الرحلة العياشية ماء الموائد لأبي سالم العياشي بقلم محمد زيطان
تاريخ النشر : 2018-11-21
محمد زيطان باحث في سلك الماستر تخصص الادب العربي المغرب،تطوان.
موضوع الدراسة:الرحلة العياشية ماء الموائد لأبي سالم العياشي.
مقدمة:
قبل الحديث عن أدب الرحلة، لابد لنا من الحديث عن مفهومها، فالرحلة مشتقة من الارتحال وهي تعني الانتقال من مكان لآخر لتحقيق هدف معين، وهي جسر للتواصل مع الآخر، كما أنها وثيقة تاريخية وأدبية تقوم على السرد والمشاهدة والمعاينة والوصف الدقيق لأحوال المجتمع الذي ارتحل إليه صاحب الرحلة، وأحوالِ أهله وعلمائه، وتكشف عن طبيعة الوعي الإنساني بالآخر، فضلا عن كونها فهما لذات الآخر ومعرفته، لأن معرفة هذا الآخر هي جزء من معرفة الذات، التي لا تكتمل إلا بفهم الآخر ومعرفته.فقد ظل أدب الرحلة مجالا واسعا للتعرف على عادات المجتمعات، حيث أن أهميته تكمن في مجال الانفعال الحادث بين الرحالة وبين ما شاهده أمامه من مدن وحضارات، وما عايشه وصادفه من أمور أثناء رحلته، وهي رؤية تختلف عن مشاهد المقيمين بها، لذلك تراه ينقل لنا تجربة صادقة مفعمة بالإعجاب والاندهاش.وتُعد كتب الرِّحلات من أهم المصادر الجغرافية والتاريخية والاجتماعية، لأن الكاتب يستقي المعلومات والحقائق من المشاهدة الحية، والتصوير المباشر، مما يجعل قراءتها غنية، ممتعة ومسلية، حيث يتطلب أن يكون الرحالة ذا ثقافة عالية تجعله قادرا على الحكي والوصف لجميع المواقف والمشاهد التي عايشها خلال رحلته، ويدونها بدقة عالية في كتابه. فأدب الرحلة يختص بتقنيات أدبية وخطابية خاصة، تميزه عن باقي الخطابات الأدبية الأخرى لكون هذا الجنس تتداخل فيه عدة مكونات تعتبر عناصر أساسية.
وهناك عدد كبير من الروايات والقصص يمكن أن تندرج بصورة ما تحت مسمى أدب الرحلات، فهذا المسمى الواسع كما نرى قادر على استيعاب أعمال "ابن بطوطة وماركو بولو ونجيب محفوظ" وغيرهم... رغم التباين الكبير فيما بينهم، لأن الفكرة التي تجمعهم هي فكرة الرحلة نفسها، أي الرحلة الزمانية أو المكانية أو النفسية.إن تناول التراث ودراسته يجب أن يستند إلى منطلقات فكرية غير تقليدية وأن يخضع إلى وجهات متعددة ومناهج متنوعة، حيث يعتبر أدب الرحلات جزءا من التراث ولونا من ألوانه، فإن دراسة الرحلة من الناحية المنهجية تهدف إلى إبراز بعض ملامح وعناصر التراث الشعبي، الذي غالبا ما أغفلته المدونات التاريخية الرسمية.
تاريخ الرحلة عند المغاربة:
يرى "محمد الفاسي" في كتابه "وحي البينة" حول موضوع الرحلة السفرية، أن المغاربة برزوا في هذا النوع من الرحلة، ولم يؤلف أحد من العرب بقدر ما وضع المغاربة من رحلات سفرية كلها كتبت في العصور الحديثة ابتداء من أيام السعديين.ويمكن العودة إلى كتاب الدكتور "عبد الله الترغي" لتتبع نبضات "حركة كتابة الرحلة واتجاهاتها في المغرب على عهد العلويين"، حيث يستعرض رحلات متعددة، ومن خلال التقديم والعرض، يشير إلى ما تمثل كتابة الرحلة صنفا متميزا من الكتابة الأدبية التي عرفها العصر الإسماعيلي. حيث يعتبر هذا الصنف امتدادا لكتابة الرحلات التي عرفها المغرب والأندلس من قبل، مع رحلات ابن رشيد (تـ 721)، وأبي القاسم التجيبي (تـ 730) والعبدري (تـ بعد 740)، وأبي البقاء البلوي (تـ 768)، وابن الخطيب السلماني (تـ 776) والمقري الجد (تـ 759)، والقلصـادي (تـ 891)، وغيرها.فالرحلة اعتبارا من القرن السادس الهجري "العاشر الميلادي" انطلقت على أوسع مدى، وتجاوزت ديار المسلمين على أمل أن تحقق أهدافا متنوعة، اقتصادية وهي تعمل لحساب التجارة، دينية وهي تعمل لحساب فريضة الحج، إدارية وهي تعمل لحساب العلاقات بين الدول الإسلامية ومجتمعات الدول الخارجية. وظلت الرحلة العربية بصفة عامة جهدا ذاتيا واجتهادا شخصيا محضا.
