عبد الحميد الكاتب كاتب مروان بن محمد (تحطيم مقولات شائعة)بقلم د. إبراهيم عوض
تاريخ النشر : 2018-11-08
عبد الحميد الكاتب كاتب مروان بن محمد
(تحطيم مقولات شائعة)
بقلم د. إبراهيم عوض

عبد الحميد الكاتب (ت132هـ).
جاء فى «الموسوعة العربية العالمية» أنه «عبد الحميد بن يحيى مولى العلاءبن وهب القرشي، من أعلام الكتاب في القرن الثاني للهجرة، فارسي الأصل عربي الولاء. نشأ في الأنبار أو الشام على خلاف بين المؤرخين. وظهر في بداية أمره مساعدًا لصهرهسالم صاحب ديوانالرسائلفي عهد الخليفة هشام بن عبد الملك، ثم عمل بعد ذلككاتبًا لمروان بن محمد والي أرمينيا وأذربيجان، ثم عمل أخيرًا كاتبًا أول للدولةالأموية على عهد مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية. ولكنه قُتِل مع خليفته على يدالعباسيين عندما تَوَلَّوُا الحكم ويُعَدّ عبد الحميد من أبرز الكتاب في تاريخ النثر العربي، فهناك شبه إجماع بينالمؤرخين والنقـاد على أنه كان صاحب مدرسة جديدة في كتابة الرسائل في النثر العربي عمادها ما يلي: 1- الازدواج، أي إيراد عبارات متعددة متقاربة في المعنى لتوكيدفكرته، ولإشاعة جو من التنغيم الموسيقي الجميل في كتاباته. 2- الإطناب في رسائله. 3-الإطالة في تحميداته. 4- الإكثار من الوصف بالحال. 5- قِصَر الفواصل على طريقة الخطابة. 6- توسيع أغراض الرسائل لتشمل بعض الأغراض التي كانت قبله خاصةبالشعر، مثل التعزية والتهنئة والنصح والوصف وغيرها. وقد تأثر بهذه المدرسة عددكبير من الكتاب الذين جاؤوا بعده... ويُعَدّ عبد الحميد أبلغ كتاب الدواوين في العصر الأموي حتى صارت بلاغته مضربالمثل، فقد قيل: فُتِحَتِ الرسائلُ بعبد الحميد، وخُتِمَتْ بابن العميد» وبالرغم من أننا لا نملك ديوانًا خاصًّا برسائلهإلا أن كتب الأدب قد حفظت لنا قدرًا طيبًا من رسائله الديوانية والإخوانية لعل منأهمها: 1- رسالته إلى الكُتّاب، وفيها يبدو تأثره بما أُثِرَ من وصايا ملوك الفرسلكتابهم. 2- رسالته التي كتبها إلى عبد الله بن مروان على لسان أبيه. 3- رسالته فيوصف الصيد والشطرنج. 4- رسالته إلى أهله وهو منهزم مع مروان بن محمد».
وقد قيل إن ثقافته فارسية يونانية. لكنى أرى على العكس من ذلك أن ثقافته عربية إسلامية. ذلك أن له رسالة وجهها إلى أمثاله من الكتاب ينصحهم بالاستفادة من القرآن والحديث والأشعار العربية وأيام العرب، وهذه كلها ثقافة عربية إسلامية، وإن كان قد أضاف إلى ذلك أيام العجم أيضا، إلا أنها تأتى على هامش العناصر الأصيلة السابقة. كما اشتغل الرجل محفظ قرآن زمنا طويلا قبل أن يكون كاتبا. ولا ننس أنه كان كاتبا عند الأمويين، وكان وفيا لهم إلى آخر رمق فى حياته، ومعروف أن الأمويين ذوو نزعة عروبية لا أعجمية. وفى رسالة له كتب بها عن مروان بن محمد إلى فِرَق العرب حين فاض العجم من خراسان بشعار السواد قائمين بالدولة العباسية: «فلا تمكِّنوا ناصية الدولة العربية، من يد الفئة الأعجمية، واثبتوا ريثما تنجلى هذه الغمرة، ونصحو من هذه السكرة، فسينضب السيل، وتمحى آية الليل، والله مع الصابرين، والعاقبة للمتقين». فهو، كما نرى، ينحاز إلى العرب ودولتهم ضد الأعاجم. بل لقد آثر أن يُقْتَل مع آخر خلفاء بنى أمية على أن يسلم نفسه، بناء على نصيحة هذا الخليفة، إلى العباسيين، الذين أدنَوْا منهم الفرس واستفادوا بهم فى إسقاط الدولة الأموية، إذ رأى أن هذا غدر لا يليق، وأن الناس فى أسوإ الأحوال لن تفهم أنه إنما فعل هذا بناء على نصيحة سيده، ومن ثم يلصقون به العار إلى الأبد.
أما بالنسبة لما قاله د. شوقى ضيف عن استفادة عبد الحميد من أدب الفرس الأخلاقى فى نصحه للكتاب بمراعاة ما بينهم من أخوة فكيف نسى، رحمه الله، ما أكده الإسلام من أخوة المؤمنين وواجباتها وتبعاتها؟ قال تعالى: «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ * يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ»، «وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ»، «وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ»، «وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ».
