البلاغة الرحبة، قراءة في كتاب محمد مشبال : 'بلاغة النادرة' و 'مقولات بلاغية في تحليل الشعر'
تاريخ النشر : 2018-11-23
بسم الله الرحمن الرحيم


البلاغة الرحبة، قراءة في كتابي محمد مشبال : 'بلاغة النادرة' و 'مقولات بلاغية في تحليل الشعر'.


وصلى الله وسلم على النبي الأمي محمد، وعلى آله وصحبه وأتباعه وبعد:

فهذا عرض حول البلاغة الرحبة انطلاقا من كتابي الباحث د. محمد مشبال : 'بلاغة النادرة' و 'مقولات بلاغية في تحليل الشعر' . حاولت أن أبرز تصور الباحث للبلاغة نظريا وتطبيقا في ضوء مشروع ما سماه بـ: 'البلاغة الرحبة'، وتصوره للشعرية ولتحليل جنس الشعر. ولقد كانت نتائج جمة بالنسبة لي اقتطفتها من هذا العرض، خاصة وأنه جمع الجنسين: فالأول يتمحور حول جنس من نوع النثر وهو النادرة، والثاني يعالج فن الشعر ويحاول إعطاء منهج للإنتاج واقتراح مقاربة نقدية للقراءة النافعة، لذلك فقد جمعت الأمرين في هذا العرض، واطلعت على القسمين شعرا ونثرا، فأرجو أن أوفق في ذلك دونما إطالة أو نقصان فأقول وبالله أستعين:

مقدمة:
يعرف المغرب اليوم تحركا بلاغية هائلا، يقوم على استلهام منجزات البلاغة العربية القديمة ،كما أنه يستفيد من القراءات المشرقية الرائدة التي سعت إلى محاولة تجديد الدرس البلاغي، بالإضافة إلى إلمامها بالتراكم الكمي والنوعي الذي أسفرت عنه البلاغة الغربية الجديدة.
ويعد الدكتور محمد مشبال من البلاغيين المغاربة المرموقين الذين استطاعوا التعامل مع الدرس البلاغي انطلاقا من مبدأ التفاعل الخلاق، والذي دفع بالباحث إلى طرح مزيد من الأسئلة الحارقة حول ماهية البلاغة ووظيفتها ومدى قدرتها على اختراق الخطابات المتعددة الأدبية منها والخطابية.ولم تبق هذه الأسئلة معلقة من غير أجوبة، بل إنه سعى على مدار مؤلفات عديدة إلى اقتراح أجوبة ممكنة، كفيلة بإنضاج الدرس البلاغي العربي وجعله قادرا على تبوء مكانته الحضارية اللائقة به؛ فكان أن وظف مجموعة من المفاهيم المنتجة كمفهوم: البلاغية، ومفهوم البلاغة الأدبية، ومفهوم البلاغات النوعية، ومفهوم بلاغة السمات.
وإن من بين هذه الانتاجات كتابيه الأوليين: «مقولات بلاغية في تحليل الشعر» (1993)، و«بلاغة النادرة» (1997)، وإن كانا يختلفان فيما بينهما من حيث طموحهما وأهدافهما، فإنهما يسيران نحو مصب واحد هو «الانخراط في بلاغة أدبية بمنظور مختلف عن منظور البلاغة المدرسية أو البلاغة النظرية التصنيفية الموروثة عن التراث البلاغي العربي وعن البلاغة الأوروبية الكلاسيكية؛ بلاغة منفتحة على أسئلة الأسلوبية والشعرية، ومتفاعلة مع النصوص وأنواع الخطابات الأدبية».. (بلاغة الحجاج، ص:10). فقد سعت هذه الدراستين إلى النبش في مفاهيم البلاغة وقواعدها وفي الوقت نفسه مالا نحو توسيعها وإخراجها من مضايقها ومحدوديتها، هذا الهاجس هو الذي حرك الباحث حول البلاغة ومفاهيمها، وكأننا به يعرب عن قلقه في ضياع أشواط طويلة قطعتها البلاغة وهي رهينة تقسيماتها الضيقة وانحسارها في أبعادها الجمالية والأسلوبية، إن الطابع المدرسي الذي انزلقت فيه البلاغة العربية حفز الباحث على صياغة تصور جديد يطور البلاغة ويجعلها أداة فعَّالة وإجرائية في تحليل النصوص والخطابات.

وما سنقدمه في ما يلي إلا طرقا لباب هذا التصور ولك في الانتاجات الأخيرة خير توضيح وتبسيط وتعميق لهذه البلاغة الرحبة، وأخص بالذكر كتاب: "في بلاغة الحجاج".

أولا تعريف مقتضب بالمؤلف:

محمد مشبال أستاذ التعليم العالي بكلية الآداب جامعة عبد المالك السعدي بتطوان، حصل على الماجستير من كلية الآداب جامعة القاهرة 1987 ، والدكتوراه من كلية الآداب تطوان 1997، أستاذ باحث ومنسق بيداغوجي بماستر "النص النثري القديم: دراسة في الأشكال والأنواع"، أستاذ بماستر "الصحافة والتواصل" بنفس الكلية. مشرف على مجلة "بلاغات" وهي مجلة متخصصة في الدراسات البلاغية وتحليل الخطاب، له عدة أعمال منها:
• "مقولات بلاغية في تحليل الشعر" 1993 و"بلاغة النادرة" 1997
• "أسرار النقد الأدبي" 2002
• "البلاغة والأصول: دراسة في أسس التفكير البلاغي عند العرب- نموذج ابن جني" 2007
• "البلاغة والسرد: جدل الحجاج والتصوير في أخبار الجاحظ" 2010
• "الحجاج في التواصل" ترجمة بالاشتراك، 2013
• "خطاب الأخلاق والهوية في رسائل الجاحظ: مقاربة بلاغية حجاجية" 2015
• في بلاغة الحجاج، 2017.

ثانيا: حول كتاب: 'بلاغة النادرة'.

لقد عُنون الكتاب بـ: 'بلاغة النادرة' وكتب فوقه: د.محمد مشبال، وتحته وضعت صورة لوحة لسوزانية فيتز عن كتاب كليلة ودمنة، وتحت اللوحة كتب تقديم: د. محمد أنقار، والكتاب من طباعة دار إفريقيا الشرق طبعة 2016 من الحجم الصغير لا تزيد صفحاته عن 100 صفحة، افتتح بتقديم للدكتور محمد أنقار ثم توطئة وفصلين: الأول، عنونه بـ: سمات حكي الجاحظ. والثاني: صورة بخيل الجاحظ، وختمه بخاتمة.

