو ‏المقالة من الوعظ والتعليم والجِدّ والوقار؟ ثم من قال إن كتابات العرب ‏القدماء لم تكن تعكس شخصياتهم؟
ولعل الأَحْجَى بنا أن ننظر فى تعريف الغربيين أنفسهم لهذا الفن ‏لنرى مدى إمكان انطباقه على بعض الكتابات العربية القديمة: لقد عرّفها ‏د. صمويل جونسون مثلا بأنها وثبة عقلية لا ينبغى أن يكون لها ضابط ‏من نظام، وأنها قطعة إنشائية لا تجرى على نسق معلوم أو لم يتم هضمها فى ‏نفس كاتبها. وقال مَرِى إنها قطعة إنشائبة ذات طول معتدل تدور حول ‏موضوع معين، وإنها كانت تعنى فى البداية موضوعا إنشائيا يحتاج إلى ‏الصقل والتهذيب، ولكنها تطلق الآن على أية قطعة إنشائية متوسطة الطول ‏تدور فى مجال موضوعى محدد(23). وجاء فى "قاموس لاروس" أنها ‏الكتابات التى لا يدّعى أصحابها التعمق فى بحثها أو الإحاطة التامة فى ‏معالجتها. وفى "قاموس أوكسفورد" أنها إنشاء متوسط الطول فى موضوع ‏ما. أما "دائرة المعارف البريطانية" فحددتها بأنها قطعة إنشائبة ذات طول ‏متوسط تُكْتَب نثرا، وأنها تعرض الأبعاد الخارجية للموضوع بأسلوب سهل ‏سريع، ولا تهتم إلا بما يَمَسّ كاتبَها عن قرب(24).‏
وهو ما نجد كثيرا منه فى المعاجم التالية: ففى ‏‏"‏Dictionary.com Unabridged‏" نقرأ تعريف المقالة على النحو ‏التالى: "‏a short literary composition on a particular ‎theme or subject, usually in prose and generally ‎analytic, speculative, or interpretative‏". وفى ‏‏"‏American Heritage Dictionary‏: "‏A short literary ‎composition on a single subject, usually presenting ‎the personal view of the author‏". وفى "‏Online ‎Etymology Dictionary, © 2001‎‏": "‏‎1597, "short non-‎fiction literary composition" (first attested in ‎writings of Francis Bacon, probably in imitation of ‎Montaigne), from M.Fr. essai "trial, attempt, essay," ‎from L.L. exagium "a weighing, weight," from L. ‎exigere "test," from ex- "out" + agere apparently ‎meaning here "to weigh." The suggestion is of ‎unpolished writing. Essayist is from 1609‎‏". ‏
ومن الواضح أن بين بعض هذه التعريفات وبعضها الآخر شيئا من ‏التناقض فيما يخص مسألة الأسلوب، إذ يشترط بعض المعرِّفين أن يكون ‏الأسلوب غير مصقول، فى حين لا يشترط الآخرون ذلك، بل ربما أوحى ‏كلام مرى أن هذا الشرط قد أصبح فى ذمة التاريخ. وأيًّا ما يكن الأمر ‏فلست أفهم كيف يكون احتياج الأسلوب إلى الصقل والتهذيب حسنة من ‏الحسنات يشترطها مُنَظِّرو فن المقالة؟ إن الطبيعة البشرية تهفو إلى الكمال، ‏ومما يميز الأديب عن غيره جمال أسلوبه وحسن عرضه. فليقل إذن بعض ‏المنظِّرين الغربيين ما شاؤوا فى شرط افتقار الأسلوب المقالىّ إلى الجودة ‏والجمال، ولنقل نحن ما نقتنع به، فكلامهم ليس قرآنا كريما لا يجوز الخروج ‏عليه. أقول هذا لأن الأدب العربى القديم كان يضع جمال الأسلوب وقوّته ‏نُصْبَ عينيه، وهذه هى الخطة الصحيحة، أما القول بخلاف ذلك فلا ‏يدخل العقل ولا القلب. إلا أن هذا شىء، والتكلف البديعى المرهق ‏شىء آخر. ومثل ذلك يقال عن شرط خلوّ المقالة من التنظيم ووقوعها من ‏ثَمَّ فى الغموض أحيانا، وبخاصة إذا انضاف إلى هذا وذاك الإهمالُ ‏الأسلوبى.‏
كذلك أود ألا يفوتنى التريث قليلا أمام اشتراط "دائرة المعارف ‏البريطانية" ألا تَمَسّ المقالة سوى الأبعاد الخارجية للموضوع، إذ إن كثيرا من ‏المقالات إنما تدور حول مشاعر أصحابها، وهذه المشاعر أمور داخلية لا ‏موضوعات ذات أبعاد خارجية على الكاتب ألا يصنع إزاءها شيئا إلا أن ‏يلمسها لمسا خفيفا. ترى هل من الممكن أن نشطب من بند المقالات ما ‏كتبه المازنى مثلا فى الحديث عن ابنته الصغيرة التى فقدها وهى فى رَيْعَان ‏الصبا كالوردة المطلولة فى بُكْرة الصباح، لأنه لم يكتف بأن يعرض الأبعاد ‏الخارجية لهذا الموضوع؟ وبمناسبة الحديث فى هذه النقطة أحب أن أقول ‏إننى أُعِيد هذه الأيام قراءة مقالات المعارك الأدبية التى دارت رَحَاها فى ‏الصحف بين أدباء مصر فى النصف الأول من القرن المنصرم، وفى كثير ‏منها حِجَاجٌ عقلىٌّ عميق، والتهابٌ وجدانىٌّ عنيف، وأسلوبٌ يجمع بين ‏المتانة والجمال. أفيجرؤ عاقل على إخراج ذلك كله من زمرة المقالات؟
فإذا عدنا إلى تراثنا العربى فسوف نجد فيه كثيرا من الكتابات التى ‏تندرج تحت لافتة "المقالة"، وإن لم يسمها أصحابها بهذا الاسم. لنأخذ ‏مثلا النصحية التى وجهتها أم جاهلية لابنتها التى توشك أن تنتقل إلى بيت ‏زوجها. إنها، حسبما وردت فى كتب الأدب القديمة، يمكن أن تُعَدّ مقالة ‏قصيرة توجهها سيدة مجربة إلى كل فتاة على عتبة الزواج. ولنأخذ أيضا ما ‏كتبه ابن المقفع فى "رسالة الصحابة". إنها مقال طويل نوعا، لكن ‏موضوعه إدارى سياسى. ويصدق هذا، وربما بصورة أقوى، على كثير مما ‏كتبه أبو الفرج الأصفهانى فى كتاب "الأغانى"، وابن المعتز فى "طبقات ‏الشعراء"، وكثير مما خطه قلم التوحيدى فى"مثالب الوزيرين" و"الإمتاع ‏والمؤانسة"، وما سطره الغزالى فى "المنقذ من الضلال"، وياقوت الحموى فى ‏عدد كبير من مواد كتابه: "معجم البلدان"، وأشياء كثيرة فى "صيد ‏الخاطر" لابن الجوزى. وهذه مجرد أمثلة امْتَحْتُها من الذاكرة كيفما اتفق. ‏إن المشكلة هى أن أجدادنا العرب لم يعرفوا فن الصحافة كما نعرفه الآن ‏لأن المطبعة لم تكن قد وُجِدَتْ بعد على أيامهم، فلم يكتبوا المقالة بشكلها ‏الصحفى المعروف ولم يستخدموا مصطلحها الذى نستخدمه نحن الآن، ‏لكن هذا لا يمنع أن يكون كثير مما يسمونه: "رسائل"، وكذلك كثير من ‏فصول الكتب التى تركوها لنا، مقالاتٍ صميمة(25).‏
وقد عدت إلى "‏‎ Columbia Electronic Encyclopedia‏" ‏فوجدت كاتب مادة "‏essay‏" يقول فى تعريفها ما نصه حرفيا: ‏
Essay: relatively short literary composition in ‎prose, in which a writer discusses a topic, usually ‎restricted in scope, or tries to persuade the reader to ‎accept a particular point of view. Although such ‎classical authors as Theophrastus, Cicero, Marcus ‎Aurelius, and Plutarch wrote essays, the term essai ‎was first applied to the form in 1580 by Montaigne, ‎one of the greatest essayists of all time, to his pieces ‎on friendship, love, death, and morality. In England ‎the term was inaugurated in 1597 by Francis Bacon, ‎who wrote shrewd meditations on civil and moral ‎wisdom. Montaigne and Bacon, in fact, illustrate the ‎two distinct kinds of essay—the informal and the ‎formal. The informal essay is personal, intimate, ‎relaxed, conversational, and frequently humorous. ‎Some of the greatest exponents of the informal essay ‎are Jonathan Swift, Charles Lamb, William Hazlitt, ‎Thomas De Quincey, Mark Twain, James Thurber, ‎and E. B. White. The formal essay is dogmatic, ‎impersonal, systematic, and expository. Significant ‎writers of this type include Joseph Addison, Samuel ‎Johnson, Matthew Arnold, John Stuart Mill, J. H. ‎Newman, Walter Pater, Ralph Waldo Emerson, and ‎Henry David Thoreau. In the latter half of the 20th ‎cent. the formal essay has become more diversified ‎in subject and less stately in tone and language, and ‎the sharp division between the two forms has tended ‎to disappear.‎‏ ‏
