لم يخلق الديوك للصياح فجراً فقط بقلم:نبيل عودة
تاريخ النشر : 2018-12-16
لم يخلق الديوك للصياح فجراً فقط بقلم:نبيل عودة


لم يخلق الديوك للصياح فجراً فقط!!

قصة: نبيل عودة


كثيرا ما ادعى الديك بقدرته على التمييز بين الخواص ذات القيمة والخواص الطارئة. طرح على عموم الدجاجات تفسيرا قريبا لما طرحه الفيلسوف الإغريقي أرسطو عن نفس الموضوع. والحق يقال ان الديك لم يسمع بأرسطو، وأرسطو لم يفكر ان ديكاً ما قد يصير فيلسوفاً في زمن قادم.

ذكاء الديك أصبح حديث الدجاجات في جميع الخممة (جمع خم) المصدرة للبيض والفراخ. صحيح ان بعض الدجاجات استهترن بعقل الديك واتهمنه بالهذيان. غير ان دجاجات اخريات أصبن بذهول من ان يكون وراء ما يبدو انه ذكاء، علماً جديداً قد يغير نظام الخممة .. فيذهبن هباء بعد مجهوداتهن الكبيرة في رفع انتاجية البيض الى أكثر من بيضة واحدة يومياً، بل وأحياناً ثلاث او أربع بيضات.

كان الديك يشرح بلا ملل رؤاه الفلسفية، وفحوى فكرته الجديدة، وبلغة دجاجية بسيطة.

كان يقف في مكان مرتفع، ويجيل نظراته بين دجاجات خمه، قبل أن يبدأ حديثه المنمق، ويقول: ان الخواص القيمة هي التي لا يمكن ان يوجد الشيء بما هو عليه بدونها. ويسال:

- مفهوم..؟

ويرد الشعب مهموما من الجهل:

- مفهوم !!

والشعب الدجاجي لم يفهم بالتأكيد. ولكنه موقف احتياطي حتى لا يتورطن بالتحقيقات الجنائية والسياسية ويتهمن بالعمالة لأعداء الوطن. ويواصل:

- اما الخواص الطارئة فهي التي تقرر كيف يكون الشيء وليس ما هو الشيء.

وينظر بحدة بعيني دجاجاته منذراً من اللغط المتزايد دون ان ينبس ببنت شفة، ويمشي الخيلاء دائراً حول نفسه .. عارضاً ريشه المميز بألوانه الزاهية، وعندما يسود الصمت الكامل يقف مسلطا نظراته القاسية ويسأل:

- الشرح واضح؟

- واضح واضح...

همهمت الدجاجات بببغاوية غير داريات من كلام الديك حرفا واحدا. لكنهن لا ينسين للحظة واحدة ان الطاعة واجبة لمن يولى عليهن.

حتى صاحب الخم الذي وقف دون أن يراه الديك متأملاً مقاقاته وذهول الدجاجات أمام شموخه، أصابته الحيرة في تصرفات ديكه الغريبة .. وهو قد عبرت عليه مئات الديوك، ولكن مثل هذا الديك لم يشهد في حياته. والحق يقال انه يدير الخم بانضباط شديد ولا يقصر بالواجبات التي كلف بها، والا لصار لحمه وجبة فاخرة ولصارت عظامة طعاماً للكلاب.

صحيح انه في الشهر الأخير قصر في واجباته بسبب ضغط الموضوع الجديد على دماغه. ولكن ديك جارته ام يوسف سد بعض العجز في خمه، ومنحه تبعا لذلك شهادة تقدير مشيدا بدورة الوطني في خدمة القضية العادلة .. بل وأوعز لمجلس الأمة ان يمنحه شهادة دكتوراه فخرية .. وقد راقته هذه الفكرة، وتوقع ان يمنح هو بالمقابل لقب بروفسور من مجلس خم ديك أولئك الجيران. وهذا ما كان فعلا. فصار الديك بروفسور شرف وملك وشاعر، أدامه الله .. وأدام عزه وسطوته على دجاجاته !!