وقد اعتمد في بناء الكتاب على ما يلي:
مقامات بديع الزمان الهمداني، تجنيس المقامة لمحمد أنقار، الأدب والغرابة لعبد الفتاح كيليطو، المقامات عبد الفتاح كيليطو، كتاب البخلاء للجاحظ، كتاب الحيوان للجاحظ، محاورات مع النثر العربي لمصطفى ناصف، رسائل الجاحظ، الكلمة في الرواية ترجمة يوسف حلاق، شعرية دوستويفسكي ترجمة جميل نصيف التكريتي، البيان والتبيين للجاحظ، يتيمة الدهر للثعالبي، الكتابة والتناسخ لعبد الفتاح كيليطو، الطراز ليحيى بن حمزة العلوي، تحرير التحبير لابن أبي الأصبع المصري، ملاحظات عن القصة والفكاهة لأندريه جيبسون، إحكام صنعة الكلام لابن عبد الغفور الكلاعي، رسالة في الفرق بين المترسل والشاعر تحقيق محمد الهدلقش.
نلاحظ مبدئيا أن الكاتب زاوج في اعتماده لتأليف الكتاب على مصادر تراثية ثم أخرى حديثة عربية وأجنبية ليؤصل لتصوره الذي بناه انطلاقا من استثماره الوعي النقدي القديم الذي واكب جنس النادرة في سياق نظرة جديدة، ترى الانكباب على النصوص بالتحليل والتفسير الطريق الأمثل لتعرف هذا الجنس الأدبي 'النادرة' الذي أسهم مع أجناس أدبية أخرى في تصوير الحياة الإنسانية العربية.
لقد شكل حديثه عن النثر العربي القديم وإشكال القراءة في المقدمة أسئلة عميقة تهدف إلى فهم التراث، فهما كما ينبغي أن يكون، وجعله يتلاءم الحاضر والوقت الراهن في إطار التجنس الأدبي، حيث أن يرى أن: النقد العربي القديم ركز فقط على جنس الشعر باعتباره "عمدة الأدب" في حين انه لم يتح لجنس النثر أن تسهم في ضوء بلورة المفاهيم النقدية البلاغية، ويرى أن:
- الناقد العربي اليوم اجتهد في خلق مناهج دقيقة لتحليل النصوص الأدبية بنوعيها شعرا ونثرا.
- تراثنا السردي يتسم بالغنى والتنوع الكثير.
- الناقد العربي اليوم يقف وقفة في وجه مقولة التجنيس في قراءة التراث السردي العربي بوجود نوع من الحكي يمثل أكثر من تسمية.
- هذه الدراسة التي يقدمها الباحث لا تدعي الإحاطة الكاملة أو الاستيعاب الدقيق، فهي فقط تسائل جنسا أدبيا -النادرة- تكثر نصوصه في عديد من كتب الأدب، وليحقق هذه الغاية فهو يقترح مدخلين:
1. ضبط سمات النادرة بواسطة اعتماد ما أنتجه الوعي الأجناسي الموروث من صياغة نظرية واكبت النصوص.
2. ضبط سمات النادرة بواسطة تحليل نصوصها تحليلا دقيقا.

وفي الفصل الأول المعنون بـ: سمات حكي الجاحظ: يعرض للحديث عن العديد من هذه السمات بدأهابـ:

- العري:

يرى الباحث إن قراءة النادرة في سياق كتاب مؤلف من عدة موضوعات تخضع بلا شك
لمعيارمختلف عن قراءتها معزولة، والجاحظ كان يدرك أن الذي يتحمس لنادرة يتلقاها في سياق التأليف الأدبي قد يفقد هذا الحماس عندما يتلقاها باعتبارها نصا قائما بذاته معزولا عن بيئته. في هذه الحالة سيدعى لمقارنتها بنص نموذجي وستكون هذه المقارنة إجراء ضمنيا يطلع به قارئ حكاية مستقلة تذكره دونما شك بالقصيدة، ولن يستطيع التخلص من سلطانها والنتيجة الحتمية أن النادرة ستخضع لتقييم خارجي يستمد حدوده من دائرة الشعر، ولأجل ذلك كان الجاحظ من أوائل النقاد الذين أرسوا أصول بلاغة النادرة، وكأنه استشعر خطورة الرؤية النقدية التي قد تدين جنسا أدبيا بمعايير جنس أدبي آخر. وجعل السمة الثانية لحكي الجاحظ:

-التصوير:

يرى الباحث أن القدماء ألحوا على ضرورة استيعاب هذا التصوير الأدبي لجميع صفات
الشيء المعاين وأحواله وهيئاته، وهو ما ترتب عليه مفهوم للمحاكات يفيد المطابقة الحرفية للعالم الخارجي، ولا شك أن هذه الفكرة النقدية تقلق أنصار الشعر الذين لا يخفون افتتانهم بالتصوير المفارق للعالم الخارجي، غير أن هذا القلق سرعان ما ينتفي عندما تراعي طبيعة التصوير في الأجناس السردية التي تتباين مع طبيعة التصوير الشعري، في أن صياغتها قد لا تخضع لقانوني الانزياح أو الخرق اللذين اعتبرا معيارين في بناء الصورة الشعرية. أما في السمة الثالثة فهي:

- الطرافة:

والتي مثلت -حسب رأي الباحث- أحد المكونات الجمالية التي لاذ بها الجاحظ في بناء
حكيه وتوصيل أخباره، وأحد الأدوات التي استعان بها على السخرية، وهي إما تبين حجة طريفة أو حيلة لطيفة ، أي منها راسائل الاحتجاج، والنوادر التي تستدعي الفعل السردي. وفي السمة الرابعة يعرض:

- التعجيب :

والتي اعتبرها الجاحظ أحد الأشياء الثلاث التي اعتمد عليها كتاب البخلاء، والنوادر
العجيبة هي التي لا تعرض حجة أو حيلة بالمعنى الدقيق للفظين، ولكنها تقوم على جملة من المظاهر. والسمة الأخيرة التي يراها الباحث هي سمة:

- الضحك:

فقد شكل الحكي في كتابات الجاحظ مجالا خصبا لتوليد الضحك وكأن ما يقصه من
نوادر وأخبار قد خص به هذه الوظيفة دون غيرها، لقد سخر الجاحظ من المدعين والمبالغين والبخلاء وغيرهم لغاية إضحاك قارئيه، فالضحك هو دليل على سلامة الذوق، وتأكيد للانتماء الاجتماعي، والضحك بهذا المعنى هو سخرية من هؤلاء، وخاصة البخلاء.