ويرجع المستشرقون بهذا اللون من الأدب إلى القرن العاشر الميلادي، وتؤكد المكتبة العربية على أنه استمر حتى عصرنا الحديث، وشهد تطورا في الموضوع والرؤية، والهدف واللغة، ويستلزم البحث في كل رحلة على حدا، من حيث أنها بناء فني وإبداع أدبي له أسسه الخاصة وملامحه الذاتية التي تميزه عن غيره من فنون الأدب الأخرى،وهذا يستدعي تصنيفا موضوعيا للرحلات ودراسة فنية لها. لهذا يجب تعريف الرحلة للقارئ ليتبين المعنى والمغزى والهدف الذي تحققه هذه الرحلات.
نبذة عن حياة أبو سالم العياشي:
هو "أبو سالم عبد الله بن محمد بن أبي بكر العياشي"، والذي قال عنه الأفراني: "أنه أحد من أحيا الله بهم طريق الرواية بعد أن كانت شمسها على أطراف النخيل، وجدد من فنون الأثر كل رسم محيل". كانت ولادته سنة 1037، وتوفي رحمه الله ضحى يوم الجمعة 18 ذي القعدة عام 1090 بالطاعون عن عمر يناهز 35 سنة وأشهر.
تلقى تعليمه الأول على يد شيوخ الزاوية العياشية، ثم انتقل إلى فاس حيث جامعة القرويين تضج بالطلبة وشيوخ العلم، ولما استوعب الواقع العلمي والصوفي والأدبي في المغرب تاقت نفسه إلى المشرق، حيث قال: «أخذت عن الأعلام الذين أدركتهم بالمغرب عليلا، فإنهم استغنوا عما غاب بما ظهر، فاقتصروا من الكتب على ما اشتهر، دون المسلسلات والأجزاء الصغار، وعوالي الإسناد وغرائب الأخبار»، فقد رحل "أبو سالم العياشي" ثلاث مرات إلى المشرق، فأخذ عن علماء مصر ومكة والمدينة المنورة وفلسطين، فضلا عن اتصالاته الوثيقة والمباشرة مع علماء ومتصوفة من طرابلس والأسكندرية والقدس... فلم يترك عالما إلا قصده ولا متصوفا إلا زاره، حرصا على أسانيدهم ومستدعيا إجازتهم، وآملا بركة دعائهم.
من أهم مؤلفاته:

• إظهار المنة على المبشرين بالجنة .
• المضريات في إصلاح الوتريات.
• اقتفاء الأثر بعد ذهاب أهل الأثر
• الرحلة العياشية أو ماء الموائد.
شيوخه:
يعتبر أبو سالم العياشي من أبرز ذوي الاتصال العلمي والصوفي والأدبي من أعلام عصره في المغرب والمشرق خلال الربع الثالث من القرن الحادي عشر الهجري، ويميز العياشي في مشيخته بين من لقنوه علوم الشريعة، وبين ما لقنوه علوم الحقيقة ولا يمكننا ذكرهم جميعا لكثرتهم لذلك سوف نقتصر على ذ كر بعضهم فقط.
 شيوخ علوم الشريعة الذين أخذ عنهم بالمغرب:
• والده "محمد بن أبي بكر العياشي.
• عبد القادر بن علي الفاسي.
• أبو العباس أحمد الأبار.
• محمد بن أحمد ميارة.
• أبو بكر بن يوسف السكتاني.
 أما شيوخه الذين أخذ عنهم بالحرمين، فهم:
• محمد بن علاء الدين البابلي المصري.
• تاج الدين بن أحمد المالكي المكي الأنصاري.