بعد مشاورات بالخفاء عن الديك، وارضاء لديكهن قررت الدجاجات أن يكررن أقوال ديكهن، لدرجة ان احدا لا يعرف هل كان التكرار عن فهم واستيعاب، أم عن مراضاة لولي الأمر؟ أم هو استسلام طبعن عليه كسائر اناث العرب؟! والى جانب ذلك الخضوع البارز، أشدن الدجاجات، بمناسبة وبلا مناسبة، بفكر الديك العظيم. بل وقامت بعض الدجاجات الثرثارات بكتابة دراسات معمقة وطويله عن فلسفة الديك، جرى نشرها في الخممة .. ووصل بعضها الى أقنان أوروبا، محدثة ثورة في العلوم الفكرية بين الدجاج الأوروبي، لدرجة ظن بعض أطباء البيطرة ان الدجاج أصيب بجنون البقر المشهور. أو ربما انفلونزا الخنازير...

في الواقع ان صاحب الخم تحرك محتاراً بديك خمه ودخل ليجمع بعض البيض، وظل الديك منتصبا في مكانه وكأنه يستعرض جحافله المقاتلة .. مع ان الخم فارغ من وسائل القتال .. وفكر صاحب الخم ان يجري السكين على رقبة هذا الثرثار .. ليرى كيف تصير حاله مع فلسفته .. ولكن السؤال الأساسي كان عن مدى الارتباط العاطفي بين الدجاجات والديك؟ وخوفه ان يسبب نكسة لهن، فيخسر أكثر مما يربح. وبذلك بدل ان ينقذ دجاجاته من مدعي فلسفة وشاعر جاهل بمفردات لغته واملائها الصحيح، ولا يعرف عاميتها من فصحتها، يعرضهن لحزن شديد وطويل يدخل الفوضى والتسيب الى الخم .. وكان قراره ان يعلم الديوك الوارثين لهذا الخم في المستقبل، ان الفلسفة والشعر ليست لهم، انما لها أصحابها من البشر وليس من الديوك حتى لو علت رؤوسهم التيجان الحمراء. وأن أصواتهم الصادحة لا تطلع الفجر، بل الفجر يحرك غريزتهم فيصدحون بلا عقل. "اما أنتم فقد خلقكم ربكم للحرث والدرس لبطرس" قال لنفسه.

وتمنى صاحب الخم لو يفهم لغة الطيور مثل سليمان الحكيم، ليلقن هذا الفيلسوف درسا لا ينساه، يجعله يتحسس رقبته كلما وقف فوق منصته متمخترا في خيلاء .. عارضاً فصعته البارزة بريشها الملون.

ولكن ما العمل والزعماء على كل أشكالهم في الخممة وغير الخممة، وحتى لو سموها أسماً شاعرياً أكثر، أقنان مثلاً .. لا يرون الا ريشهم وألوانه الزاهية؟ ولا ينتظرون من جماهيرهم أكثر من عقل دجاجي واستجابة بلا تردد للآمر الناهي صاحب النعمة والمناضل الكبير من أجل أمنه وراحته وسطوته ونشر شعره، وجعل اسمه يتردد بالرضا عليه، على لسان كل من يعشق وجبة بيض مقلية بزيت الزيتون على الفطور.

وتساءل صاحب الخم:

- لماذا يخلق الله الديوك؟.. هل للصياح فجرا فقط؟ كل وسائل الراحة مؤمنه لهم .. اذ رغم ارتفاع أسعار العلف في بورصة نيويورك وبورصات الشرق الأوسط والأقصى، الا ان الوجبات لم تنخفض كما ونوعا. فلماذا هو مشغول دائما مثل ام العروس، لا شيء يعمله الا القفز على الدجاجات وإطلاق صوته المزعج فجرا، في أحسن ساعات النوم؟

كان الديك يتأمل صاحب الخم وهو يجمع البيضات .. ويقول لنفسه: " آه ما أتفهكم أيها البشر .. هذا ما يشغلكم كل نهاركم .. كم بيضة سنجمع اليوم وكم غدا .. وما هي الوسائل التكنلوجية الحديثة لجعل الدجاجات يرفعن عدد بيضاتهن اليومية، بحيث صارت الدجاجة مصنعا صغيرا متحركا للبيض." وفكر: "ربما يجري الاستغناء قريبا عن دور الديوك في عملية الفقس، عندها لن ينفع الديوك شعرها، ولا فلسفتها ولا درجاتها العلمية المقدمة تقديرا لمكانتهم وحكمتهم من خممة الأمم الدجاجية".

هذه الأفكار أشعرته بالخوف.

