وما "نتنياهو" إلا نسخة مزورة عن "شارون"!!بقلم: د. محمد جبريني
تاريخ النشر : 2018-10-23
وما "نتنياهو" إلا نسخة مزورة عن "شارون"!!بقلم: د. محمد جبريني


بقلم : د. محمد جبريني

حين نتناول سيرة "آرئيل شارون" فإننا نبحث في سيرة شخص أثر بصورة كبيرة على واقع إسرائيل ومكانتها محلياً وإقليمياً ودولياً لأكثر من نصف قرن. فعلى الصعيد العسكري وعلى مدار سني خدمته في الجيش الإسرائيلي، آمن " شارون" بجدوى الحلول العسكرية للمشاكل والأزمات السياسية، وطور نظرية خاصة به أطلق عليها " نظرية الانقضاض على العدو"، كما آمن بأن على الجيش مساعدة القيادة السياسية في اتخاذ القرار، وفرض حقائق نهائية على الأرض عندما تكون القيادة السياسية مترددة، كما كانت له مساهمات بالغة الأثر على مصير دولة إسرائيل امتد تأثيرها ليشمل المنطقة بأسرها.

عين عام 1952 قائداً لوحدة المظليين ( 101 ) التي تشكلت للرد على عمليات الفدائيين، وارتكبت الكثير من المجازر كان أبرزها مجزرة قبية عام 1953؛ بغية إجهاض العمل الفدائي الفلسطيني. وفي شباط عام 1955 هاجمت تلك الفرقة معسكراً مصرياً في قطاع غزة، مما أودى بحياة 27 جندياً مصرياً كان معظمهم نياما في الخيام، وقد اعتبر الزعيم الراحل جمال عبد الناصر تلك العملية عملاً مشيناً وموجعاً على الصعيد القومي، وتردد على لسانه أنها "أسهمت في اتخاذه قراراً بطلب المساعدة العسكرية من السوفييت".

وفي عام 1956 عين " شارون" قائداً لفرقة مظليين، وشارك في العدوان الثلاثي على مصر، وقبيل اندلاع حرب 1967 عارض "شارون" - في جلسة لقادة الجيش الإسرائيلي مع رئيس الحكومة الإسرائيلية آنذاك "ليفي إشكول"- تنفيذ خطة محدودة كان قد عرضها قائد هيئة الأركان في ذلك الوقت الجنرال "إسحق رابين"، وأوضح أمام الحضور أن إسرائيل ستتعرض لضغوط سياسية، سواء تقدمت حتى رفح أو وصلت إلى قناة السويس، وألح على "ليفي إشكول" تبني توجهاً أكثر حزماً وشمولاً، وطالبه باحتلال كل سيناء، وإبادة الجيش المصري المرابط فيها، وهو ما تبنته الحكومة الإسرائيلية، فشنت هجوما شاملا لاحتلال سيناء، وأسندت له مهمة مركزية تتمثل في اقتحام الجبهة المصرية في محور العمليات الرئيس. وفي عام 1969 عين " شارون" قائداً للمنطقة الجنوبية، وقام بعمليات عسكرية قاسية ضد المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، وبعد الإعلان عن وقف إطلاق النار على طول قناة السويس في آب 1970، تفرغ " شارون" لتصفية خلايا الفدائيين في غزة، حيث عمل بطريقة منظمة وقضى شهوراً بكاملها في مقر القيادة العسكرية الجنوبية، وأشرف بنفسه على عمليات التفتيش وهدم المنازل واقتلاع الأشجار وتوسيع الشوارع، وأمر جنوده بمطاردة الفدائيين وقتلهم دون الحاجة لبذل جهد لإلقاء القبض عليهم أحياء. ومع اندلاع حرب عام 1973 أعيد "شارون" إلى الخدمة العسكرية وعين قائداً للواء مدرعات، وأشرف على عملية اختراق قناة السويس محدثاً بذلك نقطة تحول في الحرب، وحظي على إثرها بلقب " أريك ملك إسرائيل.

عام 1973 - وبعد 83 يوماً فقط من خلع بزته العسكرية - ساهم " شارون" في إحداث التغيير الأساسي في السياسة الإسرائيلية منذ قيام دولة إسرائيل، حين أقام كتلة سياسية يمينية (الليكود) حظيت لأول مره بفرصة حقيقية لمنافسة حزب المعراخ العمالي على الوصول للسلطة.

