" روسيا وفلسطين: صلات علمية وثقافية" دراسات مُوَثقة لمستعربين روس
تاريخ النشر : 2018-12-14
كتاب " روسيا وفلسطين: صلات علمية وثقافية"-
دراسات مُوَثقة لمستعربين روس

د. ناظم مجيد حمود*

صدر في روسيا مؤخراً كتاب " روسيا وفلسطين: صلات علمية وثقافية" يضم مجموعة أبحاث ومقالات موثقة مكرسة لدراسة العلاقات التاريخية والروحية بين روسيا وفلسطين والبلدان المتاخمة لها ( سوريا والأردن ولبنان ومصر)، استناداً إلى مواد أرشيفات سانت- بطرسبورغ وموسكو وكييف. وبنشر هذا المؤلف القيِّم، الذي يضم ستة فصول تتوزع على (412) صفحة من الحجم الكبير، يواصل قسم آداب آسيا وأفريقيا في مكتبة أكاديمية العلوم الروسية إصداراته التي تهدف إلى كشف المجموعات التاريخية والثقافية، من كتب ومخطوطات ومحفوظات الأرشيفات والمتاحف، التي تعكس علاقات روسيا مع بلدان الشرق العربي. فإلى جانب سوريا وفلسطين والأردن ولبنان أو ما يسمى بالمنطقة السورية- الفلسطينية، التي يطلق عليها في الأدب العلمي تسمية " منطقة الكتاب المقدس"، فضلاً عما يتصل بها أيضاً من بلاد ما بين النهرين العليا وشبه جزيرة سيناء، تُعد وعلى مر العصور حافظة نفيسة للتراث البشري الثقافي والتاريخي المُنوع للأقوام والأديان السماوية. ولا شك أنَّ هذه البلاد العريقة هي ديار تقاليد الكتاب المُقدس، ومنشأ الديانتين اليهودية والنصرانية وموطن المسجد الأقصى في القدس الشريف ثالث حَرم للإسلام بعد الحرمين الشريفين في مكة المكرمة والمدينة المنورة.
أبحاث ومقالات كتاب "روسيا وفلسطين: صلات علمية وثقافية" الثلاثين مع الملاحق ونحو سبعين رسمة وصورة فوتوغرافية نادرة لمدن فلسطين في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وأعلام الاستعراب الروسي وفعاليات روسية- عربية، مخصصة لتاريخ دراسة الشرق الأدنى في روسيا، وتركز على منطقة شرق البحر المتوسط والبلدان المتاخمة لها، وكذلك مزايا اتصالاتها مع روسيا والتأثير المتبادل بينهما، ودور المكتبات العلمية والمؤسسات التعليمية العليا والأرشيفات والمتاحف.
ركزت فصول الكتاب الستة على الموضوعات الآتية:
1- تاريخ دراسة الشرق الأدنى في استشراق بطرسبورغ ( خزائن المحفوظات، المؤسسات، المَلاكات).
2- الرحلات الروسية إلى الأرض المقدسة وإلى عموم الشرق الأدنى.
3- الوجود الروسي والأجنبي في الأرض المقدسة.
4- الرحلات العربية إلى روسيا والمصادر العربية عنها.
5- دراسة بلدان شرق البحر الأبيض المتوسط والبلدان المجاورة ( القرون الوسطى والعصرين الحديث والحاضر).
6- الشرق، روسيا، الغرب: التأثير المتبادل والاتصالات في الميادين الإنسانية ( الصلات الأدبية، الرَّسامون، المتاحف والمجموعات المحفوظة).
