ما الذي حدث لتميل كتابات دوستويفسكي إلى السوداوية..؟ بقلم:فواد الكنجي
تاريخ النشر : 2018-12-05
ما الذي حدث لتميل كتابات دوستويفسكي إلى السوداوية..؟ بقلم:فواد الكنجي


منذ إن اتخذ (دوستويفسكي) الكتابة متنفسا ليستنشق حريته في التعبير؛ اتخذ من الإنسان محورا أساسيا لكل ما كتبه عنه من فعل الإرادة والسلوك والدوافع النفسية، السليمة والمرضية؛ وهو يمضي قدما متأملا ومستفسرا ومذهلا ومندهشا بـ(الوجود) لا يجد أي مخرج لتفسير كل ما يحيط بالإنسان؛ وكل ما يصادفه من متناقضات الحياة؛ و وسط هذا الغموض والقلق الذي ينتاب الإنسان في كل لحظة من لحظات حياته يواجه مصيره بسوداوية لا يستطيع فك لغز الحياة التي يعيشها بالآلام والمعاناة والعوز والفاقة والجوع والمرض والصراعات؛ وهو مدفوعا في هذا الوسط بين قوة الرغبة واليأس محاصرا لا يفهم معنى وجوده ولا يستطيع إثبات وجوده أو امتلاكها، ليرى نفسه مسيرا وفق أحداث لا يعلم من يصنعها؛ ليرى مصيره متشابكا بما لا يريد إن يكون فيها، ولكن يكون فيها مرغما ليلاقيها بألم وارتجاف وخوف.

في وسط هذا الفهم لمصير الإنسان المتجهة إلى المجهول يقف (دوستويفسكي) طارحا أسئلته عبر رواياته التي كتبها بنفسية تتوالى بأشد سوداوية من أخرى في شخصيات وقفت عاجزة تلاقي مصيرها وهي طامسة في عمق المعاناة الإنسانية، وهذه المعاناة نراها بهذا الشكل وذاك ضمن كل ما كتبه (دوستويفسكي) ابتدأ وانتهاءا بكل الإعمال الإبداعية التي كتبها والتي تتجاوز عن إحدى عشر رواية طويلة و سبعة عشر قصة قصيرة من (كتاب يوميات كاتب) و(كتاب قصص مختارة) الذي يضم قصة المساكين والليالي البيض والصباح والقلب الضعيف وحادثة شنيعة والوديعة وحلم رجل مضحك ومن ثم (كتاب الرسائل) و(رواية نيتوتشكا نزفانوفا) و(الإنسان الصرصار أو رسائل من أعماق الأرض أو مذكرات من العالم السفلى) و رواية (قرية ستيبانتشيكوفو وسكانها- حلم العم) و رواية (الليالي البيضاء) و رواية (حلم رجل مضحك) و رواية (في سردابي) و(الفقراء) و(الزوج الأبدي)، و(مذكرات قبو( و(مذلون مهانون) و(المراهق وهي في جزأين) و(مذكرات من منزل الأموات) و رواية (الأبله – وهي في جزأين) ورواية (الجريمة والعقاب – وهي في جزأين) و رواية (الشياطين – وهي في جزأين) و(الأخوة كارامازوف – وهي في أربعة أجزاء)، وفي خضم كل ما كتبه (دوستويفسكي) ضل اهتمامه منصب في طبيعة الإنسان التي لم يجد تفسيرا وأدركا واضحا لسلوكه ودوافعه وأفكاره ومشاعره ومواقفه الموسومة باللامعقول وبدون أي منطق والعبث والتمرد والخوف والقلق والشعور بالذنب والخطيئة والعنف والضياع والانطواء والعزلة والنقص والتشتت و العجز والانفعال والندم والخوف والعجز وانغماسه في الأحلام وبإشكال مختلفة ليس لها أي ملامح من الحقيقة بقدر ما تتجه نحو التطرف والانطواء والتمرد لارتواء ظمئا لا يرتوي، وهنا يطرح السؤال نفسه ما الذي جعل كتابات (دوستويفسكي) تميل إلى السوداوية ويتخذ من هذا المنحنى من الحياة خطا نفسيا يركز عليه في كتاباته ……؟

الإجابة عن هذا السؤال؛ لا بد لنا بادئ ذو بدا إن نستقصي العوامل المؤثرة في سلوكه وطبيعة البيئة التي أحاطت نشأته الأولى:

العامل الأول، إن (دوستويفسكي) عاش طفولته في إحياء فقيرة في مدينة (موسكو) وهو يعاني من نوبات (الصرع) .

ثانيا، فقد والدته وكانت امرأة مؤمنة ومريضة وسرعان ما غيبها الموت من حياته وهو في سن المراهقة؛ ليفقد حنان إلام وليواجه قسوة الحياة.

