حوار مع القاص المغربي زهير اسليماني
تاريخ النشر : 2018-10-30
حوار مع القاص المغربي زهير اسليماني


حاوره: ناصر الدين الإدريسي كنون
حوار مع قاص من المتوجين بجائزة الراصد الوطني للنشر والقراءة لفن القصة دورة 2018
زهير اسليماني: "الزمن لا يسترد إلا متحيزا في السرد" و"الذاكرة لا تنتعش بالعقاقير، بل بالقصص والحكايات.."
 "القصة اقتلاع للهش من فك زمنية ضارية، وإعطاؤه صورته المؤبدة.."
 إنها جعل لبعدي الوجود الإنساني "الآن-هنا"، وجودا محتملا في كل مكان وزمان.."

o    أولا كيف تعرف نفسك!؟
 زهير اسليماني ابن مدينة مكناس، من مواليد العام 1984، حاصل على الأجازة في اللسانيات والماستر في الجماليات، من جامعة مولاي إسماعيل بمكناس.. وباحث في تحليل الخطاب بجامعة ابن طفيل بالقنيطرة..
o    كنت في بداياتك تكتب محاولات شعرية، ثم دلفت إلى السرد، ما السبب وما السر في ذلك؟
فعلا كتبت محاولات شعرية، لكني كنت دائما أنظر إلى الشعر الذي لا ينضبط إلى العروض الخليلي، على أنه جسم رغم جماله وكماله، مصاب بشلل كلي، أي أنه يملك كل الأعضاء لكنه لا يملك الحركة.. والحركة هي روح الجسم.. فالنثائر -وتحت أي مسمى كان- تبقى مكانتها دنيا مقارنة مع النظم الموزون المقفى، ولأن العروض تتطلب المران والدربة والإحاطة من جهة، والجهد والنصب من جهة أخرى، مع الموهبة والملكة وشيطان الشعر، كي لا تأتي القصيدة ضربا من الكلفة والتمحل، وهو ما أخشاه عند كل محاولة شعرية.. فإني ملت بعض الميل إلى السرد، وبالضبط إلى القصة، لما وجدته فيها من سعة صدر لاحتواء الهوس والضجيج الذي بداخلي بفعل الفوضى السياسية والاجتماعية المحيطة بي، فوجدتها أقرب الأشكال، لتصوير هذه الفوضى.. بالمناسبة كتبت أول قصة ونشرتها بالمنعطف وأنا تلميذ بالباكلوريا، بإيعاز من أستاذي وأجيال من المبدعين، الناقد محمد إدارغة..
ومع سنوات الدراسة الجامعية والمعرفة الأكاديمية، تأثرت أيما تأثر بالسميائيات عامة، ومدرسة باريس السردية منها خاصة، حيث كانت مكناس، آنذاك، معقل السميائيات، وبفضل الأستاذ سعيد بنكراد، تبلورت نظرتي إلى السرد والسردية وتوسعت.. على أن السردية ليست مجرد استعادة لوقائع وأحداث وشخصيات كما تقترحها التجربة المباشرة مع الواقع، وصبها في قوالب لغوية وأوعية زمنية تعطي للنص شكله.. بل هي بنية سابقة في الوجود عن التجلي النصي، أي أنها بنية بالغة التجريد، لا يشكل النص إلا تحققا واحدا من بين تحققاتها المحتملة، لذلك نجد قيمة التضحية – مثلا- تتجلى من خلال آلاف النصوص، ومع أنها هي هي، إلا أن سيرورة البرنامج السردي وخيارات الخطاطة السردية والإنجاز والجزاء.. تختلف باختلاف النصوص، وهو ما يمنح لكل نص تميزه وخصوصيته وخصوبته.. فما يرويه السارد، ليس أشياء عينية، خبر دفئها وبرودتها، أو ارطيطابها وخشونتها.. بل انطباعات تسربت مع هذه الأشياء الصماء إلى وعيه ووجدانه، وما صوره ليس وضعا تناظريا مع الواقع، إنه بناء لواقع آخر، كما تشكل في وعيه الجمعي، واقع واقعيته ثقافية، أي نتيجة تحويل أنطولوجي للمدرك الحسي إلى ماهيات مفهومية، قابلة للتجسد والتحيز في شخصيات وأحداث ورقية، قابلة للإسقاط مرة ثانية، على وقائع وأشخاص موجودة بالفعل في الواقع، والتناظر معها بنسب مختلفة، فالواقع واقعي في حدود ذاته، أما عندما يتم اسثماره في نصوص سردية، تصبح كل معطياته مبنية بناء ثقافيا، أي مدثرة بغشاء دلالي، وليد وعي الكاتب الجمعي للواقع، وبه تصبح الشخصيات كأنصاف آلهة إغريقية، نصفها واقعي والنصف الآخر ميتافزيقي كما يقول الأستاذ محمد أمنصور..