وفي عام 1976 طور " شارون" أفكاراً سياسية تقضي بتحويل الأردن إلى دولة فلسطينية، إذ آمن آنذاك بأن بريطانيا العظمى قد قامت عام 1922 باقتطاع 75% من أرض فلسطين، وأنشأت الضفة الشرقية التي يعيش فيها أغلبية فلسطينية، وبموجب ذلك يتعين على إسرائيل التفاوض مع تلك "الدولة الفلسطينية" حول مستقبل الضفة الغربية وقطاع غزة، وعلى هذه الخلفية دعا في أيلول 1976 الحكومة الإسرائيلية إلى إجراء محادثات مع منظمة التحرير الفلسطينية بهدف التوصل إلى حل يكون فيه نظام الحكم في الأردن فلسطينياً.

وفي أول "انقلاب سياسي" شهدته دولة إسرائيل منذ تأسيسها عام 1948 بعد وصول حزب الليكود بقيادة "مناحيم بيغن" إلى سدة الحكم في إسرائيل عام 1977، تبوأ " شارون" عدة مناصب وزارية؛ فحصل على حقيبة الزراعة وشغل منصب رئيس اللجنة الوزارية لشؤون الاستيطان في حكومة "بيغن" الأولى . وضمن منصبه هذا أخذ يغير وجه التضاريس، وأصبحت خريطة الاستيطان التي تحدث عنها منذ عام1967 مشروع حياته الأول، ومنذ ذلك الوقت التصق "بشارون" لقب "البلدوزر" ، ليس فقط بسبب لجوئه إلى تحريك البلدوزرات بالطريقة التي حرك فيها الدبابات سابقاً؛ بل لأنه تحول شخصياً إلى "بلدوزر حي" لم يستسلم أمام أية عراقيل تعيق مشروعه الاستيطاني. وعندما كانت الحكومة ترفض المصادقة على مخططاته الاستيطانية لأسبابها الخاصة، كان يعرضها مجدداً في الجلسة الثانية، وتلك التي تليها، وهكذا حتى يتم قبول مقترحاته؛ حيث امتلك " شارون" رأياً حازماً تجاه مستقبل الأراضي الفلسطينية التي احتلتها إسرائيل عام 1967، وبحكم منصبه قائداً للمنطقة الجنوبية استدعى إليه وزراء وأعضاء كنيست ومحاميين وبسط أمامهم خريطة أذهلتهم بسيناريوهاتها الجريئة، كتل استيطانية ستقطع الضفة الغربية بالطول والعرض، من الشمال إلى الجنوب ومن الغرب إلى الشرق بحيث يتم إدخال جميع السكان الفلسطينيين في مربعات مغلقة.

وفي عام 1982 قاد " شارون" عملية إخلاء مستوطنتي " مشارف رفح " "وياميت "؛ تمهيداً لإعادتهما إلى مصر، وأمر بهدم المباني فيهما، حيث وعلى خلاف حركات الاستيطان التي تنطلق من أسباب أيديولوجية مثل "غوش أيمونيم" ، يرى " شارون" أن الاستيطان أمر يسير وفق متطلبات المصالح الحيوية الاستراتيجية لإسرائيل، وأن إقامة مستوطنات أو هدمها أمر تقرره تلك المصالح.

وفي حزيران 1982 قاد " شارون" - بصفته وزيراً للدفاع - حرب لبنان ، وأطلق عليها اسم (حرب سلامة الجليل) ، واتضح بأنه لم يلتزم بالأهداف (المعلنة) التي قررتها الحكومة الإسرائيلية من تلك الحرب، وهي حماية المستوطنات الشمالية، وإبعاد قوات منظمة التحرير الفلسطينية عن الحدود المتاخمة لإسرائيل، وإنما طور أهدافا خاصة " تمثلت بطرد الفلسطينيين من لبنان نحو سوريا كي ينتقلوا من هناك إلى الأردن، ويعملوا على تحويله إلى دولة فلسطينية، بالإضافة إلى طرد السوريين نهائياً من لبنان، وتنصيب رئيس موال لإسرائيل في لبنان، وتشكيل حكومة لبنانية لديها القدرة على إبرام معاهدة سلام منفردة مع إسرائيل؛ الأمر الذي كان سيسهم في تغيير الشرق الأوسط كله بصورة نهائية في حال نجاحه".