وهو ما لا يختلف فى جوهره عما قلناه من أن أجدادنا العرب كانوا ‏يعرفون ويمارسون هذا اللون من الكتابة، وإن لم يعرفوا المصطلح الحديث ‏الذى نسميه به، وكذلك لا يختلف عما أكدناه من أن المقالة لا يمكن أن ‏تكون دائما على وتيرة واحدة من حيث بروز العنصر الشخصى أو تواريه، ‏ولا من حيث تحليها بالفكاهة أو عدمه، ولا من حيث اكتفاؤها بلمس ‏سطوح الأشياء أو التعمق فيها، ولا من حيث خضوعها للنظام أو لا. ‏فكاتب المادة يقسم المقالات إلى نوعين: رسمى، وغير رسمى. فالنوع الأول ‏هو المقالة الشخصية الحميمة الفكهة التى لا تلتزم بنظام، والنوع الثانى هو ‏المقالة المنظمة التحليلية الجادة الموضوعية. كما نراه يؤكد أن المقالة كانت ‏موجودة منذ قديم الزمان لدى الإغريق والرومان، وإن لم يعرفوا آنذاك ‏مصطلحها الحالى.‏
وها هى ذى جانى بولانجيه (‏Jany Boulanger‏) أستاذة ‏الفرنسية بكلية فيو مونتريال (‏Vieux Montréal‏) بكندا تكتب فى ‏موقع "‏www.cvm.qc.ca‏"، تحت عنوان "‏L’Essai‏"، معرّفةً بالمقالة ‏تعريفا فيه شىء غير قليل من سعة الأفق ورحابة الرؤية، وإن لم يصل إلى ‏المدى الذى نأمله، فتقول:‏
L’essai, communément défini comme un ‎ouvrage littéraire en prose où se développe un ‎discours libre, argumentatif et affectif, apparaît à la ‎Renaissance avec Michel Eyquem de Montaigne ‎‎(1533-1592) qui souhaitait, par ses écrits Les Essais ‎‎(1588), répondre à l’inlassable question : «Que sais-‎je?». Écrire au gré de sa pensée, sans idées ‎préconçues, dans le seul plaisir de voir sa réflexion ‎en mouvement, voilà ce que recherchait avant tout ‎ce philosophe qui donna naissance à un genre ‎littéraire qui, faute de respecter des règles ‎prédéfinies, est souvent contesté. Mais, à y regarder ‎de près, comment pourrait-il en être autrement ? En ‎effet, l’étymologie même du mot, qui signifie à la ‎fois « tenter », « mesurer » et « peser », rappelle que ‎tout essayiste a le devoir d’exposer (« tenter ») sa ‎pensée sans la moindre restriction pour mieux en ‎éprouver (« mesurer », « peser ») la qualité, la ‎valeur et les fondements. Par ailleurs, Montaigne, ‎qui aimait affirmer «Je suis la matière de mon ‎livre», croyait que tout homme était à l’image de ‎l’humanité entière. Ainsi, dans un souci ‎d’authenticité et de vérité, la découverte de soi pour ‎mieux aller à la rencontre des autres fera de ce type ‎d’écrit le lieu de discours tant originaux ‎qu’inépuisables. L’essai, on l'aura compris, survivra ‎au philosophe en autant de versions que ‎d’individualités. ‎
Les Caractéristiques de l’essai: S’il est vrai que ‎l’essai est polymorphe, il possède néanmoins ‎quelques caractéristiques qui le distinguent des ‎autres genres. En voici les principales : ‎
Son style: L’essai est un écrit non fictionnel. Il ‎adopte un style clair et simple qui convient à ‎l’analyse, à l’explication et à l’observation. La ‎logique sera souvent une alliée de l’essayiste qui ‎cherche, par elle, à montrer les fondements et la ‎rigueur de son raisonnement. La première personne ‎du singulier, le « je », est souvent employée pour ‎montrer à la fois le point de vue unique ainsi que ‎l’expérience intime du monde dont l’écrivain veut ‎témoigner. ‎
Son ton: Ce type d’écrit cherche à convaincre ‎le lecteur, sinon à le faire réfléchir. Le ton y est donc ‎engagé, persuasif, mais toujours modéré, car ‎l’essayiste ne veut en aucun cas être accusé ‎d’intolérance ou de fanatisme. ‎
Sa these: La thèse, ici, est l’idée maîtresse de la ‎démarche réflexive de l’essayiste. Un essai est fondé ‎sur une seule proposition que l’écrivain mettra à ‎l’épreuve par l’exercice de sa pensée, qu’il voudra ‎rigoureuse et originale. Rappelons que, pour ‎Montaigne, le scepticisme ou le doute est le moteur ‎même du savoir puisqu’il permet d’interroger les ‎connaissances reçues pour en découvrir de plus ‎justes. ‎
Son but: Ce type d’écriture permet non ‎seulement de se prêter au « jeu » de la pensée, mais ‎de cultiver sa propre intelligence. Bien sûr, certains ‎penseurs voudront montrer, prouver et persuader ‎sans jamais, toutefois, vouloir soumettre l’autre à ‎leurs opinions ou à leurs positions : ce qu’ils ‎recherchent avant tout, par une provocation étudiée, ‎est de produire le choc des idées qui assure ‎l’innovation et la remise en question de leur ‎démarche réflexive respective. Voici comment ‎Francine Belle-Isle Létourneau l’explique dans son ‎article «L'Essai littéraire, un inconnu à plusieurs ‎visages»: «Mais il semble bien que l’originalité d’un ‎texte, ses intuitions, ses découvertes ne doivent pas ‎donner l’impression d’être imposées dès le départ, ‎car un lecteur heurté de front dans ses habitudes ‎mentales cesse vite d’être un bon lecteur. La ‎nouveauté du texte doit être suffisamment préparée ‎de telle sorte que le lecteur la découvre peu à peu et, ‎jusqu’à un certain point, croit y avoir participé»‎‏.‏
وفى هذا النص تقول الكاتبة إن فن المقال قد بدأ بمونتين فى القرن ‏السادس عشر، وكان كل همه التعبير بحرية عما بداخله من أفكار ‏ومشاعر دون قواعد مسبقة، وهذا ما جعله عرضةً للنقد، وإن أضافت ‏أنه لم يكن أمامه إلا هذا، إذ إن الأصل الاشتقاقى لكلمة "‏essai‏" يشير ‏إلى "المحاولة" وما فى معناها. أى أن كاتب المقال إنما يحاول عرض أفكاره ‏ومشاعره بأقل قدر ممكن من القيود. وفى استعراضها لخصائص هذا الفن ‏تشير الكاتبة إلى ما ينبغى أن يتحلى به المقال من بساطة العرض واستعانة ‏كاتبه بالمنطق لإقناع القارئ بما لديه أو دفعه إلى التفكير على أقل تقدير، ‏على ألا يشعره بأنه يريد الاستبداد به. كما تشير إلى أن لكل كاتب ‏شخصيته وطريقته فى ممارسة هذا الفن الكتابى، وهو ما يعنى أنه ليس ‏هناك منهج واحد يجب على كتاب المقالات جميعا الالتزام به. ‏
وإلى جانب ما مر هناك شىء نسمع به فى العقود الأخيرة اسمه ‏‏"قصيدة النثر"، التى تنتمى إلى جنس النثر فى خلوها من الوزن والقافية، ‏وتزعم أنها تأخذ من الشعر تكثيفه وعاطفيته وصوره وأحلامه والسطور ‏غير الكاملة بدلا من السطور التامة المتتابعة التى تكوّن بدورها فقرات ‏فمقالاتٍ أو كتبًا. فهل هناك جديد فى ذلك؟ لقد عرف العرب أولاً، ‏ولقرونٍ طِوَاٍل، القصيدةَ التى تتكون من عدد من الأبيات، كل بيت منها ‏مقسم إلى شطرين يتطابقان عروضيا أو يكادان، وكلها تنتهى بذات ‏القافية. أى أن البيت هو وحدة القصيدة الأساسية موسيقيا. ثم إنهم ‏عرفوا بعد ذلك الموشَّحات وبعض الأشكال الشعرية الأخرى التى لا يشكّل ‏البيت وحدتها الموسيقية الأساسية بل المقطع، فللمقطع نظامه الذى يتكرر ‏بحذافيره فى كل المقاطع. وفى العصر الحديث ظهر الشعر الحر أو شعر ‏التفعيلة، وهو لا يتكون من أبيات ولا مقاطع، بل من سطور. وهذه ‏السطور لا تجرى على بحر من بحور الخليل المعروفة، بل فى الغالب على ‏تكرير تفعيلة بعينها عددا من المرات يختلف من سطر إلى سطر دون نظام ‏مُطَّرِد. كما أن القافية موجودة، لكنها هى أيضا لا تعرف نظامًا ثابتًا، إذ ‏الشاعر يقفِّى كلما عَنّ له، وبالطريقة التى تستهويه. وإلى جانب الشعر الحر ‏نَظَم بعض الشعراء لونا آخر هو الشعر المرسل، وهو شعر يحتفظ بالأوزان ‏الخليلية، لكنه يخلو من موسيقى القافية. وكان قد ظهر قبل هذا وذاك ما ‏سُمِّىَ بــ"الشعر المنثور"، وهو يخلو من الوزن والقافية جميعا.‏