وفي الفصل الثاني المعنون بـ: صورة بخيل الجاحظ، يعرض الباحث فيه عدة من القضايا:

• أولها، القلق المسلي:
1. يسعى بعض بخلاء الجاحظ إلى إثبات انتمائه الاجتماعي وكأنه يصارع تهمة تتربص به، وفي سبيله إلى ذلك تستيقظ غريزة البخل المتمكنة منه لتحول دون أي سلوك قد ينفي عنه تلك التهمة.
2. أشار إلى أن أبناء هذه النادرة يتمثل في تشكيله للحيلة تشكيلا بلاغيا، والتي لا تخرج عن كونها تنويعات عن أسلوب التقابل الذي يستدعي الدلالة اللغوية الجزئية، إلى ظواهر يولدها النص وتكون ذات شأن في توليد النادرة باعتبارها جنسا أدبيا مخصوصا ينزع منزع الطرافة والفكاهة والتشويق.
3. حرصت هذه النادرة –التي ساقها مثالا- على توفير خاتمة تفجر الموقف المتوتر الذي بدأت ملامحه تظهر منذ لإعلان محفوظ النقاش عن دعوة الكرم.

• ثان هذه القضايا، الشح المؤذي: فقد يصبح الإفراط في الشح مصدر إلحاق الضرر بالآخرين، على هذا النحو فإن تجليات التعجيب في مثل هذه النوادر تتجسد في مظهرين : أولاهما، غرابة استعمال الشيء للمبالغة في التوفير والاقتصاد، ثانيهما، المبالغة في الفعل أو تناقض جلال الفعل مع تفاهة الموضوع.

• وثالث هذه القضايا، التغافل القاسي:
1. يعمد أحد البخلاء إلى اصطناع الحيلة لكي يتخلص من ضيفه الذي يدين له بالتزام اجتماعي لسابق إحسانه إليه.
2. تقوم هذه النادرة على تكرار وظيفة مماثلة وهي السفر والنزول، وهو ما أفضى إلى تعميق السخرية من شخصية البخيل ورسم صورة الجاحدة على نحو مؤثر.
3. ابتعاد جنس النادرة عن المحسنات البلاغية، وجنوح متنها إلى القصر يجعل اللغة تطلع بوظائف إخبارية دقيقة، نادرا ما يكون السرد القصصي قادرا على الاستغناء عنها.
4. يفضي التحليل السابق إلى اعتبار الطرافة مكونا بلاغيا في جنس النادرة، حيث تعمل مختلف الوسائل السردية والبلاغية الأخرى على تشكيله.

• والقضية الرابعة التي يعرضها الباحث هي: قضية موعظة الرقيب:
1. قد يتصرف البخيل مثل بقية الناس، فيحاول أن يسلك أساليبهم ويتقمص أدوارهم كأن يتظاهر بالكرم فيقيم مأدبة ويستدعي إليها أصحابه، فهنا قد يصاب بالقلق وقد ينجح فيسدي النصح لضيوفه وغير ذلك..
2. قد يلجأ البخيل إلى بلاغة الكلام ليعوض نقص الطعام، وفي مقام الكلام قد يقدم لهم نصائح بحسن المؤاكلة وغير ذلك.
3. وفي الموقف الذي قدم، ومن خلال نادرة "موسى بن جناح" يكون هناك:
أ‌. تناقض أسلوب الحديث مع الموضوع.
ب‌. اقتران اللقمة بالموت .
ت‌. التعارض بين دلائل الألفاظ الأصلية المتواضع عليها والسياق المستخدمة فيه.
• أما القضية الخامسة التي ناقشها الباحث فهي: الجسارة الشرهة:
1. تعد صورة الأكول النهم امتدادا لصورة البخيل، فالشره مفرط في حب الأكل، ولطالما كانت هذه الصفة موضوع تندر وسخرية، ويضرب مثاله لذلك بعلي الأسواري.
2. الحجة الطريفة والتي تجيب عن تهمة صريحة توجه لهذا الأكول، وأداته في ذلك هي الإقناع والمواجهة، كما اعتمد على اللغة التي بنت طرافة هذه النادرة.

• والقضية الأخيرة التي عرضها محمد مشبال هنا: حمى الغيظ:
1. لقد مرض محمد بن أبي المؤمل بالغيظ حين هجم عليه أحد الأكلة وهو يتهيأ للانفراد بسمكة ولم يمنعه من مجاراة آكل السمكة سوى بخله الذي ملاه غيظا.
2. تصور النادرة السدري منهمكا في التهام السمكة، بينما يرقب البخيل هذه العملية بسلسلة من التعليقات المعبرة عن دهشته وغيظه. وهي صورة قائمة على نوع من التقابل المضحك.
3. ربما كانت هذه النادرة من النوادر القليلة التي تتظافر في تكوين بلاغتها صورة البخيل بصورة الأكول الشره، حيث يعمد السرد إلى مواءمة سمات الصورتين في بناء يشكل تنويعا جديدا في جنس نادرة البخل.
وفي نهاية الكتاب ختمه بخاتمة بين فيها أن القصيدة لم تكن هي الشكل الوحيد في الثقافة العربية، بل كانت فقط هي الشكل الأكثر حضورا في الساحة النقدية والوعي الجمالي والبلاغي، هذا الحضور لم يمنع أشكالا نثرية أخرى من فرض سلطة حضورها في الساحة الأدبية، ومنها جنس 'النادرة' الذي استطاعت أن تجد مكانا لها في أهم المؤلفات الأدبية منها: البيان والتبين، والحيوان، والبخلاء للجاحظ، والإمتاع والمؤانسة لأبي حيان التوحيدي، وغيرها من المصنفات العربية التي حوت هذا الجنس الأدبي الرفيع.
ولقد جسدت النادرة المكون الهزلي في الثقافة العربية، والذي آمن الجاحظ بحاجة القارئ إلى اللذة والإمتاع ولذلك دافع على تواجد أدب الهزل ، ولقد سعى الكتاب إلى تناول هذا الجنس الأدبي فأظهر التحليل أن النصوص كانت إغناء للوعي النظري والكشف عن إمكانية بلاغية لم يقف عليها النقاد فيما وضعوه من جنس النادرة.
يتضح جليا كيف أن الباحث محمد مشبال بنى تصوره لبلاغة النادرة انطلاقا من سرد الجاحظ، فهي أي النادرة تتسم بالعري والتصوير والطرافة والتعجيب وتثير الضحك، كما صور البخيل انطلاقا من نوادر البخلاء بعديد من صور متنوعة من: قلق مسلي، وشح مؤذي، وتغافل قاس، وموعظة رقيب، وجسارة شرهة، وحمى غيظ. والتي أسهمت جميعها في التأسيس لبلاغة النادرة وتأصيل لتصوره الذي بناه انطلاقا من استثماره الوعي النقدي القديم الذي واكب جنس النادرة في سياق نظرة جديدة، ترى الانكباب على النصوص بالتحليل والتفسير الطريق الأمثل لتعرف هذا الجنس الأدبي الذي أسهم مع أجناس أدبية أخرى في تصوير الحياة الإنسانية العربية.