وبعد اغتيال الرئيس اللبناني " بشير الجميل " أتهم " شارون" بالمصادقة على دخول قوات "الكتائب" إلى مخيمي صبرا وشاتيلا، وارتكاب مجازر فظيعة بحق الفلسطينيين، وأوصت لجنة التحقيق الرسمية - التي عرفت باسم " لجنة كاهان " المكلفة بالتحقيق في مجازر صبرا وشاتيلا- باستقالة "شارون" أو نقله من منصبه كوزير للدفاع لتقاعسه عن منع قوات الكتائب من دخول المخيمات، وارتكاب مجازر في منطقة تخضع لسيطرته العسكرية، ومع ذلك فقد استمر ببذل جهوده لزيادة الاستيطان وتوسيعه في الأراضي الفلسطينية المحتلة والترويج لأفكاره السياسية على الرغم من تدني مكانتة إسرائيلياً ودولياً واتهامه بارتكاب جرائم حرب والمطالبة بمحاكمته.
وجرى التحول الأبرز في الحياة السياسية لشارون" بعد فشل زعيم حزب (الليكود) "بنيامين نتنياهو" في انتخابات عام 1999 أمام زعيم حزب العمل "إيهود باراك"، حيث انتخب " شارون" لرئاسة حزب (الليكود) ، وأصبح رئيساً للمعارضة في الكنيست الخامسة عشرة ، وخلال تلك الفترة عارض بشدة توجهات "باراك"، بالتوصل إلى اتفاق نهائي مع الفلسطينيين، ورفض قيام الحكومة الإسرائيلية تقديم أية تنازلات من شأنها المساس بأمن إسرائيل، وعمل على تشجيع المستوطنين ودعاهم لاحتلال قمم التلال في الضفة الغربية، وإقامة المزيد من البؤر الاستيطانية عليها.

كان قرار " شارون" بالتوجه في 28 أيلول 2000 إلى منطقة الحرم القدسي الشريف في تظاهرة سياسية استفزازية واضحة تهدف لنقل رسالة للفلسطينيين وللعرب وللعالم بأسره ، أن "المسجد الأقصى ما زال بأيدينا" وأن إسرائيل باقية في القدس الشرقية إلى الأبد، بمثابة الشرارة التي فجرت انتفاضة شهداء الأقصى.

وبعد أن قدم "إيهود باراك" استقالته من رئاسة الحكومة الإسرائيلية في كانون الثاني 2001 ودعا لإجراء انتخابات جديدة لرئاسة الحكومة، فتحت أمام "شارون" فرصة ذهبية لتحقيق تطلعاته خاصة عندما تراجع نتنياهو - بعد ظهوره المفاجىء - عن ترشيح نفسه مجدداً أمام "باراك"، حيث حظي "شارون" وقتها بشعبية عالية في استطلاعات الرأي العام، وبشكل خاص في أوساط اليمين الإسرائيلي الذي رفع شعارين رئيسين "فقط " شارون" سيجلب السلام" و "دعوا الجيش ينتصر".

شكلت عودة "آرئيل شارون" إلى واجهة الأحداث في 6 شباط 2001 بعد فشل "إيهود براك" في الانتخابات الإسرائيلية منعطفا هاما في تاريخ المنطقة كلها، وليس فقط في إسرائيل؛ إذ أصبح "شارون" لأول مرة رئيسا للحكومة الإسرائيلية، محققا بذلك طموحا طالما داعب خياله على مدار ثمانية عشر عاما خلت، وقد شكل هذا الفوز فرصة ذهبية له لتطبيق أفكاره السياسية التي لخصها الصحفي الإسرائيلي المشهور"أرييه شبيط" بقوله : "أن التفكير السياسي لدى "شارون" هو تفكير في عدم القتال، وليس تفكيراً بالتوصل لاتفاقية سلام نهائية؛ إذ كان يسعى لإنجاز ترتيبات تبعث على الاستقرار والردع من خلال فرض ترتيبات أمنية، ومنع قيام دولة فلسطينية مستقلة. ولعل التحدي الأول الذي واجه " شارون" منذ تربعه على عرش السلطة هو إيجاد حلول للمشاكل الأمنية والسياسية التي تعاني منها إسرائيل، نتاج الانتفاضة الفلسطينية التي كان له دور كبير في اشتعالها عندما زار الحرم القدسي الشريف في 28 أيلول 2000، بما حملته تلك الزيارة من معان سياسية واضحة الدلالة للشعب الفلسطيني.

آمن " شارون" دوما بنظرية القوة وبجدوى الحلول العسكرية للمشاكل والأزمات السياسية، وتبنى بشكل عملي نظرية " الجدار الحديدي " التي صاغها "زئيف جابوتنسكي" قبل ما يزيد عن ثمانين عاما؛ تلك النظرية التي تقوم على أساس الإعتقاد بأن الاتفاق الاختياري بين إسرائيل والشعب الفلسطيني هو أمر لا يمكن تخيله، وبأنه يجب إخضاع الفلسطينيين بالقوة، وكسر إرادتهم تمهيدا لفرض حلول سياسية عليهم بعد إقصاء الجماعات " المتطرفة " من بينهم، واستبدالها بجماعات أكثر اعتدالا وأكثر استعدادا لتقديم تنازلات من أجل تسوية تستجيب للشروط الإسرائيلية.