ثم ظهرت بعد هذا "قصيدة النثر"، أو "النَّثِيرة" كما يسميها بعضهم، ‏وهى لا تختلف عن الشعر المنثور إلا فى أن هذا الأخير قد يستعين ‏بالسجع أحيانا، أما هى فلا، وإلا فى أنه يُكْتَب كما يكتب النثر المعتاد، ‏أى فى سطور كاملة متتابعة، أما هى فتترسّم خُطَا الشعر التفعيلى، ومن ‏ثم لا تكتمل سطورها، فضلا عما فى كثير جدا من نماذجها من يأس ‏وضياع أو تفاهة ونزوع إلى التدمير الأحمق لقيمنا اللغوية والأدبية والروحية ‏يخلو منه الشعر المنثور(26)، ثم ما أخذ يسربلها بعد ذلك من غموض ‏يستحيل أحيانا كثيرة إلى هذيان. وهذا كله مما لم يعرفه النثر العربى القديم ‏الذى لا يخلو من نصوص تُفْعِمها العاطفة الجياشة والصور البديعة، وتوشّيها ‏موسيقى السجع والجناس والازدواج فتقترب من الشعر المنثور، لكنها لا ‏تندرج تحت ما يسمى: "قصيدة النثر" أو "النَّثِيرة".‏
ومن أشهر كتاب "النَّثِيرة" فى سوريا ولبنان مثلا على أحمد سعيد ‏إسبر (الملقب باسم الإله الوثنى: "أدونيس") ويوسف الخال وأنسى الحاج ‏ومحمد الماغوط وصلاح فائق وشوقى أبى شقرا وأسعد الجبورى وبندر ‏عبد الحميد ومروان صقر وسمير الصايغ. وللاستشهاد على ذلك الجنس ‏الجديد نسوق هذا الهُذَاء الذى يقول فيه أدونيس:‏
‏"المرايا تصالح بين الظهيرة والليل
خلف المرايا
جسدٌ يفتح الطريق
لأقاليمه الجديدة
جسدٌ يبدأ الطريق
بين إيقاعه والقصيدة
عابرًا آخر الجسور
‏... وقتلت المرايا
ومزقت سراويلها النرجسية
بالشموس ابتكرت المرايا
هاجسًا يخضن الشموس وأبعادها
الكوكبية"(27).‏
حيث لا ترابط بين الجملة والجملة التى تليها، بل ولا بين الكلمة ‏والكلمة التى تجاورها فى ذات الجملة، ومن ثم فلا معنى لأى شىء فى ‏هذا الكلام. إنه أشبه بمن يدلق على الأرض سطلا مملوءا بالكلمات ‏لتذهب كل كلمة فى اتجاه ثم تستقر الكلمات فى النهاية دون أن تكون بين ‏الكلمة والتى بجانبها أية علاقة سوى أنها صارت جارة لها بالمصادفة ‏المحضة! ‏
وهذا مثال آخر يبين لنا مدى التفاهة والسطحية المتغلغلة فى كثير ‏من نماذج ما يسمونه: "قصيدة النثر"، وهو لمنذر المصرى، الذى لا أعرف ‏عنه شيئا:‏
‏"هنا أسكن
ما رأيك لو ترى
ما ألصقتُه البارحةَ على زجاج نافذتى؟
وستقدم عمتى لنا
كوبين من الليمونادة المثلجة
أهلا وسهلا
أهلا وسهلا"(28).‏
إن أنصار "قصيدة النثر" يستندون إلى أن الأجناس الأدبية لم تعد ‏متمايزة فى عصرنا كما كانت من قبل، ومن ثم انماعت الحدود بين الشعر ‏والنثر. ثم إن تلك القصيدة، حسبما يقال، إنما تهدف إلى إحلال الرؤيويّة ‏‏(أى صوت اللاشعور) محل خطابية القصيدة التقليدية... إلى آخر ما ‏يرددون(29). وقاتهم أن الحدود لم ولن تنماع بين الأجناس الأدبية بهذه ‏الطريقة التى يمارسونها، وإلا لعدنا فى الأدب إلى ما يشبه عَمَاء الهَيُولَى ‏القديم. ثم إن الخطابية المشار إليها لا توجد فى كل الشعر المسمَّى ‏بالتقليدى، بل فى قصائد المديح والفخر وما إليها فقط، وإلا فهل فى شعر ‏ابن أبى ربيعة وجميل وقيس بن ذَرِيح، وعينية أبى ذُؤَيْبٍ الهُذَلِىّ، ولامية ‏الحُطَيْئة: "وطاوِى ثلاثٍ عاصبِ البطنِ مُرْمِلٍ"، ورائية بشار، وخمريات ‏أبى نواس، وزهديات أبى العتاهية، ومرثية ابن الرومى فى ابنه محمد، ‏وداليته فى وحيد المغنية، ونَدَمِيّات ديك الجن، وقصيدة الحُمَّى للمتنبى، ‏ورثائه لخَوْلَة الحَمْدانية، وأبيات ابن خفاجة فى الجبل، ونونية ابن زيدون، ‏ومئات ومئات بل وآلاف وآلاف من قصائد الشعر القديم، هذه الخطابية ‏المفتراة التى تذكرنا بقميص عثمان؟
ثم ما دخل الشعر التقليدى هنا، والقصيدة النثرية إنما خرجت، كما ‏رأينا، من عباءة الشعر المرسل والمنثور والحر؟ وهل الخطابية معيبة فى كل ‏الحالات والأوقات؟ أليست هناك لحظات فى تاريخ الفرد والأمة تملى عليه ‏إملاء أن يكون جهير الصوت بل مجلجله؟ إن هذه كلها تَعِلاّتٌ لا معنى ‏لها. وعلى كل حال ليس البديل عن الخطابية هذا الكلام الفاتر المكون فى ‏كثير من نماذجه من أمشاج لا قِوَام لها، ودعنا الآن مما فى بعض النماذج ‏الأخرى من تجديف فى حق المولى سبحانه وعدوان مستفز على أخلاق ‏العفة والحياء. ‏
والواقع أن هذا الهجوم الأرعن على ما يسمونه: "الخطابية" يذكّرنا ‏بما كان يسميه د. محمد مندور: "الشعر المهموس" وطنطنته الشديدة به، ‏وكأن الحياة كلها همس ونجوى، لا تطاحن فيها أو قتال وعرق ودمار ‏وعدوان ينبغى التصدى له. وبطبيعة الحال فإن التصدى لا يمكن أن يكون ‏بالهمس والتفتُّت! والعجيب أن من النماذج التى ساقها للتدليل على ‏صحة ما يذهب إليه قصيدة "أخى" لميخائيل نعيمة، وهى قصيدة تغلب ‏عليها الانهزامية اليائسة بما تشيعه من ثقافة الرضا بما يصنعه بنا وبأوطاننا ‏مجرمو الدول الغربية والاكتفاءِ بدور العجز والاستسلام والانصراف فى ذلة ‏وصمت إلى دفن موتانا الذين سقطوا فى الحرب العالمية الثانية دفاعا عن ‏مصالح أولئك القتلة واللصوص عديمى الضمير المجرمين دون أن يكون لنا فى ‏تلك الحرب ناقة ولا جمل، وإنْ بَطَّن الشاعر هذا الضعف واليأس بشىء ‏من التهكم على أوضاعنا لا يمكنه غسل ما رسّخته القصيدة فى النفوس ‏من عجز وهوان(30). لقد كان أحرى بالشاعر أن يشعل الأرض نارا تحت ‏أقدام المحتلين وينزل من السماء صواعق على رؤوسهم ويعمل بكل سبيل ‏على استنهاض الهمم الخائرة والعزائم الفاترة للشعوب العربية ضد مُذِلّيهم ‏وناهبى أوطانهم وممزقى أواصر الأخوة بينهم وجامعى عصابات الصهاينة ‏من كل فج ليقيموا لهم دولة فى قلب بلادهم، بدلا من هذا التهافت ‏والضعف المخزى الذى يسربل القصيدة من أولها إلى آخرها، ثم يفرح ‏مندور بها وكأنه عثر على كنز نفيس، مع أنها مجرد صَدَفة لا جوهرة. ‏الحق أنه إذا كان هذا هو "الشعر المهموس" فلا كان همسٌ ولا كان شعرٌ! ‏
ومقطع اليقين أنه ليس للدعاوى المتعلقة بقصيدة النثر من معنى إلا ‏أنه باستطاعة أى إنسان أن يكون شاعرا، وشاعرا عبقريا أيضا، ما دام ‏الشعر قد تخلص من وزنه وقافيته، وانحط إلى هذا الدرك الأسفل من ‏التفاهة والهذيان، وأضحى من الهوان بهذا المكان! ترى هل يعجز أعرى ‏الناس من موهبة الأدب والشعر عن توليف مثل هذه السخافات ‏والهلاوس؟ ولقد انتشر الآن ما يُدْعَى: "قصيدة النثر" بين شباب الأدباء ‏السطحيين الخالين من المواهب لسهولتها وخلوها من قيود الإيقاع وأسلوبها ‏الواهن وعدم تعمقها فى الغوص على أى معنى أو إحساس.‏


‏ أدب الأطفال:‏