وقال صلى الله عليه وسلم للمسلمين: «لا تحاسَدوا ولا تَناجَشوا ولا تباغَضوا ولا تدابَروا، ولا يَبِعْ بَعْضُكُم علَى بَيْعِ بعضٍ، وكونوا عبادَ اللهِ إخوانًا. المسلمُ أخو المسلمِ: لا يظلِمُهُ ولا يخذلُهُ ولا يحقِرُهُ... بحَسْبِ امرئٍ منَ الشَّرِّ أن يحقِرَ أخاهُ المُسلمَ. كلُّ المسلمِ علَى المسلمِ حرامٌ: دمُهُ ومالُهُ وَعِرْضُهُ»، «إيَّاكُم والظَّنَّ، فإنَّ الظَّنَّ أَكذَبُ الحديثِ، ولا تحسَّسوا ولا تجسَّسوا ولا تَناجَشوا ولا تحاسَدوا ولا تباغَضوا ولا تدابَروا، وَكونوا عِبادَ اللَّهِ إخوانًا»، «انصر أخاك ظالما (أى امنعه عن ظلم الآخرين) أو مظلوما»، «المسلمون تتكافأُ دماؤهم، ويسعى بذمَّتِهم أدناهم، ويردُّ عليهم أقصاهم، وهم يَدٌ على من سواهم»، «من نفَّسَ عن مسلمٍ كُرْبَةً مِن كُرَبِ الدُّنيا نفَّسَ اللَّهُ عنهُ كربةً مِن كُرَبِ يومِ القيامةِ، ومن يَسَّرَ على مُعْسِرٍ في الدُّنيا يسَّرَ اللَّهُ عليهِ في الدُّنيا والآخرةِ، ومن سَترَ على مُسلمٍ في الدُّنيا سترَ اللَّهُ علَيهِ في الدُّنيا والآخرةِ، واللَّهُ في عونِ العَبْدِ ما كانَ العَبْدُ في عونِ أخيهِ»، «المؤمنُ للمؤمنِ كالبنيانيشُدُّ بعضُه بعضًا». ولا ننس أن من أول ما صنعه النبى عليه السلام لدى مقدمه إلى المدينة إخاءه بين المسلمين، ذلك الإبداع النبوى العظيم، بما ترتب عليه من حقوق وواجبات كان لها دور خطير فى تمتين العلاقات بين أفراد الأمة الوليدة لم يخطر على بال أحد قبل اتخاذه صلى الله عليه وسلم تلك الخطوة العبقرية. وإذا كان الإسلام قد أوصى بمراعاة أخوة الإيمان العامة فأَحْرِ به أن ينادى بمراعاة الأُخُوَّات الخاصة كأُخُوَّة أهل الصنعة الواحدة وأهل الحى الواحد وأهل القبيلة الواحدة وما إلى هذا!
فكيف نترك ذلك كله ونذهب نبحث عن أساس دعوة عبد الحميد فى الأدب الفارسى، وهو المسلم الذى تشرب الثقافة الإسلامية وتشبع بها أيما تشبع، ونشأ فى الإسلام إذ كان مسلما من أب مسلم ومن جد مسلم على الأقل، فهو عبد الحميد بن يحيى بن سعد كما جاء فى «البداية والنهاية» لابن كثير، أى أنه لم يكن مجوسيا يوما حتى يقال إنه تلقى فى صباه وشبابه ثقافة فارسية، ولم يعرف الثقافة العربية الإسلامية إلا على كبر؟ بل إن المسعودى المؤرخ الرحالة المشهور، وهو عربى صميم من سلالة الصحابى الجليل عبد الله بن مسعود، يذكر لعبد الحميد فى كتابه: «التنبيه والإشراف» نسبا عربيا طويلا ينتهى به إلى لؤى بن غالب على النحو التالى: «عبد الحميد بن يحيى بن سعد بن عبد الله بن جابر بن مالك بن حجر بن معيص بن عامر بن لؤي بن غالب». وعلى كل حال فإن عبد الحميد قد نضج فى الإسلام وخدم الإسلام، وأخلص للدولة الأموية ذات النزعة العروبية وتشرب اللغة العربية والثقافة العربية الإسلامية وملك ناصيتها وزمامها.
كذلك يتحدث د. شوقى ضيف عن انتشار الازدواج فى رسائل عبد الحميد بوصفه سمة تميز أسلوبه. لكن ينبغى أن نعرف، إلى جانب هذا، أن الازدواج منتشر فى كثير من الخطب والكتابات العربية القديمة. ولنأخذ مثالا على ذلك رسالة خالد بن الوليد إلى ملوك فارس، إذ جرت على النحو التالى: «بسم اللّه الرحمن الرحيم: من خالد بن الوليد إلى ملوك فارس، أما بعد، فالحمد للّه الذي حلّ نظامكم، ووهَّن كيدكم، وفرق كلمتكم، ولو لم يفعل ذلك بكم كان شرا لكم. فادخلوا في أمرنا ندعكم وأرضكم، ونجوزكم إلى غيركم، وإلا كان ذلك وأنتم كارهون على أيدي قوم يحبون الموت كما تحبون الحياة».
وعندنا كذلك رسالة قَطَرِىّ بن الفُجَاءة إلى الحجاج حين بعث هذا إليه برسالة يهدده ويحقّره فيها، فرد عليه ابن الفجاءة بقوله: «من قطريِّ بن الفُجاءة إلى الحجَّاج بن يوسف، سلام على الهُدَاة من الوُلاة الذين يَرْعَوْن حرِيمَ الله ويَرْهَبون نِقَمه. فالحمدُ لله على ما أظهَرَ من دينه، وأظْلَعَ به أهل السِّفَال، وهدَى به من الضَّلال، ونصَرَ به عند استخفافك بحقِّه. كتبتَ إليّ تذكرُ أنّي أعرابيٌّ جِلفٌ أمِّيٌّ أستطعم الكِسْرة وأستشفى بالتَّمرة، ولعمري يا ابنَ أمّ الحجَّاج إنَّك لَمُتَيّهٌ في جِبِلّتك، مُطْلَخِمٌّ في طريقتك، واهٍ في وثيقتك، لا تعرف اللهَ ولا تَجْزَع من خطيئتك. يئستَ واستيأستَ من ربِّك، فالشَّيطانُ قرينُك، لا تجاذبُه وَثاقَك، ولا تنازِعُه خِناقَك. فالحمدُ لله، الذي لو شاء أبرز لي صفحتَك، وأوضَح لي صَلْعَتَك. فوَالذي نَفْسُ قطريّ بيده لعَرَفْتَ أنَّ مقارعَةَ الأبطال ليس كتصدير المقال، مع أني أرجو أن يُدْحِضَ اللهُ حُجَّتَك، وأن يمنحني مهُجَتَك». وقطرىٌّ سابق على عبد الحميد كما هو معروف. بل كان بعض الخطباء يُعْنَوْن بالازدواج فى خطبهم كما هو الحال فى خطبة زياد بن أبيه المشهورة بـ«البتراء»، إذ فيها كثير من العبارات المزدوجة كما شاهدنا قبلا.