ولقد وظف الباحث عدة مفاهيم تسهم في التأسيس لهذا الجنس الأدبي ويمكن رصدها فيما يلي:
بلاغة النادرة، السمة، الصورة، المكون، العري، التصوير، الطرافة، التعجيب، الضحك.
وكل هذه المفاهيم تتسم بالطابع البلاغي في الشكل النثري وخاصة السردي حيث إن مصطلح 'بلاغة النادرة' المصطلح الأم والجامع لباقي المفاهيم يوحي بكون النادرة جنسا أدبيا قائم الذات له مكوناته وبلاغته الخاصة والتي تظهر في سمات منها: العري، التصوير، الطرافة، التعجيب، الضحك. والتي تمكننا من عرض صور المكون الذي انبنى حوله النص النادري.

= وخلاصة القول في هذا الكتاب أنه كتاب رام المحاولة بصبغة نقدية جديدة والتي استعان عليها بأدوات تحليلية تملك ميزة الاتساق مع غاية الباحث النقدية الطموحة والتي هي أدوات الصورة والسمة والمكون المميزة بهدفها الذي هو تقصي الجمالية-كما يقول محمد أنقار-، إن الكتاب جاء ليرسخ مفهوم التجنيس في عديد من نصوص التراث العربي التي طالما همشت وعدت من فتات القول أو تراهاته، وهي في حينها لا يمكن إلا أن تكون مدعاة للجمالية وإصلاحا لبعض العادات الفاسدة عن طريق النادرة والسخرية والضحك.



_ ثالثا، حول كتاب: 'مقولات بلاغية في تحليل الشعر'.

لقد عُنون الكتاب بـ: 'مقولات بلاغية في تحليل الشعر' وكتب فوق العنوان محمد مشبال، وتحت العنوان وضعت صورة لوحة باللونين الأسود والأحمر لها دلالتها النوعية، والكتاب من طباعة دار المعارف الجديدة طبعة 1993، والكتاب من الحجم الصغير تزيد صفحاته عن 130 صفحة، افتتح بإهداء ثم نص للإمام أبي يعقوب يوسف السكاكي عبارة عن مفتتح، ومقدمة للدكتور محمد أنقار، وثلاثة فصول: الأول: عنونه بـ: مقولات بلاغية وجنس الشعر، والثاني: بـ: مقولات بلاغية آفاق تحليل النص الشعري، والثالث: مقولات بلاغية وآفاق الحداثة.

وقد اعتمد في بناء الكتاب على ما يلي:
دلائل الاحجاز عبد القاهر الجرجاني، الصورة الأدبية بين الأسئلة المنهجية ترجمة أنقار ومشبال، البلاغة مدخل لدراسة الصور البيانية ترجمة الولي محمد وجرير عائشة، أسلوبية الرواية، مجلة فصول، تحليل الخطاب الشعري، الموازنات الصوتية في الرؤية البلاغية، اتجاهات التوازن الصوتي في الشعر العربي، أسرار البلاغة عبد القاهر الجرجاني، الشعرية العربية، شرح ديوان المتنبي، جمالية القصيدة التقليدية، عيار الشعر ابن طباطبا، الشعر والشعراء، ديوان أبي تمام، البديع في نقد الشعر أسامة بن منقد، العمدة لابن رشيق، منهاج البلغاء حازم، الخصائص ابن جني، جماليات القصيدة التقليدية شكري محمد عياد، مفتاح العلوم، المثل السائر ابن الأثير، البلاغة تطور وتاريخ شوقي ضيف، نقد الشعر لابن قتيبة، البرهان في علوم القرآن، جماليات الالتفات عز الدين اسماعيل، تفسير الزركشي، المحتسب في تبيين وجوه شواذ القرءات والإيضاح عنها، ديوان أوراق الغرفة أمل دنقل، الصورة الأدبية بعض الأسئلة المنهجية ستيفن أولمان، البلاغة والأسلوبية هنريش بليت، الماركسية وفلسفة اللغة باختين.
كل هذه المآخذ الذي ركز عليها الباحث محمد مشبال من المصادر والمراجع العربية منها والغربية القديمة والحديثة كما رأينا حاول من خلالها تعميق الوعي النقدي ببلاغة الشعر قديمه وحديثه، ولا يكاد يخفى أن صيحات عديدة ردد صداها تاريخ الأدب العربي الحديث والمعاصر كانت تدعوا إلى الاستفراد من التراث قصد تحريك دواليب حياتنا الأدبية وإثراء مقارباتها إلا أن معظمها قد اتسم بالتعميم –كما يقول محمد أنقار-

لقد واجه الباحث محمد مشبال عدة من الإشكالات المنهجية في هذا الكتاب كالصيغة التي يمكن أن تتزاوج بها البلاغة العربية القديمة بالصيغ الجمالية الحديثة، علما أن الغرب قد خطى خطوة كبيرة في تطويع هذا الإشكال العويص في أفق ما سمي بالنظرية الأدبية الأوروبية، وهو في هذا الكتاب لا يدعوا إلى تتبع خطوات الغرب أو كما فعل الغرب بل إن الكتاب يحاول تلمس الطريق نحو تراثنا البلاغي انطلاقا من وعي متوتر بمقتضيات المعاصرة، إلا أنه لا يضرب صفحا عن الثقافة الأدبية الراهنة ولا عن التأثيرات الجمالية الوافدة، إن الكتاب يضم عدة من المحاورات والدراسات الموجهة أساسا إلى تعميق وعينا النقدي ببلاغة الشعر وحديثه، -كما يشير لذلك محمد أنقار في المقدمة-.

ينطلق في الإجابة عن هذا الإشكال من الفصل الأول والذي عنونه بـ: 'مقولات بلاغية وجنس الشعر':

1. مقولة النوع وموقع النثر في البلاغة الحديثة:
- ينطلق الباحث من هذا السؤال: زمن النثر أم زمن الشعر؟ لقد احتل النثر مكانة رفيعة في النظرية الأدبية الحديثة بالقياس ما حظي به الشعر من سلطة تمثلت في توجيه التصورات النقدية وبناء المفهومات الجمالية، ثم يعرض للوظيفة الجمالية في جنس الشعر:

-الوظيفة الجمالية وجنس الشعر: إن مفهوم الوظيفة الجمالية عند ياكبسون يقوم على جنس الشعر فهو المعيار الذي يستمد منه نسقه على الرغم مما يمكن أن يوجه من سمات مشتركة بين أنماط الخطاب الأدبي، وهذا ما يكشف عن سلطة هذا الجنس الأدبي في التصور الجمالي للأسلوبية والبلاغة الجديدة، هذه المكانة التي يحظى بها الشعر على حساب السرد أثرت على النظرة الأدبية، حيث وإن وجدت هذه القيم الجمالية في جنس الرواية فإنها تظل تدين بجذورها لجنس الشعر، وفيما يلي سيؤصل لمفهوم الانزياح:

-الانزياح الجمالي وجنس الشعر: الانزياح يعد أداة إجرائية لوصف الشعر وتحديد خاصيته الثابتة، ومن هنا يظل مفهوما محاصرا في نظرية الشعر لا يمتلك سلطة نقديا كفاية لاستيعاب الأنواع السردية، ولا يخفى أن الانزياح مفهوم بلاغي ظهر عند القدماء، لكن تم بلورته أكثر مع ظهور المدارس اللسانية فصيغة الانزياح المقترحة عند اللسانيين قد واجهت عدة مشكلات:
أ. مشكل تحديد القاعدة التي يتم الانزياح عنها.
ب. يترتب على القول بمفهوم الانزياح اعتبار اللغة الشعرية أرقى مستويات اللغة.
-البلاغة وسلطة الشعر: هناك هيمنة لجنس الشعر على البلاغة الجديدة هذه الهيمنة التي أحالتها إلى ضرب من الأسلوبية الشعرية التي لا تملك كفاية استيعاب التصوير في الرواية والأنواع الأدبية.