‏ ومن التطورات التى لحقت النثر العربى فى العصر الحديث أيضا ‏تأليف القصص والكتب والمسرحيات التى وُضِعَتْ ليقرأها الأطفال ‏والصبيان. والمعروف أنه ليس فى التراث العربى أدب من هذا النوع، إذ ‏كان الصغار يتربَّوْن على ما كان يطالعه الكبار، لا فرق بين الاثنين فى ذلك، ‏إلى أن هَلّ العصر الحديث. ويبدو أن هذا يصدق أيضا على الآداب ‏القديمة الأخرى، إذ لم يظهر أدب الأطفال فى الدول الأوروبية إلا فى ‏العصور الحديثة، وإن كانت هذه الدول قد سبقتنا فى هذا المضمار بعدة ‏عقود. وكان رفاعة الطهطاوى أول من التفت إلى أهمية الكتابة خِصِّيصًا ‏للأطفال، فوجدناه يأمر بترجمة بعض الكتب الموضوعة من أجلهم وتوزيعها ‏على مكتبات الدارس لتكون تحت تصرفهم. وفى بداية القرن العشرين ‏رأينا على فكرى يضع "مسامرات البنات"، وبعدها بسنوات يُرْدِفه ‏بــ"النصح المبين فى محفوظات البنين"، وهما يحتويان على حكم ومواعظ ‏وتوجيهات أخلاقية: شعرية ونثرية(32). أما الذى يمثل الريادة الحقيقية فى ‏هذا الميدان فهو المرحوم كامل كيلانى، الذى أخرج مئات القصص المؤلفة ‏والمترجمة أو المستوحاة من الآداب الأجنبية أو القائمة على تبسيط ‏القَصَص العربى القديم. وهناك كتّاب مصريون آخرون أسهموا فى هذا ‏المجال أيضا إسهامات لا يمكن نسيانها أو تجاهلها منهم محمد سعيد العريان ‏ومحمد عطية الإبراشى وسيد قطب وعبد الحميد جودة السحار وحامد ‏القصبى ومحمد شفيق عطا وأحمد نجيب وإيهاب الأزهرى وعبد التواب ‏يوسف ونهاد جاد ود. نبيل فاروق. ولمؤلف هذا الكتاب عدد من ‏قصص المغامرات الإسلامية هى "مقتل ابن أبى الـحُقَيْق" و"مقتل كعب بن ‏الأشرف" و"مقتل الأَسْوَد العَنْسِىّ" صادرة عن دار ابن القيم بالدمام ودار ‏القتح ببيشاور.‏
أما فى البلاد العربية الأخرى فلدينا على سبيل المثال كارمن معلوف ‏‏(من لبنان)، وزكريا تامر وسليمان العيسى (من سوريا)، وراضى عبد ‏الهادى ومعين بسيسو ومحجوب عمر ومحمود شقير وعايدة أيوب (من ‏فلسطين)، وروكس العزيزى وحسنى فريز ونبيل صوالحة وزهير كحالة ‏وروضة فرخ الهدهد ومحمد جمال عمرو (من الأردن)، ويوسف الشريف ‏ومحمود فهمى (من ليبيا)، ومحمد مناشو وأحمد القديدة ومحمد العروسى ‏المطوى وعبد القادر بن الشيخ (من تونس)، ومحمد الصالح رمضان (من ‏الجزائر)... إلخ.‏
ويضم أدب الأطفال النثرى، وهو الذى يهمنا هنا، فنونا مختلفة من ‏الكتابة: فهناك القصص والمسرحيات والأساطير والرحلات والكتب ‏التاريخية والدينية وكتب المعارف العامة وكتب تبسيط العلوم. وتحظى ‏مجلات الأطفال وكتبهم عادةً باهتمام زائد فى الإخراج والتغليف والطباعة ‏والتلوين والتشكيل واختيار الحرف وما إلى ذلك. وتهدف هذه المجلات ‏والكتب إلى تحبيب الناشئة فى القراءة ومساعدتهم على النطق السليم ‏وتوسيع أفق معارفهم من الألفاظ والعبارات والتراكيب والصُّوَر ومعاونتهم ‏على اكتساب الأسلوب الجميل وغرس القيم الدينية والخلقية والوطنية فى ‏نفوسهم وتزويدهم بألوان المعارف الحديثة. وفى كل وطن عربى تصدر ‏مجلة أو أكثر للناشئين، وإن لُوحِظَ أن بعضها يُكْتَب بالعامية مما لا يرقِّى ‏عقلا ولا يرقِّق وجدانا، كما أن فى كثير منها مغامرات لا يسودها منطق ‏ولا ترتبط بالواقع على أى نحو ولا يترتب على مطالعتها أية فائدة. والمرجوّ ‏الإقلال من هذا ما أمكن، ويا حبذا لو تم التخلص منه جملة. ومن أسماء ‏مجلات الأطفال العربية: "أسامة" و"الطليعى" في سورية، و"مجلتى" ‏و"المزمار" في العراق، و"سامر" و"أحمد" في لبنان، و"باسم" و"الشبل" ‏و"سنان" فى السعودية، و"العربى الصغير" في الكويت، و"ماجد" فى ‏الإمارات العربية المتحدة، و"علاء الدين" و"ميكى" و"الفردوس" فى مصر، ‏و"حاتم" و"وسام" فى الأردن، و "هدهد" فى اليمن، و"الصبيان" فى ‏السودان، وإن كانت بعض هذه المجلات قد توقفت. وكانت هناك مجلة ‏مصرية اسمها "سندباد" كانت تفتننى فى طفولتى، ولكنها للأسف اختفت ‏منذ زمن طويل، ولا أدرى لماذا!‏
ولا يقتصر الأمر هنا على الكتب الإبداعية، بل يقوم إلى جوارها نوع ‏من المؤلفات تَدْرُس بدورها أدب الأطفال وعقولهم ونفسياتهم وما يلائمهم ‏من كتب ومجلات، وتحاول أن تضع الأسس والقواعد التى ينبغى للمؤلفين ‏مراعاتها فيما يكتبون للأجيال الصغيرة. ومن هذه البحوث "فى أدب ‏الأطفال" للدكتور على الحديدى، و"فن الكتابة للأطفال" لأحمد نجيب، ‏و"كتب الأطفال فى عالمنا المعاصر" لعبد التواب يوسف، و"ثقافة الطفل ‏العربى" لجمال أبو رية، و"أدب الأطفال" لحنان عبد الحميد العنانى، و"أدب ‏الأطفال" لأحمد حسن حنورة، و"مقدمة فى أدب الأطفال" لمفتاح محمد ‏دياب، و"أدب الطفل العربى" للدكتور حسن شحاتة، و"أدب الأطفال" ‏للدكتورة هدى قناوى، و"أدب الأطفال- فلسفته وفنونه" لهادى نعمان ‏الهيتى، و"الخيال العلمى فى أدب الأطفال" لنُورِى جعفر... وهكذا. ‏وكل ذلك جديد تماما على النثر العربى. ‏
المرأة ناثرة: ‏
ويدخل فى مظاهر التطور الذى لحق النثر العربى الحديث أيضا ‏مشاركة المرأة فى الكتابة النثرية. لقد كان بين نساء العرب القدماء ‏شاعرات منذ الجاهلية، وإن كان عددهن وإنتاجهن قليلا جدا بالنسبة ‏للرجال وأشعارهم، إذ كانت المرأة لا تزيد فى شعرها عادة عن بعض ‏الأبيات أو المقطوعات والقصائد، ولم يمر بى فى قراءاتى فى أدبنا القديم أنه ‏كان لامرأة ديوان شعرى كامل حاشا الخنساء. لقد كان هناك مثلا جليلة ‏بنت مُرّة وليلى الأَخْيَلِيّة ورابعة العدوية ونَزْهُون الغرناطية وولاّدة بنت ‏المستكفى، إلا أن ما وصلنا عنهن من الشعر قليل قليل قليل (33). أما فى ‏النثر فقد حاولت أن أستعرض ما فى ذهني من أسماء الجنس اللطيف، ‏غير أنى لم أوفَّق إلى تذكر شىء. لقد كانت هناك محدِّثات وفقيهات مثلا، ‏أما أديبات يكتبن النثر رسالةً أو مقامةً أو حكايةً فلا(34). لكن الوضع قد ‏اختلف فى العصر الحديث، الذى سمع منذ فترة مبكرة انطلاق أصوات ‏المصلحين الداعين إلى تحرير المرأة من قيودها والعناية بتعليمها. بدأ هذا ‏رفاعة الطهطاوى رائد النهضة الثقافية الحديثة. وفى بداية القرن العشرين ‏أصدر قاسم أمين كتابيه: "تحرير المرأة" و" المرأة الجديدة"، اللذين أقاما ‏الدنيا ولم يقعداها منذ ذلك الحين. وكانت هناك أصوات أخرى فى مصر ‏وفى غير مصر كلُّها تعطف على المرأة وتدعو إلى احترام إنسانيتها ‏وإعطائها نفس الفرص التى يتمتع بها الرجال.‏
وكان من ثمرة هذا أنْ دخلت المرأة المدرسة ثم الجامعة بعد ذلك، ‏وخرجت إلى الدنيا ولم تعد قعيدة المنزل، وعملت مع الرجل فى كل ‏المؤسسات والمصالح، وأصبحت هناك نساء كاتبات مثلما هناك رجال ‏كتّاب، فرأينا عائشة التيمورية الشاعرة المعروفة تكتب الرواية، ومَلَك ‏حفنى ناصف تدبّج المقالات وتلقى الخطب، ومىّ زيادة تخطب وتكتب ‏نثرا وجدانيا مجنَّحا وتتبادل الرسائل مع بعض مشاهير الأدباء كالعقاد ‏وجبران، وبنت الشاطىء تمارس الكتابة الإصلاحية والنقد الأدبى ‏والإبداع القصصى والترجمة الذاتية والغيرية وتلقى المحاضرات فى الجامعة، ‏ومثلها فى ذلك سهير القلماوى، وكذلك نعمات أحمد فؤاد ولطيفة الزيات ‏ورضوى عاشور. وهذا الكلام يصدق على البلاد العربية الأخرى ‏كفلسطين، التي يمكن أن نذكر منها كلثوم عودة وسلمى النصر ونجوى قعوار ‏وأسمى طوبى ووداد سكاكينى وعنبرة سلام الخالدى وفدوى طوقان ‏وسميرة أبو غزالة وامتثال جويدي وثريا ملحس، وسوريا ولبنان حيث ‏ظهرت وردة اليازجية ونديمة المنقارى وألفت إدلبى وسلمى الكزبرى ‏وضياء قصبجى ونجاح العطار وبثينة شعبان ومارى عجمى ونازك بيهم ‏وروز غريب وليلى البعلبكى وغادة السمان وليلى عسيران، والعراق، ‏ومنها بولينا حسون ومليحة إسحاق ونازك الملائكة وعاتكة الخزرجى ‏ولميعة عمارة وديزى الأمير وسليمة خضر وسهيلة الحسينى. كما نستطيع ‏أن نضيف إلى هذه الأسماء ليلى أمين دياب وآسيا جبار وزهور ونيسى ‏‏(من الجزائر)، وباحثة الحاضرة (ملكة الفاسى) وفتاة تطوان وآمنة اللوة ‏وفاطمة الراوى وخناتة بنونة (من المغرب)، وزينب الكعاك وناجية ثامر ‏وعروسية النالوتى وهند عزوز وحياة بنت الشيخ (من تونس)، وزعيمة ‏البارونى وحميدة العنبرى وجميلة الزمرلى (من ليبيا)، وزينب الكردى ‏وشرقية الراوى ودُرَر (من السودان)، وخديجة السقاف ورقية الشبيب ‏ولطيفة السالم و سميرة بنت الجزيرة العربية وصفية عنبر (من السعودية)، ‏وزهرة المالكى ودلال خليفة وكلثم جبر وهدى النعيمى وشمة الكوارى ‏‏(من قطر)، وخولة القزوينى ومنيرة الفاضل ومعصومة المطاوعة (من ‏البحرين)، وسلمى مطر سيف وليلى أحمد ومريم فرج وأمنية بو شهاب ‏‏(من الإمارات)، وأمل عبد الله وشفيقة زوقرى ورمزية الأريانى وأمل ‏اللوزى وبلقيس الحضرانى (من اليمن)، وزكية بنت سالم العلوى وبدرية ‏الوهيبى (من عمان). بل لقد أصدرت المرأة العربية المجلات ورأست ‏تحريرها، وأورد أنيس المقدسى فى كتابه: "الاتجاهات الأدبية فى العالم ‏العربى الحديث" بضع عشرات من المجلات التى كان يتولاها عدد من ‏النساء العربيات فى مصر والشام وأمريكا فقط حتى عام 1955 ‏فحسب.‏