مسار رحلته:
تعد رحلة العياشي «ماء الموائد» من أهم الرحلات المغربية وأكثرها انتشارا، وأكثرها تنوعا، وقد طفق الرحالون من اللاحقين ينقلون عنها من دون أن يرجعوا إلى مصادر أخرى أحيانا، ومن هنا نرى أن الاهتمام بها يعد اهتماما بجل الرحلات التي تلتها. فقد انطلقت هذه الرحلة سنة 1072هـ/ 1661م من سجلماسة بأرض المغرب لتصل إلى القاهرة، مرورا بكل من الجزائر وتونس طرابلس، قبل أن تأخذ وجهتها المحددة وهدفها المقدس ومكة المكرمة والمدينة المنورة، موئل الشريعة والحقيقة، ومهوى قلوب المسلمين وأفئدتهم، وموطن الرجال والأفكار، ورمز الخلاص الديني والدنيوي.وفي خضم هذا المسار، لم يكتفي "أبا سالم العياشي" بما اكتفى به غيره من الرحالة، فقد آثر أن تمتد رحلته إلى الشام للقاء الرجال والاحتكاك بالأفكار، والتمسح بالمقامات والمزارات، فحل ضمن ما حل به من مدن وقرى بكل من غزة والرملة وبيت المقدس والخليل، والتقى بكثير من الرجال خلال هذا المسار الجغرافي، ووقف على عدد من الكتب والأفكار، وجابه عدد من التيارات العقدية والصوفية.ويظهر أن أساس هذا العمل الرحلي الموسوعي بقي بلا منازع المدينة المنورة التي لازمها "أبو سالم العياشي" لمدة سبعة أشهر، درس خلالها فنونا من العلم وألوانا من المعرفة، وجالس أثناءها عددا من الرجال، واحتك بجملة من الأفكار والمعتقدات، وأجاز واستجاز، وتلقى وأخذ، وأفاد واستفاد، وقيد وألف.
رحلة أبي سالم العياشي ديوان علم وأدب:
تميزت الرحلة العياشية، انسجاما مع شخصية مؤلفها واتساقا مع خصائص عصرها، بنشاط علمي متميز، فكانت كما وصفها صاحبها ديوان علم لا كتاب سمر وفكاهة، أي أن محتواها دار بالإتجاه الديني في تساوق تام مع العلمي، ولا غرابة أن يتلازم الهدفان عند أبي سالم العياشي الفقيه العالم، والمؤمن الورع الذي يرتجي الخلاص ويقصد منابعه.
يقول العياشي مؤكدا: "وقصدي إن شاء الله من كتابة هذه الرحلة أن تكون ديوان علم لا كتاب سمر وفكاهة، وإن وجد الأمران فيها معا فذلك أدعى لنشاط الناظر فيها، لاسيما إن كان صاحب تلوين، وأما صاحب التمكين فلكل شيء عنده موقع ونفع لا يوجد في غيره، والله المسؤول أن يلهمنا رشدنا ويخلص لوجهه فيما نأتي ونذر قصدنا، فهو حسبنا ونعم الوكيل، وبالإجابة لدعاء سائله كفيل".
ولذلك، فإن الرحلة العياشية تعتبر ديوان علم وأدب، وسجل تاريخ وتصوف، وكتاب أخبار وآثار، ويكفي أنها قد انفردت دون سواها من الكتب والرحلات، وأمهات المصادر بإيراد جملة من النصوص والرسائل والإجازات والنقول، وخطب الكتب التي لا نكاد نقف لها على أثر، كما أنها تترجم لعدد من الأعلام الذين لا نسمع عن أحد منهم، بخلاف هذه الرحلة التي تحتاج لوحدها إلى حلقة من حلقات الدرس والبحث، للكشف عن عدد من المواقف والرجال، والطرق والزوايا، والكتب والأشعار، والخزائن والمكتبات، والوقائع والأحداث، والمعارك والجولات، والبيوع والمعاملات، والإجازات والتوقيعات التي لا شك أن الوقوف عندها سيعطي فكرة عامة وشاملة وموضوعية عن خصائص القرن الحادي عشر الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
"ماء الموائد" أفكار ومعتقدات:
ولأنها تمت في سياق تاريخي محدد، ونظرا لخصوصية المجتمع العربي الإسلامي، الاقتصادية والسياسية والثقافية والاجتماعية، خلال القرن الحادي عشر للهجرة، فقد عمد "أبو سالم العياشي" بحرص الفقيه العالم، وبخصوصية عين الرحالة اليقظة، إلى تسجيل وتدوين كل ما صادفه في طريقه أثناء رحلته الموسوعية من أفكار ومعتقدات، وأعراف وعادات، وطقوس وممارسات، تداخل في تكوينها الخرافي بالديني، وشارك في نشأتها الاجتماعي والاقتصادي، وتعاون على تشكيلها اليومي والمعيشي جنبا إلى جنب مع الثقافي والمكتسب.