وإذا كان د. شوقى ضيف يذكر لعبد الحميد أنه جعل النثر يؤدى وظيفة الشعر فى الرثاء والوصف وما إلى ذلك فعندنا قبل ذلك مثلا رسالة الحجاج إلى عبد الملك بن مروان يصف فيها كيف هطل المطر من بعد جفاف فحَيَّتْ به الأرضُ بعد موتها. ولا ينبغى أن يفوتنا ما فى الرسالة من الازدواجات الجميلة أيضا: «أمّا بعدُ فإنّا نخبر أميرَ المؤمنين أنَّه لم يصب أرضَنا وابلٌ منذ كتبتُ أخبره عن سُقْيَا اللَّه إيّانا إلاَّ ما بلَّ وجهَ الأرض من الطَّشّ والرشّ والرّذاذ حتّى دَقِعَت الأرض واقشعرَّتْ واغبرَّتْ، وثارت في نواحيها أعاصير تذرو دماق الأرض من تُرابها، وأمسك الفلاّحون بأيديهم من شِدّة الأرض واعتزازها وامتناعها، وأرضُنا أرضٌ سريعٌ تغيُّرها، وشيكٌ تنكُّرها، سَيِّئٌ ظَنُّ أهلها عند قُحوط المطر حتّى أرسل اللَّه بالقَبول يوم الجمعة، فأثارت زِبْرِجًا متقطِّعًا متمصِّرًا، ثم أعقبَتْه الشَّمال يومَ السبت فطَحْطَحت عنه جَهَامَه، وألَّفَتْ متقطِّعَه، وجمعت متمصِّره حتَّى انتضَدَ فاستوى، وطَمَا وطحا، وكان جونًا مُرثَعِنًّا قريبًا رواعده، ثم عادت عوائده بوابلِ منهملٍ منسجلٍ يردُف بعضُه بعضًا، كلّما أردف شؤبوب أردفَته شآبيبُ لشدة وقعه في العِرَاص. وكتبتُ إلى أمير المؤمنين وهي ترمي بمثل قِطَعِ القُطن قد ملأ اليَبَاب، وسدَّ الشِّعاب، وسَقَى منها كلُّ ساقٍ. فالحمد للَّه الذي أنزل غيثَه، ونشر رحمتَه من بعد ما قَنطوا، وهو الوليُّ الحميد. والسلام».
وها هو ذا أنس بن مالك هو أيضا يصف فى النص التالى شيئا قريبا مما وصفه الحجاج: «أصاب أهلَ المدينةِ قحطٌ على عهدِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، فبينا هو يخطبُ يومَ جمعةٍ إذ قام رجلٌ فقال: يا رسولَ اللهِ هلكتِ الكُرَاعُ، هلكتِ الشاءُ، فادعُ اللهَ يَسْقِينا. فمدَّ يديهِ ودعا، قال أنسٌ : وإنَّ السماءَ لمثلُ الزجاجةِ، فهاجتْ ريحٌ أنشأتْ سحابًا، ثم اجتمعَ، ثم أرسلتِ السماءُ عَزَالِيَهَا، فخرجنا نخوضُ الماءَ حتى أتينا منازلنا، فلم نزلْ نُمْطَرُ إلى الجمعةِ الأخرى، فقام إليهِ ذلك الرجلُ أو غيره فقال: يا رسولَ اللهِ، تهدَّمَتِ البيوتُ، فادْعُ اللهَ يحبسْهُ. فتبسَّمَ ثم قال : حَوَالَيْنَا ولا علينا. فنظرتُ إلى السحابِ تصدَّعَ حولَ المدينةِ كأنَّهُ إكليلٌ». وفى القرآن الكريم من قَبْل الحجاج وغير الحجاج نصوص تصف الرياح والسحاب والبساتين والبحار. فعبد الحميد ليس ابن عذرتها إذن، بل هو يجرى على طريق ممهد لاحب.
وفى استعمال النثر أيضا فى الرثاء لدينا على سبيل المثال ما قاله أبو بكر فى خطبته غِبَّ وفاة النبى محمد صلى الله عليه وسلم، إذ بعد أن حمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي قال: «يا أيها الناس، إن الله قد نعى نبيَّكم إلى نفسه وهو حي بين أَظْهُرِكم، ونعاكم إلى أنفسكم فقال: «إنك ميت، وإنهم ميتون»، «وما محمدٌ إلا رسولٌ قد خَلَتْ مِنْ قِبْلِه الرُّسُل. أفإن مات أو قُتِل انقلبتم على أعقابكم؟ ومن ينقلبْ على عَقِبَيْه فلن يضرَّ اللهَ شيئا. وسيجزي اللهُ الشاكرين». يا أيها الناس، من كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، ومن كان يعبد محمدا أو يراه إلها فإن محمدا قد مات».