من الموضوعات الجديدة: 1- الدعوة إلى تحرير المرأة:‏
لعل أول قلم ارتفع صوته فى الأدب العربى الحديث بالكتابة المفصلة ‏داعيا إلى إنصاف المرأة وإعطائها حقها فى التعليم والخروج من البيت وأن ‏يكون لها رأى فى اختيار شريك حياتها...إلخ هو قلم رفاعة الطهطاوى، ‏الذى كان يرى فى احترام الرجال للنساء دليلا على التمدن ورقى النفس. ‏كما كان يؤكد أن عند المرأة استعدادا فطريا لتعلم كل شىء، وأنها لا تقل ‏عن الرجل ذكاء أو سخاء أو عفة أو شجاعة... إلى آخر ما هنالك من ‏الفضائل الإنسانية، وأن لتعليمها من المنافع ما يفوق الضرر الذي يتوهمه ‏بعض الرجال، وأنها تستطيع، إذا اقتضت الضرورة، أن تمارس الأعمال ‏كالرجال سواء بسواء، مع مراعاة طاقتها فى ذات الوقت، وأن واجب ‏الآباء وأولياء الأمور أن يشاوروا الفتاة فى أمر زواجها ولا يفرضوا عليها ‏من لا يميل قلبها إليه. ويجد القارئ ما كتبه رفاعة الطهطاوى فى هذه ‏القضايا وأشباهها فى كتابيه: "مناهج الألباب المصرية فى مباهج الآداب ‏العصرية" (الصادر عام 1869م) و"المرشد الأمين لتربية البنات والبنين" ‏‏(الذى صدر فى 1873م)(35). وقد أنشئت أول مدرسة للبنات فى مصر ‏أيام الخديوى إسماعيل، ولم يرتح الرأى العام وقتذاك لهذه الخطوة، إلا أن ‏رفاعة دافع عنها وأكد وجوب تعليم الفتاة(36). ‏
ومن الأقلام التى تبنت هذه القضية بعد رفاعة وكان لصريرها دوى ‏هائل قلم قاسم أمين، الذى نشر فى بداية القرن العشرين كتابيه: "تحرير ‏المرأة" و"المرأة الجديدة"، وكان منطلقه فى الكتاب الأول منطلقا إسلاميا، ‏أما الثانى فكانت الصبغة الغربية فيه أقوى. وقد وقع الكتابان كالصاعقة ‏على الرأى العام المصرى والعربى. ولمجد الدين حفنى ناصف فى هذا ‏الموضوع كتاب "تحرير المرأة فى الإسلام"، الذى دافع فيه عن نبوغ المرأة ‏وقدرتها على الاضطلاع بجلائل الأعمال كالرجال تماما، مستشهدا على ‏ذلك بآيات القرآن الكريم وأحاديث النبى عليه السلام وأقوال المشاهير. ‏وهناك أدباء مصريون آخرون اشتهروا بمعالجة قضية المرأة فى أعمالهم، ‏وفى مقدمتهم إحسان عبد القدوس، وإن بدا فى بعض قصصه وكأنه ‏يدافع عن حقها فى الانحراف الجنسى باسم الحب كما هو الحال مثلا فى ‏روايته: "أنا لن أعيش فى جلباب أبى".‏
وفى العراق نُلْفِى جميل صدقى الزهاوى يسير فى خطا معاصره ‏قاسم أمين ويدعو بنفس دعوته بعد رجوعه من مصر إلى العراق، فيكتب ‏عدة مقالات فى مطلع القرن العشرين مناديا بتحرير النساء وتعليمهن ‏وتثقيفهن وسفورهن، ومؤكدا أن العفة ليست فى الحجاب، بل فى العلم ‏والثقافة. وكان معروف الرصافى أيضا من المناصرين لتحرير المرأة ‏وتعليمها. وقد فُتِحَتْ أول مدرسة للبنات فى العراق سنة 1899م، ‏وظلت هى المدرسة الوحيدة حتى عشية الحرب العالمية الأولى، لرفض ‏الرأى العام تعليمهن. ثم أصبحت مدارسهن مع الأيام بالمئات، فضلا عن ‏الجامعة التى قُبِلْن فيها أيضا ابتداء من عام 1936م: على استحياءٍ أول ‏الأمر، ثم فُتِحَتْ أبوابها على مصاريعها بعد ذلك(37). كما ظهرت المجلات ‏النسوية التى تبنَّتْ قضية المرأة منذ سنة 1933م، مثل: "ليلى" و"المرأة ‏الحديثة" و"فتاة العراق" و"فتاة العرب" و"فتاة الرافدَيْن" و"تحرير المرأة" ‏و"الاتحاد النسائى"(38)، وهى أسماء ذات دلالة فى هذا الصدد. ‏
ومن كتّاب الشام يمكن أن نذكر مثلا مارى عجمى والأقلام التى ‏كانت تستكتبها فى مجلتها: "العروس"، وهى أول مجلة نسائية تصدر فى ‏سوريا(39)، وكانت تَعِجّ بالمقالات التي تؤكد حق المرأة فى التعليم والحرية فى ‏نطاق الفضائل والتقاليد الشرقية(40). ومن كتّاب الشوام أيضا نذكر محمد ‏جميل بيهم مؤلف "المرأة فى الشرائع والتاريخ" و"المرأة فى التمدن ‏الحديث"، وفيهما يستعرض أوضاع النساء فى الحضارات والشرائع ‏المختلفة بغية كسب الرجال إلى صف قضيتهن. وفى بعض أعمال غادة ‏السمان القصصية تناولٌ للتفاوت الملحوظ بين معاملة الذكر والأنثى داخل ‏الأسرة، وقى رواية حيدر حيدر: "وليمة لأعشاب البحر"، التي أثارت من ‏الضجة عند إعادة طبعها فى مصر منذ أعوام قلائل ما لم يحدث مثله من ‏قبل لأية رواية عربية، نجد غُلُوًّا شنيعا في مسألة تحرر الفتاة العربية إلى ‏درجة إغرائها بالتفريط فى شرفها والتهليل لذلك(41).‏
ومن تونس نشير إلى خير الدين التونسى المصلح السياسى الشهير ‏الذى دعا فى القرن التاسع عشر إلى تعليم المرأة(42)، وكذلك الطاهر ‏الحداد، الذى ألف فى عام 1930م كتابه: "امرأتنا فى الشريعة والمجتمع"، ‏ينادى بتحرير المرأة وسفورها ومنع تعدد الزوجات وجَعْل الطلاق بيد ‏المحكمة لا بيد الرجل، قائلا إن الإسلام قد أعطاها حقوقها، وإنه يدعو ‏للمساواة بينها وبين الرجل فى كل شىء، إلا أنها لم تعد تتمتع بشىء من ‏هذه الحقوق للأسف. وقد لاقى الحداد كثيرا من المعارضة لما دعا به فى ‏هذا الكتاب(43). ومن التونسيين الذين دافعوا عن حقوق المرأة وحريتها ‏أيضا محمد مختار بن محمود، فقد ألقى محاضرة تحدث فيها عن حقوق ‏النساء فى الإسلام وقدم برنامجا علميا لإنهاضهنّ يوافق ما جاء به الإسلام ‏فى هذا الشأن(44). ومنهم كذلك محمد مزالى، الذى قدم فى سبتمبر ‏‏1949م محاضرة طويلة بعنوان "مشكلة المرأة التونسية المسلمة" نشرها بعد ‏ذلك فى كتابه: "دراسات" الصادر فى عام 1974م بعنوان "تعليم الفتاة ‏التونسية"(45).‏
أما فى الجزائر فنجد على سبيل المثال الشيخ محمد بن مصطفى بن ‏الخوجة يصدر سنة 1895م كتابا بعنوان "الاكتراث فى حقوق الإناث"(46)، ‏كما ينشر أحمد رضا حوحو سنة 1947م رواية بعنوان "غادةُ أمِّ القرى" ‏يصور فيها معاناة المرأة الحجازية(47) وحرمانها من حقها فى التعليم وإبداء ‏الرأى، داعيا إلى تمكينها من حقوقها الطبيعية والشرعية فى إطار الإسلام ‏لا المدنية الغربية. وعلى ذات الدرب يسير محمد الأمين العمودى، الذى ‏اهتم بقضية المرأة حريةً وتعليمًا مع البعد عن التفرنج، وإن آثر فى ذات ‏الوقت اكتفاءها بالبكالوريا. فهذا القدر من التعليم كفيل فى نظره أن ‏يجعلها بنتا وزوجة وأما صالحة واعية(48).‏