-مقولة النوع واختزال الصور البلاغية: مشكل البلاغة والأسلوبية في نظرتهما للصور يتمثل في عجزهما عن التخلص من سلطة ماهية الشعر المتحكمة في توجيه تصورهما للأدب وآلياته، وحتى المحاولات البلاغية والنقدية من أجل أعادة الاعتبار للصور البلاغية بدت شاحبة أمام هيمنة الاستعارة، وهذا كله من شأنه أن يبقي البحث البلاغي المعاصر في صياغته لمباحثه سجين سلطة النوع الواحد هو الشعر.

-خلاصات: آفاق نظرية وإجرائية:
أ. الدعوة إلى تطبيق المناهج اللسانية في دراسة الأدب بحثا عن وهم تحقيق العلمية.
ب. الجنس الأدبي الذي وجه نظرية يكبسون على جهة الخصوص والأسلوبية البنيوية بوجه عام والبلاغة الأدبية تمثل أساسا في الشعر.
ج. يصبح البحث عن الصورة في الرواية وأنواع نثرية أخرى مثمرا في أفق إعادة صياغة مفهوم الصورة الشعرية على أسس تراعي السياق الجنسي.
د. مفهوم الأدبية لن يكتسب فعاليته إلا بخضوعه للسياق الجنسي.
ه. إن الناقد الأدبي مطالب اليوم باسترجاع مكانته في إطار نظرية الأدب ومقاربة الأعمال الأدبية.

2. الأسلوبية البلاغية: قراءة في نموذج "هنريش بليت"
يشير الباحث إلى أن هذه الدراسة تسعى لتقديم صورة تحليلية للدراسة التي صاغها هنريش بليت والمعنونة بـ: (البلاغة والأسلوبية)، يسعى بليت إلى أن تصبح البلاغة علما لتحليل النصوص أيا كان نوعها، وهو بهذا يكون من رواد البلاغة الجديدة والمنطلق الذي ينطلق منه الباحث هو كالتالي: الصورة البلاغية وحدة لسانية تشكل انزياحا.
-كيف استطاع بليت -إذن- البرهنة على تحقيق الانزياح الجمالي؟ إنه يرى بضرورة استعمال مفهوم تراتبية الوظائف، فالنص جملة من الوظائف المنظمة، هكذا نكون إزاء انزياح جمالي وشعري إذا كانت الوظيفة المهيمنة وظيفة شعرية. وتتحقق حينما تكون مقصودة لذاتها. وهذا النموذج يقوم على المبدأ التوليدي الذي يقوم على ثنائية الكفاية والإنجاز.

وفي الفصل الثاني المعنون بـ: 'مقولات بلاغية وآفاق تحليل النص الشعري' يعرض الباحث ما يلي:

1. الأثر الجمالي في النظرية البلاغية عند عبد القاهر الجرجاني:
يشير الباحث إلى أنه ليس الغرض في هذا المبحث الوصول إلى مفهوم جرجاني للتلقي يناظر المفهوم الفلسفي والجمالي الحديث، بل ما يعنينا هو أن نفهم تصور عبد القاهر الجرجاني ونفسره في ضوء بعض الأسئلة التي تفرض نفسها على تفكيرنا الراهن، ويقول الباحث بأنه لا نأمل إلا إجابات يقدمها عبد القاهر نفسه وهي إجابات لا يمكنها إلا أن تحمل ملامح السياق المعرفي الذي احتضنه.
-خصائص الأثر الجمالي: في ضوء تصور الجرجاني يصبح القول الشعري صورة يتضافر فيها المكون النحوي والمجازي لإحداث الأثر الجمالي في المتلقي، وقد أطلق عليه الجرجاني جملة من المصطلحات وعند فحصها تتجلى خصائص الأثر الجمالي التي يجوز لنا صياغتها مجملة في ثلاث مظاهر كبرى:
أ. التأثير: وهو شعور بالنشوة واللذة والراحة الوجدانية التي تغشي المتلقي على إثر تلقيه للصورة.
ب. التأمل: ويرتبط بخاصية من خصائص الأثر الجمالي تجعلهما ممارسة فعلية وحدثا ملموسا وهي القراءة.
ج. القراءة: وهي حدث يساهم هو الآخر في تشكيل النص، وعلى القارئ أن يكون على معرفة دقيقة ليصل إلى المبتغى.
-ضوابط الأثر الجمالي:
أ. الصورة العقلية: هي كل تشبيه أو استعارة كانت المشابهة فيهما عقلية، تستوجب تأويلا ومشاركة من المتلقي، والاستعارة مراتب:
= القريبة من الحقيقة.
= التي يشترك طرفاها في صفة توجد فيهما الحقيقة.
= وهي التي تكون المشابهة صورة عقلية، وهو الصميم الخالص.
ب. التصوير الحسي: وهو الذي يعتمد على الحواس، وله ميزتان: قوة المعنى، والحنينية.
ج. ائتلاف المختلفات: الائتلاف بين شيئين مختلفين في الجنس أبرز مقياس لتحقق الأثر الجمالي للصورة التشبيهية.
د. الصورة التفصيلية: التشبيهات التي تعمد إلى التفصيل في الاستعمال تكون فائدتها أجل من التي تنهج طريق التصوير المجمل.
ه. الصورة النحوية: يعد الجرجاني الصياغة النحوية الدقيقة تؤازر لطف الاستعارة وغرابتها، إذ يؤذن غيابها بافتقاد الصفة الشعرية وسلب للمتلقي الشعور باللذة.
= عوائق الأثر الجمالي: ومن هذه العوائق: التعقيد، والندرة والغرابة والتكرار.