وقال الديك لنفسه أيضا: "اما أن تفكروا أيها البشر، وتتخذوني نموذجاً لكم، وتستعملوا دماغكم، فهذا مرهق للعقل. ربما حان الوقت يا إلهي لتتغير الأدوار. هم في الخم ونحن طلقاء .. ولكن هل يبيض البشر ؟.. ترى ماذا يبيضون في بيوتهم؟ بيضهم مثل بيضنا؟ ومن يأكل بيضهم؟ كم أتمنى ان اشاهد شكل بيضهم وأتذوقه".

في فجر أحد الأيام وصلهم ان أعتداء آثم وقع على خم أبو علاء من ذئاب داشرة .. على أثره جرت اتصالات عاجلة بين الديوك للتشاور، وقد قر رأي الأكثرية على عقد مؤتمر قمة طارئ .. رغم ان التشاور لم يقد الى موقف واضح بين الديوك.

وجرت الاستعدادات لاستقبال الديوك الأشقاء في خم ديكنا، الفيلسوف، والحائز على لقب بروفسور شرف من خم الجيران.

نبه على دجاجته بلهجة تحذيرية بأن لا يظهرن أمام الديوك الغرباء الوافدين لحضور القمة، منعا لوقوع المحظور. وان التي تتهاون بتحذيره سينتف ريشها وينقر راسها، وينسب نفوقها للذئاب.

تجمع الأشقاء لتدارس الوضع .. ورغم أهمية الحدث الا ان عيونهم لم تتوقف عن البصبصة شمالا ويمينا .. لعل وعسى تظهر لهم حورية من خم الفيلسوف، ربما لها طعم مختلف عما اعتادوا عليه، الأمر الذي جعل ديك هذا الخم شاعرا وفيلسوفا في دنيا الدجاج، شهرته عمت الشرق والغرب ..

افتتح الديك الفيلسوف المؤتمر داعيا الجميع لإدانة العدوان واعلان التضامن والأسى الشديد على الديك النافق .. والترحم على الدجاجات النافقات بسبب الهجوم الوحشي .. وذلك تنفيذا لأبسط بنود اتفاق الدفاع المشترك. وأعلمهم انه توصل لرؤية فلسفية جديدة تماما في هذا الظرف المأساوي، وقبل ان يسمع أي تعليق بدأ يشرح فلسفته رغم زيغان عيون الأشقاء وراء مؤخرات دجاجاته، اللواتي أخفين وجوههن حسب تنبيهاته... وقال شارحاً، والله أعلم إذا نصتوا لحديثه:

- الخواص ذات القيمة هي التي تجعلني انا نفسي الديك الذي أمامكم. صاحب الفكر والقدرات الصوتية والشعرية. اخواني، بدون عقلي لن أكون أنا نفسي. لو نزعتم ريشي الزاهي الجميل، لن يتغير الواقع، سأظل انا نفسي بريش منزوع. أما الخواص غير ذات القيمة فهي تتعلق بالشكل والحالة. من هنا اعتداء الذئاب على خم الجيران الأشقاء لم يغير مضمون الدجاج والديوك في الحارة كلها. ظل مضموننا سليما .. ما تغير هو الشكل والكم وهذا نتجاوزه بزيادة جهودنا المشتركة مع جماهيرنا الدجاجية. قتل الذئاب 70 دجاجة، الله لا يعطيهم عافية، ولكن، وهذا المهم والجوهري .. فقست الدجاجات الناجيات من الذئاب في نفس الخم، وفي نفس ليلة الاعتداء الاجرامي الغاشم، أكثر من 180 بيضة أسفرت عن 180 فرخا جميلا يفرح قلوبنا جميعا .. لذا نحن لم ننهزم. بل انتصرنا على الذئاب، لأن القيمة الأساسية لم تتغير ولم تسقط. بل ازدادت.

وقام كوكوكوكو عاصف تأييدا لهذا الموقف القومي الجريء.

هذه الفلسفة المستحدثة في القمة الطارئة أرضت جميع الديوك .. لدرجة ان عيونهم لم تعد تبصبص شمالا ويمينا. فقد وجد الديك الفيلسوف الكلمات الدقيقة للتعبير عن الموقف الطارئ وايجاد التعابير التي تلائم الموقف المسؤول. ومن لم يفهم صمت خوفا من فضح جهالته وقصر نظره !!