وعن المرأة فى اليمن يقول الأديب اليمنى المعروف عبد الله البردونى ‏رابطا بين وضعها ووضع المجتمع بوجه عام: "إنها موجودة كلما وُجِد ‏المجتمع. وكلما قال المجتمع: "أنا هنا" كانت المرأة أحلى ملامحه وأنشط ‏سواعده. نبغت فى بلادنا الفقيهةُ فى بيئة الفقه كالشريفة دهماء، ونبغت ‏الفارسةُ فى عهد الفروسية كريّا بنت الحارث، ونبغت القائدةُ حين أعدّتها ‏بيئة القيادة كأَرْوَى بنت أحمد وأسماء بنت أبى الجيش وتحفة الصليحية، ‏فإذا النابهات فى كل عَدٍّ يقاربن عدد النابهين. وعندما استحكم علينا ‏الجمود والتأخر غابت المرأة بين اللفائف والجدران، وغاب الرجل تحت ‏جلده لا يتحرك إلا فيه كما لا تتحرك المرأة إلا تحت ستائرها. وعندما ‏ارتفع صوت العصر ردّدته المرأة والرجل. كان أول مجال هو التمريض، ‏فدخلته المرأة بلا تردد لا لأنه غاية الطموح، ولكنه أول محيا تهيأ. وبعد ‏قيام الثورة نادى العمل فقالت: "لبيك"، فدخلت مصنع الغزل والنسيج، ‏وارتفع صوتها من الإذاعة لأنه لم يعد عورة كأصوات الجدّات. وعندما ‏انفتحت المدارس دخلت المرأة بكل الشوق إلى التفوق وأصبحت متعلمة ‏ومعلمة. وعندما ابتدأ التعليم الجامعى اقترب عدد الطالبات من عدد ‏الطلاب. فهل المرأة غائبة؟ لقد أشرقت كلما أشرقت الحياة فى المجتمع". ‏وهو يدعوها إلى بذل المزيد من الجهد لاقتحام العقبات ونبذ التفكير الآلى ‏إلى العمل الإبداعى والابتكارى الذى يدل على التقدم الحقيقى لا ‏المظهرى(49).‏
وإذ كان افتتاح مدارس البنات فى بعض البلاد العربية قد تأخر كما ‏هو الحال مثلا فى قَطَر، التي لم يتم إنشاء مدرسة لهن فيها إلا فى عام ‏‏1954م بسبب النظرة المتشددة التى كان ينظر بها المجتمع وقتذاك إلى تعليم ‏الفتاة وخروجها من المنزل(50)، فقد تغير الوضع الآن وصار القَطَرِيّون ‏يتحمسون لتعليم بناتهم تحمسا شديدا حتى لقد أصبحت مدارس البنات ‏تُعَدّ بالعشرات، وهو عدد كبير بالقياس إلى قلة السكان، فضلا عن ‏الجامعة، التى افْتُتِحَتْ عام 1978م مما يومئ إلى الشوط البعيد الذى ‏قطعته الفتاة القطرية فى سبيل النهوض والعلم. ومثالاً على الأدب النثرى ‏القطرى الذى يعالج قضايا المرأة نأخذ مجموعة القصص القصيرة "أنت وغابة ‏الصمت والتردد" لكَلْثَم جبر، التى تدور طائفة منها على الصراع بين رغبة ‏الفتاة فى الزواج ممن تحب وبين التقاليد الراسخة التى تجبرها على الاقتران ‏بقريب لها أو على تزويجها كَرْهًا من شيخ كبير ثرى كما يقول محمد عبد ‏الرحيم قافود(51). ‏
‏ 2- عودة الشعوبية:‏
ومن الموضوعات التى تلفت النظر كذلك فى النثر العربى الحديث ‏موضوع "الشعوبية الجديدة"، إذ بعد أن انطوت صفحة الشعوبية الأولى فى ‏العصر العباسى الأول منذ قرون طوال أخذنا نرى فى هذا العصر فريقا من ‏كتّاب هذا البلد أو ذاك من بلاد العروبة يدعو إلى الانغلاق داخل الوطنية ‏الضيقة مُوَلِّيًا وجهه شطر تاريخه القديم الذى مضى فى الزمن الأول وأبدلنا ‏الله به الإسلام ولغته وحضارته. وهو اتجاه جامح خطر، إذ يعمل على ‏تفتيت الوحدة التى تربط العرب وتقوم على الدين الواحد واللغة المشتركة ‏والتاريخ والحضارة اللذين جمعا أهل هذه المنطقة على مدى أربعة عشر ‏قرنا. ومن ثم ذَرَّ قرنُ الفرعونية فى مصر، والفينيقية فى لبنان، والآشورية ‏فى العراق، والبربرية فى المغرب العربى.‏
ومن الأسماء التى برزت فى ميدان الدعوة إلى الفرعونية والقطيعة مع ‏تاريخنا العربى اسم مرقص سميكة، الذى يضع الفتح العربى مع الاحتلال ‏الفارسى والرومانى والإنجليزى لمصر فى سلة واحدة، قائلا إن مصر قد ‏فقدت استقلالها منذ انتهاء حكم الفراعنة حتى العصر الحديث. كذلك ‏نرى محمد حسين هيكل، قبل أن يتحول عن فكره القديم ويكتب "حياة ‏محمد" و"فى منزل الوحى" ويؤرخ للصِّدّيق والفاروق وعثمان، يحاول بعث ‏الفرعونية، زاعما أن الصلات بين الفراعنة والمصريين المحدثين لا تزال قائمة ‏حتى فى مجال الدين والعبادة، ومستلهما الهداية من الحضارة الفرعونية التى ‏تخيَّلَ أنه سيأتى يوم تكون فيه دينًا يغزو العالم ويحقق للبشرية المتعة ‏والطمأنينة. وكأن هذا غير كاف عنده، إذ نراه يدعو أهل العراق إلى ‏اقتفاء نهج الفرعونية فى مصر ووَصْل حاضرهم بماضيهم إلى عهد آشور ‏وبابل. ومِثْل هيكل فى ذلك محمد عبد الله عنان، فقد كان فى مبتدإ ‏أمره يسخر من فكرة الجامعة العربية التى كان كثير من الأقلام العربية تدعو ‏إليها، مدعيا أن ذلك كله وهمٌ وتعلُّقٌ بماضٍ انتهى أمره ولا سبيل إلى عودته ‏ولا فائدة تُرْجَى منه، وأن مصر لم تكن عربية فى يوم من الأيام(52). وكان ‏هناك فرعونيون آخرون غير هؤلاء منهم سلامة موسى وطه حسين ومحمود ‏عزمى وإسماعيل أدهم ولويس عوض(53).‏
وفى العشرينات من القرن الماضى صدرت فى بيروت مجلة ناطقة ‏بالفرنسية اسمها "المجلة الفينيقية" يحررها بعض الأدباء اللبنانيين الذين ‏يدعون إلى إحياء الفينيقية، زاعمين أن اللبنانيين ليسوا عربا بل فينيقيين. ‏لكن هذه المجلة توقفت عن الصدور بعد عدة أعداد قليلة لتتسلم الراية ‏منها عدة منابر ثقافية أخرى أقل وزنا. ثم ظهرت فى الخمسينات من ذات ‏القرن مجلة "شعر"، التى كان يصدرها الأديب اللبنانى يوسف الخال، والتى ‏كانت تتبنى نفس الدعوة الفينيقية، ثم اختفت هذه المجلة بدورها واحتلت ‏مكانها مجلة "مواقف" لعلى أحمد سعيد الملقب بــ"أدونيس". ثم برزت إلى ‏الوجود بعد ذلك مجلة "لبنان" لسعيد عقل، وكانت تُكْتَب بالعامية ‏الزحلاوية والحرف الفينيقى الذى طوّره عقل رغبةً فى إعادة عقارب الزمن ‏إلى الوراء وتصورًا منه أنه قادر على هذا(54). ‏
وقد تصدى لهذه الدعوة الخطرة الشرفاء الغيورون، ومنهم عبد ‏المسيح الأنطاكى، الذى رد بقوة على واحد من دعاة الفينيقية ناعيا عليه ‏حرصه على الانتساب إلى "أمة هلكت ودرست آثارها وعلومها ولغتها، ‏على حين أنه يتكلم بلغةٍ عربيةٍ فاشِيَةٍ فى بلاده منذ آلاف السنين"، ‏ومتسائلا فى إنكار: "ما باله ينصرف عن الانتساب إلى هذا الأصل العربى ‏الرفيع المجيد ويحاول الالتصاق بقوم لم يبق على وجه البسيطة من آثارهم ‏سوى الاسم؟ أَوَنَحْن أقرب نسبا إلى الأخطل أم الفينيقيين؟ ألا تَرْضََوْن ‏بالغَسّانيّين نسبا؟"(55). ومثل الأنطاكى فى هذا فيلكس فارس، الذى أكد ‏أنه لا يستطيع أن يرى فى حياة المصريين الآن أى أثر للحضارة الفرعونية لا ‏فى العلوم ولا فى الآداب، مثلما لا يرى فى حضارة أهل سوريا ولبنان ‏حاليا أى شىء من حضارة الفينيقيين، إذ لم يبق من هاتين الحضارتين ‏المستغرقتين فى الماضى السحيق إلا بعض الأهرام والمعابد والأعمدة ‏والقصور والقبور(56).‏
وفى تونس كان المسؤولون عن التعليم أيام الاحتلال الفرنسى يركّزون، ‏عند دراسة تاريخ البلاد، على العصر الرومانى وكأنه هو التاريخ التونسى ‏جميعه. وقد أنتجت هذه الجهود الشيطانية تلاميذَ يهتمون بأوربا وتاريخها ‏ويعظّمون رجالها أكثر مما يهتمون بالتاريخ العربى وأعلامه. لكن الكتاب ‏والأدباء التونسيين الأحرار وقفوا فى وجه هذا التيار وكشفوا خباياه(57).‏
كذلك عملت فرنسا فى الجزائر والمغرب بمعاونة بعض مستشرقيها ‏على إثارة النعرة الطائفية عند البربر وتأريث نار الفتن بينهم وبين إخوانهم ‏العرب، وبذات جهودا جبارة لتحويلهم عن هويتهم الدينية حتى يكونوا ‏أعداء لإخوة الأمس لا تربطهم بهم رابطة. ومن حِيَل الفرنسيين فى هذا ‏المجال إصدارهم فى أوائل الثلاثينات ما يُعْرَف بــ"الظَّهِير البربرى" بغية ‏إقصاء العربية عن مناطق البربر وإعادتهم للتحاكم إلى أعرافهم وتقاليدهم ‏بدلا من الشريعة(58). وقد آتت هذه الدعوةُ أُكُلَها مع الأيام فأخذت فئات ‏من البربر فى السنين الأخيرة تدعو إلى الاعتراف بكيان ذاتى داخل الدولة ‏الجزائرية، بل طالبت "جبهة تحرير القبائل البربرية فى بلدان المغرب العربى" ‏التى تشكلت فى باريس عام 1980م بإقامة دولة مستقلة لهم فى المناطق ‏التى يقطنونها فى كل من المغرب والجزائر وموريتانيا، وهبت المظاهرات ‏والإضرابات الطلابية تنادى بإحياء الثقافة البربرية داخل الجزائر(59).‏