2. مقولة الالتفات في تحليل النص الشعري:
أ‌. مقولة الالتفات في الخطاب البلاغي: لقد حظيت هذه المقولة بنصيب وافر من التحليل والتفسير في الخطاب البلاغي وهي وإن كانت تهم الشعر والنثر فإنها تظل أقرب إلى طبيعة الشعر، إن الالتفات من الأساليب التي لا يتسع لها نسق العربية فيعمد المتكلم إلى استعماله في الشعر والنثر الأدبي دون أن يعني غيابه من اللغة المتداولة، ويعتبر الباحث هذه المقولة ذات أصل شعري سواء على مستوى التكوين أو الوظيفة .
= حد الالتفات: لقد ظهر هذا المصطلح في وقت مبكر من الثقافة العربية إذ يعد الأصمعي أول من أطلق هذه التسمية، وله عدة حدود من بينها حد ابن المعتز وهو: "إنصاف المتكلم عن المخاطبة إلى الإخبار وعن الإخبار إلى المخاطبة وما يشبه ذلك، ومن الالتفات الانصراف عن معنى يكون فيه إلى معنى آخر"، وقد أسس الباحث لمقولة الالتفات بعدة مرتكزات والمتولدة عنها هذه الأشكال: أشكال الالتفات بين صيغ الضمائر وصيغ الأفعال والصيغ العديدة.
= الالتفات سمة أسلوبية ومقولة تفسيرية: لقد أظهر التحليل السابق أن مقولة الالتفات ظاهرة أسلوبية فإنها تخضع في المقام الأول للاختيار اللغوي، وقد حاول البلاغيون تحديد معايير الفنون البلاغية الأسلوبية ومن بينها الالتفات الذي صاغوا له معيارين يسمحان له بالتحقق الأسلوبي: وهما: المتلقي والسياق.
ب‌. أسلوب الالتفات في الخطاب الشعري: إن الناقد المعاصر اليوم الذي يروم استخدام مقولة الالتفات البلاغية في تحليل الخطاب الشعري، لا يجد مناصا من استثمار بعض المبادئ التحليلية التي صاغها القدماء، باعتبارها قواعد منهجية لتفسير النص الأدبي، ولأجل اختبار هذه الفعالية التفسيرية لمقولة الالتفات سيحاول الباحث رؤية هذا الأسلوب في ضوء فهمه الجديد لطبيعة النص الشعري القديم والمعاصر من خلال: نموذج شعري قديم لأبي تمام، ونموذج شعري معاصر للشاعر أمل دنقل. ففي النموذج الأول، يوجد الالتفات من صيغة المتكلم إلى صيغة الغائب في سياق دلالي يصور فيه الشاعر همومه قصدا إلى وضع الشعور بالحزن موضعا عاما يشمل غيره من العشاق الذين ساورتهم فرقة الأحبة. أما في النموذج الثاني: فقد حمل أسلوب الالتفات الدلالة العميقة التي انطوى عليها النص، وهي أن النص لا يكون موجها للطيور إلا على سبيل المجاز ، وإن شاعت التجربة المأساوية في جسد النص كله على نحو ما شاعت في قصيدة الخيول، وقد قدم لها تحليلا هي بدورها.

3. " الغرض الشعري " معيارا للقراءة:
يقترح الباحث في هذه الدراسة أحد الضوابط التي تسعف القارئ في الاقتراب إلى القصيدة القديمة والمتمثل في ضابط "الغرض" باعتباره بناء جماليا له مكوناته وسماته وعناصره الضرورية والاختيارية.
أ‌. الإطار النظري للإشكال: سيحاول الباحث أن يبين كيف أن معيار الغرض كانت له حيويته وفعاليته في بناء التصور النقدي القديم للقصيدة العربية وجماليتها، وكيف أن هذا المعيار كان مثمرا لدى جملة من الباحثين المحدثين الذين نظروا للقصيدة العربية القديمة، وكيف يمكن أن يكون حيويا بالنسبة إلينا لإعادة النظر في مجموعة من المكونات الشعرية.
ب‌. الغرض ومبدأ الاختيار الأسلوبي: إن للغرض دور أساسي في الاختيار الأسلوبي عند الشاعر، وقد وقف الباحث على مجموعة من النصوص النقدية الصادرة عن هذا التصور.
- اختلاف أسلوب الغرض البسيط عن الغرض المركب.
- نوع الغرض وخصائص الأسلوب.
- فعالية الغرض في تفسير بلاغة الشعر.
ت‌. الغرض والسمات الجمالية: عرض الباحث بعض السمات على نحو ما تمثله النقاد في نماذج القصيدة القديمة:
 سمات لغوية: منها المبالغة والالتفات والمراوحة بين المعاني.
 سمات نظمية بنائية: منها الاستهلال والخروج والانتهاء .
ث‌. الغرض وأنماط القصيدة: يستخلص الباحث ثلاثة أنماط في أقلها:
- القصيدة الرسالة: يقوم هذا النمط على كفاية بلاغية خطابية باعتبارها رسالة يراد إيصالها.
- القصيدة المتلائمة: وهي التي تلاءمت فصولها واتصلت حتى لا يبدو عنها التفكك.
- القصيدة المتلاحمة النسج: ونجد ذلك جليا في شعر المتنبي .

وفي الفصل الأخير المعنون بـ: "مقولات بلاغية وآفاق الحداثة" يتحدث الباحث عن:

1. مفهوم النوع والغرض في الشعرية العربية:
سيناقش الباحث في هذا المبحث بعض الثغرات والمشكلات التي أضرت بمنهج رشيد يحياوي في كتابه 'الشعرية العربية':
• مفهوم النوع والمعيار الشكلي: أورد يحياوي المعيار النقدي الذي يصدر عنه تصوره في تحديد النوع، فالشكل يعد أساسا في تصنيف الأنواع، ولأجل ذلك لم يعتد بالأغراض على الرغم من كونها اعتمدت في تصنيف الشعر، بينما يرى محمد مشبال أن المعيار النقدي هو الغرض.
• النوع ومعيار الكم: في هذه الفقرة ينبع هذا التساؤل: هل الشكل الكمي كاف ليجعل من المقطعة والمقصدة نوعين شعريين متمايزين؟
هناك مشكلات كثيرة تثير هذا التساؤل:
- استخدام الشكل بدل النوع.
- هناك تعسف في فهم النصوص وتأويلها.
وفي الأخير يشير الباحث إلى أنه لا يمكن عد الكم معيارا للفصل بين نوعين شعريين ويرجع الفيصل إلى قضية الغرض.
• الغرض وإشكال المنهج:
- قام منهج البحث في نظرية الأغراض على أساس تصنيفي وتنميطي وهو بذلك كان مخلصا للمادة المدروسة.
- يشير الباحث إلى مبحث مهم وهو المتعلق بصلات الغرض الشعري بمبحث البديع.
- يشير الباحث أيضا إلى محاولة النظر إلى الغرض نظرة تتجاوز ثنائية الشكل والمضمون في أفق تحليل سماته ومكوناته.
- الباحث لم يقتنع بتقسيم الغرض الشعري إلى وجهين: خارجي وداخلي.
- يشير محمد مشبال إلى أن الباحث لا يدرك أن النقاد القدامى كانوا لا يصدرون في تنظيرهم لغرض المدح قيمته على المبدأ البلاغي المعروف مراعاة مقتضى الحال.
• الشعرية ونظرية الأنواع: يسعى الباحث يحياوي إلى صياغة هذه النظرية في تراثنا، ولكن سعيه هذا واجه صعوبات كبيرة لسببين:
أ‌. صعوبة بناء نظرية للأنواع اعتمادا على أحكام النقاد.
ب‌. غياب تصور منهجي حديث في فهم طبيعة النوع الأدبي.
يعقب هذا الصعوبة عدة إشكالات: كيف يمكن بناء شعرية عربية تستوعب جميع الأصناف الشعرية؟ ما الذي يجعل من رسالة لغوية عملا شعريا؟ وما الفرق بين العمل الشعري وغيره؟