واعلنت الديوك انها مساهمة في تعميق هزيمة الذئاب سيبدأ الأخوة الديوك بإعادة بناء ما تهدم من الخم ..

وتساءلت دجاجة تبدو عليها الوقاحة والجرأة، ويبدو انها مراسلة لأحدى الفضائيات:

- واذا هوجم الخم مرة أخرى.. ما هي خطط المستقبل؟

- سنعيد البناء مرات حتى تفهم الذئاب اننا لن نتخلى عن الأشقاء.

- ولكن ريشكم لا يمعط مثل ريش الدجاجات وعظامكم لا تكسر مثل عظامها، وانتم معشر الديوك لا تتعرضون لأي خطر في ملاجئكم التحت أرضية؟

- وهل تظنين يا سيدتي ان الانتصار يتحقق بدون تضحية؟ واذا تعرضنا للخطر من سيعقد حسب رأيك مؤتمر القمة القادم؟

- وهل التضحية هي نصيب الدجاجات لوحدها في هذه الحياة؟

- الله أكبر.. هناك من يستهتر بالشهادة؟ هذا كفر .. هذه عمالة للذئاب ..

صرخت الديوك صرخة واحدة. ولكن الدجاجة المراسلة أصرت متشجعة من تأييد بنات جنسها:

- ما رأيكم ان تختبئ الدجاجات ونترككم يا أعزائي الديوك تعاركون الذئاب؟ الستم أولي الأمر الأقوياء والشرسين ذوي المناقير الجارحة والقاتلة؟

- وقاحة.. خيانة قومية ..

صرخ المؤتمرون الديوك. ولكن الديك الفيلسوف انتظر حتى هدأ غضب الديوك. وقف متأملا جرأة المراسلة الجميلة ومفكرا، ترى لو نط عليها كيف ستصير حالها، كم هي مغرية في جرأتها ومثيرة، وقال:

- سيدتي الأنيقة.. قلوبنا تبكي على الدجاجات .. وسنصدر وعدا لهن بالجنة وسنمنحهن كل ما يتطلبة تجديد وزيادة عدد الفراخ .. واذا احتاج خمهم لديك آخر .. سنقوم بالمهمة بالتناوب حتى ايجاد بديل للأخ العظيم الديك النافق. فلماذا هذا التوتر ..؟ مثل هذه التضحية لن تجدوها في أقنان الغرب الفاسدة. لذا نحن لا نتشبه بهم. الا تعلمين سيدتي ان للشهداء جنان لا يدخلها الا معشر الصالحين؟ أنى أدعوك لنشر هذا الموقف وضمان آخرتك انت ايضا مع أبناء جنسك ..

- يا سيدي انت تتحدث من الصبح ولم نفهم الا ان موت الدجاجات انتصارات.. ولكن الدجاجات يقلن انهن يردن صيصانهن تحت أجنحتهن وضمانة ان لا يتكرر غزو خمهن وقهرهن من جديد، فهل هذا مستحيل؟

فغضب ديك ام كميل وصرخ:

- هذا استهتار بالنصر التاريخي.. هذه اهانة للنافقين الشجعان .. هذا استهتار بانتصاراتنا القادمة ..

- كوكوكوكو... لا تستهتري يالانتصار .. يجب طردك من الخممة .. اذهبي لخم اوروبي يا ملعونة .. اسحبوا ترخيصها هذه المغرورة .. لأنها تعمل لصالح العدو ..

علت الأصوات تشجيعا لديك ام كميل. واستنكارا لأسئلة الدجاجة الصحفية الاستفزازية.

وانتهى مؤتمر القمة بقرارات حاسمة .. وعلى رأسها قرار لا يقبل التأخير .. استنكار وشجب العدوان الذئبي، والاستعداد لاستقبال دجاجات الخم المنتصر في ضيافة ديوك الخممة .. ويستحسن ان يكن من الجيل الجديد لضمان جودة الانتاج الدجاجي، وبذلك يستفيد دجاج الخم ويكرس الديوك الأشقاء طاقات يومهم ونهارهم في انشاء جيل جديد يسير على الدرب البطولي الذي شقه الآباء والأجداد النافقين.

وكلف الديك بصياغة نشيد قومي يعبر عن المرحلة الجديدة من التضامن الدجاجي، والتآخي الديكي !!

(من المجموعة القصصية: نبيل عودة يروي قصص الديوك)

[email protected]