وقد صدرت فى أجادير بالمغرب لبعض الوقت مجلة تنطق باسم ‏البربر وتستعمل العامية البربرية وتعتمد الحرف الفينيقى اسمها "أمازيغ"، إلا ‏أن السلطات المغربية عطلتها عن الصدور(60). وليس استعمال الحرف ‏الفينيقى هو وحده الذى ينم عن وجود علاقة بين الدعوة الفينيقية فى ‏لبنان والدعوة الأمازيغية فى بلاد المغرب العربى، فقد كان كاتب ياسين ‏الجزائرى الأمازيغى الذى يكتب أدبه بالفرنسية ويجهد فى استبدال اللهجة ‏البربرية بلغة الضاد وينتفى من العروبة وما يتعلق بها يرسل بإنتاجه إلى ‏يوسف الخال فينشره له فى مجلة "شعر" المناهضة للعروبة(61). ومن أدباء ‏الجزائر البربر المناهضين للاتجاه العروبى مولود معمرى، وهو من الذين ‏يستعملون الفرنسية فى أدبهم مثل كاتب ياسين. وقد ذكر د. عمر بن قينة ‏أنه يدرّس البربرية لطلابه فى الجامعة فى غفلة من المسؤولين(62). ‏
وعلى رأس المناهضين لهذه النزعة الضارة يأتى عبد الحميد بن ‏باديس، الذى كان يثير عواطف الأخوّة فى قلوب الأمازيغيين ويذكّرهم ‏بالروابط العميقة التى تشدهم إلى إخوانهم من عرب المغرب وينبههم إلى ‏خطر الإصاخة إلى وساوس الاستعماريين الذين لا يريدون لهم ولا ‏لإخوانهم إلا الضياع(63). كذلك دافع البشير الإبراهيمى عن عروبة الجزائر ‏جمعاء مؤكدا أن الدول التى قامت فى الشمال الأفريقى لم يكن لها من ‏البربرية إلا النسبة العرقية، أما مقومات وجودها من لغة ودين فهى عربية ‏صميمة(64). كما هب كتاب مغاربة آخرون منهم عثمان الكعاك (التونسى) ‏ومحمد السعيد الزاهرى (الجزائرى)(65) وعلال الفاسى (المغربى) يثبتون أن ‏البربر هم فى الأصل عرب من حِمْيَر هاجروا قديما من جنوب بلاد العرب ‏واستقروا فى بلاد المغرب(66). بل إن غالبية المثقفين والكتاب البربر لتنكر ‏هذا الاتجاه وتحاربه، ومن هؤلاء الفضيل الورتلانى وبا عزيز بن عمر، ‏اللذان شرعا يفنّدانه منذ أن نجم فى الثلاثينات من القرن الفارط. ومثلهما ‏عثمان سعدى صاحب كتاب "عروبة الجزائر عبر التاريخ".‏
الهوامش: ‏
‏(1) ومن الناحية الأخرى نجد أن العربية قد تركت بدورها ‏بصمات قوية على عدد من اللغات الآسيوية والأوربية والإفريقية كالفارسية ‏والتركية والأوردية والإسبانية والفرنسية والإنجليزية والبربرية والسواحلية.‏
‏(2) ط. دار الفكر العربى/ 1412هـ- 2000م/ 171- 175.‏
‏(3) وها هى ذى أسماء طائفة من أهم الكتاب فى العصرين ‏المذكورين: الشهاب محمود وابن فضل الله العمرى والقلقشندى (من العصر ‏المملوكى)، وبدر الدين الغزى والبديعى وعبد القادر البغدادى والمحبى (من ‏العصر العثمانى)، وكلهم كتبوا النثر المرسل: إما وحده، وإما بالمراوحة بينه ‏وبين النثر المسجوع المزخرف الذى كان يقتصر عادة على الرسائل الديوانية ‏وما أشبه. ‏
‏(4) جاء فى كتاب "الأدب العربى المعاصر فى مصر" للدكتور ‏شوقى ضيف (ط8/ دار المعارف/ 177) أن رفاعة كان يعتمد السجع ‏والأسلوب القديم فى كتاباته. والصحيح أنه كان يكتب بأسلوب مرسل، ‏اللهم إلا فى مقدمات بعض كتبه وفى ترجمته لـرواية "مواقع الأفلاك فى ‏وقائع تليماك" لفنلون. ‏
‏(5) انظر كتابه: "الأدب العربى المعاصر فى مصر"/ 227. ‏
‏(6) كان الشيخ فى بداءة أمره يكتب بأسلوب مسجَّع محلًّى ببعض ‏البديعيات ثم هجره بعد ذلك.‏
‏(7) وقد دافع شوقى فى أواخر هذا الكتاب عن السجع وجعله ‏‏"شعر العربية الثانى"، وحمل على من عابوه قائلا إن كلامهم هذا لا يقدم ‏ولا يؤخر، ففى القرآن الكريم فواصل، وفى الحديث الشريف ما هو أحلى ‏من سجع الحمام. والطريف أن الأسلوب الذى صاغ فيه شوقى هذا الدفاع ‏أسلوب مرسل!‏
‏(8) د. عبد الرحمن ياغى/ حياة الأدب الفلسطينى الحديث حتى ‏النكبة/ المكتب التجارى/ بيروت/ 332- 333.‏
‏(9) عمر الدسوقى/ نشأة النثر الحديث وتطوره/ دار الفكر العربى/ ‏‏1976م/ 174- 175.‏
‏(10) د. عبد الملك مرتاض/ نهضة الأدب العربى المعاصر فى ‏الجزائر: 1925م- 1954م/ الشركة الوطنية للنشر والتوزيع/ الجزائر/ ‏‏132- 133.‏
‏(11) محمد عبد الرحيم قافود/ الأدب القَطَرىّ الحديث/ المطبعة ‏الفنية الحديثة/ القاهرة/ 1399هـ- 1979م/ 103.‏
‏(12) انظر د. محمد محمد حسين/ الاتجاهات الوطنية فى الأدب ‏المعاصر/ ط3/ دار النهضة العربية/ 1392هـ- 1972م/ 359 وما ‏بعدها. وقد وضع عدد من المستشرقين الآخرين كتبا فى قواعد العاميات ‏العربية المختلفة: منها الموجز، ومنها المبسوط. وقد اطلعت على عدد ‏منها بالإنجليزية والفرنسية. وفى كتاب د. محمد محمد حسين: "اتجاهات ‏هدامة فى الفكر العربى المعاصر" (ط2/ دار الإرشاد/ بيروت/ ‏‏1391هـ- 1971م/ 43 وما بعدها) شىء من التفصيل لدور المستشرقين ‏فى هذا المجال مع ذكر الكتب التى ألفها بعضهم فى هذه اللهجة أو تلك. ‏أما الكتاب الذى جَمَعَ فأَوْعَى فيما يتعلق بهذه القضية فهو كتاب "تاريخ ‏الدعوة إلى العامية وآثارها فى مصر" للدكتورة نفوسة زكريا.‏
‏(13) انظر جهاد فاضل/ الأدب الحديث فى لبنان- نظرة مغايرة/ ‏رياض الريس للكتب والنشر/ 1996م/ 75- 81، ومنير العكش/ أسئلة ‏الشعر- فى حركة الخلق وكمال الحداثة وموتها/ المؤسسة العربية ‏للدراسات والنشر/ بيروت/ 1979م/ 148 وما بعدها. ويجد القارئ فى ‏كتاب رجاء النقاش: "أدباء ومواقف" (المكتبة العصرية/ صيدا وبيروت/ ‏‏55- 72) مناقشة مفصلة لدعوة سعيد عقل يحسن الرجوع إليها.‏
‏(14) انظر أنور الجندى/ الفكر والثقافة المعاصرة فى شمال أفريقيا/ ‏الدار القومية للطباعة والنشر/ القاهرة/ 1385هـ- 1965م/ 1660 ‏‏172.‏
‏(15) انظر محمد مزالى/ مواقف/ ط2/ الشركة التونسية للطباعة ‏والنشر/ 1984م/ 112- 113، 198. ‏
‏(16) كتب محمود تيمور بعض أعماله القصصية والمسرحية بالعامية ‏فى بداية أمره، ثم عاد بعد ذلك ففصّحها وهجر العامية للأبد، وصار من ‏الغيورين على الفصحى أشد الغيرة.‏
‏(17) انظر توفيق الحكيم/ مسرحية "الصفقة"/ مكتبة الآداب/ ‏‏156- 157.‏
‏(18) انظر د. إبراهيم عوض/ دراسات فى المسرح/ مكتبة زهراء ‏الشرق/ 1420هـ- 2000م/ 36- 39.‏
‏(19) مكتبة زهراء الشرق/ 1418هـ- 1998م/ 15- 20.‏
‏(20) د. شوقى ضيف/ الأدب العربى فى مصر/ 205. ‏
‏(21) أنيس المقدسى/ الفنون الأدبية وأعلامها فى النهضة العربية ‏الحديثة/ ط3/ دار العلم للملايين/ 1980م/ 230- 231.‏
‏(22) المرجع السابق/ 230.‏
‏(23) انظر محمد يوسف نجم/ فن المقالة/ ط4/ دار الثقافة/ ‏بيروت/ 93- 94.‏
‏(24) انظر د. إبراهيم إمام/ دراسات فى الفن الصحفى/ مكتبة ‏الأنجلو المصرية/ 1972م/ 179- 180.‏
‏(25) سرّنى، بعد أن كتبت هذه الفقرة، أن أجد كاظم حطيط ‏‏(فى كتابه: "دراسات فى الأدب العربى"/ دار الكتاب اللبنانى ببيروت ‏ودار الكتاب المصرى بالقاهرة/ 1977م/ 179- 180) يقول برأى مشابه، ‏إذ يؤكد أن المقالة قد ظهرت فى أدبنا القديم تحت أسماء متعددة كالرسالة ‏والمناظرة والحديث، وأن كثيرا من الكتب القديمة هى أقرب إلى أن تكون ‏مجموعة مقالات منها إلى أن تكون كتبا.‏
‏(26) وأنصارها هم الذين يقولون هذا بأنفسهم. انظر مثلا محمد ‏جمال باروت/ الشعر يكتب اسمه/ اتحاد الكتاب العرب/ دمشق/ ‏‏1981م/ 146- 147.‏
‏(27) عن كتاب "الشعر يكتب اسمه" لمحمد جمال باروت/ 78- ‏‏79.‏
‏(28) المرجع السابق/ 113.‏
‏(29) انظر مثلا محمد جمال باروت/ الشعر يكتب اسمه/ 7- 18، ‏‏49- 50، ومنير العكش/ أسئلة الشعر/ المؤسسة العربية للدراسات ‏والنشر/ بيروت/ 1979م/ 134، 156، ود. عبد الحميد جيدة/ ‏الاتجاهات الجديدة فى الشعر العربى المعاصر/ مؤسسة نوفل/ بيروت/ ‏‏1980م/ 316- 327، وس. موريه/ الشعر العربى الحديث: 1800- ‏‏1970م/ ترجمة وتعليق د. شفيع السيد ود. سعد مصلوح/ دار الفكر ‏العربى/ 1986م/ 444- 455، ود. خليل أبو جهجة/ الحداثة الشعرية ‏العربية بين الإبداع والتنظير والنقد/ دار الفكر اللبنانى/ 1995م/ الفصل ‏الثانى من الباب الثانى، ومقال د. أحمد على محمد: "الشعر والنثر فى ‏ضوء نظرية الأنواع الأدبية"/ مجلة "علامات" السعودية/ المحرم 1423هـ/ ‏‏326- 330.‏