2. المكون الصوتي وتحليل النص الشعري:
سيسعى الباحث في هذا المقطع إلى تقديم قراءة حول إسهام الدكتور محمد العمري في تطوير حقل دراسة إيقاع الشعر العربي، وسينطلق من تساؤلات: هل اطلع العمري باستثمار ذخيرة الموروث الصوتي في الخطاب البلاغي من أجل النهوض بدراسة أسلوبية تراعي الإمكانات الموسيقية التي يقوم عليها الشعر العربي والتي تناسب الطبيعة الجمالية للشعر؟ أم انه ظل وفيا للتصور القائم على مفهوم تزييني لمقومات الشعر الأسلوبية؟
• بناء النموذج وقضية الحداثة: إن الباحث لم يدع اقتراح نموذج بلاغي اختزالي وكل ما قام به هو صياغة ذلك الحشد من المصطلحات التجنيسية وفق نموذج ينهض على إدراك العلاقات المتحكم فيها، فهو نموذج يتطلع به صاحبه إلى وصف البنية الصوتية للشعر العربي القديم، ويقول محمد مشبال: ولم لا نقول إن هذا النموذج إنه تقويمي وإن ظل معياره قاصرا على استيعاب النسيج المعقد للمكون الصوتي في الشعر العربي القديم.؟ ولذلك نرجعها إلى تصور الباحث ومنهجه في التعامل مع مادته.
• المكون الصوتي والقيمة الجمالية: إن العمري في مواضيع شتى من دراسته يوهم القارئ بالسلطة المطلقة للمكون الصوتي في تصوره لماهية الشعر. فإذا كانت البلاغة الغربية قد انتهت من مراحل تطورها إلى بلاغة الاستعارة، الأمر الذي هدد إمبراطوريتها بالانهيار، فإن البلاغة العربية التي ارتبطت بالشعر بكل مقوماته قد تؤول إلى بلاغة مقيدة، ما لم نكف عن اختزال الشعر في المكون الصوتي.
• ماهية الشعر وسلطة المكون الصوتي:لقد انطلق الباحث في هذه الفقرة من الافتراض التالي: لماذا كانت بلاغة الإعجاز لا تعير أهمية كبيرة للمكون الصوتي وهو المقوم الذي ينهض عليه الشعر؟ فالأولى أن تكون بلاغة نثرية وهو افتراض بني عليه افتراض آخر مفاده أنه لما كانت بلاغة الإعجاز تصدر عن نص نثري لا مزية فيه للمقومات الصوتية، فإنها لا تجوز إلا أن تكون بلاغة نثرية. والمشكل كامن بالحقيقة في جذور تصور الباحث للشعر والنثر.

3. مفهوم الصورة الشعرية، دفاع عن البلاغة:
في هذا المقال سيطمح الباحث إلى إثارة إشكال مفهوم "الصورة الشعرية" من خلال مقال الأستاذ محمد الوالي:"الصورة الشعرية في الخطاب البلاغي والنقدي" وسيركز على التصور النظري والمنهجي الذي تناول به الباحث هذا المفهوم المحفوف بالالتباس.
• طبيعة الصورة الشعرية: ينطلق محمد الوالي في المحصلة النهائية من التعريف الذي يحدد الصورة الشعرية في المحسنات القائمة على المشابهة، وتلك التي تقوم على المجاورة، وهو يعتد بالأولى دون الثانية. وهو بهذا الصنيع يضيق الصورة الشعرية في نطاق الصورة البيانية دون أن يسمح للعمل الشعري بإفراز أدوات تصويرية تستحق الانضواء تحت تسمية الصورة الشعرية التي ليست فقط بديلا للأدوات البيانية، ولكنها تستوعب أيضا أدوات تصويرية أخرى. إن الصورة الشعرية عند الباحث هي "الاستعارة والتشبيه"، وهو بذلك يلغي جملة من الصور من مجال التصوير الشعري ومن هذه الصور "المقابلة".
• أسلوبية الانزياح وثنائية الشعر والنثر: لقد أقامت أسلوبية الانزياح جهازها النظري على أساس أن الشعر هو انتهاك لقواعد النثر، أي اللغة الرفيعة في مقابل الكلام العادي، أي أن الشعر أفضل من النثر. إن أي تنظير للصورة الشعرية لم يقم على اعتبار لأنماط القول المختلف يظل تنظيرا قاصرا لا يمكن أن يطور البحث البلاغي في مجال الصورة الأدبية.
• الصورة الشعرية ومفهوم الأدبية: لقد أولى الجرجاني عناية فائقة للمتلقي في بناء تصوره للأدبية، بحيث يمكن عد المتلقي بعدا من أبعاد أدبية النص، والحق أن الجرجاني يحمل جوهر تصوره للأدبية من خلال حديثه عن الصياغة والتصوير والتشكيل ، فالتصوير عنده يشكل جميع الأدوات التصويرية.

4. الصورة والحداثة الشعرية (قراءة نقدية في ديوان"نشيد البجع"):
يشير الباحث في هذا المبحث إلى أن قارئ الديوان ينتهي إلى أن محمد بنطلحة طاقة شعرية لا تتمحل الإبداع ولا تتعمل الخلق ومع ذلك يشعر القارئ بغياب نسق موحد في الكتابة الشعرية داخل الديوان، فهناك قصائد منفتحة وهناك أخرى مغلقة، وأيضا قد تصادف قلقا في النسق التعبيري بين الصورة الشعرية الموحية والعبارة المباشرة بين الكثافة الشعرية والاسترسال النثري.
والصورة الشعرية في معظم القصائد ترد في جملة نحوية مفصلة الشيء الذي قد يؤثر على كثافة الشعرية. الشيء الذي يعني أن هذه الكتابة الشعرية فيه لا تسير على نسق واحد، ويبدو أن مساره الشعري يتجه نحو اختيار الانغلاق، بينما أظهرت تجاربه الشعرية قدرة فائقة في خلق الصورة الفنية الناجعة.
وإذا ما وعى الشاعر واقعه الحضاري انطلاقا من رؤية عميقة ناضجة تأخذ في الاعتبار المتلقي فإن الشعر سيتجه وجهته الحقيقية، وإذا ما وعى الناقد دوره الحضاري انطلاقا من رؤية ناضجة تأخذ في الاعتبار معجم الشاعر والأسئلة النابعة من الواقع الاجتماعي فإن النقد سيطلع بوظيفته الحقيقية.