الجانب الاجتماعي في الرحلة العياشية:

كان للملمح الاجتماعي نصيب وافر من مدونة العياشي الرحلية، ولا عجب أن يحظى هذا الملمح بمكانة خاصة في الحلة العياشية التي حرص صاحبها على الاختلاط بالناس والدخول إلى الأسواق، والاعتكاف في المساجد، وزيارة المقابر، والوقوف على المكتبات، والمشاركة في المناسبات، والمساهمة في حلقات الدرس.
ولا شك أن هذه المشاركات الاجتماعية الواسعة قد كانت مؤطرة بشخصية "العياشي" الفقيه الذي كان لا يغمض جفنا عن منكر، ولا يغض طرفا عن بدعة، ولا يتجاوز ضلالة إلا ودونها في رحلته وسجل ملاحظاته بخصوصها، وقد كان "العياشي" أثناء هذا التدوين والتسجيل، حريصا على قياس الشاهد على الغائب لرد الأمور إلى نصابها، على الأقل نظريا، مع تقديم الدليل من الكتاب والسنة، والاعتماد على التاريخ، والمقارنة بين الأحداث والوقائع، مع الميل إلى التفسير والتعليل واستحضار العامل الاقتصادي في بروز ظاهرة اجتماعية معينة أو تفشي سلوك معين.
الجانب الاقتصادي في الرحلة العياشية:
حرص أبو سالم العياشي خلال رحلته الشهيرة إلى الديار المقدسة على تتبع مختلف نواحي الاختلال في مجريات الحياة الاقتصادية كما لمسها في مختلف المعاملات التجارية، ومن هذه المعاملات مسألة الموازين والمكاييل وقيمة العملات وشرعياتها. كما أشار إلى احتكار السماسرة لعمليات البيع والشراء في أسواق الحجاز وانتشار عمليات السمسرة سواء بأسواق المغرب أو المشرق.وقد سجل "العياشي" بذكاء، السبب الكامن وراء انتشار البُن في بيوت أهل الحجاز، فقد عزا "العياشي" هذا الأمر إلى أسباب اقتصادية ضاغطة، حيث أن العامل الاقتصادي لم يكن المحدد الوحيد للعادات الغذائية في الحجاز، فقد كان المناخ أيضا عاملا مهما في تحديد نمط الغذاء السائد في هذا الركن من العالم العربي الإسلامي خلال القرن الحادي عشر. ونجده قد قدم خلال هذا عرضا مفصلا لمختلف معروضات الأسواق من أثواب ومفروشات، وخضر وحبوب، ومياه ومأكولات وكتب وجوار وبهائم وعلف وغيرها مما يباع ويشترى.فالرحالة "العياشي"، يهتم بعرض الجزئيات ويحرص على إيراد الدقائق والطبيعة الموسوعية للرحلة العياشية التي اهتمت بكل الجوانب الاجتماعية والاقتصادية والثقافية للمسار الذي سلكه، كما أن هذا كله يكشف عن شخصية الرحالة الذي بدا خبيرا مجربا للأسفار والأخطار، فهو عيار مأخوذ بما تقدمه الطريق كل يوم من جديد، كما أنه غير مشدود لذاته ولا منعزل عن محيطه.
الجانب الصوفي في الرحلة العياشية:
كان لمسار المجتمع العربي الإسلامي نحو الانحدار خلال القرن الحادي عشر للهجرة، دور كبير في انتشار الطرق والزوايا بمختلف ألوانها الشعبية والعالمة، والسنية والشيعية، والحضرية والبدوية، والمشهورة والمغمورة، وبما أن "أبا سالم العياشي" ينتمي إلى المدرسة الصوفية وينحدر من مؤسسة الزوايا، فإن السر في اهتمامه الكبير، الوقوف عند مختلف الطرق الصوفية المنتشرة في أرجاء خارطة العالم العربي الإسلامي التي مسحها خلال رحلته، أو تلك التي التقى أتباعها وأنصارها وحاور المنتسبين إليها.