o    ولما جنس القصة بالضبط؟
أنت تقصد النوع، وليس الجنس، لأن القصة نوع أدبي سردي، أما الجنس فلا أعرف إلا جنسين هما الشعر النثر.. وتحتهما ترزح الأنواع الصغرى، كالعمودي والتفعيلي.. وكالرواية، والمسرحية والقصة.. ويمكن التمييز داخل كل نوع بين أنواع أصغر.. كالرومانسية والواقعية، والاجتماعية، والنفسية.. وما إلى ذلك.. هذا على مستوى التحديد..
أما لما غواية القصة؟ فذلك سؤال لا أملك إجابة معقلنة عنه، الحساسية الجمالية والإبداعية، تنفلت من عقال كل تسويغ وتعليل عقلي، ربما لأن القصة أشبه بالتقاط صورة، بآلة تصوير حديثة، فكما للصورة سطوتها ونحوها الخاص، الذي يسمح باعادة تركيب المدركات البصرية قصد قصدية قبلية، فكذلك القصة التقاط لقضية مطوية في ثنايا اليومي، ومنسية بين أشيائه الكبرى.. واقتلاع لجزئية من شيئية المألوف التي جعلتها عادة، بفعل الممارسة الإنسانية، حتى تصبح مرئية وإعادة النظر فيها، عبر التحويل الذي تحدثنا عنه.. فالمصور والقاص، لكل منهما عدسة لاقطة، فعدسة المصور تكتفي بالمعطى المباشر، بينما عدسة القاص أشبه بجهاز "سكانير" يخترق السطح ليصور ما تحته.. وربما هو ما يفشل الشعر -هو الآخر- فيه، فالأصل في الشعر تناول الكليات مما يجعله ضربا من الميتافزيقا، بينما القصة تتناول التفاصيل الفزيقية للانسان.. ولهذا نجد تلك المفارقة في التواصل مع كل من الشعر والسرد، ووصف الأول بالغموض، والثاني بالواقعية في أغلب الأحيان.. فالقصة -بغض النظر عن نوعها- تجد لها صدى فعلي، في واقع كائن أومفترض، يقبل القارئ اقراحاتها الحدثية والقيمية والتشخيصية، نظرا لكونه هو الآخر، مندرج في نفس الوعي الجمعي ومحتكم إليه.. فما يحتكم إليه، ليس هو الواقع ،كما يعتقد، بل إلى وعيه الجمعي إزاء هذا الواقع.. 
o    أيعني هذا أن المعنى سهل الإدراك في القصة والسرد عموما، وبعيد المنال في الشعر؟
هذه قضية أخرى، فالمعنى، غاية كل إبداع، ومبتغى كل كتابة، بل هو مبدأ التنظيم الذي يحكم الوجود، إلا أن تحصيل المعنى من لدن القارئ، لا ينبغي أن يكون الشغل الشاغل، فسيرورة بناء هذا المعنى، ومفاصل هندسته وتشكله واستوائه، هي الأخرى، جزء من المعنى، الذي ينبغي أن ينتهي إليه القارى، أي أن الانتهاء، في كل مرحلة، إلى جزئية دلالية وفهم كيفية بنينتها، أمر ضروري لإرساء معنى ما عند نهاية المسار السردي، وإيجاد منطقة انعطاف بين وعي المتلقي وقصدية المبدع.. وإلا فإن قراءة النهايات فقط، كافية وكفيلة بإرساء معنى معين لدى المتلقي..