ثالثا، كان والده طبيبا متطوعا في السلك العسكري؛ ذو طبع حاد وقاسي؛ وكان مسكنهم قريب من المستشفى التي يعمل فيه والده.

رابعا، بعد فقدان لوالدته كان يقضي أوقاته ما بين ردهات المستشفى مع والده فيلتقي المرضى ويشاهدهم وهم في حالات المعاناة والألم؛ وبين التجول في شوارع والأحياء الفقير ليشاهد ما يسببه الفقر من خلل في النظام الاجتماعي أو الأخلاقي وهم يعيشون تحت فاقة العوز والجوع والتسول.
 
خامسا، سجن (دوستويفسكي) وهو في الثامن والعشرين من العمر وصدر قرار من (القيصر تسار نيكولاس) بإعدامه؛ إذ اتهم بانتمائه إلى جماعة (دائرة بتراشيفيسكي)، وهي جماعة أدبية انطلقت بتوجهات التفكير المتحرر؛ وكانت سرية تناقش الكتب الممنوعة التي تنتقد النظام الحاكم في (روسيا)؛ والتي عدت بكونها جماعة خطرة؛ وتم حضر أنشطتها واعتقال كل من ينتسب إليها، فتم إلقاء القبض عليهم؛ وكان (دوستويفسكي) من ضمنهم وصدر قرار بإعدامهم رميا بالرصاص، غير أنه في اللحظة الأخيرة، وبعد أن عايش (دوستويفسكي) أقصى لحظات الحياة، صدرت الأوامر بتخفيف الحكم من الإعدام إلى المنفي في (سيبيريا). في سيبيريا، حيث عاش بذل ومعاناة لا توصف؛ إذ قضي أيام المنفى هناك بظروف استثنائية قاسية بصحبة شلة من القتلة والمجرمين والمنحرفين، فقضى أربعة أعوام في الأشغال الشاقة، و تلاها ست سنوات من الخدمة العسكرية الإجبارية في المنفى؛ وهو يقضي حكم الأعمال الشاقة كتب روايته ( بيت الموتى) التي صدرت في عام 1861 والتي تعتبر أول رواية تتناول السجون الروسية والسجناء كموضوعٍ أحاط (دوستويفسكي) بكل جوانبه وبشكل مأساوي رهيب.

سادسا، تجربة وقوفه في انتظار لحظات (الإعدام) كانت نقطة فارقة في حياته أثرت في سلوكه كل التأثير في كتاباته وتصرفاته لاحقا، حمل منها تجربة قاسية، وقد وصف هذه التجربة لزوجته قائلا:

((..كنت واقفا في الساحة أراقب بفزع ترتيبات الإعدام الذي كان سينفذ بعد خمس دقائق، كلنا في قمصان الموت موزعين على وجبات من ثلاثة محكومين، وكنت الثامن في التعداد، ضمن الوجبة الثالثة. أوثقوا الثلاثة إلى الأعمدة، وبعد دقيقتين يطلق الرصاص على الوجبتين الأوليين ويأتي دوري… يا إلهي، كم كانت رغبتي في تلك اللحظات تشدني إلى الحياة.. تذكرت كل ماضي الذي أهدرته وأسأت استخدامه، فرغبت في الحياة من جديد وفي تحقيق الكثير مما كنت أنوي تحقيقه لأعيش عمرا طويلا.. وفي اللحظة الأخيرة أعلن وقف التنفيذ.. نعم أوقف تنفيذ الحكم في اللحظة الأخيرة …..! ))، لتكون تجربة الموت عند (دوستويفسكي)، تلك التجربة التي شكلت نقطة تحول جذري في سلوكه والتي لطالما ركز عليها وأثار حولها أسئلة لا أول لها ولا أخر.

سابعا، بعد تجربة نجاته من الإعدام؛ يعود (دوستويفسكي) غارقا و مدمن في لعبة (القمار)، وكانت نظرته إلى المقامرة بكونها ليست مجرد لعبة و مغامرة، قائلا:

((..إنها فلسفةٌ الحياة الجديدة قائمة على فكرة التخلي الحر عن الامتلاك، ليس في هذه الحياة ما يستحق أن تحافظ عليه، بل في الحياة ما يستحق أن تهدره لتمتلكه مرة أخرى كلعبة حظ، تماما كمصادفة نجاته من الإعدام في اللحظة الأخيرة .. )).

ثامنا، كان (دوستويفسكي) يعاني حالة صرع مزمنة؛ يقع في نوبات الصرع ين حين وأخر؛ وهذا الشعور كان شديد التأثير في نفسيته وسلوكه، فيشعر على الدوام بأنه إنسان غير سوي ويشعره بالنقص، وهذا ما جعله مفرط الحساسية في تعامله مع الآخرين .