أما استعماله فى النصيحة والإرشاد فها هى ذى نصيحة تلك الأم الجاهلية لابنتها عند توديعها إياها إلى بيت الزوجية: «أَيْ بُنَيَّة، إن الوصية لو تُرِكَتْ لَفضْلٍ في أدبٍ تركتُ ذلك منك، ولكنها تذكرة للغافل، ومعونةٌ للعاقل. ولو أن امرأةً استغنت عن الزوج لِغِنَي أبَوَيها وشدة حاجتهما إليها كُنتِ أغنى الناس عنه. ولكنْ للرجال خُلِقْنا ولنا خُلِقوا. أَيْ بُنَيَّة، إنكِ فارقتِ الجوَّ الذي منه خرجتِ، وخلَّفتِ العُشَّ الذي فيه دَرَجتِ، إلى وَكْرٍ لم تعرفيه، وقرينٍ لم تألفيه، فأصبح بملكه إياك عليكِ رقيبا ومليكا، فكوني له أمَةً يكُنْ لك عبدًا وشيكا. يا بُنَيَّة، احملي عني عشر خصال تكن لك ذُخْرًا وذِكْرا: الصُّحْبة بالقناعة، والمعاشرة بحُسْن السمع والطاعة، والتعاهُد لموقع عينيه، والتفقُّد لموضع أنفه، فلا تقع عيناه منك على قبيح، ولا يشمُّ منك إلا طيب الريح. والكحل أحسن الـحُسْن الموجود، والماء أطيب الطِّيب المفقود. والتعاهد لوقت طعامه، والهُدُوُّ عنه حين منامه، فإن حرارة الجوع مَلْهَبة، وتنغيص النوم مغضبة، والاحتفاظ ببيته وماله، والإرعاء على حشمه وعياله، فإن الاحتفاظ بالمال حُسْنُ التقدير، والإرعاء على العيال والحشم حُسْنُ التدبير. ولا تُفْشِي له سرا، ولا تعصي له أمرا، فإنك إن أفشيتِ سره لم تأمني غدره، وإن عصيتِ أمره أوغرتِ صدره. ثم اتَّقي مع ذلك الفرح إن كان تَرِحًا، والاكتئاب عنده إن كان فَرِحًا. فإن الخصلة الأولى من التقصير، والثانية من التكدير. وكوني أشدَّ ما تكونين له إعظامًا أشدَّ ما يكونُ لك إكرامًا، وأشد ما تكونين له موافَقَةً أطول ما يكون لك مُرافَقَة. واعلمي أنَّكِ لا تصلين إلى ما تُحِبِّين حتى تُؤْثِري رضاه على رضاك، وهواه على هواك فيما أحببتِ وكرهتِ. والله يَخِيرُ لكِ». وقد يقال إن النصيحة بهذا الشكل المنمق المزين هى من تحبير العصور التالية. فليكن! لكن النصيحة فى حد ذاتها جاهلية الأصل، والمهم فى المسألة أن اتخاذ النثر وسيلة للنصح والإرشاد هو أمر تعرفه العرب قبل عبد الحميد.
وكيف ننسى مواعظ الرسول عليه السلام فى كل موضوعات النصح والإرشاد؟ لقد كانت دعوته كلها نصحا وإرشادا خلقيا وذوقيا وسلوكيا واجتماعيا واقتصاديا وسياسيا، وقد صب عليه الصلاة والسلام كل هذا فى قالب النثر كما هو معروف كما فى الأحاديث التالية: «لا تحاسَدوا ولا تَناجَشوا ولا تباغَضوا ولا تدابروا، ولا يبِعْ بعضُكُم علَى بيعِ بعضٍ، وَكونوا عبادَ اللَّهِ إخوانًا. المسلمُ أخو المسلمِ: لا يظلِمُهُ ولا يخذلُهُ ولا يحقِرُهُ. التَّقوَى ههُنا (ويشيرُ إلى صدرِهِ ثلاثَ مرَّاتٍ). بحَسْبِ امرئٍ منَ الشَّرِّ أن يحقِرَ أخاهُ المُسلمَ. كلُّ المسلمِ علَى المسلمِ حرامٌ: دمُهُ ومالُهُ وَعِرْضُهُ. إنَّ اللهَ لا ينظرُ إلى أجسادِكُم ولا إلى صورِكُم، ولَكِن ينظرُ إلى قلوبِكُم (وأشارَ بأصابعِهِ إلى صدرِهِ)»، «عليكم بالصِّدْقِ، فإنَّهُ مع البِرِّ، وهُمَا في الجنةِ. وإيَّاكمْ والكَذِبَ، فإنَّهُ مع الفُجورِ، وهُمَا في النارِ. وسَلُوا اللهَ اليقينَ والمُعافاةَ، فإنَّهُ لمْ يُؤْتَ أحدٌ بعدَ اليقينِ خيْرًا من المُعافاةِ. ولا تَحَاسَدُوا ولا تَبَاغَضُوا ولا تَقَاطَعُوا ولا تَدابَرُوا، وكُونُوا عِبادَ اللهِ إخْوانًا كَمَا أمرَكُمُ اللهُ». وعن حنيفة الرقاشى: «كنت آخذا بزمام ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم في وسط أيام التشريق أذود عنه الناس، فقال: يا أيها الناس، هل تدرون في أي شهر أنتم؟ وفي أي يوم أنتم؟ وفي أي بلد أنتم؟ قالوا: في يوم حرام وبلد حرام وشهر حرام. قال: فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرامٌ كحُرْمَة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا إلى يومِ تَلْقَوْنَه. ثم قال: اسمعوا مني تعيشوا. ألا لا تظلموا، ألا لا تظلموا، ألا لا تظلموا. إنه لا يحلُّ مالُ امرئ مسلم إلا بطِيب نفسٍ منه. ألا وإن كل دم مأثرة ومال كان في الجاهلية تحت قدمي هذه إلى يوم القيامة. وإن أول دم يوضع دم ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب. كان مسترضعا في بني ليث فقتلته هذيل. ألا وإن كل ربا في الجاهلية موضوع، وإن الله عز وجل قضى أن أول ربا يوضع ربا العباس بن عبد المطلب. «لكم رؤوس أموالكم لا تَظْلِمون ولا تُظْلَمون». ألا وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض. ثم قرأ: «إن عِدَّةَ الشهورِ عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يومَ خَلَقَ السماواتِ والأرضَ منها أربعةٌ حُرُمٌ. ذلك الدينُ القَيِّمُ، فلا تظلموا فيهن أنفسكم». ألا لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض. ألا إن الشيطان قد أَيِسَ أن يعبده المصلون، ولكنه في التحريش بينكم. واتقوا الله في النساء، فإنهن عندكم عَوَانٍ لا يملكن لأنفسهن شيئا، وإن لهن عليكم حقا، ولكم عليهن حقا أن لا يُوطِئْن فُرُشَكم أحدا غيركم ولا يَأْذَنَّ في بيوتكم لأحد تكرهونه. فإن خفتم نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن ضربا غير مبرح. ولهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف. وإنما أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فُرُوجَهن بكلمة الله عز وجل. ألا ومن كانت عنده أمانة فَلْيُؤَدِّها إلى من ائتمنه عليها. وبسط يديه وقال: ألا هل بلََّغْتُ؟ ألا هل بلغت؟ ألا هل بلغت؟ ثم قال: ليبلِّغ الشاهد الغائب، فإنه رب مبلَّغ أسعد من سامع».