والسرد والقصة خصوصا، تضمن لقارئها، هذه المتعة، الغوص في تفاصيل المعنى، والإمساك بتلابيبه، في كل مقطع سردي، فتدرك هنا -مثلا- أن هذه الشخصية تقعد في جانب الممر، وفي مقطع آخر تجد أن هذا الممر موجود وسط حديقة عامة، وتجد البطل يبدأ إدارة المعمل مع السابعة صباحا.. ويمارس الرياضة في تلك الحديقة.. يعبر الممر ولا يكثرت لما يوجد به.. وتحس بخصوصية الزمن، لما تعلم أنه كان يمارس الرياضة في الغلس.. كل هذه التفاصيل المقطعية (البانورامية)، يجب أن تقربك في النهاية، من قصدية الكاتب ومرجعيته، فالرجل الرياضي تبعا لما أسند إليه من صفات وأدوار، إنسان بورجوازي بالمعنى التاريخي للبورجوازية، وأنه لجزئية عدم كفاية الوقت إلا لذاته دلالة مفصلية.. وأن الشخصية القاعدة جنب الممر، فقيرة ومتشردة ومتسولة.. وتدرك أن لجنب الممر كمكان دلالة على الإقصاء والهامشية، ولجزئية الغلس كزمان دلالة على الضبابية والالتباس في رؤية الأشياء.. فتنتهي من هذه الجزئيات الدلالية إلى معنى أن القصة تصور قضية الصراع الطبقي في المجتمعات المعاصرة التي لا يكثرت فيها الميسور للمعسر، بل ولا يجد حتى الظرف للانتباه إليه.. وقد ينظر القارئ إلى النص من زاوية أخرى، فينتهي إلى معنى آخر.. المهم أن يتتبع سيرورة تشكل المعنى، لا أن يبحث عن تحصيله في النهاية، وأعتقد أن الرواية والقصة والسرود التخييلية عموما، هي التي تعد بمتعة مضاعة؛ متعة تتبع الجزء الدلالي، ومتعة تحصيل الكل المعنوي.. ولا أنفي هذا عن الشعر، ولكن أجده ناذرا لدى الشعراء، فبالإضافة إلى ما قلناه عن العروض في البداية، ينضاف نقص آخر للقصيدة، غير الموزونة، هو فوضى الدوال التي لا ينتهي معها القارئ إلى أي تنظيم.. معلل.. أما أن يرصف الشاعر الكلمات، وينتظر من قارى على الطريق تحصيل المعنى، بدعوى التعدد ولا نهائية.. ولا زمنية.. وتلك اللاءات المارقة لغة والفارغة دلالة، حيث تصبح القصيدة كثقب أسود، يستطيع أن يلتهم كل الدلالات والمعاني، مهما كان حجمها، باسم لا نهائية دلالات الشعر ولا محدودية تأويلاته.. فتلك أشبه بإطار لوحة على الجدار، يطلب من القارى تخيل مشهدها، ثم تأويله وتذوقه..! بل وسيجعل كلام الأحمق أكثر شعرية، فهو يأتي بالكلمات من أقاصي المدونة اللغوية، ويسند بعضها إلى بعض، ويخلق أكثر العلاقات توترا وعدولا بين الكلمات..