‏(31) انظر ما طنطن به محمد مندور حول القصيدة المومإ إليها فى ‏كتابه: "الميزان الجديد"/ ط3/ مكتبة نهضة مصر/ 69 وما بعدها. ‏والواقع أن فيما كتبه مندور فى هذا المعنى كثيرا من التهافت. ترى أكان ‏يصلح مثلا أن تنشد فايدة كامل أثناء العدوان الثلاثى على بورسعيد ‏قصيدة متخاذلة منهارة كهذه بدل نشيد "دع سمائى، فسمائى محرقة"، ‏الذى أشعل نفوس الشعب كله حماسة وثورة؟ أم هل كان يصلح أن يغنى ‏ذلك النشيد صوتٌ واهنٌ هامسٌ كصوت نجاة الصغيرة؟ إن هذا مثل ذاك ‏سواء بسواء. وقديما قالوا فى البلاغة العربية: "لكل مقام مقال"، أما د. ‏مندور ومن يظنون أنهم وقعوا فى كلامه على صيد ثمين فيتجاهلون هذا ‏كله ويريدون أن يسيروا على المثل القائل: "كله عند العرب صابون"!‏
‏ (32) انظر د. على الحديدى/ فى أدب الأطفال/ ط2/ مكتبة ‏الأنجلو المصرية/ 1976م/ 243- 257.‏
‏(33) بعدما كتبت هذا بعدة أيام راجعت كتاب "شاعرات العرب" ‏فوجدت جامعه عبد البديع صقر يشير فى مقدمته إلى ما لاحظه على ‏الشعر النسائى عند العرب القدماء من قِصَر النَّفَس وندرة الإنتاج فى ‏أغلب الأحوال، "فقلما ترى امرأة كالخنساء استقلت بديوان كامل" ‏‏(المكتب الإسلامى/ بيروت/ صفحة ج)، وهو ما يؤكد رأيى فى ذات ‏الموضوع.‏
‏(34) من بين ما لجأتُ إليه للتحقق من صحة هذه الملاحظة ‏مراجعة أسماء الأدباء والكتّاب الذين ترجم لهم ياقوت الحموى (ت626هـ) ‏فى "معجم الأدباء" فلم أجده ذكر من النساء إلا امرأة واحدة هى فاطمة ‏بنت الأقرع، ولم يورد لها إلا رقعة واحدة رفعتها إلى الحاكم. ويبدو أنها ‏كانت كاتبة خطاطة لا كاتبة أديبة. وقد ماتت عام 480هـ. وقبله فى ‏القرن الثالث الهجرى ألف ابن طيفور كتاب "بلاغات النساء" فلم يذكر ‏لهن، خارج ميدان الشعر، إلا أجوبة شفوية.‏
‏(35) لمن يريد أخذ فكرة سريعة تُلِمّ بأهم ما فى هذين الكتابين عن ‏ذلك الموضوع يمكن أن يرجع إلى تلخيص د. محمد عمارة فى الجزء الأول ‏من "الأعمال الكاملة لرفاعة رافع الطهطاوى" (وعنوانه "التمدن والحضارة ‏والعمران")/ المؤسسة العربية للدراسات والنشر/ بيروت/ 1973م/ ‏‏203- 221).‏
‏(36) انظر أنيس المقدسى/ الاتجاهات الأدبية فى العالم العربى ‏الحديث/ ط7/ دار العلم للملايين/ 1982م/ 254/ هـ1، و"الفنون الأدبية ‏وأعلامها فى النهضة الأدبية الحديثة"/ دار العلم للملايين/ بيروت/ 1980م/ ‏‏27.‏
‏ (37) انظر كتاب "حضارة العراق" لنخبة من الباحثين العراقيين/ ‏دار الحرية للطباعة/ بغداد/ 1985م/ 182- 183.‏
‏(38) المرجع السابق/ 195- 196.‏
‏(39) وكان أول صدورها سنة 1910م.‏
‏(40) انظر عمر الدقاق/ فنون الأدب المعاصر فى سورية/ دار ‏الشرق العربى/ بيروت/ 19.‏
‏(41) انظر د. إبراهيم عوض/ "وليمة لأعشاب البحر" بين قيم ‏الإسلام وحرية الإبداع- قراءة نقدية/ مكتبة زهراء الشرق/ 1422هـ- ‏‏2001م/ الفصل الأول المسمَّى: "دراسة لمضمون الرواية".‏
‏(42) انظر رضوان إبراهيم/ التعريف بالأدب التونسى/ الدار العربية ‏للكتاب/ ليبيا- تونس/ 1397هـ- 1977م/ 41.‏
‏(43) انظر أنور الجندى/ الفكر والثقافة المعاصرة فى شمال أفريقيا/ ‏‏269، ونور الدين صمودى/ هزل وجد/ الشركة التونسية للتوزيع/ 82، ‏ورضوان إبراهيم/ التعريف بالأدب التونسى/ 52. وقد كتب ابن باديس ‏مقالا يهاجم فيه الكتاب وصاحبه فى صحيفة "الشهاب" الجزائرية فى غرة ‏رجب 1349هـ- ديسمبر 1930م. ‏
‏(44) انظر أنور الجندى/ الفكر والثقافة المعاصرة فىشمال أفريقيا/ ‏‏270.‏
‏(45) الشركة التونسية للتوزيع/ 133- 148.‏
‏(46) انظر د. عمار الطالبى/ ابن باديس- حياته وآثاره/ ط2/ ‏دار الغرب الإسلامى/ بيروت/ 1403هـ- 1983م/ 35.‏
‏(47) كان حوحو قد هاجر إلى الحجاز عام 1934م، وبقى هناك ‏اثنى عشر عاما.‏
‏(48) انظر د. عمر ين قينة/ صوت الجزائر فى الفكر العربى ‏الحديث/ ديوان المطبوعات الجامعية/ الجزائر/ 172- 173، 188- 189، ‏‏193.‏
‏(49) عبد الله البردونى/ قضايا يمنية/ ط2/ دار الأندلس/ بيروت/ ‏‏397- 402.‏
‏(50) انظر محمد عبد الرحيم قافود/ الأدب القطرى الحديث/ ‏‏61.‏
‏(51) ويجد القارئ تحليلا لبعض القصص القطرية المشابهة فى كتاب ‏‏"الأدب القطرى الحديث" لمحمد عبد الرحيم قافود/ 127 وما بعدها.‏
‏(52) انظر فى ذلك د. محمد محمد حسين/ الاتجاهات الوطنية فى ‏الأدب المعاصر/ ط3/ دار النهضة العربية/ بيروت/ 1392هـ- 1972م/ ‏‏2/ 145 وما بعدها، ود. عمر الدقاق/ فنون الأدب المعاصر فى سورية/ ‏‏58. ويجد القارئ أيضا نصوصا مختلفة لدعاة الفرعونية وردود العروبيين ‏عليهم فى كتاب أنور الجندى: "المعارك الأدبية فى مصر منذ 1914م إلى ‏‏1939م"/ مكتبة الأنجلو المصرية/ 1983م/ 15- 70. ‏
‏(53) لرجاء النقاش كتاب بعنوان "الانعزاليون فى مصر" يرد فيه ‏على لويس عوض ودعوته إلى الانعزال عن العروبة وتاريخ مصر العربى ‏‏(المؤسسة العربية للدراسات والنشر/ 1981م/ 55- 72).‏
‏(54) انظر جهاد فاضل/ الأدب الحديث فى لبنان- نظرة مغايرة/ ‏‏41- 44، 55- 59، حيث يتهكم على غياب الحس التاريخى والجغرافى ‏والحضارى عن سعيد عقل، ويتعجب من أفكاره الواهمة وعماه عن الواقع ‏العروبى فى لبنان، ذلك الواقع الذى يفقأ العين، ويناشده أن يترك ما مات ‏من التاريخ وأن يكف عن محاولته العابثة لإعادة عقارب الزمن إلى الوراء. ‏وانظر كذلك محمد عمارة/ العروبة فى العصر الحديث- دراسات فى ‏القومية والأمة/ دار الكاتب العربى للطباعة والنشر/ القاهرة/ 306- ‏‏309. ‏
‏(55) د. عمر الدقاق/ فنون الأدب المعاصر فى سورية/ 57.‏
‏(56) يُنْظَر نص كلامه فى كتاب أنور الجندى: "المعارك الأدبية فى ‏مصر منذ 1914م إلى 1939م"/ 106، 118. ‏
‏(57) انظر محمد مزالى/ مواقف/ ط2/ الشركة التونسية للتوزيع/ ‏‏1984م/ 58، 76، 98- 99.‏
‏(58) انظر د. محمد محمد حسين/ الاتجاهات الوطنية فى الأدب ‏المعاصر/ 2/ 162، وأنور الجندى/ الفكر والثقافة المعاصرة فى شمال ‏أفريقيا/ 80، ود. نازلى معوض أحمد/ التعريب والقومية العربية فى المغرب ‏العربى/ مركز دراسات الوحدة العربية/ بيروت/ يوليو 1986م/ 60- 61، ‏ود. عمر بن قينة/ المشكلة الثقافية فى الجزائر- التفاعلات والنتائج/ دار ‏أسامة للنشر والتوزيع/ عمّان/ 2000م/ 97 وما بعدها.‏
‏(59) انظر د. نازلى معوض أحمد/ التعريب والقومية العربية فى ‏المغرب العربى/ 160.‏
‏(60) انظر جهاد فاضل/ الأدب الحديث فى لبنان- نظرة مغايرة/ ‏‏58، وعثمان سعدى/ عروبة الجزائر عبر التاريخ/ الشركة الوطنية للنشر ‏والتوزيع/ الجزائر/ 1982م/ 92، و104/ هـ33.‏
‏(61) انظر جهاد فاضل/ الأدب الحديث فى لبنان- نظرة مغايرة/ ‏‏337.‏
‏(62) انظر د. عمر بن قينة/ المشكلة الثقافية فى الجزائر- ‏التفاعلات والنتائج/ 110.‏
‏(63) يجد القارئ مقالا لابن باديس فى هذا الموضوع فى كتاب د. ‏عمر بن قينة: "صوت الجزائر فى الفكر العربى الحديث"/ ديوان المطبوعات ‏الجامعية/ الجزائر/ 155- 162.‏
‏(64) انظر أنور الجندى/ الفكر والثقافة المعاصرة فى شمال أفريقيا/ ‏‏83- 84، 182- 183.‏
‏(65) الزاهرى أديب جزائرى مخلص لعروبته. وقد كنت مشتركا ‏فى الإشراف على رسالة ماجستير أعدها فى ثمانينات القرن الماضى ‏طالب جزائرى عن ذلك الأديب.‏
‏(66) انظر أنور الجندى/ الفكر والثقافة المعاصرة فى شمال أفريقيا/ ‏‏96- 99.‏