"مسح الجوخ" من عصر السلاطين إلى عصر الإنترنيت بقلم: فادي سلايمة
تاريخ النشر : 2018-12-06
"مسح الجوخ" من عصر السلاطين إلى عصر الإنترنيت بقلم: فادي سلايمة


«مسح الجوخ» من عصر السلاطين إلى عصر الإنترنيت
بقلم: فادي سلايمة - ألمانيا

«مسح الجوخ» آفة العصر، الذي أصبح في هذا الزمان كما «فانوس علاء الدين» في تحقيق الأمنيات والوصول إلى الغايات، أو «العصا السحرية» التي تحوّل الضفدع إلى أمير، والشمطاء إلى حسناء، والجاهل إلى مثقف، والجبان إلى فارس ..

الجوخ لغة: نوعٌ من الصوف (المخمل)، والواحدة منه جوخة. وهو نوعٌ فاخر من الثياب يتزين به عادةً التجار وأصحاب الحظوة من الوجهاء والولاة والملوك والسلاطين، ويلبسونه في المواكب والاحتفالات كنوع من الزينة والمظاهر وإظهار الثراء، ولذلك أُطلق عليهم «أصحاب الجوخ» نسبةً لما كانوا يلبسون.

«مسح الجوخ» اصطلاحاً: قال عنه أجدادنا القدماء التملُّق والتزلُّف والمُداهنة، لشخص معين بغية الوصول إلى غاية معينة.

وأصل الكلمة تركي، «الجوخه دار» أو «ماسح الجوخ» وهو مصطلح كان يُطلق على من يخدم السلطان في إعداد وتنظيف ولبس الثياب والأحذية، ثم توسع المعنى ليشمل كل من يقوم بإسدال الستائر وفتحها في السراي وقصور الوزراء. وكان «ماسحو الجوخ» أولئك يتقربون من طبقات «أصحاب الجوخ» كالولاة والملوك والسلاطين، فيمسحون عباءاتهم المخملية من الغبار والشَّعر الذي يلتصق بها طمعاً بالحظوة عندهم ونيل نصيب من المال أو الجاه، أو يتملقون للسلطان حتى لا يخسروا مناصبهم .. فأصبح «مسح الجوخ» مصطلحاً يرمز إلى التقرب من أصحاب المناصب بالنفاق للوصول إلى الغايات.

ورغم أن ظاهرة «مسح الجوخ» قديمةٌ قدم الإنسان، فإن أول من أشار إليها هو الكاتب والفيلسوف الإيطالي نيقولا ميكافيللي (1527-1469) في كتابه «الأمير»، حيث وضع نظرية «الغاية تبرر الوسيلة». ومع الحكم العثماني انتشر مصطلح «ماسحي الجوخ» في معظم البلاد العربية، ويُقال لهم في فلسطين «السحيجة»، وفي الأردن «هزيزة الذنب»، وفي مصر «الأونطجي» وهو الشخص الذى يمتلك الكثير من الحيل التي تساعده على اللعب بعقول الناس، فيقولون: «بيأكلك الأونطة» (وأصل الكلمة يوناني «أفانتا» وتعني حيلة).

لم يكن «مسح الجوخ» من شيم العرب في العهود القديمة، فقد اشتهروا منذ غابر الزمان بالكرامة والشهامة والمروءة وعزة النفس، أما «مسح الجوخ» والتملق والمداهنة فكانت صفات مكروهة ومذمومة عند كل العرب، ووجودها قليل ونادر جداً عند بعض أصحاب النفوس الدنيئة. وقد حارب النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - المُتَمَلِّقين الذين يسعون لإرضاء هذا أو ذاك من الناس بالكلام المعسول الكاذب ووصفهم بما هم ليسوا أهلاً له، واعتبرهم إنما يرضون الناس بسخط الله، فقال: «من أرضى الناس بسخط الله وَكَلَهُ الله إلى الناس، ومن أسخط الناس برضا الله كفاه الله مؤونة الناس» (الترمذي). وقد قال الله تعالى: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ ﴾.

وذكر المؤرخون أيضاً أن الخليفة عمر بن الخطاب قد حارب ظاهرة «مسح الجوخ» في عهده حيث يروى أنه قال: «أيها الناس من رأى منكم فيّ إعوجاجاً فليقومه»، فقام له رجلٌ وقال: «والله لو رأينا فيك اعوجاجاً لقومناه بسيوفنا»، فقال عمر: «الحمد لله الذي جعل في هذه الأمة من يقوّم اعوجاج عمر بسيفه!». وبذلك قطع دابر «ماسحي الجوخ» في دولته.