= لقد حاول الباحث محمد مشبال الإجابة عن عدة من الإشكالات المنهجية في هذا الكتاب كالصيغة التي يمكن أن تتزاوج بها البلاغة العربية القديمة بالصيغ الجمالية الحديثة في واقعنا العربي المتأزم في كل المجالات خاصة ونحن نعلم أن الغرب قد خطى خطوة كبيرة في تطويع هذا الإشكالات العويصة في أفق ما سمي بالنظرية الأدبية الأوروبية، وهو في هذا الكتاب لا يدعوا إلى أن نفعل كما فعل الغرب بل إن الكتاب قد حاول تلمس الطريق نحو تراثنا البلاغي انطلاقا من واقع الحداثة التي تفرض علينا، إلا أنه لا يضرب صفحا عن الثقافة الأدبية والجمالية الوافدة، إن الكتاب يضم عدة من المحاورات والدراسات الموجهة أساسا إلى تعميق وعينا النقدي ببلاغة الشعر وحديثه.
وقد بني الكتاب على عدة مصطلحات ومفاهيم من ذلك: مقولة النوع، والأسلوبية البلاغية، والتلقي، والأثر الجمالي، والالتفات، ومفهوم الغرض، والنوع، والمكون الصوت،ي والصورة الشعرية، والحداثة الشعرية، والبلاغية والبلاغة الأدبية... وكلها مفاهيم توظيفة لتحليل النص الشعري والتي تمنحه الروح الإبداعية والفنية والجمالية التي يطلبها أي إنسان في هذا الكون.
_ وخلاصة القول في نهاية هذا الكتاب، أنه كتاب يلح بشدة على تدقيق النظر في جملة من المعايير الجمالية من قبيل الغرض والالتفات والصورة والمكون الصوتي، وقياس فعاليتها الفنية من مصادرها التراثية قبل العمل على تشغيلها في حقول تحليلية أوسع.

{} خاتمة:
وهنا تنيخ قافلة عرضنا رحالها في ساحة الختام فنقول: إن المشروع النقدي الخاص بمشبال انطلاقا من الكتابين يجعلنا نعتقد اعتقادا جازما بأن الباحث سعى بكل جهد إلى فهم تراثنا البلاغي والنقدي العربي انطلاقا من زمانه بأدوات عصرية تتلاءم والوقت الحالي، ويقول في هذا الصدد: "في دراساتي تتجاور أسماء أعلام التراث من قبيل عبد القاهر الجرجاني وحازم القرطاجني وغيرهما بجانب أسماء أعلام النقد والبلاغة المعاصرين من قبيل باختين وبرلمان ورولان بارت وغيرهم. لا يمكننا أن نعيش إلا في اللحظة الزمنية التي نوجد فيها؛ ولكن هذه اللحظة هي سيرورة تمتد في الماضي وتتجه نحو المستقبل".
ويوضّح "بناءً عليه، لا يمكننا أن نكون أرسطيين أو جرجانيين إلا بمعنى أننا نستلهم أفكارهما أو نبعث أفكارهما في سياق جديد. باختصار، لا يمكنني إلا أن أكون مُشاكلاً للزمن الذي أعيش فيه؛ وهذا الزمن هو سيرورة تاريخية تُسهم فيها أصوات إنسانية من كل العصور والأصقاع".
ومنذ أول كتبه "مقولات بلاغية في تحليل الشعر" (1993)، اتضحت ملامح مشروع نقدي يتحرك داخل البلاغة العربية ويستمد مفاهيمه النقدية منها، المسار الذي تعزز أكثر من خلال مؤلفات كـ"بلاغة النادرة" (1997)، ويقول ضمن هذا السياق: "إنّ ما شغلني منذ البداية هو السعي إلى استثمار ما ينطوي عليه المنجز البلاغي العربي والإنساني من أدوات ومفاهيم ومبادئ في سياق تحليل أو تأويل أنواع من الخطاب الأدبي من شعر ورواية ونادرة ورسالة وخطابة... لقد شرعت أفكر في الأمر بطريقة بسيطة وبريئة؛ تساءلت في خضم ما كنّا نعيشه من فورة المناهج التي غزت عقولنا في فترة الثمانينيات: لماذا لا تحظى البلاغة بما تحظى به هذه الحقول التي تفتننا ونبذل كل ما في وسعنا من جهد لاستنباتها في ثقافتنا العربية المعاصرة؟ لماذا لا تنافس البلاغة البنيوية والأسلوبية والسرديات والسيميائيات ونظرية التلقي وغيرها من الحقول والمناهج؟".
ويضيف: "لقد ورثنا عن البلاغة العربية رصيداً هائلاً من المفاهيم التي تسعف في تعيين بلاغية الخطاب، على نحو ما ورثنا رصيداً غنياً من التأويلات البلاغية للخطاب سواء أتعلّق الأمر بالشعر أم بالقرآن؛ فلماذا لا نستثمر هذا الرصيد ونعيد صياغته في سياق توجيهه نحو تحليل النصوص والخطابات بأنواعها وأزمنتها المختلفة؟".
وما فكر فيه أو تساءل عنه هو ما حاول الإجابة عنه من خلاك إنتاجات عدة ولعل الحجر الأساس لهذا المشروع كان هذان الكتابان، فأرجو أن أكون وفقت في قراءتهما قراءة تستشف المعنى المقصود والمراد، وهذه نهاية هذا العرض الوجيز، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.
-----------
المراجع المعتمدة:
- محمد مشبال: مقولات بلاغية في تحليل الشعر، المعارف الجديدة، ط: 1993.
- محمد مشبال: بلاغة النادرة، إفريقيا الشرق، ط: 2006.
- مقال سليمان الحقيوي: 'محمد مشبال.. ناقد بأدوات زمانين'، مدونة العربي الجديد.
- مدمونة البلاغة الرحبة.
- جميل حمداوي: 'محمد مشبال والصورة البلاغية الرحبة'، شبكة الألوكة.
- كريم الطيبي - عضو (باحثون) – المغرب، 'المشروع البلاغي لمحمد مشبال قراءة في كتاب في بلاغة الحجاج' مدونة الجزيرة.


حمزة الوسيني
المغرب - طنجة .