هذا وأولت أبحاث ومقالات كتاب "روسيا وفلسطين: صلات علمية وثقافية" اهتماماً بدراسة وكشف مجموعات الكتب المحفوظة في المكتبات العلمية، وفي طليعتها مكتبة أكاديمية العلوم الروسية وفروعها، والمكتبة الوطنية الروسية، ووثائق ومواد أرشيفات موسكو وسانت- بطرسبورغ وكييف وخزائن مخطوطاتها العربية والإسلامية. وفي هذا المُؤلف الأكاديمي تم أيضاً تقديم مواد، غالبيتها تخص دراسة مجموعات متحف تاريخ الدين ومتحف تاريخ سانت- بطرسبورغ. ذات الصلة بدراسة فلسطين والبلدان المتاخمة، ومواصلة تجميع مواد عنهما تمس مختلف حقول المعرفة، وتهم المختصين في مجالات عديدة، وفي الغُرَّةِ منهم المستشرقين؛ مستعربين، علماء العبرانيات واللغة الآرامية واللغة السريانية. وكذلك علماء اللغات السلافية واللغة الروسية، وعلماء اللاهوت، وعلماء الآثار والمكتبات والببلوجرافيا. ويحتل علماء الآثار، وبخاصة آثار العهد القديم، الموقع الأهم في دراسة منطقة الكتاب المقدس. هذا الموقع الأبرز يحتله علماء آثار العهد القديم. وفي النصف الثاني من القرن التاسع عشر أخذ يتشكل علم خاص " دراسات فلسطين". يمارس بشكل متكامل ومركب دراسة تاريخ وأديان فلسطين والبلدان المتاخمة لها وآثارها وثقافاتها.. وفي روسيا القديمة ظهرت أولى المعلومات عن تلك البلدان في القرن الحادي عشر الميلادي، وكانت ذات صلة بكتابات الحجاج والتجار الروس الذين أموا الأرض المقدسة. ولاحقاً، ومنذُ عام (1882) بدأت في المنطقة السورية- الفلسطينية تنفذ الجمعية الإمبراطورية الأرثوذكسية الفلسطينية وبحيوية أعمال علمية وخيرية وتنويرية، عملت في العهد السوفييتي في إطار أكاديمية العلوم بمسمى الجمعية الروسية الفلسطينية. وخلال العقدين الأخيرين جرى في روسيا الفيدرالية وبفاعلية دراسة أعمال الجمعية في فلسطين والبلدان المجاورة اعتماداً على مواد الأرشيفات الروسية.
يُفتتح الفصل الأول من مجموعة " روسيا وفلسطين: صلات علمية- ثقافية" المخصص للشرق الأدنى في استشراق بطرسبورغ بانتقاء مواد مكرسة لذكرى المستشرق- المستعرب البروفيسور فيكتور إيفانوفيتيش بيلاييف (1902-1976)، رئيس قسم اللغة العربية وآدابها في كلية الدراسات الشرقية- جامعة لينينغراد (1951-1974). ويُعدْ العلامة بيلاييف أفضل العالِمين بمخطوطات الشرق الأدنى في العصر السوفييتي، وكان مشرفاً علمياً فطناً ومهتماً وحازماً. وعلى مدى ثلاثة عقود تم بإشرافه العلمي إعداد ومناقشة جميع أطروحات الدكتوراه تقريباً لأهم ممثلي مدرسة الاستعراب في لينينغراد في النصف الثاني من القرن العشرين، ومن بعد العلماء في معاهد أكاديمية العلوم والجامعات الروسية، وبينهم أبرز المستعربين والمشتغلين بالدراسات الإسلامية.
في مقال المستعربة البروفسورة آنّا دولينينا (1923-2017) والأستاذ فيكتور دزيفانوفسكي، المعتمد كثيراً على المواد الأرشيفية المحفوظة في أرشيف المستشرفين في معهد المخطوطات الشرقية، وأرشيف أكاديمية العلوم الروسية فرع سانت- بطرسبورغ، تم ولأول مرة تقديم وصف كامل لحياة العلامة المستعرب فيكتور بلاييف وأعماله العلمية. وإبراز دوره العظيم في تطوير الاستعراب الروسي في النصف الثاني من القرن العشرين. ورفدت هذه المقالة بمعلومات جديدة عن هذا العلامة الروس تستند إلى ذكريات الأستاذة مارغاريتا نيكراسوفا، التي تعرف عن قرب أسرة المستعرب بيلاييف. ويختم المؤلفان المواد المنتقاة بذكريات متحدة لعدة أجيال من طلبة البروفيسور فيكتور بلاييف، عملوا في ميدان الاستعراب والسَّاميات في لينينغراد وموسكو وكييف وعشق باد، يجمعها عنوان واحد ( لمَسات على الصورة).