وقبل الأحاديث كان هناك القرآن الكريم: «مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ * وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآَتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآَخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ * الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُو الأَلْبَابِ * وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ * إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ * لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ * لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ»، «بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ * وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ * فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ * كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ * كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ * اشْتَرَوْا بِآَيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ * فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ * أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ * وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ»، «وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ * وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ * يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ * وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ»، «وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ * الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ * وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ * كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ * ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ».
أما تطويل التحميدات فى أول رسائل عبد الحميد فالتحميدات أولا سمة أسلوبية عربية وإسلامية انتحاها المسلمون فى كثير جدا من خطبهم ورسائلهم، وليست فارسية. وثانيا يوجد فى رسالة قطرى للحجاج الآنفة الذكر تحميد طويل كما لا بد أنْ قد لاحظ القارئ. ويبقى إكثار عبد الحميد من استعمال الحال فى رسائله، مما يعزوه د. طه حسين، فى كتابه: «من حديث الشعر والنثر»، إلى تأثره بالأسلوب اليونانى مع أن الحال باب من أبواب النحو العربى، ويكثر فى كلام العرب عموما، وليس هو شيئا يونانيا خاصا بلغة الإغريق كما يريد طه حسين أن يقنعنا. ومع هذا لم يحاول طه حسين أن يبين لنا الطريقة التى يستعمل بها الإغريق الحال حتى نستطيع أن نتابع فكرته ونفهم ماذا يريد أن يقول، بل اكتفى بالكلام المرسل دون أن يسوق شاهدا واحدا عليه. ثم رأيناه ينتقل بغتة إلى أناتول فرانس وإكثاره من استخدام الحال فى كتاباته وتقديمه له أحيانا وتأخيره له أخرى من غير أن يضرب مثلا فردا يتيما يوضح به فكرته. وقد تابعه د. أحمد الحوفى، فى كتابه: «أدب السياسة فى العصر الأموى»، فى موضوع الحال هذا دون أن يضيف إليه شيئا، وكأنه كلام مقرر ثابت لا يحتاج إلى برهان يعضده. وكلام د. طه هنا قد يوحى لمن لا يعرفه أنه لا يدرى شيئا عن باب الحال فى النحو العربى ولا تعقيدات صوره التى نلقاها فى النصوص المأثورة عن الشاعِرِين والناثرين أو المفترضة التى يبرع بعض النحاة فى تصورها نظريا، رغم أن طه حسين قارئ متعمق فى النحو العربى، ودرس فى صباه وشبابه عددا من كتبه الشهيرة فى الأزهر. لكنها الفتنة بالغرب وبالإغريق.
إن الحال فى النحو العربى يستقل بباب كبير خاص به بعيدا عن ظرف الزمان وظرف المكان والتمييز والمفعول المطلق والمفعول معه والمفعول لأجله على عكس الوضع فى اللغات الأوربية التى نعرفها والتى لا تملك مقابل كل هذه الأبواب سوى «الأدفرب: adverb(e)». كما أن هناك مرونة شديدة عندنا فى اختيار موضع الحال جراء تمتع العربية بميزة الإعراب كما نعرف: فقد يتقدم على صاحبه كقول الشاعر:
لِمَيَّةَ مُوحِشًا طَلَلُ


يَلُوح كأنه خِلَلُ

وكقولنا: «جاء راكبا زيد»، وقد يتقدم على ناصبه إذا كان فعلا متصرفا أو صفة تشبه الفعل المتصرف كقولهم: «مخلصًا دعا زيدٌ ربَّه» و«مسرعًا إبراهيمُ راحلٌ»، وقد يسد مسد الخبر كقول العرب: «أكثر شُرْبِى السَّوِيق ملتوتا» وقول الرسول: «أقربُ ما يكون العبد من ربه وهو ساجد»، وقد يجىء جامدا أو لازما كما فى المثالين التاليين: «باع فلان منزله يدا بيد» و«خلق الله الزرافة يديها أطول من رجليها»، أو مصدرا كقولنا: «طلع زيدٌ بغتةً»، أو يأتى صاحبها نكرة (مخصصة بالإضافة) كما فى قوله تعالى: «فى أربعةِ أيامٍ سواءً للسائلين»، أو يكون صاحبها مضافا إليه مع كون المضاف جزءا منه كقوله تعالى: «ونزعنا ما في صدورهم من غِلٍّ إخوانًا على سُرُرٍ متقابلين»، وقد تتعدد الحال وصاحبها مفرد أو متعدد كما فى هذين المثالين: «جاء زيد راكبا ضاحكا» و«قابلتُ هندا مُصَعِّدًا منحدرةً» و«لقي ابْنِي أخويه خائفا مُنْجِدََيْه» و«رأيت زيدا مصعِّدًا منحدرًا»... وهكذا.
