مزايدة بقلم:فرح الخاصكي
تاريخ النشر : 2018-12-10
هذه الحياة مزايدة .. في كل صفحة و عثرة .. و كل ارتفاعة أو حسرة .. هناك من يغبطك و هناك من يحسدك .. و يزايدون و يزايدون و كأنك مكيال للحساب و المقارنة .. إن حزنت فهم أكثر حزنا .. و إن فقدت فهم أشد فقدا .. و إن خسرت فهم أفظع خسارة ..
رأفة بالبشر .. و رحمة بأهل الأرض .. فالكل في الوجع يرفل .. كل له خزينه الذي لا ينضب .. فالألم عادل .. يعطي للجميع نصيبه .. لا يمكن لألمي أن يكون أكبر و لا لآلامكم أن تكون أعظم .. فالآلام موزعة بالتساوي حسب طاقاتنا .. فلا يكلف الله نفسا ما لا تتحمل ..

الأوجاع تتماوج بين الكبير و الصغير .. بين الجروح الصغيرة و الملوثة التي لا تندمل .. بين موت و حياة .. بين ولادة طبيعية أو قيصرية .. بين دمعة فرح تكبدت الكثير لتحمل صفة الفرح .. أو دمعة ألم .. وجع أو فراق ..
لا يمكننا مقارنة الأوجاع ببعضها .. و لا الجروح بمقدار ألمها .. ولا الأرواح بمقدار ما فارقت و بكت .. أو مقدار ما خذلت أو غدرت ..
فالأم التي فقدت ابنا ليست كالأم التي فقدت زوجا .. كلاهما في بحر شديد المرارة و لكل مرارة طعم مختلف .. و الطفل يتيم الأب ليش كالطفل يتيم الأم .. و ليس كيتيم الأبوين ..
فاقد الوطن ليس كالمغترب داخل الوطن .. لكنها الغربة في كل أحوالها موجعة .. فقد تجتث بعض كرامة .. أو تغتال الروح هجرا أو شوقا .. و أحيانا أخرى تجعل الإنسان كهل الروح في جسد شاب .. أو قد يكون الفقد على هيئة كفن !
الأحلام التي تموت أو تهاجر أو توأد دون رجعة .. كلها عزيزة على أصحابها فلا حلم أغلى من الآخر .. كلها باهظة الثمن في عيون أصحابها ..
يوما .. حين حزمت أمتعتي و لشدة الألم الذي لم يبرح روحي لسنوات .. هجرت فيها قلمي و أوراقي .. لملمت وسائد البكاء .. كتب أصحابها شاركوني الوجع .. ذكريات موجعة متدفقة لا يمكن حتى لسد الصين العظيم أن يقف في وجهها .. أشعلت النار بهم جميعا .. و لم تشا أن تحترق .. فجمعتها بحقيبة حديدية تفوق حجمي .. و لملمت كل بعثرات الماضي بحلوها و مرها .. و طوقت الصندوق بأقفال محكمة .. و عقدت صفقة مع ذكرياتي .. قلبي .. روحي .. عقلي .. الماضي الذي يغادرني و الحاضر الذي ولد مشوها ..
"إنها صفحة لا بد لها من نهاية.. و ستكون على يدي" .. و تعاوننا على حمل هذا الصندوق العظيم .. و رميناه في المحيط .. الوداع دون رجعة ..
و أكملت رحلتي إلى القطب .. حيث اللون الأبيض في كل مكان .. تركنا مدن الحضارات و الصحارى .. مدن "الزرق ورق" .. تركنا صوت الأذان مرفوعا غاليا .. تركنا كل ما كان لنا .. أو هكذا كنا نظن .. تركنا البحر و النهر .. تركنا الصيف و الشمس الساخنة .. أتينا حيث لا شمس تظهر للعلن .. و لا صيف يحرق جلودنا .. و لا قطرة عرق واحدة ..
هنا حيث محيت كل الألوان و غدت واحدة .. حيث لا ملامح للحياة و لا شيء يشبه الوطن .. ليله بارد و طويل .. موجع لا دفء فيه .. بل إنه يملك كل ما يمكن أن يجعلني نافرة .. حتى الحقوق التي يمنحني إياها .. أخاف الحصول عليها ..
أنا خليط بين ماضي لا يعود .. و مستقبل لا لون له ..
حاولت أن أعيد الصفقة من جديد .. فأن أشتاق للألم .. للوجع . للجلاد .. أريد ما يجعلني ساخنا .. قابلا للذوبان .. أحتاج لكل مشاعر الإنسان الحزينة و الفرحة ..
ناديت شركاء الصفقة القديمة .. شاورتهم بالأمر و اتفقنا أن نعيد ذلك الصندوق .. بحثنا كثيرا و كثيرا .. حتى أني فقدت الأمل و بعد عام كامل و عدة أشهر .. وجدتهم يحملون صندوقا يشبه صندوقي و أغلالا تشبه تلك التي علقتها هناك .. فتحته .. بنفس المفاتيح التي احتفظت بها و لا أعرف لماذا .. بعثرت ما في داخله .. فلم أجد شيئا أعرفه .. دفاتر سخيفة .. كلمات لطفلة خذلتها بعض الخطوات .. وسائد بللتها الدموع .. ما هذا الذي أودعته هنا .. هراء هراء
ما أحببت يوما المزايدة و لم أتعامل بها قط .. كرهتها منذ اللحظة الأولى .. كرهت أنفاسها .. منذ اليوم لن يزايد على بكائي أحد .. فما عدت أبكي قد تركت الدموع لكم و هجرت البحار المالحة .. منذ اليوم سأفقد الذاكرة فقد أغرقت الماضي و ما عدت أستطيع إنقاذه ..
و لن أشتاق ..لقد تركت اللوعة لكم .. منذ اليوم لن أصنع طائرة ورقية و لن أتخيلها تحلق بي إلى الوطن .. فما عاد لي وطن .. سأترككم تبكون غربتكم في أوطانكم و خارجها.. سأترككم لشراهة الشوق الغاضب .. و لحسرة الفقد الأليم .. فانأ اليوم أسمى من البكاء و أقوى من الشوق و أقسى من الوطن !



فرح الخاصكي
طبيبة أسنان و كاتبة عراقية
Insta:@dr.farah.ak