كما وضمَّ هذا الفصل مقالات أُخرى تناولت تاريخ الاستشراق وموضوعاته في جامعة لينينغراد والمعاهد الأكاديمية في سانت- بطرسبورغ. وفي إحداها ركزت الباحثة الأقدم المُستعربة غالينا بومبيان رئيسة قسم آداب آسيا وأفريقيا في مكتبة أكاديمية العلوم الروسية (1987- 2007) على الاستعراب في هذه المكتبة الأكاديمية. وتابعت تاريخ تشكل مجموعة كتب بلدان الشرق الأدنى فيها منذ تأسيسها عام (1714). وعرضت أعمال المستعربين في قسم آداب آسيا وأفريقيا وعلاقة القسم بالمكتبات العربية في مصر والعراق وسوريا ولبنان والجزائر واليمن منذ أكثر من خمسة عقود. كما تطرقت إلى نشاطات وإنجازات المركز الثقافي الروسي- العربي المستقل (1993-2016) ورئيسه الدكتور ناظم الديراوي، ودورهما في تطور التعاون الثقافي والعلمي وتبادل الكتب والمطبوعات بين المكتبة ومثيلاتها في الدول العربية، وعقد أكثر من خمسة عشر مؤتمراً ( روسيا والعالم العربي) في مدينة سانت- بطرسبورغ شاركت فيها غالبية كليات ومعاهد الاستشراق الروسية وأقسام الدراسات العربية في بطرسبورغ وموسكو وسفراء الدول العربية في روسيا وعلماء وممثلية رئيس روسيا الفيدرالية في شمال- غرب روسيا وحكومة سانت- بطرسبورغ ورجال ثقافة وإعلام. وذكرت المستعربة بومبيان إصدارات المركز الثقافي بالتعاون مع قسم آداب آسيا وأفريقيا بينها: (12) عدداً من حولية ( روسيا والعالم: صلات ثقافية وعلمية)، وسلسلة الدول العربية، وترجمات من روائع الأدب العربي والروسي الكلاسيكي والمعاصر إلى اللغتين العربية والروسية. وأشارت الدكتورة بومبيان إلى معارض الكتاب العربي العديدة التي أقامها المركز الثقافي بالتعاون مع جامعة الدول العربية، التي تم إهداء مجموعاتها إلى مكتبة أكاديمية العلوم الروسية، وتنظيم دورات مجانية لتعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها، ومعارض لإبداعات الرسامين العرب والروس، وأبرزها معرض الرسام والدبلوماسي العربي المبدع الأستاذ مهنا الدُّره.
وتشكل مؤلفات وصف الرحلات الروسية إلى الشرق العربي، ذات العدد الهائل التي كُتبت في مختلف عهود الرحالين ومن فئات اجتماعية وتخصصات متنوعة، إحدى أهم اتجاهات دراسة الأرض المقدسة والبلدان المجاورة لها.. يبدأ هذا الفصل بمقال ل. غيرد، اعتمد فيه على التسجيلات اليومية للأرشمندريت أنطونين (1817- 1894)، "دفتر ذكرياته"، التي دونها عن رحلته في فلسطين ومصر عام (1857). ويصف المؤرخون الأرشمندريت أنطونين بالعالم- الأثري الكبير وأحد أبرز أرباب فلسطين الروسية، إذ كان رئيس البعثة الروحية الروسية في القدس في الفترة (1865- 1894).
وتضمن هذا الفصل أيضاً ثلاث مقالات ترتبط بالاستشراق العسكري، مكرسة؛ 1- لرحلة ضابط هيئة الأركان الروسية إلى الشرق الأدنى ( مقال م. باسخانوف). 2- لوثائق البحار العسكري ( مقال ماليفينسكي). 3- للمسات ببلوجرافية (حسب مواد أرشيف المستشرقين في معهد المخطوطات الشرقية- أكاديمية العلوم الروسية وأرشيف الدولة الروسي التاريخي- العسكري)، نوريك وَكوساغوفسكي.. ويذكر المؤلف باسخانوف استناداً إلى الأرشيف الروسي أنَّ الضباط ( م. فرونتشينكو، ب. لفوف، إي. دايّنيزي)، قاموا برحلةٍ استطلاعٍ في الجزء الآسيوي من تركيا وسوريا في عامي (1834-1835). وتُعد أول عملية استكشاف روسي في تركيا الآسيوية، سوريا وفلسطين، لمقدم هيئة الأركان ب. لفوف. وهكذا أصبحت، مُنذُ أواسط القرن التاسع عشر، الرحلات الروسية الطويلة للسفن الحربية متكررة، وغالبيتها في البحر الأبيض المتوسط والمحيط الهادي. ويدرسُ م. ماليفينسكي في مقاله وثائق كتقارير، تسجيلات الضباط ويوميات البحارة نهاية القرن التاسع عشر مطلع القرن العشرين، ذات الأهمية الكبيرة في دراسة الموقف العسكري- السياسي، والمميزات الأثنوغرافية لشعوب حوض البحر المتوسط.