ومع ذلك فإنى لم أجد شاهدا واحدا فى الأحوال التى قابلتها فى كتابات عبد الحميد تقدَّم عن موضعه أو تعدَّد على نحو يربك القارئ فلا يدرى إلى أى شىء أو شخص ينتمى، بل كلها استعمالات عادية واضحة لا يضطرب فى فهمها أحد ولا تحتاج إلى تأويل. كما أن الحال يكاد يختفى من بعض رسائله كما فى رسالته إلى الكتّاب رغم طولها الشديد. فكيف، بعد ذلك كله، يرى طه حسين أن كثرة استعمال عبد الحميد الكاتب للحال فى رسائله بوجه عام دليل على تأثره باليونانية رغم أن كلمة «يونان» أو «إغريق» لم ترد على لسان الرجل بتة، فضلا عن أن يقول هو أو يقول أحد ممن يعرفونه إنه كان يقرأ بلغة أولئك القوم أو حتى بالفارسية؟
نعم لم يُؤْثَر عن عبد الحميد أى شىء يدل على أنه يدين للفرس أو الإغريق بشىء، اللهم إلا إشارته العارضة الخاطفة المدسوسة على نحو لا يلفت الانتباه بين عناصر الثقافة العربية والإسلامية إلى أنه ينبغى أن يستفيد الكتاب من أخبار العجم. ومن الناحية الأخرى وجدت الكلمة التالية فى «البصائر والذخائر» لأبى حيان التوحيدى: «قال عبد الحميد الكاتب: تعلّمتُ البلاغة من مروان بن محمد: أمرني أن أكتب في حاجةٍ إلى أخٍ له، فكتبت على قدر الوسع، فقال لي: اكتب ما أقول لك: بسم الله الرحمن الرحيم، أما آن للحرمة أن تُرْعَى، وللدَّيْن أن يُقْضَى، وللموافقة أن تُتَوَخَّّى؟». ولنلاحظ ما فى هذه الرسالة القصيرة من الازدواج والسجع وقصر الفقرات، وهى من السمات التى يرى مؤرخو الأدب العربى أنها تميز رسائل عبد الحميد. وفى «ثمار القلوب فى المضاف والمنسوب» للثعالبى و«الوافى بالوَفَيات» لصلاح الدين الصفدى أنه سئل ذات مرة: ما الذي مَكَّنَك من البلاغة وخَرَّجك فيها؟ قال: كلام الأصلع. يعني علي بن أبي طالب رضي الله عنه. فها هو ذا يعزو براعته إلى أصل عربى مسلم لا فارسى. وفى مناسبة ثالثة قال: «لم أسمع أعجب من قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لو أن الشكر والصبر مطيتان لما باليت أيهما ركبت». وهنا كذلك نراه لا يذكر أنه أخذ الكتابة أو بعض شياتها عن فارسى، بل عن شخص عربى، وأى شخص؟ إنه عمر، الذى يبغضه الفرس بغضا ساما!
أما قول أبى هلال العسكرى إن «من عرف ترتيب المعاني واستعمال الألفاظ على وجوهها بلغة من اللغات ثم انتقل إلى لغة أخرى تهيّأ له فيها من صنعة الكلام مثلُ ما تهيأ له في الأولى. ألا ترى أن عبد الحميد الكاتب استخرج أمثلة الكتابة التي رسمها لمن بعده من اللسان الفارسي، فحوَّلها إلى اللسان العربي؟ فلا يكمل لصناعة الكلام إلا من يكمل لإصابة المعنى وتصحيح اللفظ والمعرفة بوجوه الاستعمال» أما قول العسكرى هذا فإنه كلام مرسل عام لم يحاول أن يطبقه على كتابات الرجل، ومن ثم ليس بمستطاعنا أن نعرف إلى أى مدى تصحّ هذه الدعوى، بَلْهَ أن تصحّ أصلا. وبالمثل ينقص الدليلُ ما قاله د. أحمد الحوفى، فى «أدب السياسة فى العصر الأموى»، من أنه لا بد أن يكون قد تأثر بالبلاغة الإغريقية عن طريق سالم زوج أخته، والبلاغة الفارسية عن طريق صداقته لابن المقفع، إذ لم يقدم الأستاذ الدكتور برهانا من الواقع على ما يقول، بل هو مجرد تخمين وكلام نظرى. ذلك أن أسلوب الرجل إنما هو أسلوب عربى صميم ليس فيه شىء يشذ عما نعرفه فى الأساليب العربية كما رأينا ووضحنا وشرحنا، وعلى هذا لا ندرى ماذا يقصد العسكرى بهذا الكلام.
ويبقى تطويل الرسائل، وقد سُبِق عبد الحميد أيضا إلى ذلك. فهناك مثلا رسالة من سليمان بن صُرَد إلى سعد بن حذيفة بن اليَمَان، وهما من شيعة الحسين من التوابين الذين لذعتهم ضمائرهم جراء إغرائهم الحسين رضى الله عنه بالشخوص إليه كى ينصروه ثم تخليهم عنه حتى قُتِل وجُزَّت رأسه، وهى رسالة طويلة تزيد على ثلاثين سطرا متوسط كلمات كل سطر منها ثلاث عشرة كلمة. وتسبق رسائل عبد الحميد بزمن طويل، بل تسبق ميلاد عبد الحميد نفسه. كما أنها تراعى الازدواج مراعاة تلفت النظر بقوة. إلا أن الحق يقتضينا أن نقول إن عبد الحميد يطوّل رسائله أحيانا إلى مدى أبعد كثيرا مما تعرفه تلك الشواهد، التى لا شك أنها قد مهدت له السبيل إلى التطويل وأغرته به، فاندفع فيه فى بعض الأحيان اندفاعة عارمة محبرا الصفحات تلو الصفحات، وكأننا بصدد تأليف كتاب وليس تحبير رسالة.