ولقد عرّف "أبو سالم العياشي" بتعاليم بعض هذه الطرق وقدم أدبياتها، وسجل بعض المحاورات التي دارت بينه وبين أصحابها وأتباعها وأبدى إعجابه بل افتتانه ببعضها، كما أنه لم يخف تحفظه من بعض الطرق المغالية، وقد صرح "العياشي" أن سر اهتمامه بتعريف الطرق والمدارس الصوفية لقراء رحلته، إنما هو بسبب غرابة تلك الطرق ببلده المغرب، الذي لم تشتهر به غير طرق معينة كالطريقة الشاذلية.
كما نجد الرحالة حرص خلال رحلته أيضا على زيارة الأضرحة والتبرك بالمقامات والوقوف عند الزوايا والرباطات، وبدا مشغولا بإيراد أخبار المتصوفة والزهاد والعباد، مع ذكر كراماتهم ومأثوراتهم والتأكيد على مكانتهم الروحية والاجتماعية، وقد بدا "العياشي" في دروب نصه الرحلي متصوفا سنيا، عميق الإيمان، شديد التعلق بمحبة الرسول صلى الله عليه وسلم.
ومن هنا يبدو جليا أن الرحلة العياشية بمثابة رصد دقيق وصادق لكل ما ضجت به الحياة في العالم العربي الإسلامي خلال القرن الحادي عشر الهجري، من تيارات فكرية وعقدية، ومذاهب صوفية وفلسفية، عملت الحياة السياسية المضطربة على نموها وشيوعها بين الأفراد والجماعات.
رحلة أبي سالم العياشي، رجال وشخصيات:
تميز القرن الحادي عشر للهجرة، في وجهه الثقافي والعلمي، بظهور حركة فكرية نشيطة، خاصة في الحجاز الذي شكل نقطة استقطاب للعلماء والفقهاء والمتصوفة من مختلف ربوع العالم العربي الإسلامي، ورغم هذا فإن الباحث في التاريخ الأدبي خلال القرن المذكور، يجد أن صفحات مشرقة من النتاج الأدبي قد تم تجاوزها ونسيانها خلال مرحلة مديدة تعدت هذا القرن لتشمل قرونا أخرى. ولا يكاد التاريخ الأدبي في هذه المراحل التاريخية يذكر إلا في ارتباط مصر والشام وبعض المراكز الأخرى هنا وهناك، علما أن هذا مجانب تماما للحقيقة، ومخالف للواقع الذي لا زالت المصادر التي أرخت للمرحلة، تمدنا ببعض حقائقه التي تحتاج لمزيد من الجهد والعمل، دراسة وإخراجا وكشفا، لإنصاف مرحلة غنية بعطائها العلمي والفكري من تاريخ الأدب العربي، لاسيما في الحجاز الذي كان على الدوام منطلقا وموئلا للأدب والأدباء، ومهوى للأفئدة والعقول التي بقدر ما أعطت وتلاحقت، بقدر ما أخذت واستفادت، قبل أن تعود إلى بلدانها محملة بأغلى زاد وأشرف بضاعة.
الجوار مع العلماء والفقهاء:

شكلت المجاورة بالحرمين الشريفين من طرف الفقهاء والعلماء والأدباء والمتصوفة الذين شدوا الرحال إلى البقاع المطهرة من مختلف بقاع العالم الإسلامي وأصقاعه خلال ق11هـ وخلال سبقه وما تلاه من قرون أيضا، ظاهرة متميزة أغنت الحركة الفكرية والأدبية بالحجاز الذي أصبح بمثابة جامعة مفتوحة تستقطب الأساتذة الزائرين وتحتضن الطلبة المقيمين والوافدين على السواء، ومما ساعد على قوة هذه الظاهرة وحيويتها، انتشار المدارس والأربطة وإيقاف الأوقاف وتحبيس المكتبات وإهداء الكتب، والعناية بالطلبة والمدرسين.وقد كان "أبو سالم العياشي"، واحدا من هؤلاء العلماء الذين شدوا الرحال بالحرمين الشريفين، وقد حرص في طريقه نحو وجهته المقدسة على لقاء الرجال والاتصال بالأعلام من متصوفة وفقهاء وقضاة وعلماء وأدباء وغيرهم، كما عمل أثناء مدة مجاوزته التي فاقت السبعة أشهر، على التفاعل الايجابي والخلاق مع محيطه الاجتماعي.