وعليه فقد لجأ " شارون" إلى خطة المائة يوم للقضاء على الانتفاضة، وشن حملة السور الواقي، وانتهج سياسة التصفيات الجسدية والعقوبات الجماعية واغتيال الكوادر الفلسطينية، والتدمير المنهجي للبنية التحتية المادية والبشرية للمجتمع الفلسطيني على مختلف الصعد، من خلال هجمة إسرائيلية عسكرية وسياسية واقتصادية ودبلوماسية ونفسية بالغة الإحكام، لقتل إرادة الصمود عند الشعب الفلسطيني وتذويب شخصيته الوطنية، والقضاء على طموحاته السياسية في تقرير مصيره وإقامة دولته الفلسطينية المستقلة، مستغلا بذلك أحداثا دولية هامة كأحداث 11 أيلول 2001، وما تلاها من غزو أميركي لأفغانستان والعراق تحت ذرائع ما يسمى بمكافحة "الإرهاب"؛ تلك القضية التي أصبحت تقف على رأس أولويات الرأي العام العالمي . وقد تم كل ذلك في ظل غياب إستراتيجية فلسطينية موحدة لإدارة الصراع ومواجهة السياسة الإسرائيلية التي يمثلها " شارون" .

جاءت خطة فك الارتباط لمواجهة المتغيرات الدولية التي أعقبت خطاب الرئيس الأميركي "بوش" في 24 حزيران 2002 الذي إعترف فيه بضرورة قيام دولة فلسطينية مسالمة، وقابلة للحياة تعيش إلى جانب إسرائيل، بعد أن يكون الشعب الفلسطيني قد أصبح ناضجا ومستعدا لدفع ثمن هذا الاستحقاق، وما تلا ذلك من ترجمة لهذه الرؤية من خلال خطة "خارطة الطريق" التي حظيت بقبول إقليمي ودولي واسعين؛ الأمر الذي أجبر " شارون" على التعاطي معها مكرها، غير أنه وهو " التكتيكي البارع " عمل وفق خطة مدروسة لإفراغ هذه المبادرة من مضمونها حين طلب إجراء تعديلات جوهرية عليها تستجيب للتحفظات الإسرائيلية، مستفيدا مما تم إنجازه على الأرض في مواجهة الشعب الفلسطيني، وعلى رأس ذلك عزل القيادة الفلسطينية، ونزع مفهوم الشراكة عنها تحت مسوغ تطرفها السياسي وتورطها في "الإرهاب " .

وفي محاولة لتجميد خطة "خارطة الطريق"، قام " شارون" في 18 كانون الأول 2003 بطرح مشروعه السياسي في مؤتمر هرتسيليا، وهو ما عرف "بخطة فك الارتباط" ، وتمثل هذه الخطة - ضمنا وصراحة - محصلة رؤيته السياسية التي تدعو إلى تسوية مرحلية طويلة المدى من خلال سيرورة مفاوضات سلام غير محكومة بتواريخ مقدسة أو مهل لا يمكن تخطيها، وبعيدا عن ممارسة أية ضغوطات على الجانب الإسرائيلي تقام خلالها دولة فلسطينية مقيدة ، ومحدودة، ومنقوصة السيادة في قطاع غزة، وعلى 42% من أراضي الضفة الغربية، وبدون حدود نهائية، وتكون مجردة من السلاح وتحتفظ بقوة شرطية فقط؛ فيما تسيطر إسرائيل على مراكزها الحيوية الاستراتيجية ومواردها المائية وحدودها الخارجية وعلى مجالها الجوي، وتأجيل النقاش حول قضايا الصراع الرئيسة إلى حين اطمئنان إسرائيل بشكل نهائي لاستقرار المنطقة بأسرها، الأمر الذي قد يحتاج من عشرين إلى خمسين عاما.

عمل " شارون" على إقناع الجانب الأميركي بجدوى مشروعه السياسي القائم على الفصل أحادي الجانب، مستغلا فشل جميع الجهود والخطط السابقة التي سعت لإعادة الجانبين - الفلسطيني والإسرائيلي- إلى مسار عملية السلام. وإدعائه بعدم توفر شريك فلسطيني مؤهل لتطبيق خطة "خارطة الطريق". وقد تبنت الإدارة الأميركية خطة "شارون" ودافعت عنها، بل وفرضتها على مختلف الأطراف الإقليمية والدولية بشكل يثير التساؤل، ليتحول " شارون" بعد ذلك في نظر الكثيرين من مجرم حرب إلى " بطل سلام".

رحل من رحل، وجاء من جاء، ولا زالت الأمور على تعقيداتها بل وأكثر سوءاً، ومن يقرأ "نتنياهو" جيدا سيكتشف بأنه نسخة مزورة من "شارون"!!