وهذه رسالة أخرى من ذلك النوع الطويل سابقة على رسائل عبدالحميد أيضا بزمن. جاء فى «تاريخ الطبرى» أنه «لما قَتَل يزيدُ بنُ الوليدِ الوليدَ بنَ يزيد، ووجّه منصورَ بنَ جمهور إلى العراق كتب يزيدُ بنُ الوليد إلى أهل العراق كتابا يذكر فيه مساوىء الوليد، فكان مما كتب به فيما حدّثني أحمد بن زهير عن عليّ بن محمد: إنّ الله اختار الإسلام دينا وارتضاه وطهّره، وافترض فيه حقوقا أمر بها، ونهى عن أمور حَرَّمَها ابتلاءً لعباده في طاعتهم ومعصيتهم، فأكمل فيه كلّ منقبة خير وجسيم فضل، ثم تولاّه فكان له حافظا، ولأهله المقيمين حدودَه وَلِيًّا، يحوطهم ويعرّفهم بفضل الإسلام، فلم يكرم الله بالخلافة أحدا يأخذ بأمر الله وينتهي إليه فيناوئه أحد بميثاق أو يحاول صرف ما حباه الله به، أو ينكث ناكث، إلاّ كان كيده الأوهن، ومكره الأبور حتى يُتِمّ اللهُ ما أعطاه، ويدّخر له أجره ومثوبته، ويجعل عدوّه الأضلّ سبيلا، الأخسر عملاً. فتناسخت خلفاء الله ولاة دينه قاضين فيه بحكمه، متبعين فيه لكتابه، فكانت لهم بذلك من ولايته ونصرته ما تمّت به النعم عليهم، قد رَضِيَ اللهُ بهم لها حتى تُوُفِّيَ هشام.
ثم أفضى الأمر إلى عدوّ الله الوليد المنتهك للمحارم التي لا يأتي مثلها مسلم، ولا يقدم عليها كافر تكرما عن غشيان مثلها، فلما استفاض ذلك منه واستعلن، واشتدّ فيه البلاء، وسُفِكَت فيه الدماء، وأُخِذَتِ الأموالُ بغير حقها، مع أمور فاحشة لم يكن الله ليُمْلِيَ للعاملين بها إلا قليلا، سِرْتُ إليه مع انتظار مراجعته وإعذار إلى الله وإلى المسلمين، منكرا لعمله وما اجترأ عليه من معاصي الله، متوخّيا من الله إتمام الذي نويتُ من اعتدال عمود الدين، والأخذ في أهله بما هو رضًا، حتى أتيت جندًا، وقد وغرت صدورهم على عدوّ الله لما رأوا من عمله. فإنّ عدوّ الله لم يكن يرى من شرائع الإسلام شيئا إلا أراد تبديله، والعمل فيه بغير ما أنزل الله. وكان ذلك منه شائعًا شاملاً عريان لم يجعل الله فيه سترًا، ولا لأحد فيه شكًّا، فذكرت لهم الذي نقمت وخفت من فساد الدين والدنيا، وحضضتهم على تلافي دينهم والمحاماة عنه، وهم في ذلك مستريبون قد خافوا أن يكونوا قد أبقوا لأنفسهم بما قاموا عليه، إلى أن دعوتهم إلى تغييره، فأسرعوا الإجابة. فابتعث الله منهم بعثًا يخبرهم من أُلِى الدين والرضا، وبعثت عليهم عبد العزيز بن الحجاج بن عبد الملك حتى لَقِيَ عدوَّ الله إلى جانب قرية يقال لها: البخراء، فدَعَوْه إلى أن يكون الأمر شورى: ينظر المسلمون لأنفسهم من يقلدونه ممن اتفقوا عليه، فلم يجب عدوّ الله إلى ذلك، وأبى إلا تتايعًا في ضلالته فبَدَرَهم الحملةَ جهالةً بالله، فوجد الله عزيزا حكيما، وأَخْذَه أليما شديدا، فقتله الله على سوء عمله، وعُصْبَتُه ممن صاحبوه من بطانته الخبيثة لا يبلغون عشرة. ودخل من كان معه سواهم في الحقّ الذي دُعُوا إليه، فأطفأ الله جمرته وأراح العباد منه. فبُعْدًا له ولمن كان على طريقته!
أحببتُ أن أُعْلِمكم ذلك، وأعجّل به إليكم لتحمدوا الله وتشكروه، فإنكم قد أصبحتم اليوم على أمثل حالكم، إذ ولاتكم خياركم، والعدل مبسوط لكم، لا يُسَارُ فيكم بخلافه. فأَكْثِرُوا على ذلك حَمْدَ ربكم، وتابِعوا منصور بن جمهور، فقد ارتضيته لكم، على أنّ عليكم عهد الله وميثاقه وأعظم ما عهد وعقد على أحد من خلقه لَتَسْمَعُنَّ وتطيعُنَّ لي ولمن استخلفتُه من بعدي ممن اتفقت عليه الأمة. ولكم عليَّ مثل ذلك: لأعملنّ فيكم بأمر الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وأتبع سبيل مَنْ سَلَفَ من خياركم. نسأل الله ربنا ووليّنا أحسن توفيقه وخير قضائه».
كما أن لعبد الحميد رسائل قصيرة جدا كما هو الحال حين سأله رجل أن يكتب له كتابا إلى بعض الأكابر يوصيه به، فكتب إليه: «حَقُّ مُوَصِّل كتابي إليك كحقه عليَّ، إذ رآك موضعًا لأمله، ورآني أهلاً لحاجته. وقد قضيتُ أنا حاجته، فصَدِّق أنت أَمَلَه». ومنها أيضا الرسالة التالية: «نظرتُ في الأمر الذي أعاتبك عليه، وألتمسه عندك، إذا هو خفيف المحمل، يسير المؤونة: سواد أنفاس في بياض قرطاس، تحية تهديها، وسلامة تخبر عنها. فما أولاك بالتعهد!»، وكذلك هذه الرسالة: «أما بعد فالحمد لله، الذي اصطفى الإسلام لنفسه، وارتضاه دينا لملائكته وأهل طاعته من عباده، وجعله رحمة وكرامة ونجاة وسعادة لمن هدى به من خلقه وأكرمهم وفضلهم، وجعلهم بما أنعم عليهم منه أولياءه المقربين وحزبه الغالبين وجنده المنصورين، وتوكل لهم بالظهور والفلج، وقضى لهم بالعلو والتمكين، وجعل مَنْ خالَفه وعَزَبَ عنه وابتغى سبيل غيره أعداءه الأقلين وأولياء الشيطان الأخسرين وأهل الضلالة الأسفلين مع ما عليهم في دنياهم من الذل والصغار، فأعجل لهم فيها من الخذلان والانتقام إلى ما أعد لهم في آخرتهم من الخزي والهوان المقيم والعذاب الأليم. إنه عزيز ذو انتقام».