o    حصلت مؤخرا مجموعتك القصصية "..يبكي لغروبها الصباح" على الرتبة الثانية، لجائزة المرصد الوطني للنشر والقراءة "رونق" تاليا القاص محمد ملح، ومتقدما على القاص عماد شوقي.. ماذا يعني لك هذا التتويج.. وهذه الجائزة؟ وما خصوصية هذه المجموعة القصصية من حيث الكتابة؟
قبل الشروع في الإجابة عن هذا السؤال، لابد من الاحتفاء بالمبدعين "ملح" و"شوقي" وتهنئتهما بهذا الفوز المستحق.. فقد اطلعت على بعض من نصوصهما، وألفيت فيها جدة وإبداعية وتمكنا.. مع التباين في الانشغالات والوسائل والمرجعيات وهو أمر مستحب ومثمن.. وكذلك لابد من الامتنان للراصد الوطني ومكتبه المسير، في شخص الاستاذة المبدعة فاطمة الزهراء المرابط، التي سهرت على تنسيق محطات الدورة وتنظيم فقراتها وإنجاح الدورة وإكسابها الإشعاع المطلوب..
تجدر الإشارة أولا، إلى كون قيمة الجائزة، قيمة رمزية ومعنوية.. وهنا تكمن الخصوصية والأهمية، ويرتفع مستوى التحدي.. ويظهر معدن وطينة الكاتب، الذي يهمه تنمية الشأن الثقافي الوطني فعلا، فالترشح لمثل هذه الجوائز، فيه دعم لها وإبقاء عليها.. خصوصا وأن القطاع الثقافي غير الحكومي بالبلاد في حال مزرية.. بلادعم ولا مساندة، إلا عصامية الفاعلين وتضحياتهم الجسام، ماديا ومعنويا، وهو حال "رونق".. الذي لا يأل جهدا في خدمة الثقافة والأدب رغم الإكراهات..
وهذا التتويج، تكمن أهميته بالنسبة إلي، في كونه اليد البيضاء التي ستخرج إلى الوجود أول عمل متكامل كتبته، ولم يكتب له الطبع والنشر، وقد ساوق سنوات التحاقي بكلية الآداب الأولى، وفيه بعض المقاطع والشذرات التي كتبت أيام الثانوي، وظل حبيس الرف لقرابة عقد من الزمن.. إلى أن جاء الراصد الوطني، ليمنحه شرعية الوجود بالفعل، وتأشيرة العبور إلى الحيز الورقي.. فهو باكورة الكتابة السردية، المشتغلة باستراتيجية سميائية، والمنشغلة بقضايا الكائن الحالم، الذي يريد مواجهة زمنية متوحشة، تدك كل جميل، بالوجدان والذاكرة، والمرأة.. حيث تطفو على سطح النص الألوان والأرقام والأشكال الهندسية.. بما اغتنت به، عبر سيرورتها الزمنية، من دلالات ومعاني، تعامل النص معها كعلامات ثرة بالدلالات نتيجة احتكاكها بتجارب إنسانية لا تعد ولاحصى، جعلتها تندرج في حقول دلالية متباينة، تعامل معها النص، بقوى الجدب والنبذ، والانتقاء والإقصاء، والتشذيب والإغناء، لنحث الدلالة، وصقل جوانبها، ورصها جنبا إلى جنب مع باقي القطع، التي تبني شكل الدلالة ولا تعطيه.. وكما علمنا السميائيون، بأن الزمن لا يسترد إلا متحيزا في السرد، فالذاكرة لا تنتعش بالعقاقير، بل بالقصص والحكايات، ويمكن هنا أن نستحضر ما تحكيه لنا الأمهات عن الطفولة، أو عن أيام المدرسة الأولى.. لنتذكر بعضا من تلك الوقائع الموغلة في النسيان.. لذلك فالقصة اقتلاع للهش من فك زمنية ضارية، وإعطاؤه صورته المؤبدة.. إنها جعل لبعدي الوجود الإنساني "الآن-هنا"، وجودا محتملا في كل مكان وزمان.. ضدا على إكراهات الهشاشة والمضي والنسيان..
o    ونحن نتحدث عن القصة، وكاختتام لمجريات هذا الحوار، ما أجمل قصة كتبتها؟
لم أكتبها بعد.