القيمة العلمية للرحلة:
والواقع، فإن رحلة العياشي تعد بمثابة كتاب لتراجم أعلام القرن الحادي عشر للهجرة، إذ لم يبق ممن انتسب لهذا القرن من فقيه عالم، أو متصوف عارف، أو أديب شاعر، سواء بالغرب الإسلامي، أو بمصر والحجاز، أو بالقدس وما والاها من المدن والأمصار، إلا وحرص "العياشي" على الالتقاء به ومقابلته والأخذ عنه والتعريف به، أو اكتفى بالإشارة إليه حين حالت عوارض زمانية أو مكانية دون لقائه، ويكفي أن نشير في هذا الصدد إلى أن "أبا سالم العياشي" قد ألف كتابين اثنين سجل فيهما نشاطه العلمي والثقافي في مختلف المراكز الثقافية العربية الإسلامية خلال القرن الحادي عشر للهجرة.
فالقيمة العلمية للرحلة تحتوي على الكثير من المعارف الجغرافية والتاريخية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها، مما لا يدونه الرحالة تدوين المعاين في غالب الأحيان، من جراء اتصاله المباشر بالطبيعة وبالحياة، خلال رحلته. أما بالنسبة للقيمة الأدبية في الرحلات، فهي تتجلى في ما تعرض في موادها من أساليب ترتفع به أدب الرحلات من تنوع في الأسلوب، من السرد القصصي إلى الحوار إلى الوصف وغيره.
وقد تميز الرحالة المغاربة والأندلسيين بميزات خاصة في تدوينيهم لرحلاتهم، فكل رحالة يكمل ما نقص من سلفه، ويضيف لفن الرحلة إلى بناء جديدة أعطته عن صيفته وميزته، وعن باقي الرحالة المسلمين في العالم الإسلامي، ولا شك أن الرحلات المغربية والأندلسية، ظاهرة أدبية وتاريخية واضحة، حيث أن لهذه الرحلات المدونة الفضل في إمدادنا بمعلومات قيمة لم يدر بخلد مؤلفيها أهميتها في وقت تدوينها وخاصة أنهم أودعوا فيها معظم شهادتهم.هذا وقد هدفت هذه الرحلة إلى بعث واحد من أعرق ألوان الكتابة من خلال تقديم كلاسيكيات أدب الرحلة، إلى جانب الكشف عن نصوص مجهولة لكتاب ورحالة عرب ومسلمين، كما كشفت عن طبيعة الوعي بالآخر الذي يتشكل عن طريق الرحلة، وبهذا فأدب الرحلة ثروة معرفية كبيرة لا يستهان بها.
خاتمة:
تستمد الرحلة العياشية قيمتها الحقيقية من مضمونها الغني الذي جعلها تحتضن عددا كبيرا من النصوص والأشعار والتراجم، الشيء الذي أضفى عليها طابع الموسوعية، كما تستمد هذه الرحلة قيمتها من مكانة صاحبها، "فالعياشي" عالم من كبار العلماء، وفقيه من جلة الفقهاء، وهو بعد هذا شخص يبدو متزن الخطى، رصين النزعات كما ينبغي لمثله أن يكون.ثم إن مسار الرحلة، هو مسار مقدس، قد رسم معالمها العامة، وحد حدودها التي ألفت بين جغرافيا الأرض والفكر، وزاوجت بين متطلبات الروح والعقل، ففي تساوق تام مع مسار الرحلة، فإن صاحبها بدا مسكونا بالتعرض لعلماء الأمصار وذكر تآليفهم وعرض لقاءاته بهم، وإيراد القضايا الفقهية والعلمية التي تطارحها معهم، كما أنه كان بين الفينة والأخرى يلمع إلى طرف من مؤلفاتهم، ويشير إلى النوازل التي يطرحها الارتحال والسفر من أفق إلى آخر، كما كان يهتم بكل ما يتخلل العبادات والمعاملات، من شوائب وزيادات.
وقد كان الدافع الأساسي وراء تدوين هذه الرحلات، هو طلب العلم، واستلهام التجارب، ومحاولة الأخذ بمعطيات التطور الحديث، واقتفاء أثر الآخر للخروج من حالة الشلل الحضاري التي وجد العرب نفسهم فريسة لها، فأصبح بذلك أدب الرحلة يشكل ثروة معرفية كبيرة، ومخزنا للقصص والظواهر والأفكار، فضلا عن كونه مادة سردية مشوقة تحتوي على الطريف والغريب والمدهش مما التقطته عيون تتجول وأنفس تنفعل بما ترى، ووعي يلم بالأشياء ويحللها ويراقب الظواهر ويتفكر بها.