على أن طول رسائله لم يكن مقبولا على الدوام. يقول ابن عبد ربه فى «العقد الفريد»: «ولم أجد أحدًا من الأَلْف يَذُمّ الإيجازَ ويَقْدَح فيهِ ويَعيبه ويَطْعن عليه. وتحب العربُ التخفيف والحذف. ولِهَرَبِها من التثقيل والتطويل كان قَصْرُ الممدود أحبَّ إليها من مدّ المقصور، وتَسْكينُ المتحرّك أخف عليها من تَحْريك الساكن، لأنّ الحركة عَمَلٌ، والسُّكون راحة. وفي كلام العرب الاختصار والإطناب، والاختصار عندهم أحمد في الجملة، وإن كان للإطناب مَوْضع لا يَصْلح إلا له. وقد تُومِىء إلى الشيء فتستغني عن التفسير بالإيماءة، كما قالوا: لمحةٌ دالَّةٌ. كتب عمرو بنُ مَسْعدة إلى ضَمْرة الحَرُوريّ كتابًا، فنظر فيه جعفر بن يحيى فَوقَّع في ظهره: إذا كان الإكثار أبلغَ كان الإيجاز مُقَصِّرًا، وإذا كان الإيجاز كافيًا كان الإكثار عِيًّا. وبَعَث إلى مَرْوانَ بن محمد قائدٌ مِن قُوَاده بغلام أَسْود، فأَمر عبدَ الحميد الكاتبَ أن يكتبَ إليه يَلْحاه وُيعنِّفه، فكَتب وأَكثر، فاستثقل ذلك مَرْوانُ، وأَخذ الكتاب فوقّع في أسفله: أَمَا إنك لو عَلِمْت عددًا أقل من واحد ولوناً شرًّا من أسود لبعثتَ به».
وفى القصة التالية إشارة أخرى إلى أن هناك من كان يستثقل طول رسائل كاتبنا ويزرى به. كتب الصفدى فى «الوافى بالوَفَيَات»: «تولى عبد الحميد الكتابة لمروان بن محمد بن مروان بن الحكم آخر خلفاء الأمويين. ولما قَوِيَ أمرُ بني العباس قال مروان لعبد الحميد: إنا نجد في الكتاب أن هذا الأمر زائل عنا لا محالة، وسيُضْطَرّ إليك هؤلاء القوم، فصِرْ إليهم، فإني أرجو أن تتمكن منهم فتنفعني في مخلفي وفي كثير من أموري. فقال: وكيف لي بأن يعلم الناس جميعا أن هذا عن رأيك، وكلهم يقول إني غدرت بك وإني صرت إلى عدوك؟
أُسِرُّ وفاءً ثم أُظْهِرُ غدرةً


فمن لي بعُذْرٍ يوسع الناسَ ظاهرُهْ؟

ثم أنشد أيضا:
فلَوْمٌ ظاهرٌ لا شك فيهِ


لِلائِمِهِ، وعُذْرِي بالمغيبِ

فلما سمع ذلك مروان علم أنه لا يفعل، ثم قال عبد الحميد: إن الذي أمرتني به أنفع الأمرين لك وأقبحهما لي. ولك عليَّ الصبر إلى أن يفتح الله عليك أو أُقْتَل في جماعتك. ولكن دعني أكتب إلى أبي مسلم كتابا إن قرأه على نفسه جَبَّنَه وفَزَّعَه، وإن قرأه على جيشه فَلَّلَه وفَرَّقَه. فكتب إليه طومارا حُمِل على بعير، فوصل الرسول إلى أبي مسلم وهو بالري، فوضع الكتاب يبن يديه في سرادقه، وجمع عساكره ووزراءه. فلما حضروا أمر بنار فأُضْرِمَتْ، ثم قال لكاتبه: اقطع من رأس هذا الطومار قدر الراحة. ثم قال: اكتب إلى مروان جوابه:
محا السيفُ أسطارَ البلاغة وانتحتْ عليك صدورُ الخيل من كل جانبِ
وسلم الجوابَ إلى الرسول، ثم أمر بالطومار، فوُضِع في النار، ولم يقرأه ولا فَضَّه».
ولست أقصد من وراء ذلك إلى سلب عبد الحميد فضائله، بل إلى القول بأنه لم ينتهج طريقا مجهولا، بل أقام نظام رسائله على عناصر كانت متوافرة من قبله فى الأدب العربى، إلا أنه جمعها معا وأبرزها وتكثر منها وجعل من هذا وُكْدَه وواظب عليه فى رسائله بوجه عام. ومع هذا هناك من لا يرى عبد الحميد بنفس العين التى يراه بها محبوه ومكبرو شأنه. قال مصطفى الغلايينى فى كتابه: «رجال المعلقات العشر»: «أما الرسائل فكانت في صدر الإسلام موجزة بليغة، بعيدة عن الصنعة وإعنات القريحة. ولكنها اختلفت كثيرا في أواخر الدولة الأموية إذ أطالوها وتعمدوا التنميق، فظهرت فيها الصنعة والكلفة. والبادئ بذلك هو عبد الحميد الكاتب زعيم الطبقة الثانية من الكتاب».