ويوجد فصل آخر مكرس لعلم " الدراسات الفلسطينية" وتاريخ الوجود الروسي والأجنبي في الأرض المقدسة. في منعطف القرنين التاسع عشر والعشرين. في فلسطين عملت كنائس عديدة وبعثات مسيحية تعليمية وخيرية من مختلف الطوائف، أدارت نشاطها عبر مؤسسات تعليمية وطبية، وكنائس وأديرة. وفي مقال أ. غروشييف يدخل إلى الاستخدام العلمي ثلاث وثائق- رسائل لسكرتير الجمعية الإمبراطورية الروسية الأرثوذكسية- الفلسطينية أ. أ. دميترييفسكي المحفوظة في قسم المخطوطات في المكتبة الوطنية الروسية في جولة تفقدية في الشرق بهدف تحسين حياة الحجاج. في الرسائل وصف أحدى وحدات دير سيناء، والظروف المعيشة المروعة للحجاج الروس فيها.
وكرس مقال سميرنوفا لتاريخ الوجود الأمريكي الديني في الشرق المسيحي. وفيه للمرة الأولى تُنشر وثائق من أرشيف الدولة الروسي التاريخي حول هذه القضايا. ويتضح أن النشاط التبشيري للدول الغربية العظمى دفع وزارة الخارجية الروسية لإنشاء البعثة الروحية الروسية في القدس.
وتعد مهمة دراسة المصادر العربية عن تاريخ روسيا التي يُنظر إليها تقليدياً كإحدى مهام الاستشراق الروسي الكبرى. والأكثر في التقرير البرنامجي لبطريرك الاستعراب السوفييتي الأكاديمي إغناتي كراتشكوفسكي في الدورة الأولى للمستعربين الروس عام (1935)، جرى اعتبارها وبحق من بين المهام الأساسية للاستعراب الوطني. ولا تزال إحدى أولويات هذا العلم في وقتنا الحاضر.
كما ويضم الكتاب أيضاً ثلاث مقالات توائم هذا المنحى المُلِح. اثنان منها مخصصة لدراسة مؤلف من الأدب العربي- المسيحي في القرن السابع عشر؛ 1- " رحلة بطريرك أنطاكية ماكاريوس"، كتبها ابنه، بافل الحلبي. للمستعربة للدكتورة غالينا بومبيان. 2- " رحلة البطريرك ماكاريوس" نسخة كييف لمخطوطة بافل الحلبي. للمستعربة الدكتورة يوليا بيتروفا. والثالث عن مؤلَّف الشيخ محمد عواد الطنطاوي في روسيا كتبه في منتصف القرن التاسع عشر " روسيا أربعينات- خمسينات القرن التسع عشر في مؤلف الشيخ المصري الطنطاوي،( تحفة الأذكياء بأخبار بلاد روسيا- 1850م).
هذا وتعد مخطوطة الحلبي إحدى المؤلفات الأكثر إثارة للاهتمام في الأدب العربي- المسيحي لتفردها بلغة خاصة، وما اتسمت بها لهجاتها من مميزات معينة.فضلاً عن كونها مصدراً لا غنى عنه عن تاريخ روسيا وأوكرانيا ومولدافيا و وجنوب رومانيا وأعرافها.. ويشير المؤرخون إلى نسخ عديدة لهذا المخطوط التاريخي، ويذكرون منها تلك الأكثر اكتمالاً- المحفوظة في لندن وباريس وسانت- بطرسبرج. كما وتم إدخال نسخة كييف في الاستخدام العلمي، مخزنة حاليا في الجامعة الوطنية "أكاديمية كييف- مونغيليانسك" في أرشيف البروفيسور أو. بريتسك الخاص.
ورغم العقبات الأيديولوجية في العصر السوفييتي، لم تنقطع على الإطلاق دراسة الأدب العربي- المسيحي كإحدى أبرز ميادين الاستعراب الروسي.
في هذه المجوعة يدرس مقال المستعربة غلينا بومبيان " روس المسكوبية ( القرن السابع عشر) في عيون العرب وفق مواد " رحلة بطريرك أنطاكيا مكاري"، هذا الأثر كمصدر ( مخطوطة س. بطرسبورغ المحفوظة في معهد المخطوطات الشرقية) لتاريخ روس المسكوبية والجغرافية التاريخية والأتنوغرافيا. إذ كان الرحالون شهود عيان على أحداث ذاك العهد. هذا المخطوط مُشبع بمواد تتعلق بموضوعات الكنيسة الأرثوذكسية ووصف شعائر العبادة فيها. وفي الوقت ذاته يحتوي تفاصيل هائلة عن الحياة اليومية ونمط المعيشة في روس المسكوبية، وقيادتها السياسية والكنسية، وقضايا السياسة الخارجية والاتصالات مع الدول والبعثات الأجنبية، وعن الحياة العامة والخاصة لروسيا وشعوبها والمباني والطبيعة والتجارة والجيش.
يتبع
* باحث وأستاذ جامعي روسيا