لكن المجتمعات العربية تبدلت أحوالها هذه الأيام، فعمّ البلاء وطمّ العرام وانتشر «مسح الجوخ» فيها كانتشار النار في الهشيم، بل وظهرت بعض الأمثال الشعبية التي تحضّ عليه والتي كثيراً ما يتغنى بها «ماسحي الجوخ» كمبررات لأفعالهم، فيقولون على سبيل المثال لا الحصر: «ياللي بيعرف يمسح جوخ أحسن من ياللي بإيده صنعة»، و«بوس الكلب من ثمه تتقضي حاجتك منه»، و«بوس الأيادي لتضحك عَ اللحى»، و«الإيد اللي ما بتقدر تطولها بُوسها وإدعي عليها بالكسر»، و«تمسكن لتتمكن»، و«تملق لتتسلق» .. وهذه الأمثال تعكس بما لا يترك مجالاً للشك مستوى الانحدار والانحطاط الذي وصل إليه «ماسح الجوخ». 

في بلادنا العربية أصبحنا نشاهد «مسح الجوخ» في كل يوم وفي كل مكان تقريباً مع ازدياد عدد من يلبسون الجوخ من القادة والزعماء والمتنفذين والتجار، وكلما ازدادت مكانة أحدهم كلما ازداد حوله «ماسحو الجوخ». بل إن الوضع أخذ يتدهور من سيّء إلى أسوأ حتى صار «مسح الجوخ» اليوم لبائع خضار، أو لسائق تاكسي، أو لممرضة في مشفى، أو لآذن في مدرسة .. وزاد الطين بلة أن انتقلت ظاهرة «مسح الجوخ» من الحياة الواقعية إلى العالم الافتراضي (الفيسبوك) .. فصار الطالب الجامعي «يمسح الجوخ» لأساتذته الجامعيين عن طريق «الفيسبوك» طمعاً بالحصول على علامات جيدة، وصار زيد من الناس «يمسح الجوخ» لعمرو وينشر صوراً له على «الفيسبوك» طمعاً بالحصول على «مسح جوخ» مقابل، وصارت مجموعة من الناس تتملق لصاحب صفحة على «الفيسبوك»، فيتفاعلون مع كل منشوراته وإن كانت تافهة، وغالباً ما يكونون أول المعلقين له، أو أول المشاركين لمنشوراته، بل وينظمون الأشعار والقصائد في تعليقاتهم، أو ينشرون منشورات تحتوي رسائل مبطنة توحي بأنه المثل الأعلى والقدوة المثلى والرجل الوحيد على الأرض والذي لم تنجب البشرية مثله قط. حتى انطبق عليهم المثل الشعبي القائل: «شافت الخنفسة بنتها عَ الحيط، قالت لها: يسلملي بياضك عَ سواد الحيط».

أصبح «مسح الجوخ» اليوم يُمارس من قبل فئات مختلفة من الناس للوصول إلى غايات مختلفة ولم يعد حكراً على فئة دون غيرها لأنه لا يحتاج إلى دراسة أو مؤهلات أو شهادات من جامعات أو معاهد، ولكن «ماسح الجوخ» الناجح عادةً ما يكون من طينة خاصة ويمتلك صفات معينة لا تتوافر عند كثير من الناس من لسان متملق، وكرامة مهدورة، ونفس دنيئة ترضى الذل والهوان. كما يمتلك من الحيل والوسائل ما يساعده على الوصول إلى الغايات المنشودة، ولا يتورع في سبيل ذلك عن استخدام الشعارات الدينية والوطنية. ووسط السباق الحثيث للوصول إلى الغايات يحلف كل «ماسح جوخ» بأنه من الصادقين ويتهم غيره بأنهم من المنافقين، ومنهم من لا يتوانى عن سحق منافسيه ليستأثر بحظوة «لابس الجوخ» وحده!

يُشكل «ماسحي الجوخ» مخاطر حقيقية على مجتمعاتنا، ولعل أعظم هذه المخاطر أنهم يساهمون في قلب الحقائق وتزييفها وضياعها فلا يستطيع الناس التمييز بين الخير والشر وبين الصح والخطأ، فيصبح اللص أميناً، والأمين خائناً، والظالمُ عادلاً، والتافه زعيماً، والجاهل إعلامياً أو صحفياً أو ناشطاً اجتماعياً متحدثاً بأمر العامة، وكما يقول المثل الشعبي: «ما بيطلع من دار المطبلين غير المزمرين». حتى أصبح في زماننا الأسود هذا أن من لا يُتقن «مسح الجوخ» هو الفرد الشاذ الذي يستحق كل الانتقادات القاسية على أي خطأ يرتكبه، دون قول كلمة حق إيجابية لأجله، فكُسرت القاعدة وأصبحت: («ماسح الجوخ» غير المناسب في المكان المناسب).

وفي الختام لا نقول إلا ما قاله النبي محمد - صلَّى اللَّه عليه وسلَّم -: «احفظ اللَّه يحفظك، احفظ اللَّه تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل اللَّه، وإذا استعنت فاستعن باللَّه، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه اللَّه لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه اللَّه عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف».

فادي سلايمة
كاتب وباحث فلسطيني